يروي “ثيوسيديس” في وصفه للحرب البيلوبونيزية حدثًا غنيًا في دلالته، فحواه: أن الأثينيين زاروا حكام جزيرة ميللو؛ لكي يقنعوهم بدعمهم في حربهم مع الإسبارطيين، وأخبروهم أنهم سيهاجمونهم إذا لم يدعموهم في هذه الحرب. وقد ساق الأثينيون تبريرًا صريحًا وغريبًا في الوقت عينه لهذه النية:
ليس عداؤكم ما يضرنا، ولكننا إذا أقمنا علاقة ودية معكم، سنكون ضعفاء في نظر رعايانا، أما مهاجمتكم إذا لم تدعمونا فهي دليل على قوتنا.
وإن استدلالنا بهذا الحدث؛ لمتأتية صلته بما نشهده من سلوك القادة الروس المعاصرين الذين يصرون في سلوكهم السياسي، الذي يعتمد القوة أداة أساسية في السياسة، على إعادة توضيع صورة القوة العظمى في عقول وقلوب رعاياهم، بغض النظر عن أي ظلم يمارسونه ضد الآخرين. وهو مكون أساسي من مكونات الثقافة السياسية الروسية، لم يكن ليُعتمد لولا غياب الفردية لصالح الجماعية التي تسم بميسمها تلك الثقافة.
قد نزيل بعض الاستغراب الذي يبلغ حدود الدهشة من السلوك السياسي الروسي إذا فهمنا بعض سمات الثقافة السياسية الروسية، وهي ثقافة لا يمكن أن تصنف إلا في صنف الثقافة البدائية، أو على الأقل، إذا احتج رافضو هذه التصنيفات، ثقافة أمة لا تستطيع الانفكاك من أسر عناصر الهوية الصلبة التي تشكلت عبر القرون، وتأبى أن تعيد تشكيلها بما يتناسب مع معطيات الحداثة.
فالسلوك المشتقّ من معطى جوهري ثابت لا يعبر إلا عن فوات تاريخي، لا يجدي لستره استعراض القوة الفائقة إلا عند من لم يدرك أن الحداثة لا تكتسب بالقوة العسكرية، واستعادة الأمجاد الغابرة بواسطة استخدامها.
يمكن تحميل البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل.
الروس اضرط مما نتخيل
ثقافة التشبيح ربما مصدرها منهم