الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على المبعوث رحمة للعالمين -وليس للمسلمين فحسب- صلى الله عليه وعلى إخوانه النبيين وصحبهم أجمعين.
إن من يطلع بحق وصدد على منهاج الإسلام، يتبين له أن هذه الرسالة جاءت لخلاص البشرية من ظلم البشر، لذلك استفتح الله كتابه بسورة الفاتحة فكانت البداية المشرقة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وهذه صفة ثابتة ودائمة يصف الله عز وجل نفسه بها. ثم جاء البيان الثاني بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[2]. إذًا؛ يقول الله لخلقه جميعًا: أنا ربكم وخالقكم جميعًا سواء في ذلك المسلم، أم غير المسلم ثم يؤكد الله لعباده جميعًا صفاته الثابتة بقوله (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[3] .
أيها الأحبة حينما يعرف كل إنسان في الكون حقيقة نفسه وحقيقة ربه، يفهم عندها سر وجوده في الأرض وطبيعة علاقته مع الإنسانية عمومًا، وما هي المهمة التي وجد لأجلها، وهل وجوده صدفة كما يتكلم بعضهم. أي إنه تقدير من حكيم حميد. قال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[4]، وقال أيضًا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)[5]، ولعل من تجول في نفسه الأسئلة ينظر في ساعات الصفاء إلى هذا الكون البديع، لينظر إلى ليله ونهاره وصيفه وشتائه وبحاره وأمواجه، انسجام وتناسق رائع، فلا يطغى بعضها على بعض، ولا يظلم بعضها بعضًا، لو نظر الواحد منا إلى النجوم في كبد السماء كيف تهدي الحيارى وترشد الضائعين. والله يقول:(وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ)[6].
لا شك في أن من ينظر ويتأمل سيسمع من داخله صوتاً ينادي (الله الله) وسيسمع في كل ذرة من ذرات الوجود الصوت ذاته، والحقيقة ذاتها، نعم إنها الحقيقة التي قال الله عنها: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[7].
أيها الإخوة لا شك في أننا نعلم أن كل شركة صانعة تصنع جهازًا صغيرًا أو كبيرًا، ترسل مع الجهاز ملفًا تعريفيًا به، وبكيفية الاستخدام الجيد له، وبنتائج الاستخدام الرديء. لذلك فقد أنزل الله عز وجل لعباده أحكامًا تكليفيةً تعبديةً توقيفيةً لا مجال فيها للاجتهاد، وجعلها سبحانه وتعالى محورًا للإيمان، ومعيارًا حقيقيًّا لصدق العبودية بين يدي الله تعالى. أما بالنسبة إلى إدارة شؤون الحياة الدنيا، فقد وضع لنا معايير عامة، وترك لنا مجالاً للاجتهاد في التفاصيل، لكي ينجح الإنسان في مهمته التي وكله الله بها، ومن أهم هذه المعايير قوله تعالى (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[8].
ولعل أهم واجبات السياسي المسلم حراسة دين الناس وصون دنياهم، وكذلك سن القوانين التي تحفظ مصالحهم في علاقاتهم الداخلية وتصون حدودهم في علاقاتهم الخارجية، ومنها الوفاء بمتطلبات الحياة المتجددة والمتسارعة كل يوم، لذلك نقول إنّ الأصل في السياسة إنما هو تدبير شؤون الناس في حياتهم العامة بما يضمن تحقيق مصالحهم، ودفع الأذى عنهم بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الربانية، كالأخذ على يد المجرمين والظلمة بالحزم لينضبط النظام العام للبلاد.
تحقيق الغاية العظمى من خلق الإنسان التي نسميها بالضرورات الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والحرية)، وقد أثبت الله الحرية في كثير من آيات القرآن العظيم بقوله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[9].
توصيف الدولة:
أما توصيف الدولة، فهي تعرف بمجموعة من الأفراد الذين يقيمون بصفة دائمة في إقليم معين، وتخضع في وجودها وتنظيمها لحكومة، ويطبق فيها نظام معين، أما عن أركانها فهي:
1-السيادة.
2-الأرض.
3- الشعب.
4-الحاكم.
5-النظام.
وعندما نرى أن أول ركن من أركان الدولة هو السيادة، ثم ننظر إلى عالمنا العربي والإسلامي نعلم أنه ليس في بلادنا من الدولة إلا المسمّى، فنحن نعيش في دول لا تملك السيادة، لأنها ليست لها قوة اتخاذ القرار السياسي الذي يخدم مصالح شعوبها، ولا تسيطر على اقتصادها أو ثرواتها الباطنية.
أيها الإخوة لقد شهدت السياسة تطورًا مستمرًا عبر التاريخ، ولكن تطورها الأكبر كان في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة، وعهد النبوة تلك المرحلة الفريدة من تاريخ البشر، وقد كان فيها المواطن لا يحتاج إلى السجن لكي ينضبط، بل كان إذا خالف أمر رئيسه يذهب إلى المسجد ليربط نفسه إلى عمود، ويبقى كذلك حتى تأتيه المسامحة من رئيسه.
نعم إنها مرحلة المباركة، نتجت عن إيمان الحاكم بالآخرة، وبث روح الإيمان بين صفوف شعبه، بل تطبيق ذلك على نفسه، وهو يقول: ((من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي ومن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري)). نعم تلك المرحلة العجيبة في شفافيتها، يطلب فيها القاضي الإقالة من منصبه، لأنه لا يوجد من يرفع إليه قضية لأن الناس كل منهم عرف حده فوقف عنده.
في ذلك الفضاء ظهرت الحريات في أبهى صورها، حين يُضرب أمير وفاتح، لأن ابنه ضرب مواطنًا من دولته، ومن غير دينه، وينادي الحاكم بأعلى صوته مغضبًا ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)).
ومن دون شكّ أصيبت السياسة الإسلامية بنكسات كبيرة في العهود المتلاحقة من العصر الأموي إلى العباسي، بما يحوي من سلاطين المماليك والسلاجقة والأيوبيين ثم العثمانيين من بعدهم، فقد عاد فيها الحكم حكمًا إمبراطوريًا يمجد الحاكم، ويهتف باسمه. ولا يزول الحاكم إلا بثورة عسكرية يقضى فيها عليه وعلى سلالته جميعها.
أما عن السياسة الأوربية في العصور الوسطى فحدث ولا حرج؛ من سيطرة الكنيسة ورجالها على الدول والشعوب، وانتهاك الحرمات. ولقد كان لفجورهم وظلمهم الدور الأكبر في ظهور حركات التحرر، والثورات التي قامت في وجه استبدادهم، وكان من أهمها نتاجًا الثورة الفرنسية، التي قامت وتعثرت مرات ومرات بسبب الثورات المضادة، وبعد مئة عام من النضال الثوري، استطاعت الثورة الفرنسية أن ترسم درب الخلاص للعالم الغربي عامة، بعد انتصارها على الظلم والاستبداد.
وهذا الأمر بالنسبة إلى شعوب منطقتنا يفتح باب الأمل على مصراعيه، في أن الثورات لا تنهزم أبدًا، ولو تأخر نصرها بسبب كثرة العوارض المرضية فيها. وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة مهمّة وجوهرية؛ وهي أن الغرب عموماً له ثقافته وتاريخه وموروثه الحضاري، والشرق الذي نعيش فيه له تاريخ وثقافة وحضارة مختلفة تمامًا، ولا يمكن للشرق أن يتخلّى عن إرثه الحضاري، ولا الغرب كذلك.
ومن هنا، فإننا نقول إن الديمقراطية التي جاءت كالبلسم الذي يداوي جراحات الغرب النازفة من العصور المظلمة، لا يمكن في حال من الأحوال أن تُحمل كما هي في الغرب لتطبق على أهل الشرق، بل لابد من بيان نقط الاتفاق والاختلاف بيننا وبين الغرب، ومن دون مواربة ولا محاباة.
الديمقراطية:
إن الديمقراطية بالنسبة إلينا تنقسم إلى قسمين أساسيين:
1-الآليات.
2- المبادئ.
أما من حيث الآليات والوسائل فإننا نستطيع أن نتقاطع مع الديمقراطية في عدد من النقط الرئيسة، لما تحققه من منع الاستبداد، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدل والحرية وتداول للسلطة.
وأما من حيث المبادئ؛
أ- فإن العلمانية اليوم تقول بالحياد تجاه الدين والعقيدة، وتنظر إلى الدين الحقّ الذي أنزله الله رحمة لعباده، والأديان الوضعية الخرافية التي صنعها البشر إرضاء لرغباتهم وأهوائهم نظرة واحدة، وهذا يخالف جوهر وجود الإنسان على هذه الأرض.
ب- كما إنّ العلمانية تفصل الدين عن الدولة، وهذا في الغرب مفهوم بسبب تسلط رجال الدين على الحياة العامة، أما في الشريعة الإسلامية فالحكم للشريعة المطهرة التي بينت كل شيء يحتاجه الإنسان في معيشه ومعاده. حيث لا تكون هناك سلطة، حتى لصاحب الرسالة وهو محمد عليه الصلاة والسلام أن يتصرف باجتهاد لا تقره عليه الشريعة، كأن يضرب أحدًا ثم يمنع الآخر من القصاص. لذلك قال في وصيته ((من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري، ومن كنت أخذت له مالًا فهذا مالي)).
ج- ترجع العلمانية سنّ القوانين إلى الإرادة العامة للبشر، وتجعل حكم الأغلبية دلالة على الحرية، ومن ثمّ، دلالة على الصواب والحق، في شريعتنا (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الأنعام:116، لذلك، فالحكم لقوانين الحق الثابتة، وهي تحكم الأفراد جميعهم.
د- تعتمد العلمانية مبدأ نسبية الحقيقة أو (التعددية)، فليس هناك حكم مطلق أو قيمة ثابتة، بل إن كل شيء خاضع للتغيير، وفي المجالات الثقافية والدينية والسياسة والأخلاقية جميعها، فالإنسان الغربي قادر على تعديل حياته وأفكاره، بل مبادئه وقيمه وفقًا للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به.
ه- مبدأ الحرية المطلقة للفرد؛ وهذا المبدأ هو الذي تحرّض عليه الرأسمالية حيث تعدّ الفرد هو الأصل والأساس في الحياة والمجتمع والكون، ويجب -من ثمّ- أن يعطى الحرية كلها من دون قيد وفي المجالات كلها.
و- مبدأ المادية؛ فالمادة المحسوسة هي الأصل، بينما عالم الغيب وما وراء المحسوس كالروح والوحي والجنة والنار والملائكة والشياطين فهي عندهم خرافات وأوهام، بينما هي من شروط الإيمان عندنا قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[10].
ز- مبدأ المنفعة واللذة والمصلحة؛ فهذه كلها أصل في حياة الفرد والمجتمع، وبأي وسيلة من الوسائل، وهذه الحقائق تحتاج إلى سفر عظيم للرد عليها، وخلاصة الأمر أننا نلتقي مع الديمقراطية في الآليات، ونختلف في المبادئ، ونحن منفتحون على العالم كله، من أجل إنقاذ إنسانية الإنسان ضمن ثوابتنا الشرعية الأصيلة. قال تعالى: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ))[11].
([1])أ.سمير الصالح: ولد في ريف دمشق عام 1977، تخرج من كلية أصول الدين في دمشق، خطيب ومدرس في مساجد دمشق ومدارسها، معارض لسياسة القمع التي انتهجها النظام السوري ضد الشعب منذ اليوم الأول للأحداث في سورية.