لأول مرة منذ تشكيل اللجنة الدستورية السورية، اجتمع رئيس وفد المعارضة السورية، مع رئيس وفد النظام، بحضور المبعوث الأممي الخاص لسورية غير بيدرسن، قبل يوم من بداية الدورة السادسة لأعمال اللجنة الدستورية، المكلفة بكتابة دستور جديد لسورية، أو تعديل الدستور الحالي المعمول به منذ عام 2012، واجتمعت اللجنة لخمسة أيام في جنيف وأنهت أعمالها دون تقدّم، لكن، وبغض النظر عن النتائج الصفرية، لابد من الاعتراف أن هذه الدورة كانت مختلفة قليلًا عن سابقاتها.
عند الإعلان عن موعد الدورة، قال المبعوث الأممي لسورية غير بيدرسن إن الرئيسين المشتركين للجنة، هادي البحرة ممثلًا للمعارضة، وأحمد الكزبري ممثلًا للنظام، قد اتّقفا على عناوين المبادئ الأساسية التي ستتم مناقشتها، وعلى مشروع آلية للعمل، أسماها بيدرسن “منهجية العمل”، لإنجاز الدستور السوري، لكن هذه الآلية، التي وصفها لاحقًا ممثل المعارضة السورية بأنها “نصف آلية”، لم تنجح في تحويل الدورة إلى دورة مثمرة، وانتهت الدورة السادسة كسابقاتها دون نتائج ملموسة، ودون أية توافقات يمكن الحديث عنها، لكنّها رسّخت “نصف الآلية” التي تحدثت عنها المعارضة السورية، وهذا بحد ذاته، من وجهة نظر المعارضة السورية، يعتبر نصرًا، صحيح أنه نصر قزم، لكنّه بكل الأحوال أفضل من الفشل الكلي.
أشارت المنهجية التي اتفق عليها الطرفان لتلك الدورة، بأنه يجب وضع أربعة نصوص صياغة لمواضيع دستورية، تناقشها الوفود السورية الثلاثة، وفد المعارضة ووفد النظام ووفد المجتمع المدني، وتنتقل من موضوع إلى آخر حتى لو لم يتم التوافق على الموضوع السابق، وفي اليوم الأخير، تضع هذه الأطراف نصًا توافقيًا من بعد الأخذ بعين الاعتبار كل الآراء والمناقشات.
المواضيع الدستورية التي قُدّمت للتفاهم كانت متناقضة، حيث قدّم كل وفد موضوعًا دستوريًا يعكس اهتماماته وتوجهاته، فوفد المعارضة السورية تقدّم بموضوع حول الجيش والأمن والاستخبارات في الدستور، فيما تقدّم وفد المجتمع المدني بموضوع سيادة الدولة، بينما طرح وفد النظام بندين للنقاش، هما سيادة الدولة والإرهاب والتطرّف، وموضوعات الإرهاب والتطرف هي المواضيع الوحيدة التي يطرحهه وفد النظام السوري منذ انطلاق اللجنة الدستورية وحتى اليوم، ويطرح أفكارًا حولها ستَعتبر -فيما لو اتفق عليها – أن كل المعارضين السوريين، السياسيين والعسكرين وكل من غادر سورية هربًا من النظام وحربه، هم إرهابيون أو شركاء في الإرهاب، في اتهام قد يطال الملايين من السوريين.
في اليوم الأخير من الدورة، اجتمعت الأطراف الثلاثة للتوافق، وعدّل وفد المعارضة السورية أوراقه وضمّنها بعضاُ من ملاحظات وفد النظام واعتراضاته، لكن النظام السوري رفض تعديل أي كلمة في مقترحه، وقال للمبعوث الأممي إنه لا يستطيع تعديل أي كلمة، مُعتبرًا نصّه نصًا مُقدّسًا، وكما أن كلمة واحدة من أوراق المعارضة السورية لن تحصل على موافقته، وانتهى الاجتماع بخيبة أمل، عبّر عنها بيدرسن علنًا في إحاطة لمجلس الأمن الدولي عقب انتهاء أعمال الدورة السادسة، قال فيها “لقد كانت مناقشات اليوم الأخير مخيبة للآمال”، وأضاف “نحن بحاجة إلى التفاهم بشأن آلية عمل لمساعدة اللجنة الدستورية على الاضطلاع بولايتها في الصياغة”، وأكّد أنه سيبدأ في إجراء مشاورات في عدد من العواصم لتطوير عملية سياسية أوسع خطوة بخطوة.
المعارضة السورية أكّدت من جهتها أن النظام يقوم بتعطيل عمل اللجنة الدستورية، وأنه من العبث متابعة الدورات المقبلة والاجتماعات، لأنه إن استمرت بنفس الآلية والطريقة في الدورات المقبلة فإن الفشل حتمي، وطالبت الدول الراعية لعملية السلام في سورية وللحل السياسي وللجنة الدستورية أن تتدخل ليوافق النظام على وضع آليات تضمن الخروج بنتائج بعد كل مناقشة لكل بند دستوري.
ممثل المعارضة السورية هادي البحرة، الذي يواجه انتقادات كبيرة من الشارع السوري المعارض، حاول توضيح ما جرى في هذه الدورة التي من المفترض أن تكون مختلفة، وقال في تصريح في اليوم الأخير منها “إذا أردنا أن نحصل على نتائج إيجابية، يجب استكمال المنهجية، ووضع آليات تضمن الخروج بنتائج، ويجب أن تكون الأطراف الثلاثة تملك الرغبة للوصول إلى تفاهمات، وبكل أسف، وحتى هذه اللحظة، لا توجد هذه الرغبة لدى النظام، حتى أن وفده لم يكن مهتمًا بالوصول إلى توافقات”، وأضاف “هذه العملية الدستورية لا يمكن أن تستمر إن بقيت كما هي الآن، وإن لم تحظ بتوافق دولي ودعم حقيقي وإرادة لدى كافة الأطراف السورية لتحقيق الحل السياسي الذي يعتبر الحل الوحيد الذي يمكن أن يؤمن الاستقرار والأمن المستدامين عبر تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، ودون تغيير أسلوب عمل اللجنة الدستورية، ستكون لدينا نفس النتائج”.
بعد انتهاء هذه الدورة من أعمال اللجنة الدستورية، انقسمت المعارضة السورية، الشعبية والسياسية، إلى قسمين:
القسم الأول:
صرخ بصوت عال يُطالب وفد المعارضة في اللجنة الدستورية بالاستقالة ومقاطعة الاجتماعات إلى الأبد، واعتبر أن ما يقوم به وفد المعارضة هو خيانة للثورة، لأن النظام السوري لم ولن يتجاوب ولا بأي شكل ولا أي طريقة مع ما تريد المعارضة، وما يجري هو مماطلة وتضييع للوقت وتشريع للنظام تمهيدًا لإعادة تأهيله وقبوله دوليًا. دون أن يقدّم هذه القسم من السوريين بدائلًا منطقية قابلة للتنفيذ، ودون أن ينتبه إلى حقيقة أن هذه اللجنة هي مطلب أممي، وتشكّلت وفق ذلك، وأنها الحل الدولي الوحيد المطروح على الساحة السورية الآن، ولا يوجد بدائل حقيقية أو حتى مشاريع بدائل لدى المعارضة السورية لتنطلق بها.
وردًا على هذه المقولات، قال البحرة “اللجنة الدستورية هي منصة دولية يجب المحافظة عليها، وهي المنصة الوحيدة، لكن يجب تقويتها بأكبر قدر ممكن من الإمكانيات، التقينا بالعديد من الوفود المهتمة بالملف السوري، سواء من الدول الإقليمية أو الدولية، كالولايات المتحدة وروسيا وتركيا ومصر وقطر والسعودية وغيرها، ونحتاج لحشد إرادتهم معًا لتستطيع اللجنة الدستورية البدء بكتابة أولى مواد الدستور السوري المرتقب”.
القسم الثاني:
اعتقد أن وفد النظام بتشبّثه بموقفه وتعطيله لكل عمل اللجنة الدستورية، إنما يُمارس ذلك بما يعاكس الرغبة الروسية، وأن روسيا انتبهت هذه المرة إلى أن التعطيل والفشل لهذه اللجنة ليس من صالحها في الوقت الراهن، وأنها لابد وأن تقوم، بعد النتائج المخيبة للآمال من هذه الدورة، وبعد نمسّك النظام السوري بمبدأ التفشيل، باتخاذ إجراءات صارمة أو ضاغطة على النظام السوري ليكون في الدورة المقبلة عمليًا وأقلّ صلافة، ويوافق على البدء الحقيقي بكتابة الدستور السوري المرتقب، ويراهن هذه القسم على النوايا الروسية غير المعلنة وغير المؤكّدة، خاصة وأنه لا توجد مناقشات مباشرة بين الروس والمعارضة السورية حول هذا الموضوع أو غيره.
وتعبيرًا عن هذه القناعة، قال يحيى العريضي، الناطق الرسمي باسم هيئة التفاوض “الروس بحاجة لإنجاز سياسي، في حين أن النظام لا يعبأ بالسوريين، ولا بتحقيق تقدّم في الحل السياسي”، وشدد في تعليق في نهاية الدورة السادسة على أن الروس يرغبون بإحراز تقدم ما في لجنة صياغة الدستور.
منذ تأسيسها، رفض النظام السوري وضع جدول زمني لعمل لجنة صياغة الدستور، وأكّد على شرط عدم تدخل الغير في عملها، ولهذا، فإن النتائج بقيت صفرية بعد ست دورات من الاجتماعات، وبعد نحو سنتين من قرار تشكيل اللجنة، وكذلك أدى هذا إلى تصاعد الهجوم على اللجنة الدستورية السورية، واستمرت الخيبات، واستمر النظام السوري في تعطيل أعمالها دون أي رادع سياسي أو أخلاقي، وانسدّـ الأفق أمام الحل السياسي، وانقسم السوريون بين ضرورة دعم هذه اللجنة وبين من يرى ضرورة موتها.
الوظيفة:
تأسست اللجنة الدستورية بعد مؤتمر عقد في سوتشي عام 2018 دعت إليه روسيا، وصدر قرار تشكيلها رسميا في أيلول/ سبتمبر 2019، وعقدت أول اجتماع لها في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكان هدف الروس من وراء الدفع بتشكيلها وطرحها على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتتحول لقرار يحصل على إجماع، هو الإيحاء بأن الروس جادون في إيجاد حل سياسي للقضية السورية، وساعدهم في فرضها التفويض الأميركي لهم، والذي كان الجميع يتحدث عنه في ذلك الوقت، ولمسه السوريون من خلال الممارسات والانطفاء الأميركي، واعتقد الروس أنهم قادرون على فرض ما يخططون له عبر اللجنة الدستورية من خلال سياسات الضغط وسياسة “فرّق تسد” بين أطراف المعارضة السورية، كما أنهم قادرون بالتعاون مع النظام السوري على إغراق اللجنة بالتفاصيل إن لم تتبنى الهدف الروسي، ما يُسهّل اللعب على الوقت والمماطلة في إحراز أي نتائج لسنوات عديدة.
اللجنة الدستورية السورية هي لجنة فنية، مهمتها ووظيفتها العمل على صياغة مسوّدة دستور أو إعلان دستوري أو دستور مؤقت أو وثيقة دستورية لسورية، وهي غير مخوّلة بالتوقيع على أي حلول سياسية أو تسويات، وليست بديلة عن المعارضة السورية أو هيئة التفاوض أو الائتلاف الوطني، كما أنها ليست بديلة عن النظام السوري، ولا تؤدي دور أي منهما، بل ممثلة ومندوبة عن هذه الأطراف، ومهمتها الأساس صياغة مسودات المضامين الدستورية، ووفق النصوص الأممية، سيخضع الدستور الذي ستُنتجه إلى استفتاء شعبي عام، يحصل في ظل بيئة آمنة ومُحايدة، ثم سيتم حلّها بعد ذلك لصالح هيئة حكم انتقالي تُمثّل الجميع ومتّفق عليها.
رغم أن اللجنة الدستورية لم تُنجز شيئًا بعد مضي ست دورات، وهناك انتقادات كبيرة على أدائها ووسائلها وقوتها، وهناك اتهامات لها بالتقصير والمسايرة والمهادنة، إلا أن هذه اللجنة هي المدخل السياسي الوحيد الذي تعترف به المجتمع الدولي، وتستند إلى قرارات أممية وافقت عليها المعارضة السورية والنظام وغيرهما، وكذلك تبنّتها جميع الدول التي لها علاقة بالصراع في سورية وعليها، وانتهاء هذه اللجنة في نظر البعض سيؤدي إلى انتهاء الخيارات، وموات المسار السياسي في ظلّ العجز أو التخاذل الدولي.
البدائل:
يرى البعض أن البدائل هي تجييش السوريين في أوربا للضغط على الدول التي يقيمون بها للتحرك لإحياء ملف الحل السياسي للقضية السورية هو الحل البديل عن اللجنة الدستورية، ويرى البعض الآخر أن إعادة تشكيل كيانات سورية معارضة أكثر قوة واستقلالية هو الحل البديل عن اللجنة الدستورية، ويرى آخرون أن الانسحاب والاعتكاف سيكون البديل الذي يدفع المجتمع الدولي للتحرك، وهناك أفكار أخرى لكنها لا يمكن اعتبارها بدائل ذات قيمة وراسخة وذات فعالية.
من الواضح أن المعارضة السورية ستبقى في اللجنة الدستورية، لأنها تقول إنه ما من بدائل في الأفق، وليس هناك في المجتمع الدولي، ولا المجتمع الإقليمي الداعم للمعارضة، من هو مستعد لبدء مسارات أخرى للحل السياسي في سورية بعد أن تم التوافق على هذا المسار بصعوبة بالغة، لكن واقع تطور عمل اللجنة يؤكد أنها إن أصرّت على ذلك، عليها الكثير من العمل لتبرر تمسّكها بهذا المسار، ويستدعي ذلك أن تعمل المعارضة السورية بكل الوسائل على تقوية هذه اللجنة، وردفها بالاختصاصيين، ووضع أعضاء أكثر خبرة وقوة ودراية، وإقناع كل الأطراف الدولية والعربية بالضغط بكل الوسائل على النظام السوري، لوضع جدول زمني ثابت ودقيق، ووضع آلية توصل إلى نتائج، وفي نفس الوقت، لا يمنع كل هذا من أن تواصل قوى المعارضة السورية عملها ونشاطها في مسارات أخرى، وتضع بدائل وخطط بديلة يمكن أن تلجأ إليها في حال عدم وضع جدول زمني وآلية عملة لكتابة الدستور، لأن الانسحاب من هذه اللجنة يصبح أمرًا ضروريًا ومنطقيًا ولا بد منه في حال الفشل في وضع جدول زمني وآلية.