من المعتقد أنه سيعاد بناء ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط على أسس جديدة، حسبما تخطط له الولايات المتحدة الأميركية، حيث ستكون “إسرائيل” المحور المعزز والمتعدد المهمات، والحلقة المخصصة لضمان الاستقرار المسلح، والشرطي القوي للمساهمة في حماية مصالح الولايات المتحدة، واحترام “المحور الأميركي – الإسرائيلي” على المستوى الاستراتيجي. ولا يزال من الصعب استشفاف الطريقة التي ستوكل لهذا الكيان، وإحدى الخيارات المطروحة، هو السماح لإسرائيل بالتوسع الجغرافي، مهما كان، تحت شعار “إسرائيل الكبرى”، ويترافق ذلك بمحاولات لتمزيق بعض الكيانات العربية، إلى كيانات عرقية وطائفية، كما هو الحال المنظور، ما ترسمه الولايات المتحدة للعراق مثلاً، أو حتى ما يجري في سورية ولبنان وليبيا واليمن وغيرها، وقد تعمد أميركا إلى الاستفادة من حالة عقد اتفاقيات بين بعض الدول العربية مع “إسرائيل”، كعملية تحييد لهذه الدول، وإخراجها من حالة الصراع، للاستفراد بالدول الأخرى حسب المعطيات التي ستتوفر في المستقبل.
يمكن استشفاف ذلك من خلال قراءة ما تتضمنه برامج الانتخابات لمعظم الأحزاب الإسرائيلية، يمينها ويسارها، وكلها تتحدث عن مرحلة ما بعد “الحزام الأمني”، وتقديم الدعم لبقاء “إسرائيل” متفوقة، مع غياب القدرات العربية على الرد المناسب، بسبب تشرذم الأنظمة العربية وعجزها عن المواجهة ضمن الظروف والمعطيات المتوفرة لتدعيم القدرات العربية.
فيما يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وتبعاتها، ستصبح الدول العربية مرغمة على قبول رؤية “إسرائيل” في فلسطين وهي تحتل المراكز الرئيسية بالنسبة لرسم مستقبل المنطقة، على اعتبارها القطب العسكري والسياسي الهام بمعاونة الحليف الاستراتيجي الولايات المتحدة، التي تجعله يتفوق ويهدد الأنظمة العربية، وهكذا يصبح عنصر تهديد دائم للأمن القومي العربي، بعد أن زوّدته بترسانات متعددة الأهداف والقدرات من نووية وكيماوية وبيولوجية الخ، لتضمن له التفوق المطلق، وليصبح السيف المسلط على رقاب الأنظمة العربية، ولتجعل البلدان العربية كبيرها وصغارها، هامشية لا حول لها ولا قوة، بل تؤمر فتطيع كل ما يفرض عليها، سراً أم علناً، وإلا فالإطاحة بهذه الأنظمة سهل، خاصة وأن الكثير منها لا يستند إلى شرعية شعبية ولا جماهيرية.
في الوقت نفسه أصبحت معظم الأنظمة العربية، تخشى من إغضاب حكام الولايات المتحدة، وحتى باتت مؤتمراتهم خلال العقدين الأخيرين، القممية وغيرها، وبياناتها، تخضع لما تمليه عليهم واشنطن، كما أصبحت هذه الأنظمة لا تُفكّر بدخول أي نوع من أنواع النزاع المسلح مع إسرائيل، وكأن الجيوش العربية التي تستهلك القسم الأعظم من ميزانيات تلك الأنظمة، على حساب رفاه الشعوب المغلوب على أمرها، جيوش لحفظ النظام والأمن الداخلي، وقمع الشعوب وسحقها، وتثبيت المنصب والكرسي، ولم يعد لها علاقة بالأمن القومي العربي.
بالرغم من كل ذلك، يزداد اعتماد الأنظمة العربية على ما يمكن أن تقدمه لهم واشنطن من وعود وأوهام، يريد الحكام العرب التمسك بها ويعتبروها حقائق لا غنى عنها، وسيزيد ذلك من تغلغل الهيمنة “الأميركية – الإسرائيلية” أكثر فأكثر في البلدان العربية، لتحقيق أهداف ومآرب لن تتوقف عند الأبعاد السياسية والاقتصادية، بل تتجاوزها إلى أبعاد ثقافية وعقائدية تحت ذرائع مختلفة، وبالتلويح بالعصا الغليظة والأسلحة الفتاكة.
في حال الاستكانة لمثل هذه الاستنتاجات والطروحات، يجب التساؤل فيما إذا كانت الشعوب العربية ستستكين وتسلّم أمرها دون ردود فعل عليها، وما سيترتب على ذلك من استقرار داخلي في الأقطار العربية، أم أن هذه الشعوب ستثأر لكرامتها المهدورة على مذابح حكامها، وماذا ستكون عليها الطروحات البديلة إذا ما استيقظت الأمة العربية من كبوتها، وهل ستطرح مواضيع الوحدة العربية أو البدء بها بأشكال عديدة، أم لا؟ وهل ستكون هناك طروحات تتعلق بعدم انغلاق الأنظمة العربية على نفسها، وطرح موضوع المشاركة الفعلية في إدارة الأقطار العربية، والتطورات الديمقراطية؟
لابد هنا من طرح ماذا ستكون عليه مواقع حركات المعارضة الوليدة في معظم الأقطار العربية، سواء كانت حركات إسلامية أم قومية أو ليبرالية، وماذا سيكون دورها في المستقبل؟ وقد يزداد دور هذه الحركات في المستقبل، على الرغم من محاربة تلك الظواهر من قبل معظم الأنظمة العربية.
هنا قد تلجأ الأنظمة لعمليات قمع هذه الحركات بدلاً من مشاركتها، وهذا ما يحصل الآن منذ عقد من الزمن. وهنا ستزداد ظواهر التطرف، بمقدار ما تتعرض تلك الحركات لعمليات القمع والاضطهاد. خاصة في الوقت الذي ينخر الفساد معظم الأنظمة العربية، خاصة بين أطراف الطبقات الحاكمة التي استأثرت بالسلطة، وعجز تلك الأنظمة عن تلبية الحدود الدنيا من الحاجات الضرورية. ومن الصعب الاعتقاد بقدرة الأنظمة العربية على وقف ردود الفعل، خاصة بعد أن أصبحت غالبية الجماهير العربية تعتقد بفشل الأنظمة القائمة، أو معظمها، بمعالجة المشاكل التي تواجهها هذه الجماهير على كافة المستويات، وأن القمع لن يجدي نفعاً على المدى الطويل. يضاف إلى ذلك، أن الجماهير القومية، ستقاوم هذه الطراز من التحالفات، على الرغم من النكسات التي تعرضت لها الحركات القومية، لكنها لن تغيب طويلاً عن لعب دور بعد أن تقوم بتصفية حساباتها مع من قام بتزييفها، ثم العودة بها إلى منابعها الأصلية، للقيام بدورها الطبيعي الذي رسمته في بداياتها.
هنا ستبرز عدة سيناريوهات في تشكيل نظم إقليمية عربية، كبداية لتشكيل نظام إقليمي عربي موحد، حسب مقتضيات الظروف والمعطيات التي ستفرض نفسها في المستقبل، وستكون هذه السيناريوهات رداً على حالات التردي وتصحيح الأوضاع، وتبتعد قليلاً أم كثيراً عن طروحات قوى الهيمنة، لكن لن يتحقق ذلك، دون تغيير في عقليات من يتسلم زمام الأمور من يستطيع أن يواجه التحديات بعزيمة وبالاعتماد على الجماهير الواسعة.
إن الأمة العربية مقبلة على الأصعب والأقسى من الأيام والتحديات، وتحتاج إلى الاعتماد على الجماهير الواسعة، وعلى الأعم والأشمل من الرأي والحكمة والرؤية، كما تحتاج للعلم والتكنولوجيا وكل وسائل المعرفة والعقول الفاعلة، كما تحتاج إلى من يُتقن صنع القرار الصائب والمواقف البناءة. وتحتاج الأمة العربية إلى تضامن يبعدها عن الركض على الرهانات الخاسرة وراء قوى الهيمنة، لإبعاد شر الأعداء وتحالفاتهم. إن العرب بحاجة إلى أنفسهم والاعتماد على ذواتهم.
هناك توقعات تتعلق بمستقبل بديل، نتيجة تفاعلات الحركات القومية التي تنشأ على الساحة العربية، مع الحركات الإسلامية المنفتحة التي قد تنشأ وسط الظروف المأساوية التي تعيشها الأمة العربية، وحالة الإذلال والخزي التي وصلت إليها، بفضل حكام همهم المحافظة على مكاسبهم بأي ثمن، بالتعاون مع مجموعات من تجار السياسة، لتحقيق المكاسب الشخصية، على حساب الجماهير المسحوقة، وسيكون ظهور مثل هذه التفاعلات، رداً على التحديات الكبيرة، وعلى تزييف الشعارات، والدفاع عن القيم الحضارية التاريخية النابعة من تاريخ المنطقة العربية، بهدف الوصول إلى نتائج سياسية تستهدف إخضاع مستقبل شعوب المنطقة العربية لتهيئتها ومواجهة جميع التحديات، مواجهة ناتجة، عن حاجات الأمة العربية، وليس تلبية لمطالب خارجية، وبالتالي تحقيق الأمن القومي العربي، طبقاً لحاجات الأمة العربية.
إن العالم العربي، يحتاج إلى وقفة، يعيد فيها مراجعة كاملة للأحداث وبالتالي رسم صورة المستقبل بمعزل عن كل تأثير خارجي، مراجعة تستند إلى إرث الأمة العربية ومصالحها وثرواتها، ويتعلق الأمر برؤيا إرادية، ترفض أي تصور أن يكون فيه مستقبل الأمة العربية مفروضاً من الخارج، ويجب أن ترجع تلك الرؤيا بكل وزنها إلى العوامل الحضارية للأمة العربية، هذه العوامل التي تحاول قوى الهيمنة طمسها وإلصاق التهم الباطلة بها، ونعتها بصفات مختلفة زوراً.
ولابد للجماهير العربية أن تعي، عاجلاً أم آجلاً، تاريخها الحضاري وسترفض التضليل بكل أشكاله، وتعي ذاتها الأصيلة الممتدة الجذور عبر التاريخ البشري.
إذن يتجدد طرح قضية الوحدة العربية أو الاتحاد العربي، أو البدء بخطوات، في هذا السبيل، كما فعل الاتحاد الأوروبي، في إطار شمولي، كنوع من العمل لمواجهة الهجمات الشرسة والمركزة على المنطقة العربية، خاصة في إطار ما أصبح يطلق عليه اسم النظام الدولي الجديد، الذي أصبح فيه الغرب عموماً، والولايات المتحدة بشكل خاص صانعة هذا النظام والوصية على تنفيذه حسب مقتضيات حاجاتها الاستراتيجية.
كما لابد من الإشارة إلى أن الاستعمار لم يجد عناصر الارتكاز لسياسة التدخل في الشؤون العربية التي مارسها في الماضي ويمارسها في الحاضر والاستفادة من التناقضات العربية في الشروط والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة حالياً وحسب، بل استند إلى قاعدة مادية أسهم في خلقها أساساً، بمنع الوحدة العربية، بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيم البلدان العربية إلى كيانات سيطرة ونفوذ فيما بين الدول الاستعمارية، وأدى هذا بدوره إلى بروز كيانات مجتمعية متمايزة، بهذه الدرجة أو تلك من العمق في سياق العملية التطويرية في الأطر القطرية المنفردة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أم على صعيد بناء الدولة بأجهزتها وقوانينها المعترف فيها دولياً، أم على صعيد بروز وتبلور مصالح الطبقات الاجتماعية المسيطرة ضمن إطار هذه الكيانات.
في الواقع، لم تنشأ هذه التمايزات بين مجموعات الدول الخاضعة لمركز استعماري وحيد، بل يضاف إلى ذلك، واقع آخر، هو أن الكيانات في مسارات تطويرها الخاصة، غدت في مستويات متفاوتة من حيث درجة التطوير السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهكذا، أصبحت هناك مواجهة نوعية بين الفروقات الموضوعية والنوعية، منها فروقات كيفية، باعتبار أنها قائمة على أساس تبلور الكيانات المستقلة. وهناك نوع آخر، نبع من الفروقات الكمية الناتجة عن تفاوت مستوى التطور فيما بين هذه الكيانات، وتتجمع في هذا الجانب، القوى والطبقات ذات المصلحة القطرية، أي القوى والطبقات التي نشأت في كل هذه الكيانات الخاصة، وتبلورت مصالحها في كنفها، وبالارتباط التبعي السياسي والاقتصادي بقوى الهيمنة. فهذه القوى التي أخذت تمارس سياسة التواطؤ والتحالف مع قوى الهيمنة، وتنسيق خططها معها، نتيجة ضعف التيار القومي، على أساس تقسيم الأدوار في الاستراتيجية الشاملة المعبرة عن مصالحها المشتركة، ترى أنه في الانزلاق في طريق الخيانة، وفي التحالف مع قوى الهيمنة، عدوة الأمة العربية، ضماناً لقوتها وشرطاً لبقائها في السلطة في بلادها والحفاظ على امتيازاتها.
إن الوحدة القومية، ليست شعاراً يرفع، ولا هي مجرد عبارات منمقة في وسائل الإعلام، بل هي ممارسة حقيقية وهدف استراتيجي، وهي تفاعل حقيقي بين مختلف فئات الشعب والحفاظ على كرامة الوطن والإحساس بالأمن والممارسة الحقيقية للحرية وتكافؤ الفرص. لكن الواقع، أن معظم الأنظمة العربية نصبت ذاتها وصية على شعبها وأغلقت الأبواب أمام كل عمل وحدوي أصيل.