“سابقًا، كنّا نتحدث عن أمن الدولة. الآن نتحدث عن دولة الأمن. شعار هذه الدولة إفساد مَن لم يفسد بعد، وإدانة الجميع ليكونوا تحت الطلب”.
هذا ما ذهب إليه الراحل طيب تيزيني، في أوائل ثمانينيات القرن المنصرم، في سياق توصيفه لما كان السوريون يعانونه حينئذٍ. وكان قد مرّ نحو عقد من الزمن على حكم حافظ الأسد الذي كان قد تمكّن من إزاحة جميع رفاقه السابقين، إلا من ارتضى لنفسه أن يكون بيدقًا من بيادق نظامه الأمني/ المخابراتي القمعي؛ حيث جعل حافظ الأسد الأجهزة الأمنية/ المخابراتية وسيلته للتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع، واستخدم الجيش ليكون الأداة القمعية التي يمكن استخدامها بكل وحشية، من دون أي خشية من المساءلة أو المحاسبة أو التمرد. وذلك بعد أن تمكن من تثبيت الموالين في جميع المراكز القيادية الحساسة.
والأمر اللافت في النظام الأمني الذي أوجده المذكور أنه كان يقوم على سلسلة معقدة من الأجهزة المخابراتية، المتداخلة الوظائف، التي كانت تبدو متنافسة في الظاهر، ولكن خطوط التحكّم والتوجيه جميعها كانت تلتقي عند قمة الهرم السلطوي، ولم يكتف حافظ الأسد بذلك، فقد أدرك أن قوة المجتمع السوري تقليديًا تكمن في فاعلية الروابط الأهلية، وقدرة أصحاب المهن والتجار ورجال الدين على التواصل والتفاهم والتأثير في الناس؛ فاعتمد سياسة التقريب والاحتواء، وعمل على إيجاد المنافسين المرتبطين بالأجهزة الأمنية عبر التعليمات والتوجيهات ضمن كل مجموعة من المجموعات المشار إليها، ليشكّلوا تهديدًا مستمرًا في مواجهة أولئك الذين حاولوا بكل السبل الحفاظ على احترامهم لأنفسهم، واحترام الناس لهم. ومع الوقت، أصبح رجالُ الدين الرسميون لجميع الطوائف والمذاهب وجهًا ملحقًا بالنظام الأمني الأسدي، وأدرك التجار أنه من دون نسج العلاقات مع الأجهزة الأمنية وتوابعها، عبر رجال الأعمال الجدد، لا يمكنهم ممارسة نشاطهم التجاري بأريحية وإنتاجية. والأمر ذاته حصل مع المهنيين، والمزارعين، والأطباء وأساتذة الجامعات والمهندسين والمقاولين.
ولم يقتصر التخريب الأسدي على المجتمع الأهلي وحده، بل امتد ليشمل المجتمع المدني الذي خنقه حزب البعث في المهد، وذلك بمنع إنشاء الجمعيات، ومنع التجمّعات أو اللقاءات العامة الخارجة عن دائرة نفوذه وترخيص أجهزته الأمنية، خاصة في المرحلة الأسدية من حكم الحزب المذكور. وهكذا أصبحت المنظمات والنقابات المهنية استطالة من استطالات الأجهزة الأمنية، استخدمت للتحكم في الأعضاء من جهة، ومنع تشكيل نقابات موازية معارضة خارج نطاق المسموح به من جهة ثانية. أما الأحزاب السياسية، فقد تمكن الأسد من ترويضها وتدجينها، لتصبح أليفة خانعة في قفص “الجبهة الوطنية التقدمية”، أما مَن مانع وتردّد أو تمرّد، فكان نصيبه الشيطنة، والاعتقال، والتهديد والوعيد، والتغييب.
ما نواجهه اليوم من انسداد الآفاق في الوضع السوري إنما هو حصيلة عقود من جهود التخريب والتسطيح والإفساد الذي مارسه نظام حافظ الأسد، حتى جاء نظام ابنه الوريث ليستمر في التوجه ذاته، ويزيد من حدة التخريب والفساد. ولم يكتف بذلك، بل فتح البلاد أمام النظام الإيراني ليمارس “تبشيره” بهدف إحداث تغييرات بنيوية في طبيعة المجتمع السوري. وقد استخدم جملة أدوات في ذلك، وبتنا نعيش واقعًا غريبًا من التفاهم والتفاعل، وحتى التحالف، بين قوًى تدعي “العلمانية واليسارية والقوموية”، وبين جنود نظام ولي الفقيه المحليين والإقليميين.
وكان الأمل معقودًا في بداية الثورة السورية على إمكانية تجاوز السوريين لتراكمات عقود من التخريب والمفاسد، استخدمها النظام لزرع بذور الشك والخوف المتبادل بين مختلف المكونات السورية. وقد حدثت اختراقات لافتة في هذا المجال، وبُذلت جهود في هذا السياق. ولكن القراءة الخاطئة المتسرعة للمشهدين السوري والإقليمي، من قبل قيادة المجلس الوطني السوري على وجه الخصوص، في بدايات الثورة، تسببت في تبديد تلك الإرهاصات الواعدة. فقد تكرّس انطباع زائف على وقع ما حصل في تونس ومصر وليبيا، فحواه أن التغيير في سورية قادم، وحتمي، وسيكون هو الآخر سريعًا. وأن النظام في طريقه إلى السقوط لا محالة. لذلك لم تبذل الجهود لسحب أوراق القوة من النظام. ولم يكن هناك حوار حقيقي مع العلويين ولا مع المسيحيين، على الرغم من وجود مفاتيح مهمة، كان في مقدورها المساعدة في هذا المجال.
بذلت جهود مع الكرد، لكنها كانت تصطدم من حين إلى آخر بتصريحات من قادة المجلس، ومن المحسوبين عليه، سرعان ما كانت تُستغل من جانب “كرد النظام”، الأمر الذي كان ينسف الجهود الحوارية، لنعود مجددًا إلى المربع الأول. ومع ظهور وتكاثر الفصائل العسكرية الاسلاموية، وارتفاع نبرة الخطاب المذهبي الطائفي القوموي، تراجع طلابُ الحرية السوريون من مختلف المكونات المجتمعية؛ وذلك لإدراكهم بأن ما يجري هو ثورة مضادة، بآليات وأدوات متداخلة معقدة، الغاية منها في نهاية المطاف وضع العالم أمام بديلين سيئين: إما الفوضى والإرهاب، وإما النظام المستبد الفاسد الذي لم يُخف في جميع المناسبات استعداده للاستمرار في مهامه الوظيفية “الضبطية”، مقابل تأمين استمرارية البقاء.
ومع تصاعد وتيرة العسكرة، ازدادت حدة التدخلات الإقليمية والدولية، وأصبحت الواجهات السياسية للثورة السورية كالعملة التي لا رصيد لها؛ وباتت مسألة التحكم فيها وتوجيهها من أبسط الممكنات.
أما الفصائل العسكرية، خاصة الكبيرة منها والمؤثرة بفعل الدعم والتمويل الخارجي، فقد بدأت تتصرف وكأنها الدولة المنتظرة، إذ أنشأت المحاكم، والمكاتب السياسية، وكان هناك ناطق رسمي إعلامي خاص بكل فصيل. وربما أنشأ بعضها الإدارات والوزارات. وكانت المصادمات والمعارك البينية بين هذه الفصائل تقع من حين إلى آخر، من أجل المزيد من السيطرة، والتحكم في المساحات والموارد. هذا مع الحرص على تخريجات الشرعيين وفتاواهم التي كانت تأتي وفق الطلب. ثم جاء مسار أستانا الذي تمكّن رعاته من التفرّد بكل تلك الفصائل التي سرعان ما تخلت عن السلاح، ودخلت في صفقات ما زالت تثير الاستفهامات، فكانت عمليات الانسحاب والتبادل وإعادة الهيكلة التنظيمية، وإعادة الانتشار في مناطق جديدة لتكون أدوات في مشاريع الآخرين.
ما الذي يمكن أن يفعله السوريون في مواجهة ما حصل، ويحصل؟ هل سينتظرون نتائج توافق القوى الإقليمية والدولية على بلادهم التي لا يستُبعد تقسيمها إلى كيانات تتقاطع حدودها بهذه الصورة أو تلك مع حدود مناطق النفوذ الحالية؟ كيانات ربّما لن يُعلن استقلالها، أو يعترف به بصورة رسمية، ولكنها ستُلحق بهذه الجهة الخارجية أو تلك، وستُدار من قبل قوى محلية أو وافدة ترتبط مصلحتها مع مصالح الراعي الداعم؟ أم سينتظر السوريون التوافق الذي قد يتم بين القوى الدولية والإقليمية والمؤثرة في الملف السوري وبين نظام بشار نفسه، بعد أن يغيّر هذا الأخير سلوكه وفق المطلوب، ويلتزم بما يُطلب منه على صعيد تحالفاته الإقليمية، ليُطلق يده في الداخل السوري من جديد، ويستمر في حكمه المستبد الفاسد المفسد، وكأن شيئًا لم يحصل؟
المعارضات الرسمية، بأسمائها ومنصاتها المختلفة، باتت -مع الأسف- وجهًا من أوجه الأزمة. فقد تحولت إلى أدوات بيد القوى الإقليمية والدولية، تُستخدم لتكون واجهات تزينيية للتسويق والتسويف، وكسب الوقت، إلى حين الحصول إلى توافق ما بين القوى المعنية، بمعزل عن تأثر السوريين وتطلعاتهم.
كيف سيتمكن السوريون من التواصل والتفاهم والعمل المشترك لإنقاذ بلادهم ومجتمعهم من المخاطر المتوقعة؟ وما هي القوى المؤهلة لإنجاز هذه المهمة الصعبة جدًا، والضرورية، في الوقت ذاته؟
القوى السياسية الموجودة غير مؤهلة، مع الأسف، وكذلك النقابات التي كانت، وما زالت، من ملحقات النظام الفاسد المستبد. ومنظمات المجتمع المدني ضعيفة، خاصة تلك التي تكاثرت بصورة غير طبيعية منذ بداية الثورة، حتى يصعب على المرء أن يميز بين الجادة والمهنية المستقلة منها، وبين الافتراضية الإعلامية التي غالبًا ما تتحرك وفق طلبات الجهات الداعمة.
ربّما يمكننا التعويل على الفعاليات الفكرية والاقتصادية والمجتمعية، ممن لم تتلوث بالفساد والتبعية بعد، تلك التي ما زالت مؤمنة بإمكانية جمع السوريين ضمن إطار وطني، يضمهم جميعًا، في ظل نظام سياسي يطمئنهم جميعًا، ويحترم خصوصياتهم، ويوحّد طاقاتهم لصالح ما فيه خير مجتمعهم وبلدهم، وبما ينسجم مع أفضل العلاقات مع الجوار الإقليمي والمحيط الدولي.
هذه الفعاليات، إذا ما تواصلت وتوافقت، يمكنها أن تؤثر إيجابيًا في السوريين، بغض النظر عن جهاتهم وتصنفياتهم الانتمائية والسياسية، حتى على صعيد من عُرفوا بالموالين، ويمكن لهذه الفعاليات أن تتواصل مع الداخل الوطني، والمخيمات والمهاجر في الخارج. ما زالت الفرصة متاحة، وما زالت الإمكانات واقعية. مصير السوريين وسورية، ومستقبل أجيالنا المقبلة، يستحقان كل الجهد والتحمّل.
كيف نبدأ؟ هذا هو السؤال.