كارثة السوريين المستمرة منذ عشر سنوات محكومةٌ بتاريخ طويل من الكوارث والجرائم التي تفوق التصور، وقد بدأت فعليًا بحدثين رئيسيين يخصّان المصير السوري: الأول سقوط الجولان كإحدى الغنائم الغنية لحرب حزيران، والثاني سقوط سورية بأكملها كمزرعة بيد مجموعة مجرمين، استأثروا بالسلطة السياسية في سورية، بانقلاب “الحركة التصحيحية” التي جاءت استباقًا لاجتماع القيادة القطرية لحزب البعث، للنظر في دور وزير الدفاع آنذاك (حافظ الأسد) المريب، في سقوط الجولان خلال حرب حزيران التي تبيّن أنها لم تكن حربًا، إنما كانت مؤامرة متقنة، وجريمة مدبرة، أُعدت على مدار سنوات، ونُفذت على مرحلتين: الأولى مع بداية الانقلابات العسكرية، ولا سيما انقلاب 8 آذار 1963. والقسم الثاني حرب 5 حزيران 1967 التي انتهت بالبيان المُخزي والغريب (البيان 66) الذي أصدره حافظ الأسد، وأدى إلى سقوط الجولان، بحسب كتاب”سقوط الجولان“،لمؤلفه خليل مصطفى، حيث أسهمت هذا الحرب وإفرازاتها في رسم التاريخ السوري، منذ أكثر من نصف قرن حتى الآن، وما زال الشعب السوري يعاني تبعاتها ويدفع أثمانها من أرواحه ودمائه.
لم تقتصر حرب حزيران على احتلال الجولان، وتهجير سكانه فقط، بل تجاوزت الحدود الجغرافية للمنطقة المحتلة، لتمتد إلى سائر المناطق السورية التي ابتُليت بانقلاب عسكري وسياسي، صادر التاريخَ والذاكرة السورية برمتها، وروّض الحياة العامة للسوريين، بالاستبداد والقتل والقمع وكبت الحريات وسفك الدماء، وبث الرعب والخوف واخترق كل مناحي الحياة، من خلال أجهزة الأمن القمعية التي عملت على تطويع السوريين، على مدار ثلاثة عقود من القبضة الحديدة في حكم سورية، واعتبار الأسد “القائد الملهم”، وبحسب الباحثة الأميركية ليزا ويدين، في كتابها “غموضات السيطرة“، يقوم السوريون بالتصرف، وكأنهم يعبدون قائدهم، ومن خلال سياسة “العبادة” هذه، هدف النظام إلى محاصرة المواطنين السوريين، ونزع الروابط فيما بينهم، وتفتيتهم إلى وحدات لا علائق بينها. حتى حين حاولوا مقاومة ذلك، بالتصدي المباشر أو بالتحايل، وإطلاق النكات والتلميحات الكاريكاتورية، والابتسام الماكر أمام شاشات التلفزة الرسمية، لإعادة التواصل في ما بينهم، فقد أكدوا قوة هذه العبادة وسيطرتها عليهم، ذلك لأنهم بالضبط لا يصدقونها. ولشرح ذلك، تنقل ويدين، عن الفيلسوف الماركسي السلوفينيسلوفاج زيزيك قوله: “حتى لو حافظ الناس على مساحاتهم الساخرة، وحتى لو أظهروا أنهم لا يأخذون ما يقومون به على محمل الجد، فإنهم يبقون مطيعين. والطاعة هي ما يهمّ، سياسيًا”. من هنا؛ استطاع حافظ الأسد النجاح في الحفاظ على النظام طوال سنوات حكمه، إلا أنه فشل فشلًا ذريعًا في الحفاظ على الوطن والمواطن السوري.
تفكيك التاريخ
سدّ نظام الأسد، من خلال انقلاب “الحركة التصحيحية”، كلّ آفاق الأمل في سورية، طوال سنوات حكمه التي ترافقت مع تأسيس بنية ثقافية لنظام طائفي، ترتكز على عبادة الفرد، والحكم الاستبدادي، بالتزامن مع عمليات منهجية لمحو التاريخ السوري لمراحل ما قبل الأسد، وحكم البعث في سورية، وإعادة صياغته من جديد، واعتبار مراحل ما بعد الأسد هي العصر الذهبي لسورية الحديثة، حتى تطاولت العديد من كتب التاريخ والثقافة القومية الأسدية، على الرموز الوطنية السورية، من رجالات الاستقلال وقادة الأحزاب الوطنية، ولم يسلم أيضًا مقام الزعيم الوطني السوري، القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، من التجاهل والتقزيم في الإعلام الرسمي، وتناوله في مختلف الأعمال الفنية، كشخصية هامشية ضعيفة، وهو الأمر الذي يتناقض مع التاريخ، ومع السيرة الذاتية لمؤسسي الدولة السورية في مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار، ومراحل حكم العسكر، الذي شهدته سورية لاحقًا بعد الاستقلال الوطني، ومن ضمنهم رجالات البعث، من رفاق وأصدقاء حافظ الأسد، الذين انتهوا إلى السجن أو النفي أو القتل.
تفكيك التاريخ السوري، من خلال تقديم رؤية مناقضة للوقائع والأحداث، انتقل إلى القضية الوطنية السورية في الجولان المحتل، بعد حرب حزيران، وسقوط الجولان بيد القوات الإسرائيلية في أقلّ من 30 ساعة، وهو الحصن الأكثر مناعة وتحصينًا، من ناحية جغرافية وطوبوغرافية وعسكرية وأمنية، وبحسب ضباط عسكريين في الجيش السوري خدموا على طول الجبهة في الجولان من أبناء المنطقة، فإن الجولان شكل أكبر قلعة أمنية محصنة بالمعسكرات والخنادق والمواقع العسكرية وحقول الألغام، والتلال الأمنية العالية التي تركزت فيها المدفعية السورية على الجبهة التي كان يستحيل أن تسقط عسكريًا، الأمر الذي اعترف به كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي، في تقرير “أمان” الاستخبارات العسكرية، أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي عام 1968. حيث جاء في إحدى الفقرات “كان ضربًا من الخيال التفكير أننا سنتمكن من السيطرة على الهضبة السورية، حدثت أمور لم نكن نتوقعها أو نعرفها، ومنافية لمنطق الحروب العسكرية”، وفي مقال للصحفي السوري غسان الإمام (الذي زار الجبهة السورية قبل الحرب بسنوات) بعنوان (القائد الذي لم يستأذن في الانصراف) الشرق الأوسط اللندنية، يقول: “عندما شنت إسرائيل الحرب كانت الكارثة. ذهلت أنا الذي زرت جبهة الجولان، بعد كل معركة مع إسرائيل في الخمسينيات والستينيات. كان الموقع الجغرافي المرتفع، والمخابئ والمغارات تحت الأرض، تمنح القوات السورية ميزة راجحة، نادرًا ما امتلكها جيش في مواجهة جيش في الحروب الحديثة. كان الانهيار شاملًا، وكان الانسحاب من الجولان عشوائيًا وغير نظامي، بمعنى إعطاء الأوامر للجنود، ليدبّر كل منهم أمره.. لا قائد الجبهة، ولا قيادة الأركان، تمكنا من لملمة الجنود المنسحبين بلا معركة حقيقية….”.
الذاكرة الفردية والجمعية
في حالتنا السورية عامةً، والجولانية خاصةً، ومع اختفاء مصادر الأرشيف السوري من مدينة القنيطرة، خلال حرب حزيران 1967، والتدمير والتهجير القسري الكامل الذي طال 98% من القرى السورية في الجولان ومصادرة الإرث الحضاري للسوريين، من خلال نهب الآثار التاريخية والسياحية والممتلكات العامة والخاصة لأبناء الجولان، هناك أهمية خاصة للذاكرة الفردية والجماعية، وكثيرًا ما تحتل حيّزًا ملحوظًا في الوعي المحلي، فمع انطلاقة ثورة الحرية والكرامة السورية في آذار 2011، تحرر كثير من أبناء الجولان المهجرين والنازحين من أغلال الخوف والرعب، التي أفرزها النظام الاستبدادي الشرس، لتغيب قضيتهم، حتى إنه حاول حجب أي وسيلة إعلامية محلية تناولت استعادة فضية الجولان، وإحياء ذاكرة أبنائه، كحالة حجب موقع الجولان الإلكتروني، الذي تخصص -من ضمن اهتماماته وبرامجه- بقضايا الجولان، ومنها نازحو الجولان داخل الوطن، واستعادة أحياء قراهم ومزارعهم في الذاكرة ضمن برنامج سلسلة (حكاية لم تروَ بعد) الذي أشرفتُ عليه من خلال عملي مديرًا للموقع، حيث تناول بشكل خاص القرى السورية المدمرة في الجولان، ومحاولة إعادة رسمها من خلال ذاكرة المكان، وذاكرة الناس الذين عاشوا فيها، وتقديمها كحقائق لا يمكن أن تتقادم أو تسقط تحت بطش الاحتلال، ومحاولات التزييف، وإسقاطها من الذاكرة من قبل نظام الاستبداد، الذي حاول منع التواصل بين أهالي الجولان في الجزء المحتل، وإخوانهم المهجرين والنازحين داخل الوطن، وحجب الحقائق عن أبناء شعبنا، في محاولة لاغتيال الوجدان والضمير الوطني.
في إحدى الرسائل، يقول شاب سوري يطلب المساعدة في البحث عن مفقود سوري من الجولان قبل 53 عامًا: “في ناس فقدوا سنة الـ 67 من عنا من عشيرة البلاحسة من قرية باب الهوى، مفقود ومو معروف إذا طيب أو عايش اسمو خليل موسى الحسين”… وتقول رسالة أخرى: “عرفت أنك كنت في السجن الإسرائيلي، أبحث عن والدي من قرية الدلوة السورية في الجولان المحتل، كان عمري عدة أسابيع في الحرب، كان أبي جنديًا مع الجيش السوري، عرفنا أنه كان يخدم بموقع القلع، حيث حصلت معركة مع الصهاينة، بس صارت الحرب، نحن تهجرنا وظل والدي في الجبهة، ما عرفنا عنو شي من وقتها، خبرونا أنه موجود في محل اسمو سجن الصرفند، ومحل ثاني اسمو عتليت، يا ريت تساعدنا لنعرف عنو إذا عايش أسير عند الصهاينة، أم متوفى اسمو عبد القادر محيسن (محسن) هو من عشيرة البحاترة”.
الناشط سميح أيوب، من بلدة مجدل شمس يروي في شهادته حول المفقودين السوريين في الجولان، إبان حرب حزيران: “نقوم بزيارات دائمة، وفي بعض الأحيان برفقة أصدقاء من أحرار هذا الوطن من الضفة الغربية أو عرب الـ 48، إلى مواقع مختلفة في الجولان، حصلت فيها معارك حقيقية بين الضباط والجنود، الذين رفضوا قرار الانسحاب المشؤوم، أو لم يبلغهم نص البيان، تحضرني قصة مؤلمة، عندما قمنا ذات مرة بزيارة موقع تل الفخار، برفقة صديق من القدس الشريف، وهو من المناضلين الذين أمضوا سنوات طويلة في السجون الإسرائيلية، وهو أخ لشهيد استشهد في معارك بيروت، فأثناء تجوالنا بين المهاجع والممرات، قادتنا الصدفة إلى اكتشاف حجرة سُد بابها بحجارة، فتقدم رفيقنا وبدأ بإزاحة الحجارة لفتح منفذ للحجرة التي بدت كقبو، وبداخله كانت أربعة أسرّة، وعليها هياكل عظمية ملقاة عليها، وعلى أرضية الحجرة، ربما استشهدوا بعد أن أصيبوا بجراح، وتُركوا للتخلص من عبء علاجهم، أو أسرهم، لكن رفيقنا قطع جدار صمتنا، عندما تقدم باتجاه أحد الهياكل العظمية، بعيون دامعة أمسك بساق إحداها، وقبلها وقرأ الفاتحة، خرجنا من الحجرة بقلوب دامية حزنًا على أبطال اختاروا الشهادة على الانسحاب المذل، ودُفنوا في المكان، الذي طالما أحبوه واستشهدوا من أجله، فكان لهم ما أرادوا. أعدنا الحجارة إلى مكانها وقفلنا عائدين إلى القرية مجدل شمس… في تل الفخار تدخل المهاجع، التي تحولت إلى مكان سياحي، وتستطيع قراءة أسماء الخالدين، الذين قاتلوا وسقطوا دفاعا عن الشرف، اجتمعوا من كافة الانحاء السورية من أقصاها إلى أقصاها، لا زالت أسماؤهم محفورة في الإسمنت تقاوم عوامل الطبيعة لتبقى خالدة. (تل الفخار قبلة الأحرار، سميح أيوب).
لا معلومات موثقة في الأرشيف الإسرائيلي، حول جنود ومواطنين سوريين فقدوا خلال حرب 1967، إلا أن الأمر المألوف هو العثور على هياكل عظمية أو بقايا عظام آدمية في الجولان المحتل، ويتبين من معظم التحاليل التي تُجرى عليها في معهد التشريح الطبي الإسرائيلي في أبو كبير، أنها تعود في غالبيتها إلى جنود سوريين، استشهدوا منذ سنوات طويلة في أثناء الانسحاب السوري في حرب حزيران عام 1967، أو إلى أشخاص مدنيين ماتوا أو دُفنوا في أرجاء الجولان، في أثناء نزوح السكان خلال الحرب، وأحيانًا يتم العثور على بقايا لهياكل بشرية نتيجة توسيع المستوطنات التي أقيمت على أنقاض مقابر ومنازل القرى السورية التي كانت قائمة قبل الاحتلال الإسرائيلي للجولان، أو نتيجة اكتشافها قرب ثكنات سورية قديمة، أو داخل دشم عسكرية مهجورة، كحال الجندي السوري محمود بن علي، ورقمه العسكري (م 16241)، مسلم، وزمرة دمه A، الذي وجدت قلادته في موقع سوري. وعلق ضابط في الجيش الإسرائيلي على ذلك بالقول: “المكان الذي وُجدت فيه القلادة، والتحصين المنيع للموقع، يعود لحرب حزيران 1967”. وأضاف أن “وجود القلادة في المكان، مع أدوية ومعدات طبية، يشير إلى أن الجندي كان جريحًا، ومن المعقول أن مصيره لا يزال مجهولًا لأهله وذويه، ولا أحد يعرف ماذا حصل له….”.
لكن الأمر المؤكد أن قرار وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ الأسد، بالانسحاب من الجولان قبل وصول القوات الإسرائيلية، خلق حالة إرباك كبيرة في صفوف القوات السورية، ونتج عنه فقدان العشرات من الجنود، أو ترك جثامين الشهداء الذين قصفتهم الطائرات الإسرائيلية، أو مدنيين تمت تصفيتهم لرفضهم مغادرة منازلهم، كما حدث في قرية (سير ذياب) شمال الجولان التي روى أحد الضباط الإسرائيليين خبرًا عن اعتقال قوة من الجنود لعدد من المدنيين، رفضوا ترك منازلهم بعد الحرب، فأخذوهم إلى جهة مجهولة، وبعد قليل عادوا دونهم. في السجلات الرسمية نجد أن خسائر سورية في حرب حزيران بلغت حوالي ألف شهيد من الجنود، و367 أسيرًا تمت إعادتهم باتفاقيات تبادل أسرى بعد الحرب، إلى جانب نزوح ما بين ثمانين ألف إلى مئة وعشرة آلاف مواطن سوري، حوالي عشرين ألف منهم من مدينة القنيطرة، ووفق بحث أجرته صحيفة (هآرتس) اليومية الإسرائيلية، فإن 130,000 سوري قد طُردوا من الجولان، معظمهم بأوامر الجيش الإسرائيلي.
في شهادة لضابط إسرائيلي، يدعى (داني) من مدينة هرتسيليا، كان ضابطًا في الجيش الإسرائيلي في أثناء احتلال الجولان في العام 1967، وقدّم شهادة أثناء جولة لزيارة القرى السورية المدمرة، ضمن البرنامج التوثيقي “حكاية لم ترو بعد” الذي أشرفت عليه سابقًا جمعية جولان لتنمية القرى العربية، وحركة “ذاكرات” الإسرائيلية التقدمية، قال: “لي ذكريات أليمة هنا، أنا كنت ضمن القوات الإسرائيلية، التي أوكلت لها مهمة الحراسة في قرية الرمثانية، لمنع المتسللين المدنيين من العودة إلى بيوتهم. في إحدى الليالي الدافئة، خيّم صمت غريب على المكان، كانت رائحة البنزين والعجلات لا تزال تفوح في كل المكان، ووهناك عواء كلاب أو ذئاب.. في الليل أثناء مناوبتي مع زملائي، سمعنا صوت بكاء، اعتقدنا أنه يعود لقطة أو حيوان ما، إلا أن البكاء المتواصل الذي وصل إلينا كان أشبه ببكاء طفل، لم يكن بإمكاننا ألا أن نتحرك بحثًا عن مصدر البكاء، ووصلنا إلى بيت لا تزال الأبقار مربوطة في الباحة وبعض الدجاجات، دخلنا إلى البيت والصوت يرشدنا إلى تفاصيل البيت، ولهول المفاجأة، رأينا طفلًا وحيدًا ملقى على السرير، تركه ذووه في ذروة الخوف، لربما نسوه من شدة الرعب الذي أحدثه دوي القذائف والحرائق حول القرية. حملت الطفل، واتصلنا بالمسؤولين في الجيش، وأخبرونا أن نُبقي الطفل معنا حتى الصباح، هناك شاحنة تصل إلى مفترق الخشنية بالقرب من المسجد، علينا أن نترك الطفل مع إحدى العائلات، طوال ساعات الليل حاولنا إسكات الطفل، كان عمره لا يتجاوز ثلاث سنوات تقريبًا، لم يكن لدينا أي طعام عدا بعض علب اللحم والماء، وقطع الخبر، بللنا فمه بالخبز والماء حتى يسكت، لأنه كان جائعًا، ونام أخيرًا حتى الصباح. حملته واتجهت به إلى الخشنية القريبة، وبالفعل تركته مع إحدى النسوة التي لا أعرف من هي؟ ومن تكون؟ وإلى أين يتجهون؟ وغادرت الشاحنة، وعدت إلى فرقتي. بعد خمس وعشرين عامًا أو أكثر، تركت خلالها الجيش وعدت للحياة المدنية وعملت في إحدى الشركات التي لها أعمال في فرنسا، كنتُ مشاركًا في أحد المؤتمرات، إلى جانب وفود من دول خليجية، وعربية وإسلامية، وفي أثناء إلقاء مندوب شركتنا كلمته، تفاجأت بخروج عدد من العرب المشاركين، وكان من بينهم مندوب لإحدى الشركات السورية، مرّ من أمامي، ولا أعرف لماذا استذكرت ما حدث معي هنا في هذه القرية، تأملته كثيرًا، وخرجت إلى المقهى المخصص للضيوف، كان هناك شاب أنيق يجلس على إحدى الطاولات، فطلبت منه -عبر أحد الأصدقاء الفرنسيين- الجلوس إليه، لم يقل له إنني إسرائيلي، جلست أنا وصديقي إلى طاولته، وسألته: لماذا غادرت القاعة، فقال: “على الرغم من أهمية المؤتمر فإنني لا أستطيع الجلوس والاستماع إلى كلمة المندوب الإسرائيلي”، وسألته لماذا؟ قال: “لي تجربة قاسية وأليمة معهم، ليست سياسية فقط، وإنما شخصية. وفورًا عادت صورة ذاك الطفل إلى مخيلتي، وطلبت منه أن يشرح لي كيف أن التجربة شخصية، وهو لا يقيم أي علاقة مع الإسرائيليين، وبدأ بقص حكايته التي بدأت في الحقيقة معي أنا شخصيًا الجالس أمامه دون أن يدري… بعد أربعة عشر عامًا من الحرب التقى بوالده وإخوته، بعد أن ماتت والدته، دون أن يراها. حين انتهى من رواية قصته، كانت الدموع تنهمر من عيني، الأمر الذي فاجأه، وفاجأ صديقي الفرنسي، قال لي لماذا الدموع في عينيك، قلت له أنا أعرفك؟ أنت من بلد اسمها الرمثانية في الجولان، فوقف مذهولًا. وقال: “ما أدراك”؟ قلت له أنا ذاك الجندي الإسرائيلي، الذي أنقذه وسلّمه، إلى إحدى السوريات المغادرات شرقًا في شاحنة للنازحين. لم يصدق الشاب ما قلته في البداية، وبدا الأمر بالنسبة إليه كأنه كذبة يصعب تصديقها، طلبت منه أن يجلس ليسمع روايتي لقصته، وبدا كئيبًا، غاضبًا، حزينًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلي، إنها قصه تصلح، لأن تكون فيلمًا من سينما الخيال بالنسبة لي. بعد أن أنهيت الخدمة كنت أتساءل عن سبب الحرب، وسبب العداوة بين العرب واليهود، وما حصل معي ومع هذا الشاب السوري الرائع، أثبت لي أن القادة والحكام في تل أبيب ودمشق والعواصم العربية، مجرمون، يتلاعبون بنا، نحن بشر يحق لنا أن نعيش بسلام وأمان وهدوء. صديقي السوري ذاك كان يمكن أن يكون ابنًا لي، وليس عدوًا لي، لأنني وعدته أن أُبقي الأمر سرًا بيننا حتى تحين الفرصة، لكشف القصة أمام العالم كله. كلما كان خارج سورية، كان يرسل إلي برقية، رأيته منذ ذلك الحين مرتين فقط في بروكسل، وأتمنى أن أراه في دمشق أو في تل أبيب. حين علمت بهذه الجولة، لم أتردد للحظة في القدوم مع زملائي وأصدقائي محبي السلام والتعايش.” مؤسسي دولة إسرائيل أوهموا الجميع بإنجازاتهم، لكن هذا قبل أن يبدأ بعضهم ويعترف بوقوع جرائم، اليوم أنا لا أستطيع أن أتحمل ثمن أخطائهم، ولن أحمل إلى أبنائي أي ثمن من جرائمهم تلك في الجولان، وفي داخل إسرائيل نفسها”(3).
مقابر الأرقام في إسرائيل
هي مقابر تخضع لإدارة الجيش الإسرائيلي، ويتم دفن الجثث من قبل وحدة القوى العاملة في الجيش، والحاخامية العسكرية، وفقًا لأحكام قانون هيئة الأركان العامة الإسرائيلية في هذا الشأن، بالدفن المؤقت، على افتراض أن جثث قتلى العدو ستعاد إلى أراضيهم في المستقبل، وفق تسويات سياسية أو عمليات تبادل أسرى، و يتم الدفن بدون مراسم، وتوضع الجثامين في نعش برقم تسلسلي، وأمام كل قبر لافتة حديدية تحمل رمزًا، بعد توثيق كل التفاصيل المتعلقة بالتعرف إلى الجثة، وتعدّ مقابر الأرقام مناطق عسكرية مغلقة، إذ تمنع السلطات الإسرائيلية الوصول إليها من دون موافقة مسبقة، وكثيرًا ما وجدث هياكل عظمية وجثث جرفتها السيول والامطار، وفُقد كثير منها، أو نهشتها الحيوانات، لأن معظم عمليات الدفن تجري بشكل مهين ومعيب، ولا تتناسب مع الأعراف الدينية والأخلاقية والإنسانية والمواثيق الدولية. حتى إن إسرائيل برعت في تحويل المقابر إلى أمكنة أخرى، أو جرفتها بهدف التوسع والبناء، كما حصل في مقبرة الطائفة المسيحية في مدينة القنيطرة، حيث حُوّل محيطها إلى مزرعة ورود لتصدير الورد الجولاني، وخصصت زراعتها من أجل احتفالات أعياد الميلاد في مختلف أنحاء أوروبا، والسبب في زراعته هنا يعود إلى طبيعة المناخ البارد في الجولان، ويطلق عليها الإسرائيليون اليوم “بستان المقبرة “، وفي هذا المقبرة، يرقد شهيد من أبناء المدينة استُشهد في معركة “عين غيف” بالقرب من طبريا عام 1953.
في إسرائيل أربعُ مقابر أرقام رسمية، تحتضن جثت الشهداء الذين سقطوا في عمليات استشهادية، أو نتيجة إطلاق النار عليهم في مواجهات مع القوات الإسرائيلية، ومن بينهم المئات من الأسرى السوريين واللبنانيين والمصريين والفلسطينيين والأردنيين، وما تزال هذه المقابر تضم رفاة المئات من الفلسطينيين، وربما هناك مفقودون آخرون فُقدت أرقامهم ورموزهم التعريفية.
الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء كانت قد بدأت في عام 2008 في جهودها لاسترداد جثامين الشهداء، وقد قدّمت التماسات فردية وأخرى جماعية، إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، استطاعت من خلالها استرداد نحو 100 جثمان، بعضها لفلسطينيين نفذوا عمليات استشهادية في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبعضها لآخرين فدائيين من سنوات السبعينيات. وكان آخر هذه النجاحات قرار استصدرته الحملة من المحكمة العليا بالإفراج عن 38 جثمانًا، تم تسليم 30 منها، فيما يتلكأ الجيش الإسرائيلي في تسليم البقية. وقد أُفرج عن قسم كبير من الجثامين في إطار عمليات تبادل الأسرى مع “حزب الله”، وقد جرت منذ عام 1996 حتى عام 2008 أربع صفقات لتبادل الأسرى والجثامين، بين الحكومة الإسرائيلية و”حزب الله” اللبناني.
ضحايا الاحتلال وضحايا الاستبداد قضية واحدة لا تتجزأ
لم يحدث قط أن قامت الحكومة السورية بالبحث عن الضحايا السوريين المفقودين أو بمطالبة سلطات الاحتلال بالكشف عن مصيرهم، ولم يحدث أن طلبت الحكومة السورية المساعدة من المنظمات والهيئات الدولية ومنظمة حقوق الإنسان، في البحث عن مفقودين سوريين منذ حرب حزيران، ولم تتبن الحكومة السورية أي قضية تتعلق بأولئك الذين ما زالت عوائلهم تبحث عنهم، وعلى الرغم من عدم وجود وثائق أو معلومات في الأرشيف الإسرائيلي عنهم، فإن طيّ ملفاتهم وأسمائهم، وإنكار وجودهم، لا يعني أنهم غير موجودين، سواء أكانوا أمواتًا أو أحياء، ولا يعني أنهم مجرد حكايات وقصص، وأوجاع وآلام لدى عوائلهم في سورية، فليس من المعقول أن تطالب عوائل سورية بالبحث عن أعزاء لها فُقدوا في الحرب، ولا تتدخل أي هيئة وطنية سورية أو دولية في توفير إجابات قاطعة عن مصير أولئك المفقودين، بالرغم من افتقار الحكومة السورية إلى أدنى واجباتها الأخلاقية، إن وُجدوا أحياء، أو ثبت موتهم وعُثر على رفاتهم، الأمر الذي يمثل خطوة مهمة للعائلات في طي صفحة في محنتهم الإنسانية… بخلاف الجنود الإسرائيليين المفقودين في حروب إسرائيل، كقضية الجندي الرقيب زخاريا باومل، أحد الجنود المفقودين في حرب لبنان عام 1982، حيث عملت إسرائيل طوال 36 سنة من أجل معرفة مصيره واستعادة رفاته من داخل سورية، بمساعدة الحكومة الروسية، ولا زالت تبحث عن باقي المفقودين الإسرائيليين في لبنان وسورية، من خلال إقامة وحدة خاصة (وحدة الأشخاص المفقودين) التي تُعرف بالأحرف الأربعة الأولى من اسمها بالعبرية “إيتان”، وهي مكلفة بالبحث عنهم. وقد شنت حربًا بشعة على لبنان من أجل استعادة الجنديين الإسرائيليين، اللذين أُسرا في إحدى عمليات “حزب الله” اللبناني. وفي الفلسفة العسكرية للجيش الإسرائيلي نصّ يقول: “نريد من كل الجنود أن يعرفوا عند انضمامهم إلى الجيش أن دولة إسرائيل ستفعل كل شيء ممكن، في حال سقطوا في الأسر أو فُقدت آثارهم، من أجل إعادتهم إلى الوطن”. وما زالت إسرائيل تطالب وتبحث عن 176 جنديًا إسرائيليًا، يُعدّون قتلى خلال المعركة، لكن أماكن دفنهم غير معروفة، معظمهم مفقودون منذ العام 1948.
إن الواجب الأخلاقي والوطني يحتم على المؤسسات السورية، ومنظمات المجتمع المدني السوري، إجراء جرد شامل لأسماء المفقودين السوريين -عسكريين ومدنيين- في سنوات الاستبداد، وإعادة الاعتبار إليهم وإلى عوائلهم، بمعرفة مصيرهم بشكل قاطع وحازم، وشمل ضحايا الاحتلال الإسرائيلي من أبناء الجولان، مع مصير كل المفقودين السوريين ضحايا الحكم الاستبدادي منذ العام 1970، وتحديدًا مصير أولئك المفقودين منذ آذار/ مارس عام 2011، والمطالبة بتشكيل لجان تحقيق وطنية ودولية، للكشف عن مصير ضحايا الاحتلال والاستبداد، لأن قضيتهم واحدة لا تتجزأ.
لدي عمي اسير في حرب الجولان وبحسب ما اعلم انه تم أسره حي
اسمه. فارس احمد زين الدين
ميف احصل على معلومات عنه