لا يمكن لأحد أن يُنكر وجاهة السؤال المتكرر: لماذا يُعدّ نقد الرواية الشائعة عن الهولوكوست في فرنسا خرقًا للقانون وليس حرية تعبير؟ أو بصيغة أخرى: لماذا لا تتمّ حماية المقدسات الدينية بقانون شبيه بقانون حماية الرواية “الرسمية” عن الهولوكوست، فيغدو من يتجاوز على هذه المقدسات مخالفًا للقانون؟ لكن من ناحية أخرى، لا ينبغي أن يغيب عن السائل أن قضية الإسلام والمسلمين، وهي المعنية أولًا وأساسًا في السؤال السابق، تختلف اختلافًا جوهريًا عن بقية القضايا الدينية الأخرى، من حيث إن الإسلام ينطوي على تهديد سياسي لا تنطوي عليه الأديان الأخرى. مصدر التهديد هو أن الإسلام يعي نفسه على أنه الدين العالمي الأخير، وأن قضيته هي السيادة على العالم، وأن من واجب المسلم الملتزم أن يكون جنديًا في سبيل هذه القضية. وحين يضاف إلى هذا التصور حقيقة أن تيار المسلمين العام يرى في الإسلام ناظمًا ليس فقط للعلاقة الروحية مع الله، بل للعلاقات الدنيوية مع البشر (فيما بين المسلمين كما مع غير المسلمين) أيضًا، وأن المسلمين في العالم يعدّون بمئات الملايين، وأن الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلدانهم شديدة السوء، أي إنهم يمتلكون مخزونًا هائلًا من الذل والبؤس الذي يدفع إلى الفعل، حين نلحظ كل ذلك، يمكن أن ندرك لماذا يكون ارتكاس الدول عمومًا، الغربية وغير الغربية، تجاه النشاط الإسلامي أشدّ منه تجاه نشاط أي مجموعات دينية أخرى.
بكلام آخر، يطرح الإسلام نفسه كبديل “سياسي” دائم وكوني، ومن هنا منشأ مقابلة الأنشطة الإسلامية في الدول الغربية، وفي غير مكان، بتشنج وحساسية لا نجدها إزاء الأنشطة الدينية الأخرى. والطريف أن المصدر الحقيقي للخوف من الأنشطة الإسلامية هو بالضبط عكس ما صرّح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأسماه “الانعزالية الإسلامية” التي قرر مواجهتها بمجموعة قوانين وإجراءات جديدة ستكون قليلة القيمة على الغالب. مصدر الخوف من الإسلام هو أنه غير انعزالي، بل هو بالأحرى غازٍ للأوساط الأخرى، وذو نزوع توسعي متأصل، ليس من حيث سعيه لكسب أتباع جدد، فهو ليس الدين التبشيري الوحيد، بل، الأهم، من حيث ميله إلى السيطرة السياسية. وإذا كان ثمة انعزالية إسلامية شرحها الرئيس الفرنسي بأنها “خلق مجتمع مواز”، فهي، والحال هذه، مرحلة أولية في مسار السيطرة المأمولة والمنظورة. وهذا ما لا يخفى على الفرنسيين ولا على المسلمين، غير أن الطرفين لا ينظران إلى المشكلة في عينيها، أو لا يواجهان الفيل الذي في غرفة المعيشة، كما يقول الإنكليز.
لا يمكن فهم الاهتمام الفرنسي الكبير الذي يصل إلى حدود الاستنفار على كل المستويات، في قضية مقتل مدرس التاريخ، ما لم نأخذ في الحسبان التهديد الإسلامي المستبطن الذي يشكل المنصة الأساسية لانطلاق اليمين الفرنسي المتطرف. الخطير في الأمر أن الشعور بهذا التهديد يتغلغل في الأوساط الشعبية الفرنسية على نحو متزايد، ما يجعل السياسيين الفرنسيين (الذين يحركهم البحث عن ناخبين) يتبارون في مستوى حدة ردود الفعل على مثل هذه الجرائم ذات الخلفية الإسلامية. هذه الموجة تمحو الفروق بين التيارات السياسية، وتغذي “انعزالية فرنسية” لا يستبعد كثيرون أن تكون خطوة باتجاه حرب أهلية.
أطلق الرئيس الفرنسي على مدرس التاريخ الذي راح ضحية الجريمة البشعة التي ارتكبها المراهق الشيشاني، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر، وصف “البطل الهادئ”، وأرسل التحيّة له ولكل المدرسين الذين “يصنعون الجمهوريين”. من الواضح أن صناعة الجمهوريين توضع هنا في مقابل صناعة الإسلاميين. كما أقامت الدولة الفرنسية تكريمًا مهيبًا للمدرس الضحية، وخرج إلى الشوارع والساحات آلاف الفرنسيين تضامنًا مع الضحية وعرفانًا بدفاعه عن حرية التعبير واستنكارًا للجريمة. وقررت المناطق الفرنسية في مبادرة مشتركة أن تنشر كتابًا للكاريكاتير السياسي والديني، يجمع أبرز رسوم الكاريكاتير التي نُشرت، سواء في صحف المناطق أو في الصحف الوطنية، ليتم توزيعه على المدارس الثانوية. كما صرّح وزير الداخلية الفرنسي بوجوب إغلاق أقسام (الحلال) في المتاجر الفرنسية. كما لو أن المشكلة في وجود من يمتعض من الكاريكاتير أو من يأكل (الحلال).
في ردة الفعل الفرنسية على العملية الإرهابية ضد مدرّس التاريخ ما يصعب فهمه دون رده إلى استشعار الخطر السياسي الإسلامي، وفي تساؤلات المسلمين عن المبالغة في ردة الفعل الفرنسية براءة حقيقية أو مصطنعة. يتقصد الجانبان عزل العملية الإرهابية، الجانب الفرنسي يعزلها ويركز عليها لتبدو هذه الجريمة الشديدة القبح واجهة تحتمل أقسى ردات الفعل، ولكنهم يعلمون أو يستشعرون، بلا شك، أن وراء هذه الواجهة “الفردية” تكمن عناصر حلم جماعي إسلامي يحتمي بالجمهورية لكي يقوّضها. أما الجانب المسلم فإنه يعزل الجريمة لكي تبدو مجرد جريمة فردية لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهو جاهز لإدانتها أيضًا، لكيلا تبدو جزءًا من مشروع سيطرة إسلامية يتحدى الزمن ولا يهادن إلا لكي يتمكن.
قبل جريمة المراهق الشيشاني، أحدث مجرد وجود فتاة محجبة (هي رئيسة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا بجامعة السوربون) في اجتماع للبرلمان الفرنسي موجة احتجاج، وانسحاب عدد من النواب من القاعة. الذين انسحبوا قالوا إن مبرر انسحابهم هو الدفاع عن حقوق المرأة وقيم العلمانية. في هذا الانسحاب تشنج “علماني” يصعب الدفاع عنه، ولا يقرّه القانون الفرنسي نفسه، على علمانيته الصلبة. لا نظن أن ردة فعل النواب ستكون على هذه الشاكلة، لو كان الرمز الديني لهذه السيدة غير إسلامي. الرموز الإسلامية فقط هي ما ينتمي إلى مشروع سياسي غير معلن، على الأقل في فرنسا، ولكنه معروف ويولّد لدى الفرنسيين قدرًا كبيرًا من عدم الثقة وعدم الاطمئنان، فلا يبدو الحجاب مجرد رمز ديني، بل نذيرًا بتغيير مضاد للجمهورية. هذه هي الخلفية التي يمكننا من خلالها فهم ردة الفعل الفرنسية على جريمة باريس.
لتجاوز الانحدار إلى صراع أهلي في فرنسا، من المهم أن لا تنزلق السياسة الفرنسية من مستوى مواجهة (الإسلام السياسي) إلى مستوى مواجهة المسلمين. ومن المهم أن يشارك المسلمون الفرنسيون في عزل نزعة السيطرة أو النزعة المضادة للديمقراطية التي تتوفر عند فئة منهم. تعزيز الاطمئنان المتبادل بين الطرفين مسؤولية مشتركة، وفي غياب الاطمئنان المتبادل تتحول التباينات إلى كراهيات تنبت على تربتها القذرة كل الشرور.