في الآونة الأخيرة، تحوّلت الحالة الإنسانية في سورية وحالة فقدان الأمن الغذائي إلى هاجس دولي “مقلق”، يستدعي حلول “طوارئ” واستنفار الجهود لإنقاذ شعبٍ فقَد معنى استمرار الحياة بفقدان القوت، ليعيشوا أزمة وجودية مستمرة تفضحها “أرقام” الجائعين، ويفضحها المستثمرون في قوتهم والمسؤولون عن إعانتهم، التي تحولت إلى صناديق خيرية لاستمرار النظام، فالحلول المُتّبعة للحدّ من الفقر تماثل الحلول السياسية “المطاطة” لأزمتهم المستمرة الآن وفي المستقبل.
حجم الكارثة
أعلن برنامج الأغذية العالمي أن 12.4 مليون سوري أو 70٪ من السكان يعانون انعدام الأمن الغذائي، ويكافحون للعثور على ما يكفيهم من الطعام، وهي زيادة بنسبة 50٪ عن العام الماضي، وأن أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء البلاد، مطلع 2021، أعلى 33 مرة من متوسط 5 سنوات قبل الحرب، ووفقًا لـ “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، في شباط/ فبراير [1]، فإنّ المنظومة الصحية مدمرة، والنظام التعليمي بالكاد يعمل، وأضحى حوالي 12 مليون سوري بين لاجئ ونازح، أكثر من نصفهم في الدول المجاورة، ويمثلون ما يقرب من ثلث جميع السوريين المحتاجين. حيث يعيش 9 من كل 10 سوريين في فقر، ويحتاج حوالي 13 مليون منهم إلى مساعدة إغاثية عاجلة، ويحتاج ما لا يقل عن 16.7 مليون سوري إلى مساعدة إنسانية مختلفة، في جميع أنحاء المنطقة[2].
تقدّر الأمم المتحدة الأموال اللازمة لذلك بحوالي 10 مليارات دولار. وقد أعلن مؤتمر المانحين الخامس ببروكسل أنه يهدف إلى جمع 10 مليارات دولار لمواجهة الأزمة الإنسانية في سورية، وعلى الرغم من أن حصيلة التعهدات بالتبرع كانت أكثر من خمسة مليارات دولار بقليل، فإن تعهدات بروكسل والتصويت في تموز/ يوليو على آلية الأمم المتحدة العاملة عبر الحدود، تدلّ على عدم إمكانية إبقاء الوضع الإنساني الكارثي على ما هو عليه. وذلك بالرغم من أن الحكومة السورية، بحسب وكالة سانا بتاريخ 31/3/ 2021، تعتبر أن “ما يصدر عن مؤتمر بروكسل غير مشروع”، وقد “جددت رفضها لهذه الفعالية الاستعراضية وعدم مشروعية ما يصدر عنها في ظل تغييب الحكومة السورية، ودعت مُنظّميها إلى الكفّ عن الاستمرار في هذه السياسات الفاشلة، وتبنّي نهج واقعي وبنّاء في العمل مع الحكومة السورية لتلبية الاحتياجات الأساسية للشعب السوري” [3].
الفقر ومفاقمة المشكلات
على الرغم من أن وجود فقراء لا يمثل حالة طارئة على المجتمع السوري الذي أمضى عقودًا طويلة تحت ظلّ نظام ساهم في احتكار الثروة والسلطة وممارسة إستراتيجية التفقير وترسيخ الفساد وتغييب العدالة الاجتماعية، فإن هذه الأرقام الكارثية التي تشمل كل المناطق السورية، باختلاف سلطات الأمر الواقع، بغض النظر عن اختلاف مسببات الفقر ومسؤولية الأطراف، تمثل مؤشرًا على عقد من التجويع، وعلى مفاقمة المشكلات الآنية والمستقبلية.
الأزمة الخانقة المتنامية وغياب الرؤى المبتكرة لمعالجتها تجعل من إحصاءات عدد الفقراء عملية إحصاء لأزمات مختلفة على كل الأصعدة، وتمتدّ من سوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية وغياب الأمن الصحي، إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد، تغليب المصالح الفردية على حساب المصالح الجماعية، تحطيم القيم الإنسانية، زيادة التطرّف وتمتين الطائفية السياسية، وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات، وصولًا إلى الحلول السلبية: ترسيخ الفساد، انتشار الجريمة بأنواعها “سرقات وخطف وقتل بيع أعضاء، واتجار بالنساء والأطفال، ممارسة الدعارة للجنسين، الانتحار، وغيرها من ظواهر تشير إلى انعدام الأمن والاستقرار، ويضاف إليها في الوضع السوري نتيجة استمرار الحرب والميليشيات نموّ ظاهرة التجنيد مع الميليشيات، إن كان داخل الحدود أو خارجها، كحال المرتزقة السوريين في ليبيا وانقسامهم بحسب أطراف التجنيد.
الاستجابات الدولية للمساعدات ومشكلة السيادة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لمَسَ المجتمع الدولي الضرورة المُلحّة لاعتماد قواعد جديدة تعمل على توسيع الطابع الوقائي للقانون الدولي الإنساني ليشمل المدنيين، وجاءت اتفاقيات جنيف الأربعة وعدد من المعاهدات الدولية لتعكس القيم العالمية للسلوك الأخلاقي في وقت الحرب، وهي تشمل مجموعة من القواعد التي تسعى، لأسباب إنسانية، إلى الحدّ من الآثار الناجمة عن حالات الطوارئ، ومنها النزاعات المسلّحة.
منذ بداية الحرب في عام 2011، وموجات النزوح واللجوء، تم تقديم المساعدات الإنسانية من قبل مختلف الهيئات والمنظمات الدولية والدول، أهمها: مفوضية شؤون اللاجئين واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء العالمي، حيث قامت (المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) بتسجيل اللاجئين في دول الجوار “المُضيفة”، وتقديم المساعدات الغذائية والنقدية لهم، ومع تقدّم القتال وارتفاع نسب اللاجئين والنازحين، بدأ توزيع حزم المساعدات الغذائية للأسر النازحة في الداخل السوري، بمختلف المناطق التي يمكن الوصول إليها، عن طريق الهلال الأحمر السوري، وجرى إرسال بعض المواد الترفيهية للأمانة السورية للتنمية، لتوزيعها على الأطفال الذين يعيشون في ملاجئ جماعية في دمشق وحلب. حسب تقرير (المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين unhcr، في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2012) [4] .
وتم تقريبًا تخصيص نحو ثلثي تبرعات الأمم المتحدة السنوية، لصالح الصندوق الإنساني السوري عبر الحدود، كما تم تخصيص نحو 4 مليارات دولار للمناطق التي يسيطر عليها النظام، على الرغم من العقوبات المفروضة على النظام السوري، بحسب (تقرير مجلس الأمن الجلسة “6826” 30 آب/ أغسطس 2012)[5].
واستمر تنسيق الاستجابة الدولية في العام 2013، في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الذي يقوم بتعقّب المساعدات المالية المقدّمة، من خلال خدمة التتبع المالي (FTS)، وهي قاعدة بيانات عالمية، واتسع نطاق المساعدات الإنسانية وزاد عدد الشراكات الأممية في المساعدة، بعد أن بلغ عدد المحتاجين إليها ما يقارب 7 ملايين، وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن التعهدات المُعلنة في “مؤتمر المانحين في الكويت” تخطّت المبلغ مليار وخمسمئة مليون دولار[6].
وفي العام نفسه، حمل تقرير (هيومن رايتس ووتش) المُقدّم لمجلس الأمن العديد من الإشكالات بخصوص منع النظام وبعض فصائل المعارضة تمرير المساعدات للمحتاجين بالداخل، وكذلك تعطيل سير قوافل المساعدات من قبل الحكومة السورية، كما حدث في ريف دمشق[7].
لتتدهور حالة المعونة بانسحاب أكثر من سبعين مجموعة من منظمات الإغاثة بما في ذلك الجمعية الطبية السورية الأمريكية، لأن الأمم المتحدة والهلال الأحمر العربي السوري يسمحان للحكومة السورية بالتدخل مع المساعدات. في العام 2014 صدّق مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2165 على تقديم المساعدات الإنسانية بشكل أفضل للمحتاجين، وضع المجتمع الدولي نظامًا ثانيًا من المساعدات، وهو الآلية العاملة عبر الحدود، ووافق مجلس الأمن على إرسال المساعدات من العراق وتركيا والأردن مباشرة، إلى الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في سورية عبر المعابر الحدودية الأربعة[8]. لكن عقب التدخل الروسي في 2015، واستخدام حق النقض، تم تقليص هذه المعابر من أربعة إلى اثنين، لتصل في تموز/ يوليو 2020 إلى معبر واحد “باب الهوى”، بين سورية وتركيا.
المشكلة الأساسية حول تقديم المساعدات الإنسانية هي السماح بسيطرة الدولة/ النظام على آلية عملها، فعلى الرغم من فصلها عن حالة التدخل الدولي، كونها تصطدم مع مسألة السيادة في المادة الثالثة من اتفاقيات جنيف وتبنّيها عام 1949 في الأمم المتحدة، وفي البروتوكول الثاني لعام 1977، وإخراجهما النزاعات المسلّحة الداخلية من الاختصاص الداخلي للدول إلى الاهتمام الدولي، فإن عدم وجود اتفاق جامع على تحديد النزاعات المسلحة، واستثناء حالات الاضطراب والتوترات وأعمال الشغب العرضية، جعلت المساعدات الإنسانية خاضعة لموافقة الطرف المتعاقد/ الدولة المعنية، على قبول المساعدات أو رفضها وتقييدها، احترامًا للسيادة، وامتثالًا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة: 43/ 131/ 1988، 45/ 100/ 1990، 46/182/ 1991 [9]. وذلك بالرغم من وجود بعض البنود المتعلقة بموافقة أطراف النزاع على الأنشطة الإنسانية والأعمال الإغاثية، حسب المواد (9،10) من اتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكولات 1977، ومبدأ عدم التمييز الذي تبنّته محكمة العدل الدولية الذي يزيل الفوارق الموضوعية بين الأفراد المُتلقين للمساعدة، والجهات العاملة على تقديم المساعدة، واعتماد منظمة الأمم المتحدة القرارات الخاصة بتقديم المساعدات التي أصدرها مجلس الأمن، ومنها القرار 2139 عام 2014 الخاص بالنزاع السوري باعتباره تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
حالة الجدل بين السيادة واستغلالها في توجيه تقديم المساعدات، والصراع حول تفسير القانون الإنساني، سمحا لروسيا والصين بحماية النظام من العواقب، من خلال استخدام حق النقض في مجلس الأمن الدولي، حيث يجادل الأسد بأنه يملك الحق المطلق في التحكم في توزيع المساعدات الإنسانية داخل سورية، حتى في المناطق غير الخاضعة لسيطرته، وقد دعمت موسكو هذا الإصرار في مجلس الأمن الدولي. وكذلك سمح للحكومة السورية أن تكون وكيلًا لما يُمرر من مساعدات أو تقوم بمنعها، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكن” إلى أن يدعو مجلس الأمن الدولي إلى ضمان إعادة فتح المعابر، والسماح بانسياب المساعدات للسوريين بلا عوائق، باعتبار السيادة لا تعني حرمان الناس من المساعدات في ظل توقف الحياة هناك على المساعدات الطارئة، مشددًا على ضرورة السماح بإيصالها عبر ثلاثة معابر[10].
التحديات العامة التي تواجه تقديم المساعدات
في الوضع السوري، تتعدد التحديات التي تواجه الجهات الفاعلة الإنسانية بتقديم العون للمحتاجين، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بإداراتها الثلاث المختلفة، ومناطق النظام، ويمكن الإشارة إلى تقاطع الإشكاليات منها:
أولًا: واقع الحرب والحصار وإغلاق الحدود انتهكت مرارًا المبدأ الدولي الخاص بوصول المساعدات دون عوائق، حيث يقوم النظام بالاستيلاء على المساعدات أو تقييدها كأداة للحرب، أو بقصف كما حدث في شمال غرب سورية في 21 آذار/ مارس. ويضاف إليها الخلافات على المعابر أو صفقات وصراعات المعابر التي تربط المناطق المتخاصمة، مثل: معبر “باب السلامة” في إعزاز في ريف حلب، ومعبر جرابلس، ومعبر تل أبيض في الرقة. فالمنافع الاقتصادية التي تدرّها المعابر تشكّل مصدرًا ماليًا لشبكة “تجار الحرب” من كل الجهات، عبر استغلالهم حاجة الناس والحصار لمراكمة الثروات. فهذه التجارة السوداء تعتمد على استيراد شحنات من البضائع الأساسية وإدخالها “ترانزيت” (أي دون دفع ضرائب، والاكتفاء برسوم رمزية) إلى سورية، وتتم تحت إشراف قيادات الفصائل العسكرية الموجودة في الشمال السوري، ويتم إدخال هذه البضائع عبر المعابر الداخلية، من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة أو لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام[11].
ثانيًا: سوء إدارة المنظمات والجمعيات الخيرية والتنموية المحلية التي تتكاثر في مناطق الشمال السوري، الناتج عن عمل المنظمات وهيكليتها لتشكل “شبكة الزبائنية”، بدل شبكات الإغاثة في بعض المناطق، وعن القيود والتدخلات المتنوعة التي يفرضها على الجمعيات الخيرية والتنموية، مثلًا: المنظمات في دير الزور، والتدخل المباشر للمسؤولين المحليين، مثل المحافظ وضباط المخابرات، والإتاوات التي يفرضها المكتب الأمني في الفرقة الرابعة، إضافة إلى فرض الإتاوات من قبل “الفرقة الرابعة” عليها[12].
ثالثًا: تداعيات العقوبات الغربية وقانون قيصر الأخير على عموم الساحة الاقتصادية السورية، والآثار الخطيرة التي تتركها على القدرات المالية والإنتاجية داخل الاقتصاد السوري، الأمر الذي يمكن أن نتلمّس تداعياته مثلًا في منطقة شمال شرق سورية، بسبب الارتباطات المالية والتجارية مع المركز دمشق، وعلى الرغم من أن أثر العقوبات على تقديم المساعدات الإنسانية يبقى ضئيلًا، فالحصّة الأكبر من المليارات المحوَّلة كمساعدات تأتي من الحكومات الغربية التي فرضت العقوبات.
رابعًا: إخضاع المنظمات المحايدة ظاهريًا، كـ “منظمة الصحة العالمية”، لإرادة الأسد، حيث تُقدّم المزيد من المساعدات إلى الموالين للنظام أكثر ممّا توفره للفئات الأخرى، لكي يبقى النظام راضيًا عنها. ونتيجة لذلك، تمارس دمشق سيطرة كبيرة على توزيع المعونات، على الرغم من واقع كَوْن أكثر من 60% من السوريين المحتاجين يعيشون خارج أراضي النظام. وبالرغم من أن حجّة الأسد وموسكو حول السيادة تشكّل انتهاكًا واضحًا للقانون الإنساني الدولي، الذي يُفهم منذ فترة طويلة على أنه يحظر تعليق المساعدة لأي مجموعة من السكان، لأسباب “تعسفية أو متقلبة”[13].
مساعدات المحتاجين الدعم الخفي لاستمرار للنظام
في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، منذ بدء الحرب، عمد النظام إلى تدمير العديد من المنشآت الإنسانية “مستشفيات، مدارس..”، واستغل الكارثة السورية لينمي بنية اقتصادية حربية لا تدعم المواطن، بل تعمد إلى استغلال قوت الناس بطرق غير مشروعة كالتعفيش، الإتاوات، الضرائب ومنها ضريبة إعادة الإعمار، وكذلك “البطاقة الذكية”، إضافة إلى تدهور سعر الليرة، ليكون السبب الرئيس لتوسُّع هامش الفقر، الذي بدأ يشكل كارثة بعد “انتصار” النظام وسيطرته على ما يقارب 70% من الأراضي السورية.
وعلى الرغم من أن النظام يحاول التهّرب من هذه الأزمة الاقتصادية باستخدام حجّة “عقوبات سيزر”، فإن هذه الحجّة لا يمكن استخدامها لتبرير السيطرة على الجهود الإنسانية التي تقودها الأمم المتحدة وسرقتها منذ بداية الأحداث السورية، حيث استعان النظام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/182، الذي ينصّ على أنه “ينبغي تقديم المساعدة الإنسانية بموافقة البلد المتضرر”، وأن “الدولة المتضررة لها الدور الأساسي في استهلال تقديم المساعدات الإنسانية وتنظيمها وتنسيقها وتنفيذها داخل أراضيها”.
ومنذ بداية الأحداث (بحسب تقرير Foreign Affair) سمحت وكالات الأمم المتحدة مثل “منظمة الصحة العالمية” لنظام الأسد، بالسيطرة على الاستجابة الإنسانية الدولية البالغة 30 مليار دولار، من خلال استخدام أموال المانحين لتجنب العقوبات ودعم المجهود الحربي للحكومة. وسمحت بالسيطرة على المساعدات، من خلال الشريك الرسمي للحكومة “الهلال الأحمر العربي السوري” الذي تم ربطه منذ فترة طويلة بجهاز الدولة السوري، وتسرّب إليه عملاء المخابرات كمتطوعين، ومع ازدياد الأزمة وعدم قدرة الهلال الأحمر على تغطية الاحتياجات، أنشأت الحكومة في عام 2013 “لجنة الإغاثة العليا”، وهي وكالة مكلّفة بتنسيق طلبات الأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية مع الوزارات الحكومية الرئيسية والفروع المختلفة لقوات المخابرات، وتختار شركاءها من قائمة “المنظمات غير الحكومية الوطنية”، وهي تعبير ملطّف عن “الهيئات التي يسيطر عليها النظام”، مثل مؤسسة الأمانة السورية للتنمية (Syria Trust) التي أسّستها وتترأسها أسماء الأسد، أو شركات وهمية متخفية في هيئة جمعيات خيرية، مثل “جمعية البستان الخيرية” التي كان يملكها ابن خال الأسد رامي مخلوف [14].
لعبت مجموعة المنظمات التي تدار بإشراف النظام دورًا لا يقلّ أهمية عن الدعم الروسي والإيراني في استمرار النظام، فالأمانة السورية للتنمية تتمتع بوجود العديد من الشركاء الاستراتيجيين الدوليين، مثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك السوري الدولي الإسلامي، والمجلس النرويجي للاجئين، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة قرى الأطفال العالمية، ومنظمة ريسكاتي، واليونيسيف.
وبالرغم من عدم وجود تقدير دقيق للأموال التي تتلقاها الأمانة، فإنه وفقًا للبيانات الرسمية لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (خطة الاستجابة الإنسانية في سورية)، تبرّعت الأمم المتحدة بالمبالغ التالية على الأقل، للأمانة السورية للتنمية: 732.500 دولار عام 2017، و3,400 مليون دولار عام 2018 [15].
وقد أسهم ذلك في توسع الأمانة ومحاولة الوصول إلى كل المجتمعات، وفي افتتاح 15 مركزًا مجتمعيًا عام 2018 في المناطق التي سيطر عليها النظام أخيرًا، وفي عام 2019 بلغ عدد مراكزها 24 مركزًا في سبع محافظات، واستخدام نشاطها لتلبية احتياجات محددة، وإطلاقها برامج خاصة بالصراع كبرنامج “جريح الوطن”، لمساعدة “شهداء وجرحى” القوات العسكرية والأجهزة الأمنية، بحسب تقارير الأمانة السنوية[16].
وكذلك افتتحت جمعية البستان الخيرية، منذ الاستحواذ عليها في صيف 2019، فروعًا جديدة في القنيطرة والقلمون، ولكن برعاية مباشرة من أسماء الأسد. ولا يزال مقرّ الجمعية الرئيس في المزة يُقدّم خدماته كالمعتاد، ولكن تأثرت بعض أنشطتها، مثل توزيع الرواتب والسلل الإغاثية. وقد وصف أحد أعضاء الجمعية هذا الانقطاع بأنه مرحلة مؤقتة ناتجة عن “عمليات الجرد والتفتيش، أدت إلى تعطل وتغير طريقة عمل الجمعية”، بحسب ما يوضحه بحث “أيمن الدسوقي وسنان حتاحت” [17].
واستفاد النظام من وكالات الإغاثة عبر التلاعب بأسعار الصرف أيضًا؛ يجب أن تُدفع الأموال اللازمة للبرمجة والرواتب الوطنية وشراء الأدوية والسلع والخدمات المحلية إلى البنك المركزي بالدولار، بسعر الصرف الرسمي، وهو ما يقل بنسبة 20 إلى 25 في المئة عن سعر السوق السوداء، وتختلس الحكومة الفارق. في تقدير متحفّظ بالاستعانة بآلية التتبع المالي لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، يظهر أن هذه التلاعبات أنتجت ما لا يقل عن مليار دولار من الإيرادات للنظام. وعلى أفضل تقدير هو أن من 2 و18% فقط من مساعدات الأمم المتحدة تصل بالفعل إلى السوريين المحتاجين. ونادرًا ما تذهب تلك المساعدات إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها.
وتجدر الإشارة إلى أنه في ظل سيطرة النظام على السوريين وقوتهم، استمرت شبكة محدودة من المنظمات غير الحكومية في توفير المساعدات التي تأتي من قبل منظمات داعمة أو أفراد “مغتربين” أو هيئات معينة تقوم بتقديم بعض الدعم للسوريين، لكن المساعدات الفعلية من قبل الأمم المتحدة تحوّلت غالبيتها لإشراف النظام ورعاية شبكته التي تستغل هذه الإعانات لدعم استمرار الأسد والتجويع معًا، لضمان استمرار حكمه، إضافة إلى جعلها “دعاية” رخيصة لانتخابات مقبلة، كما في الصورة التي انتشر تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي “صورة توزيع البرغل”.
لتجعل السؤال: من الذي يموّل، ومن يتموّل؟ وما الذي يتم تمويله؟! سؤالًا مشروعًا، وجوابه رهن بما فُصّل ويُفصّل من حلول لأزمة طويلة الأمد.
لا عدالة انتقالية في ظل عنف اقتصادي
الحرب التي وصفت بأكبر كارثة من صنع البشر منذ الحرب العالمية الثانية، لا تزال تتراكم ملفاتها المعقدة والعسيرة، إلا أن الحلول المتبعة دوليًا -على ضرورتها- لا تشكل إنقاذًا لهم، إنما تجعل السوريين رهينة للفقر ولمن يستلم “يستولي” على مساعداتهم، ما لم تتبع آلية مختلفة في تقديم الدعم وجعل كافة الحلول بسلّة واحدة لتغيير مجريات المُعضلة السورية، فتدوير أزمات العنف الاقتصادي -الاجتماعي هو إسفين يُدق في بناء دولة القانون، ينعكس بمعطياته كافة على السوريين حاليًا وفي المستقبل، ولا يمكن الخروج من إرث الحرب والانهيار الاقتصادي، دون محاسبة المتسلّطين والسارقين لقوت الشعب، ولا يمكن قيام “عدالة انتقالية” في ظلّ عنف اقتصادي، فالفقر لا يقتصر على الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، إنما تمتد آثاره لتشكل معضلات مختلفة ستجعل الأزمة مستمرة على صعيد الاستقرار المجتمعي والأمن الاجتماعي، وستجعل الحلول أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه.
[1] – الأمم المتحدة: 12 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي https://p.dw.com/p/3pKMR
[2] – تشارلز ثيبوت، كالفين وايلدر. توسيع نطاق المساعدات الإنسانية للسوريين في ظل اقتراب موعدين نهائيين – معهد واشنطن https://bit.ly/3ntfU6v
[3] – دمشق: ما يصدر عن مؤتمر بروكسل غير مشروع – RT Arabic
[4] – عدد اللاجئين السوريين في لبنان يتجاوز حاجز الـ 100,000 شخص 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2012 https://bit.ly/3xwU6eC
[5] – مجلس الامن https://bit.ly/3gLgo6q
[6] – مؤتمر الكويت يجمع أكثر من المبلغ المستهدف لمساعدة السوريين https://p.dw.com/p/17Uhp
[7] – سوريا – منع وصول المساعدات إلى المناطق المحاصرة https://bit.ly/3xAQ3ye
– رويترز: الحكومة تعرقل جهود الإغاثة في سورية والمجتمع الدولي منقسم
[8] – الوكالات الأممية ترحب بالقرار الدولي لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا وتدعو إلى إتمام هذه العمليات دون قيد أو شرط https://bit.ly/2R2bozD
[9] – المساعدات الإنسانية دراسة في ضوء القانون الدولي الإنساني- مجلة المحقق للعلوم القانونية والسياسية، العدد الثالث/ السنة الثامنة 2016
[10] – بلينكن يطالب بفتح المعابر الحدودية مع بدء مؤتمر مانحي سوريا https://p.dw.com/p/3rLxI
[11] – ساحات الحرب في سوريا تفرق الخصماء لكن المعابر المربحة تجمعهم منتدى فكرة https://bit.ly/3gM9Cxf
[12] – مسارات الشرق الأوسط أي دور للجمعيات غير الحكومية السورية في مدينة دير الزور بعد الحرب؟ https://bit.ly/3vqGLmn
[13] – تشارلز ثيبوت، كالفين وايلدر. توسيع نطاق المساعدات الإنسانية للسوريين في ظل اقتراب موعدين نهائيين -معهد واشنطن
[14] – تقرير – Foreign Affairs هكذا ساهمت الأمم المتحدة في بقاء نظام الأسد وتقويته – الجزيرة
[15] – مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، “خطة الاستجابة الإنسانية في سوريا 2017”- https://bit.ly/2C0sEhn؛ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “خطة الاستجابة الإنسانية في سوريا 2018″، https://bit.ly/2UyevhK
[16] – التقارير السنوية الرسمية للأمانة السورية للتنمية https://bit.ly/3fitUuz
[17] – دور العمل الخيري في الحرب السورية: المنظمات غير الحكومية، تاريخ 06 تمّوز/ يوليو 2020 https://bit.ly/32Yj0G8
تحياتي واحتراماتي
طلب مساعدة جزاكم الله خيرا
لي بنت صغيرة مريضة بالتوحد
أردت ان اعمل لها تحاليل طبية لتشخيص الحالة المرضية لها
جزاكم الله خيرا
والسلام عليكم.