1 – مقدمة
لم يكد ينطلق الحراك السلمي في سورية، في آذار/ مارس 2011، حتى بدأ الصراع بين التيارين المحافظ والليبرالي يظهر حول هوية “الثورة” وهوية الدولة. وفي أوقات بدا فيها سقوط النظام وشيكًا، كان هذا الصراع يعني -بطريقة أو بأخرى- نزاعًا حول من سيحكم الدولة بعد انهيار نظام الحكم في سورية، وكيف ستُحكم. وبدأت تتوالى البيانات من جهة تطالب بعلمانية الدولة المطلقة، ومن جهة تطالب بمدنيّة الدولة التي تراعي ثقافة الدولة الإسلامية وحضنها العربي والإسلامي، ومن جهة أخرى تطالب بمرجعية إسلامية واضحة. لم تتوقف القضية الدستورية عند الأطراف السورية ذات الصلة، بل تعدتها إلى المجتمع الدولي أيضًا. فالقرار الدولي رقم 2254 ذكر الدستور كأحد القضايا الإصلاحية الأساسية، مع تأكيده على عدم طائفية الدولة[1]، “…. حكمًا ذا مصداقية، يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية”، ويمكن تأويل مصطلح “لا يقوم على الطائفية” بأنه اصطلاح مخفف لما ورد في بيانات فيينا التي ذكرت أن “وحدة سورية واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها الليبرالية أمورٌ أساسية”[2]. إلا أن عسكرة الثورة وسيطرة التيارات الإسلامية المتشددة على عدد مهم من قياداتها العسكرية من جهة، وانكفاء الحل السلمي من جهة أخرى، أبعدا هذه القضية عن سلّم الأولويات، فسيطر الخطاب العسكري بتقدم وتراجع وتحرير واحتلال. وبدا كأن السياسة لم تعد موجودة خارج بيانات وسائل التواصل الاجتماعي، وأضحى الحديث عن الدستور والدولة ونظام الحكم وشكل إدارة الدولة ترفًا أيام الحرب.
بعد عودة الحديث عن السياسة، بفعل العمل على تشكيل اللجنة الدستورية من جهة، وبفعل الانكسارات العسكرية المتوالية التي منيت بها الفصائل العسكرية المختلفة من جهة ثانية؛ عاد الحديث عن حوارات “ليبرالية”- “إسلامية”، وعن البحث في مصادر التشريع ودين رئيس البلاد وشكل إدارة الدولة ونظام الحكم والنظام الانتخابي وفصل السلطات. لنعود مرة أخرى إلى أسئلة الهوية الأساسية: من نحن؟
تبدو هذه اللحظة حاسمة لجهة تشكيل وجه عام للدولة المنشودة التي يفترض أن تناقشها اللجنة الدستورية العتيدة، ومن المتوقع أن تحظى مصادر التشريع بقدر كبير من النقاشات والتفاوضات وربما النزاعات داخل هذه اللجنة.
تتداخل قضية الدين في الدستور عبر أربعة قضايا أساسية عدة هي: دين رئيس الدولة، ومصدر التشريع، والقسم الدستوري الذي يتلوه رئيس البلاد عند توليه منصبه وأعضاء مجلس الشعب بعد انتخابهم مباشرة، الأحوال الشخصية للطوائف والأديان، وفي قضية الحقوق والواجبات وربما في المقدمة التي تضع عادة أُسس هوية الدولة[3]. إلا أننا نجد أنفسنا مرغمين على التفكير بالأسئلة الأساسية قبل سؤال ما هو المصدر التشريعي الأساسي في الدستور. ففي مجتمع تتجاوز غالبيته المسلمة نسبة 90 % كحد أدنى[4]، نتساءل:
- ما الذي يقلق التيارات المحافظة والمسلمة خصوصًا، من عدم ذكر دين رئيس الدولة، وهو -إحصائيًا- لن يكون إلا مسلمًا؟ بالمقابل ما الذي يدفع التيارات الليبرالية إلى المطالبة الحثيثة بعدم ذكر دين رئيس الدولة، وهم شبه متأكدين من أنه سيكون مسلمًا؟ ما أهمية دين رئيس الدولة في نظام حكم برلماني مثلًا؟ هل تم الإقرار بنظام الحكم حتى نختلف حول دين رئيس الدولة؟!
- هل سيضمن ذكر دين الرئيس التزامه الدين؟ ألا يمكن أن يكون الرئيس ليبراليَّ التوجه لا بل ملحدًا، في حين تقول خانته بأنه مسلم؟
- هل يعني دين رئيس الدولة الإسلام أن لا مانع من كونه كرديًا أو علويًا أو شيعيًا أو إسماعيليًا؟ أم أننا نقصد ضمنيًا أن يكون رأس الدولة مسلمًا سنّيًا عربيًا؟ وكيف يمكن للتيارات المحافظة ضمان ذلك في القوانين؟ هل يمكن للقوانين أن تحفظ لهم ذلك، أم أنهم سيعتمدون على وجود أكثرية سنية عربية، وبالتالي ما الداعي لذكر ذلك في الدستور؟
- ما الفرق بين ذكر دين الدولة ومصادر التشريع؟ وما هو أثر ذلك على التشريعات والقوانين؟ هل يضمن ذكر دين الدولة أو مصادر التشريع أن تكون التشريعات والقوانين اللاحقة مرتبطة بالدين؟ وهل إغفالها يضمن أن تكون القوانين والتشريعات ذات جوهر ليبرالي؟
- ما الذي يعنيه مصدر التشريع أن يكون إسلاميًا؟ هل تنحصر المسألة في قوانين الأحوال الشخصية أم تتعداها إلى قوانين العقوبات والقانون المدني قولًا وفعلًا؟
- إن كان الفقه الإسلامي أو مبادئ الشريعة مصدرًا رئيسًا للتشريع؛ فهل يمنع ذلك ورود مصادر أساسية أخرى كالمواثيق والمعاهدات الدولية وشرعة حقوق الإنسان مثلًا؟
لن نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل منفرد في هذه الورقة، ولكننا سنحاول الإجابة عن سؤالين عامين:
- ما الدوافع الحقيقية وراء جدل مصادر التشريع؟ هل قضية مصادر التشريع قضية مبدئية وهوياتية صرفة، أم أنها قضية سياسية مرتبطة بمآلات تفسير الدستور سياسيًا بطريقة تؤثر في ولاء الغالبية المسلمة، ومن ثَم في حكم البلاد؟
- ما حدود مصادر التشريع في منظور التيارات المحافظة والليبرالية؟ أو لنقل: ما هي الآثار القانونية المتوقعة من هذا النص؟
2 – في المنهج
تباينت الدساتير في شكل ربط الدولة بالدين في العالمَين الإسلامي والعربي. فهناك دول ذات غالبية مسلمة لم تذكر دين الدولة، كما هي الحال في إندونيسيا التي ينحصر ذكر الدين فيها بعبارة “جمهورية إندونيسيا في صلب دستور يجعل منها دولة سيادية قائمة على الإيمان بالله الواحد الأحد”؛ أو الدستور التركي الذي لا يـأتي على ذكر الإسلام بتاتًا، بل يؤكد على الليبرالية بشكل صريح لترد فيه 9 مرات، وهناك دول تربط الدولة بالإسلام ربطًا وثيقًا، كما هي الحال في إيران التي يذكر دستورها الإسلام 214 مرة، ويحدد أساس الحكم فيها على “1 .الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره؛ 2 .الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بيان القوانين؛ 3 .الإيمان بيوم القيامة ودوره الخلاق في مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله؛ 4 .الإيمان بعدل الله في الخلق والتشريع 5 .الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس في استمرار ثورة الإسلام؛ 5. الكرامة الإنسانية 6. الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله؛ هو نظام يؤمّن الإنصاف والعدالة، والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والتلاحم الوطني عن طريق الاجتهاد المستمر للفقهاء جامعي الشرائط، على أساس الكتاب وسنة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين”.
أما في العالم العربي، فقد راوحت علاقة الدين بالدولة، بين ذكر دين الدولة وذكر دين رئيس الدولة، وتحديد مصدر التشريع في كونه الفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية أو مبادئها. لذلك نرى ضرورة التمييز بين هذه المصطلحات قبل الولوج في رصد أهمية ذكرها في الدساتير المختلفة.
لقد أجمع الفقهاء على أن استخدام كلمة مبادئ الشريعة الإسلامية أكثر حرية؛ “فالشريعة، كما ذكر، هي المثل الأعلى الإلهي… أما الفقه فهو المسعى الإنساني لفهم وتطبيق هذا المثل الأعلى. لذلك، فإن الشريعة ثابتة وناصعة وخالية من العيوب، في حين أن الفقه ليس كذلك”[5]، “بيد أن البعض منها (دساتير الدول ذات الغالبية المسلمة) استخدم مصطلح الفقه الإسلامي، وفارق بين الاثنين، ففي الشريعة الإسلامية من المرونة والرحابة ما يسمح بأن يستنبط منها ما يتلاءم ويتوافق ومستجدات العصر، حيث تتضمن هذه الشريعة من القواعد الكلية والمبادئ العامة ما يستوعب مستجدات العصر، وآية ذلك أن المنصوص عليه من أحكام في مجال المعاملات قليل، إذا ما قورن بما هو مسكوت عنه”[6].
بينما لا يبدو معنى أن دين الدولة هو الإسلام ثابتًا في معناه. لكن الميل العام أن إعلان دين الدولة لا يمنع من أن تكون هذه الدولة ليبرالية، كما هي الحال في النرويج والدانمارك واليونان[7].
لا ينحصر الجدال حول مصادر التشريع في الدستور بالحالة السورية، بل يتعداها ليكون مادة أساسية في التفاوضات التي رافقت كتابة معظم الدساتير العربية، سواء قبل الربيع العربي أم بعده.
سنميز في هذه الورقة بين علاقة الدين في الدساتير ذات الطابع الليبرالي، ونقصد بها الدساتير التي لم تحدد علاقة الدين بالدولة، كدستور 1958 في سورية أو الدساتير التي تحدد دين رأس الدولة في نظام برلماني أي عندما يكون رئيس الدولة منصبًا اعتباريًا غير مرتبط بالسلطة التنفيذية بشكل عام من جهة، ومن جهة أخرى لا تذكر هذه الدساتير علاقة مصادر التشريع بالدين، كما هي الحال في دساتير سورية للعامين 1920 و1930. أما الدساتير التي تأخذ طابعًا دينيًا فهي الدساتير التي تذكر دين الدولة صراحة و/أو تذكر دين رئيس الدولة في نظام حكم رئاسي أو شبه رئاسي، كما هي الحال في دساتير سورية للأعوام 1950، 1973، و2012 أو دستور تونس للعام 2014.
سنتجاوز في هذه الورقة مصطلح علماني ومصطلح إسلامي؛ لما يشوب هذين المصطلحين من تأويلات واستخدامات لا تساعد في التعاطي معهما، كمفهومين واضحين متفق عليهما. سنصطلح على التيارات الدينية التي تسعى إلى إعطاء الدولة هوية دينية قوية، عبر ذكر الدين كمصدر رئيسي للتشريع أو ذكر دين رئيس الدولة في نظام رئاسي أو شبه رئاسي، في حين نصطلح على استخدام كلمة ليبرالية لتعني فصل الدين عن الدولة. عليه، فإن التيارات الليبرالية هي التيارات التي تنادي بفصل الدين عن الدولة، والتيارات المحافظة -سواء أكانت مسلمة أم غير ذلك- التي تسعى إلى ربط الدين بالدولة عبر مصادر التشريع و/أو تحديد رأس السلطة التنفيذية في نظام رئاسي أو شبه رئاسي.
سنستعرض في هذه الورقة تاريخية مصادر التشريع في الدساتير السورية المختلفة، محاولين معرفة مدى تأثر علاقة الدين بالدولة بذكر مصادر التشريع في كل منها والآثار القانونية التي ترتبت عليها. بعد ذلك نستعرض كيف تعاملت دساتير بعض الدول العربية -وعلى رأسها العراق وتونس ومصر- مع قضية الهوية الدينية للدولة. ومن ثم نعمد للإجابة على السؤالين أعلاه، عبر منهج وصفي تحليلي، عبر محاولة فهم الآثار القانونية الفعلية على التشريعات والقوانين النافذة في البلاد.
3 – مصادر التشريع في الدساتير السورية من العام 1920 حتى العام 2012
تنقسم الدساتير السورية تاريخيًا إلى ثلاثة تصنيفات متباينة لجهة مصدر التشريع وعلاقته بالإسلام، وهي دساتير لم تتطرق قط للإسلام كمصدر للتشريع، وهي دستور 1920، ودستور 1930، ودستور 1958، ودستور 1961. لم تتطرق هذه الدساتير إلى أي مصدر من مصادر التشريع، وبالتالي يمكن وسم هذه الدساتير بالدساتير ذات الطابع الليبرالي. فعلى الرغم من ذكر دين رأس الدولة في دستور 1920 و1930، وهو الملك في حالة دستور 1920، والرئيس في دستور 1930، فإن رأس الدولة هنا هو منصب بروتوكولي ونظام الحكم برلماني تؤول فيه السلطة التنفيذية إلى حكومة منتخبة من قبل البرلمان الذي لا يشترط أن يكون رئيسها من دين أو طائفة بعينها. زد على ذلك أن هذه الدساتير لم تذكر أي علاقة للدين بمصادر التشريع. أما في دستور 1958 فلا ذكر لدين رئيس الجمهورية، وهو رأس السلطة التنفيذية، ولا ذكر فيها لمصادر التشريع. أما في الدستور المؤقت للعام 1961 فرأس السلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية، ولا يذكر الدستور دينه، على الرغم من إعادة هذا الدستور صلاحيات الرئيس ومجلس الوزراء والوزراء إلى دستور العام 1950.
أما المجموعة الثانية، فتشمل تلك التي ذكرت مصدر التشريع فيها، وإن كانت قد تباينت فيما بينها بين ذكر الفقه الإسلامي كـ “مصدر رئيسي للتشريع” أو “المصدر الرئيسي للتشريع”. ففي حين تذكر دساتير الأعوام 1950 و1953 و1962 أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، احتفظت دساتير الأعوام 1964 و1966 و1969 و1971 و2012 1973 بعبارة “الفقه الإسلامي هو مصدر رئيسي للتشريع”، دون أن تذكر أي مصدر رئيس أو ثانوي آخر.
من اللافت هنا أن أول دستور بعد الاستقلال هو من جاء بقضية مصادر التشريع بعد حوارات وتفاوضات ساخنة، بين التيارات المحافظة المسلمة من جهة، والتيارات الليبرالية ورجال الدين المسيحي من جهة أخرى. ففي حين كانت لجنة صياغة الدستور قد صاغت المادة 3 من الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، جاء الاحتجاج من بعض القوى السياسية ورجال الدين المسيحيين، وعلى رأسهم البطريرك ماكسيموس الرابع الصايغ الذي حمل بشدة على المادة الثالثة في مشروع الدستور. وتبادل التيار المحافظ المسلم والتيار المحافظ المسيحي البيانات بشأن هذه المادة؛ ليخرج صوت مصطفى السباعي محاولًا التهدئة، لتستقر الصيغة النهائية على تحديد دين رئيس الدولة دون دين الدولة، وإدراج الفقه الإسلامي على أنه “المصدر الرئيسي للتشريع”.
حافظت المادة الثالثة على حضورها في جميع الدساتير التالية، باستثناء دستور الوحدة في العام 1958 ودستور العام 1961، وإن كان الأخير أشبه بالإعلان الدستوري منه بالدستور، كونه استند إلى دستور العام 1950 في غالب مواده. تباينت بالطبع المادة الثالثة في تصديرها الفقه الإسلام كمصدر للتشريع بين دساتير جعلت الفقه المصدر الرئيسي، وهي دساتير العام 1953 (دستور أديب الشيشكلي) وإن استمد هذا الدستور أغلب نصوصه من دستور العام 1950 كما هو. في حين اكتفت دساتير العام 1964 و1969 و1971 و1973 و2012 بذكره مصدرًا رئيسيًا، لا المصدر الرئيسي.
يجدر الذكر هنا أنه على الرغم من عدم ذكر الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع، وعدم ذكر دين رئيس الدولة في جميع الدساتير قبل العام 1950 وفي دستوري العام 1958 و1961؛ فإن هذه الدساتير جميعها لم تمنع إدراج الإسلام كأساس في قوانين الأحوال الشخصية. فقانون الأحوال الشخصية الذي كان سائدًا في الفترة بين العام 1917 والعام 1950، تاريخ أول دستور يذكر الفقه الإسلامي كمصدر للتشريع، كان قانون حقوق العائلة العثماني، المعروف بقانون المناكحات. ظهر بعد ذلك قانون الأحوال الشخصية للعام 1953، واستمر حتى العام 1976 ليثبت هذا حتى العام 2019، تاريخ آخر قانون أحوال شخصية، بالرغم من تطبيق دستور العام 1958 الذي كما ذكرنا كان دستورًا ذا طابع ليبرالي، لا يذكر دين الدولة ولا دين الرئيس ولا مصدر التشريع. زد على ذلك أن الحوارات التي رافقت أول دستور لسورية والمرتبطة بمشاركة المرأة في الترشح والانتخاب لم تنعكس دستوريًا بما يخالف ذلك. وبالرغم من الجدل الواسع الذي جرى أثناء كتابة الدستور، حول أحقية المرأة في الترشح والانتخاب، لم يذكر الدستور ما يمنع المرأة من ذلك. فنص المادة 10 من هذا الدستور تذكر أن “السوريون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات”، ولم يذكر الدستور صراحة أن السوريين هم السوريون الذكور حصرًا. ومع ذلك لم تتمكن المرأة من الانتخاب حتى العام 1950، الذي ذكر حرفيًا “الناخبون والناخبات هم السوريون والسوريات، الذين أتموا الثامنة عشرة من عمرهم، وكانوا مسجلين في سجل الأحوال المدنية، وتوافرت فيهم الشروط المنصوص عليها في قانون الانتخاب”.
مما سبق، نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:
- شهدت سورية دساتير ليبرالية لا تربط الدين بالتشريع، كما أنها شهدت دساتير تعطي سورية هوية محافظة إسلامية.
- تركزت التفاوضات السياسية على قانون الأحوال الشخصية دون القوانين الأخرى. فبالرغم من ذكر أن مرجعية قوانين العقوبات والقانون المدني مرجعية إسلامية، فإن ذلك لم ينعكس فعليًا على نصوصها، كما أن عدم ذكر مصادر التشريع في الدستور لم يمنع تطبيق قانون أحوال شخصية يستند إلى الفقه الإسلامي.
- لا يوجد رابط واضح بين المرجعية الدينية في الدستور وبين توافق القوانين مع الفقه الإسلامي.
4 – مصادر التشريع في الدساتير العربية
لا ينحصر الجدال حول مصادر التشريع في الدستور بالحالة السورية، بل يتعداها ليكون مادة أساسية في التفاوضات التي رافقت كتابة معظم الدساتير العربية، سواء قبل الربيع العربي أم بعده. فقد شهدت بعض بلدان الربيع العربي، مثل تونس ومصر واليمن، جدلًا واسعًا حول علاقة الدين بالدولة في الدستور.
في تونس، مثلًا، يذكر دستورها أن “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. كما يذكر دستورها أن “الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حقّ لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام”. اللافت هنا أن واحدة من أكثر الدول العربية ليبرالية، ومطلقة شرارة ثورات الربيع العربي، لم تكن لتتجاوز ربط الإسلام بهوية الدولة. غير أن ذلك الربط لم يمنع من تطبيق قوانين ليبرالية في جوهرها. فمنصب الرئاسة من حق الناخب التونسي، رجلًا كان أم امرأة، كما أن قوانين الأحوال الشخصية بدأت تطبق أشكالًا مهمة من المساواة بين الجنسين، في قضية الإرث التي أثارت جدلًا كبيرًا، وفي مسألة تعدد الزوجات التي تنفرد تونس بحظره في العالم العربي (وإن لم تصل إلى نص قانوني يخص الإرث).
أما دستور مصر، فقد ذكر صراحة أن الإسلام هو دين الدولة المصرية، ومبادئه مصدر رئيسي للتشريع. غير أن هذا الدستور لم يذكر دين رئيس الدولة، ولم يشترط في المترشح إلا أن يكون مصريًا، من دون تحديد جنسه أو دينه. ومع ذلك، يقضي قانون الأحوال الشخصية، وفق الشريعة الإسلامية، بخصوص أحكام الزواج والطلاق والميراث والنسب والنيابة. وقد أقرت المحكمة الدستورية المصرية أن ذكر مبادئ الدين الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع ملزم للمشرّع لا القاضي، إذ يحق له الاستناد إلى القوانين الوضعية ومخالفة الدين الإسلامي في قضيةٍ ما.
أما العراق الذي كتب دستوره الحديث في ظل الاحتلال الأميركي، فقد التزم هوية إسلامية للدولة والتشريع. فقد جاءت المقدمة زاخرة بالإشارات الدينية، سواء كانت لجهة البدء بآية كريمة من القرآن الكريم: {ولَقَدْ كَرّمنا بني آدَم} أو تأكيده على دور القيادات الدينية: “واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية وقوانا الوطنية وإصرارِ مراجعنا العظام”. كما تميز الدستور العراقي بتوضيح أكبر لما تعنيه عبارة “الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساسي للتشريع: 1- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.” كما تذكر المادة الثالثة من الدستور أن “العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية، وملتزم بميثاقها، وهو جزء من العالم الإسلامي”.
5 – الدوافع الحقيقية وراء جدل مصادر التشريعية
قبل الولوج في عملية تحليل ربط مصدر التشريع بالإسلام في الدستور، وانعكاساته على النصوص القانونية المرتبطة بالأحوال الشخصية حصرًا دون سواها من القوانين، كونه القانون الأهم المرتبط بالنص الديني، إضافة إلى أثر ذلك في دين وجنس رأس السلطة التنفيذية، نستعرض الجدول التالي الذي يبين مقارنات بين الحالات المتباينة للدساتير وآثارها القانونية:
البلد | الدستور | علاقة الدين بالدولة في الدستور | الآثار القانونية المترتبة | رأس السلطة التنفيذية |
سورية | 1920 | دين رئيس الملك هو الإسلام. لا ذكر لمصدر التشريع | قانون حقوق العائلة العثماني والمعروف بقانون المناكحات ذي المرجعية الإسلامية الحنفية | الملك يملك ولا يحكم. لا تحديد لجنس أو دين رأس السلطة التنفيذية المنتخب من البرلمان |
سورية | 1930 | دين رئيس الجمهورية الإسلام | قانون حقوق العائلة العثماني والمعروف بقانون المناكحات ذي المرجعية الإسلامية الحنفية | الرئيس منصب بروتوكولي، ولا تحديد لجنس أو دين رأس السلطة التنفيذية المنتخب من البرلمان |
سورية | 1950 | دين رئيس الجمهورية الإسلام- الإسلام مصدر رئيسي للتشريع | قانون حقوق العائلة العثماني والمعروف بقانون المناكحات ذي المرجعية الإسلامية الحنفية | الرئيس مسلم وهو يتشارك السلطة التنفيذية مع رئيس الوزراء غير محدد الدين أو الجنس |
سورية | 1958 | لا ذكر للدين في الدستور | قانون الأحوال الشخصية للعام 1953 ذو المرجعية الإسلامية | لا ذكر لدين رئيس الجمهورية ولا لمصادر التشريع |
تونس | 2014 | دين الدولة ورئيسها الإسلام | مجلة الأحوال الشخصية للعام 1956 ذات المرجعية الإسلامية مع استثناء القبول بتعدد الزوجات ” تعدد الزوجات ممنوع. فكل من تزوج وهو في حالة الزوجية، وقبل فك عصمة الزواج السابق، يعاقب بالسجن لمدة عام، وبخطية قدرها مئتان وأربعون ألف فرنك أو بإحدى العقوبتين ولو أن الزواج الجديد لم يبرم طبق أحكام القانون. | رأس السلطة مسلم وقد يكون رجلًا أو امرأة |
مصر | 2014 | الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. | قانون محاكم الأسرة القانون رقم 1 للعام 2000 وجميعها ذات مرجعية إسلامية حنفية | لا ذكر لجنس أو دين رئيس الدولة |
العراق | 2005 | الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع أ. لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام. | قانون الأحوال الشخصية للعام 1959 ذو المرجعية الإسلامية | لا ذكر لجنس أو دين أو طائفة أو عرق رئيس الدولة ولا رئيس الوزراء |
يبين الجدول أن الرابط بين ذكر المصدر في الدستور وعلاقته بالتشريعات رابطٌ ضعيف، وأن تأويلاته متباينة. فهناك دساتير لا تذكر مصدر التشريع، ولكن ذلك لم يمنع تطبيق قانون أحوال شخصية إسلامي الطابع، في حين تذكر دساتير دين الدولة وتستثني قوانين الأحوال الشخصية فيها بعض القواعد الإسلامية، مثل تعدد الزوجات. كما أن هناك دساتير تحصر أثر الدين بالتشريع وتستبعده من تحديد جنس أو دين أو طائفة رأس السلطة التنفيذية في أنظمة رئاسية أو شبه رئاسية. وبالتالي فإن وجود دساتير ليبرالية في سورية لم يلغِ الهوية الإسلامية لسورية، وبخاصة في قوانين الأحوال الشخصية. كما لم يؤثر سمو التشريع الإسلامي في القوانين النافذة. فالسؤال هنا مرة أخرى: إذا كان رئيس الدولة مسلمًا بحكم الغالبية المسلمة في البلاد، سواء ذكرنا ذلك في الدستور أم لا، وإذا كانت قوانين الأحوال الشخصية ظلت إسلامية في سورية، بصرف النظر عن ذكر الإسلام في الدساتير؛ فما هو مصدر الجدل حول هذا الموضوع في أوساط النخب السورية، سواء تلك المعارضة لنظام الحكم أم تلك المؤيدة له؟
ربما من المفيد هنا العودة إلى أول ذكر للفقه الإسلامي كمصدر للتشريع، لأول مرة في سورية، وذلك في العام 1950. نعتقد أن أول جمعية تأسيسية منتخبة في سورية المستقلة في العام 1919 أبرزت نخبة تقليدية تحظى بشعبية كبيرة ناجمة عن ارتباطها بحركة التحرر العربي، وبالتالي لم تكن هذه النخبة مرغمة على الخشية على شعبيتها، إذا وضعت دستورًا ليبراليًا. زد على ذلك أن هذه النخبة كانت متأثرة إلى حد كبير بأفكار الغرب، وناقمة على حكم الخلافة الإسلامية العثماني، وبالتالي لا نرى في جميع مداولات كتابة هذا الدستور أي خلاف على إسلامية الدستور بل حتى ذكره. في حين أن الهيئة التأسيسية التي انتخبت في العام 1948 لتضع دستور البلاد الذي صدر في العام 1950 كانت مزيجًا من النخب التقليدية في حزب الشعب والمستقلين المنتمين أصلًا إلى الكتلة الوطنية، ومن نخب صاعدة تمثلت في قوى البعثيين والشيوعيين والقوميين السوريين والإخوان المسلمين، وهذه الأخيرة انبثقت من القواعد الشعبية، وأرادت تعزيز شرعيتها عبر إدراج نصوص تخص قواعدها. فالشيوعيون أرادوا نصوصًا ليبرالية، استنادًا إلى أيديولوجية قواعدهم، بينما كان الأخوان يريدون نصوصًا تدعم وجودهم ضمن الحاضنة السنية. ومن هنا برزت قضية دين الدولة كقضية سياسية مرتبطة بشعبية الأحزاب وضمان شرعيتها لا من مواقف مبدئية صارمة. فالبعث -مثلًا- وهو حزب أقرب للأفكار الليبرالية وأحد مؤسسيه مسيحي، لم يكن ليصطدم مع القاعدة الشعبية التي جلها من الفلاحين والعمال، في طرح مواد تبعد الدستور عن الدين.
نزعم هنا أن الدافع وراء هذا الجدل ليس خشية التيار المحافظ من تمييع الهوية الإسلامية لسورية، ولا طمعًا بدستور ليبرالي مطلق كم يشتهي ليبراليو سورية على اختلاف توجهاتهم السياسية، وإنما في رغبة الطرفين في تثبيت رؤاه السياسية دستوريًا لضمان تحقيق انتصارات تضمن له بدورها دورًا سياسيًا في قيادة البلاد من جهة، ومن جهة أخرى رغبة التيارات النسوية في تحقيق أكبر قدر ممكن من حقوق النساء، كما يراها هذا التيار. وحتى الإدارة الذاتية، وهي إحدى التيارات الأكثر ليبرالية في سورية، وقد طبقت في مناطق سيطرتها قوانين أقرب إلى الليبرالية كمنع تعدد الزوجات والرئاسة المشتركة بين الذكور والإناث، ترفض في أدبياتها ذكر مصطلح العلمانية، رغبة منها في عدم استفزاز الغالبية المحافظة في عموم سورية وفي مناطق سيطرتها خصوصًا.
لقد عمد الأسد الأب إلى تثبيت ارتباط الدين بالدولة، عبر تحديد دين رئيس الدولة، وعبر تثبيت مادة مصادر التشريع، وكان ذلك -بحسب رأينا- محاولةً منه لتأمين ولاء النخبة السنّية عمومًا والمؤسسة الدينية الرسمية بشكل خاص، لا عن رغبة البعث أو رغبته في إعطاء سورية وجهًا إسلاميًا. من ثم عمد الأسد الابن إلى الاستمرار بنفس السلوك في دستور العام 2012. وهذا يعني أن القضية، عند غالبية التيارات السياسية، في جوهرها -كما أسلفنا- ليست في ذكر الدين في الدستور أو في عدم ذكره، ولا في ربط مصادر التشريع بالدين، ولا في ذكر الليبرالية صراحة أو ضمنًا، وإنما في محاولة كسب غالبية المجتمع خلف مشروعها السياسي.
بالتأكيد، ستكون قضية الدين والدستور ومصادر التشريع قضية خلافية، لكننا نرى أن هذه القضية ستستهلك التيارات السياسية من دون أثر عظيم في التشريعات المستقبلية، بينما نرى أن الأهمّ هو تضمين الدستور لمواد تحفظ ديمقراطية البلاد بشكل يتيح لهذه التيارات المنافسة على المساحة السياسية التي ستخوّلها طرح ما تريد مستقبلًا.
[1] قرار مجلس الأمن رقم 2254 للعام 2015
[2] بيان فيينا للعام 2015
[3] المسألة الدينية في الدساتير السورية: مسح تاريخي ومقارن، د. إبراهيم دراجي ود. ريم تركماني، سلسلة الأوراق الدستورية السورية، كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.
[4] Andrea Pacini: Christian communities in the Arab Middle East: the challenge of the future, Oxford University Press, 2004,
[5] أرغن أوزبدن https://bit.ly/2LAz7AV
[6] تأثير الشريعة الإسلامية على القانون المدني القطري: دراسة مقارنة، 2013، http://dx.doi.org/10.5339/irl.2013.cl.2 حسن حسين البراوي.
[7] أرغن أوزبدن، مرجع سابق
_____
(*) بحث غير منشور مقدم إلى ندوة “التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاج إليه سورية المستقبل” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.