إن البحث والتدقيق، في ما حصل ويحصل في سورية، هو من أهمّ واجبات المثقفين والأكاديميين وصناع الرأي العام، لما لذلك من أهميّة في توضيح الرؤية حول ذلك الإرث الطويل من القمع والاستبداد وكتم الآراء، ومن ثم الإجابة عن الأسئلة الكثيرة والمتشظية لما سيكون في المستقبل، ولعلّ الجانب الثقافي، بكل مكوناته الأدبية والفنية، هو الأقدر على سبر روح المرحلة وتجلياتها الإنسانية العميقة في وجدان الشعب، وفي هذا السياق، جاءت المبادرة في الملفّ اللافت الذي تطرقت إليه مجلة (قلمون) في عددها السابع عشر الذي خُصص للكتابة حول المسرح السوري منذ الاستقلال حتى عام 2020؛ هذا الملف الذي ربط بين المسرح والظواهر الفكرية والسياسية التي رافقت نشوءه وتطوره في سورية، وهو بادرة ذات أهمية كبرى في هذا التوجه وهذه الرؤية التي يجب أن يركز عليها المثقفون وأصحاب الرأي والرؤيا، يلخصها رئيس تحرير مجلة قلمون الدكتور يوسف سلامة، في افتتاحية العدد، حيث يقول: “من الواضح أن ما نفكر فيه هنا -وهو المسكوت عنه- مرتبطٌ بسؤال الحريات العامة والخاصة، وبحق الأفراد والجماعات في التعبير الحر عن أنفسهم …. وما الفنون جميعها -والمسرح في مقدمتها- إلا أساليب وأدوات ابتدعها البشر للتعبير عن هواجسهم وأحلامهم وطموحهم وأوجاعهم، وعما يفكرون به، ويشعرون”. كثيرة هي المقالات والأبحاث والشهادات في هذا الملفّ التي ناقشت المسرح وأحواله وآلية عمله، وخاصة في ظل القمع وكتم الأفواه الذي عاناه الشعب السوري على مدى حقبة “الأسدين”، وكان الحديث عن المسرح مرآةً لتاريخ سورية.
ومن بين الكتابات التي تطرّق إليها الملفّ، مقال بدر زكريا (شهادة حول المسرح في السجن – ولادة مسرح وموته). أثار ذلك المقال فيَّ شجون المسرح والكتابة عن المسرح، لأن الكتابة عن المسرح في ظروف استثنائية تستدعي كتابةً لا أقول استثنائية، بل ذات طابع يتماشى مع استثنائية التجربة ومدلولاتها، وخارج قوالب النقد الأكاديمية المعروفة، أثار فيَّ مقالُ رفيق العتمة تلك اللحظاتِ السوداء، ونَبَش ذاكرتي حول تلك التجربة الاستثنائية، كيف وُلدت وتطوّرت لتصبح مسرحًا لما يشبه الحياة على خشبةٍ لا تشبه الحياة؟ كيف نبت الممثلون فجأة فوق العوازل المهترئة؟ وكيف تعملق المخرج فوق الكلمات ليدير دفة الحوار في فضاء يضغط على الأنفاس؟!
في رحلة البحث عن الحرية، يكون السجن أحد الخيارات المطروحة في ظل أنظمة دكتاتورية، وهو النقيض والسالب لمفهوم الحرية؛ وما يثير التساؤل، والغريب في الوقت نفسه، أن يحدث تحرر العقل في السجن وفي فضاء اللاحرية، وتُسجَّل التجربة الأكثر تناقضًا بين حرية العقل وانفتاحه على المختلف والجديد من جهة، وبين التضييق على الجسد وخنقه حد الانكماش من جهة أخرى.
حين زُج بنا وراء القضبان، كانت النسبة العظمى منّا ومن الكتب التي قرأناها مصبوغةً بلونٍ واحد، حتى الكتب ذات الألوان الأخرى كانت تدعم ولا تضيف لونًا جديدًا، ليس لأن الكتب الأخرى غير موجودة في الفضاء الحر، حيث المكتبات لا عدّ لها والخيارات متنوعة، بل لأن القيد على العقل تحت الشمس كان ذاتيًا ودون وعي لذلك القيد.
بعد فترة وجيزة من الاعتقال، ومع نهاية فترة التحقيق، وفي المهاجع، وتحت ثقل الليل وظلال القضبان المرتمية على أجسادنا، انعتق عقل الأغلبية من جمود اللغة، ومن العبارات التي تلوّنت بلون واحد؛ تحطم ضيق الأيديولوجيا أمام اختلاف الأفكار واتساع مدلولاتها. كان العقل أحاديًا، لكنه تشظى في لحظات الصمت الطويل والوحدة والهروب من الأحلام والذكريات، إلى حيث الكتب المختلفة بألوانها الجديدة وأفكارها التي تفاجئك حد الذهول بأن هناك من يقول شيئًا آخر، وأن هناك ألوانًا أخرى من الأفكار في هذا العالم.
هذه التجربة والاهتمام بالجديد والمختلف فكريًا، وما أفرزته صيرورة التطور الفكري المتسارعة لبعض المعتقلين، في ظل أسئلة كبيرة على مستوى الذات وجدوى القول الذي أوصل إلى هذه اللحظات، وتعدد الإجابات حول الموضوع، استثارت الاندفاع نحو أفق يحرر الجسد من انكماشه تحت وطأة القضبان، ويحرر العين من رمادية الألوان ليتناسب مع انفتاح العقل؛ فكانت البدايات بالتفكير بالرياضة، وتم إنشاء فرق رياضية لكرة الطائرة، واستخدمت من أجل ذلك المساحة التي تصل بين الجناحين ألف يمين ويسار في سجن صيدنايا، وتنافست الفرق التي تمثل المهاجع، وكانت وتيرة الحماس عالية جدًا، كانت الصيحات تهز جنبات الروح حاملة اندفاع الجسد خارج قوقعة الجدران، كان الجهد المبذول أكبر بكثير من كونها لحظات تسلية، كانت تفيض بحاجة الجسد إلى الهروب من انكماشه، كانت إعلانًا لتجدد الحياة برغم القالب الإسمنتي الذي يكبل حركة الجسد، كانت أكثر من رياضة وأكبر من تسلية، إنها قتال الجسد كي يخرج من القالب. لكنّ الفجوة بين الجسد والمغالاة في حركاته، ليؤكد أسطورة الخلاص من عجز التنقل والحركة، وبين العقل وتحرره من قيود الأيديولوجيا وانطلاقه نحو أفق لا محدود من الجديد والمختلف، كان لا بد أن تُردم، وكان لا بد أن يتماهى تحرر العقل مع تحرر الجسد في وحدة تعطي للروح معنى وجودها في حالة الانتظار الأبدي، هذا التوحد بين العقل والجسد، بين الروح وانفعالاتها، بين الحركة ورمزية المعنى، كان عن طريق المسرح.
لم يكن النصّ كلمات أو حوارًا، كما هو المألوف، بل كان خلق ذلك النسيج المتكامل والمنسجم من اللا منسجم واللا متجانس، من عيون امتلأت بعجز الأعزل أمام جبروت القوة، من أجساد ساحت على العوازل كقطعة حلوى نسيها طفل في عز الشمس، من ضحكات التصقت بسقف المهجع تفغر أفواهها هازئة بذلك اللحم البشري المكدس بلا معنى، من الخيالات والأحلام التي تكثفت فوق الرؤوس غيمة رمادية لتزيد ضبابية المشهد، من ضوضاء الصغائر تشوش السمع وتشتت التفكير، كل هذا ارتسم حروفًا على الورق، مقدمة لبوح يرسم شكلًا جديدًا لانعتاق الروح نحو فضاء يصبح فيه الحضور المطلق للسجان حالة غياب تام، عندما يبدع السجين فضاءه الخاص. هربت الشخصيات من بين السطور لتعلن فضاء آخر غير الذي وُلدت فيه وغير الذي تخيل الكاتب أنها ستعيش فيه، هنا ضاقت عليها الجدران، عصرتها لتنبثق روح جديدة تحاكي لحظة الخلاص، لحظة انفجار القول في الزوايا المعتمة. الشخصيات المكتوبة في النصوص الأصلية حملت معها إلى السجن إرثًا باهتًا لحياة غير معترف بها بين خيالات القضبان التي تضفي على المشهد بعدًا سرياليًا وفصامًا بين ما كانت وما يجب أن تكون، لم يرسم غريغوري غورين شخصياته، في مسرحية “البيت الذي شيده سويفت”، لتمثل فانتازيا أكثر غرابة مما تخيل، لتمثل حياة أخرى غير حياة البشر، ولم يحمّلها من القول ما يستدعي المواجهة مع الحائط ورمادية الألوان، كي تتجاوز المعنى وتخرج من فانتازيا المتخيل إلى موت متكرر إلى درجة تستدعي الغثيان، لم يخطر بباله للحظة أن شخصياته ستحط الرحال في سجن صيدنايا، وتدخل المهجع عارية إلا من خوفها، وتختبئ من السجان وتصمت في لحظات التفقد كي لا ينكشف أمرها، مساحة حركتها اختصرت إلى ذلك الفراغ المهمل بين صفي العوازل، شخصيات عاشت التناقض بين ماهية وجوهر وجودها كمخلوقات وُجدت كي تملأ الضوء بحضورها، وبين أن تستمد استمرارها من سواد اللحظات وتختبئ وراء السواتر والبطانيات الخشنة كي لا ينكشف أمرها.
ولم تعد “اللجنة”وتلك السطوة التي يتمتع بها ذلك النموذج الغريب والشخصيات المهيمنة التي رسمها صنع الله إبراهيم هي التي تسيطر على المكان وتبعاته، بل أصبح المكان الضيق الغامق هو المسيطر وصاحب السطوة على الكلمات، كي تعيد إنتاج نفسها لبوسًا لروح أُجبرت أن تحيا خارج الحياة.
ولم تكن مسرحية (الانتظار)، التي كتبتها بلا تجربة سابقة للكتابة المسرحية، سوى محاولة بسيطة لإنتاج مسرحية محلية الصنع. في السجن وُلدت، وبين القضبان تشكلت، تسللت كلماتها من بين العوازل الخشنة، ومن رائحة الرطوبة المعششة في الزوايا، ومن نظرات السجان وهو يقيس المسافة بين الموت والحياة، بين الليل والنهار في لحظات التفتيش والتفقد، ولدت من صوت فتح الشراقة في ساعة لا تنبئ بالخير، وهي تزلزل كل مكامن الخوف في الخلايا، ولدت من تفاهة الصراع على ملعقة مربى في الصباح بين عقلين حاربا أعتى الدكتاتوريات كي يصلا الى هذا المكان، إنها محاولة الكتابة المعكوسة، فالكتّاب يتخيلون، ويكتبون، ويرسمون الشخصيات لتصبع واقعًا فوق الورق، بينما مسرحية الانتظار كانت محاولة لتخيّيل الواقع، أي نقل الواقع إلى الورق ليكون أكثر خيالًا من الخيال نفسه، وبخاصة أنها كتبت تحت سقف السجن الذي يتمتع بحرية مطلقة، إذا ما قورنت بما يُكتب تحت سقف الوطن!
أما الحديث الأكثر خصوصية وتميزًا واستثنائية فهو ذلك الفضاء المسرحي الذي يرتسم بين خيال يتجسد واقعًا في النص الأصلي وبين واقع يغوص في الخيال حد اللا تصديق. عادة يجمع الكاتب في مسرحيته رموز المكان وشكل الفضاء المسرحي، مستمدًا ذلك من الواقع المحيط أو بما اختزنته الذاكرة من جغرافيا توزع الأشياء والمساحات، وربطها مع السياق الدرامي لتشكل خارطة الفضاء المكاني للمسرحية، المؤثث بمفردات الدلالات التي يبثها النص في سياق تطوره الدرامي، آخذًا بعين الاعتبار انعكاس تلك الرموز، وتشكيل المكان، على البعد النفسي والدرامي لتطور النص ومدلولاته. أما في السجن، تحت ضغط الجدران وبقايا الضوء المتسلل من بين القضبان، فيصبح المكان ضيقًا على الكلمات أو ربما تصبح الكلمات أضيق من أن تعبّر عن تفاصيل المكان المزدحمة بالأنفاس والأحلام وبقايا الذكريات وضبابية المستقبل ورمادية الألوان.
في السجن، كان لزامًا على المخرج أن يرسم سينوغرافيا تلوي عنق النص كي يعبر المسافة بين الخيال وواقع يفوق الخيال بغرائبيته ويحتفظ في الوقت نفسه بإرث الكلمات وهي تتسلل من النص الأصلي. كان المكان يتحور ويعاد تشكيله ليعطي دلالات اللغة شيئًا من المعنى المخبوء، حيث المساحة تخنق أنفاس الموجودين، فما بالك بشخصيات إضافية تستوطن الروح لتبث ذلك القول المعجون بأرواح عاشت في فضاء آخر غير هذا الكابوس.
كان المكان عبئًا على النص وتفريغ محمولاته، وفي الوقت كان تحويره ليتماشى مع القول لحظة إبداع تجعل منه إضافة درامية وبصمة فنية لا يمكن أن تكون إلا في هذا المكان وتحت هذه السماء الواطئة. وعند الحديث عن المكان وضيقه الذي يعصر الكلمات لينتج شكلًا آخر من اللغة وأدوات أخرى للتعبير والدلالة، لا بد من الحديث عن الجمهور الذي يزيد المكان ضيقًا من حيث الجغرافيا، ذلك الجمهور الذي يحمل خاصية، لا يمكن أن توجد إلا في هذا المكان، حيث الجمهور كاملًا من الذكور، لا نساء هنا إلا بالأحلام والذكريات، هنا الجمهور معرّف فردًا فردًا، بالنسبة إلى الممثلين على خشبة المسرح، فهذا محمد، وذاك غسان وعلي ووووو، وكلهم إذا لم يكونوا مثقفين فإنهم، على الأقل، يحملون راية التغيير. نظراتهم ترسم انطباعًا نقديًا، كل من زاويته، يحاصرون الممثلين بحركات رؤوسهم، بانطباعات وجوههم؛ الجمهور هنا جزء من المسرحية ومشارك فيها، فلا مسافة بين الممثل والجمهور، هم متداخلون حتى الاندماج، إعادة التقييم الآنية للمسرحية والممثلين مع كل كلمة؛ كل حركة من تلك الوجوه أثناء العرض المسرحي تخلق انقباضًا لروح الممثل، لا خلاص منها إلا بالتحليق في فضاء متخيل وتوحد مع المعنى خارج حدود الكلمات؛ ونظرةٌ أخرى من عين متفرج آخر تجعل من الممثلين نجومًا يزهون في عالم الحلم والأمنيات بأن يكون هذا السمو خارج هذا القفص الذي يسجن الروح.
المسرح في السجن جسَّد لحظة التكامل بين عقلٍ تجاوز حدود الأيديولوجيا، وجسدٍ أنهكه التقوقع في الزوايا، فقرر الانعتاق من سطوة السجن والسجان.