سلّطت مقالة الباحث سمير سعيفان المنشورة في موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة بتاريخ 2/ 10/ 2020، وهي بعنوان “الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية“، الضوء على زاوية محورية وجوهرية في حاجات الشعوب والدول ومتطلبات العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والتطور أيضًا. حيث تندر الكتابات والإشارات إلى هذه المسألة الحيوية، على الرغم من تعبير الشعوب الثائرة عنها بعبارات وشعارات واضحة أحيانًا، وعائمة في أحيان أخرى، وفق خبرة وتمرس الشعوب في خوض الصراع الاجتماعي والسياسي المطلبي والاحتجاجي والثوري التغييري. وبالرغم من اتفاقي مع المقالة المذكورة، من حيث أهمية البعد الاقتصادي والاجتماعي، فإن هناك بعض الملاحظات المرتبطة بالآليات والوسائل والظروف الذاتية المعيقة.
تجدر الإشارة في البداية إلى بعض النقاط التي شرحتها المقالة المذكورة، مثل الديمقراطية الاقتصادية التي تحدث عنها الباحث بقوله: “الديمقراطية الاقتصادية هي التعبير الاقتصادي عن العدالة الاجتماعية، وهي حجرها الأساس، فمنها تبدأ عدالة توزيع الثروة التي هي أساس أي عدالة، بالرغم من أن مفهوم العدالة الاجتماعية يمكن أن يكون أوسع من مفهوم الديمقراطية الاقتصادية”. ويوضح الباحث رؤيته للواقع العالمي الراهن بقوله: “بعد سقوط المعسكر السوفييتي، وكان ذلك السقوط بمنزلة إعلان فشل ذاك النموذج؛ انداحت الرأسمالية الليبرالية بنسختها الأميركية الأكثر تطرفًا، لتعمّم نموذجًا ليبراليًا متوحشًا، قلص حقوق المشتغلين وصغار المالكين، لصالح تعظيم حقوق كبار المالكين. وباتت قوى اليسار في العالم تفتقر إلى بديل واقعي، يحقق عدالة اجتماعية مقترنة بقدرة إنتاجية عالية، وظلّت الحاجة مفتوحة إلى الاجتهاد الفردي والجماعي، وهنا إحدى محاولات الاجتهاد لصياغة تصورٍ لبديلٍ يحقق ديمقراطية حقيقية، تجمع الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية وبالعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان وبقية قيم المجتمع الحديث”. وأسعى هنا إلى نقاش إمكانات تطبيق هذا التصور البديل، وفق ظرف الدول الوطنية، عبر الانطلاق من التقسيم التقليدي للدول، دول العالم المتحضرة ودول العالم الثالث المتخلفة، وعبر تحديد دور الدولة فيها.
- دور الدولة في دول العالم المتحضر:
يُعدّ دورُ الدولة أحد أهم مواضع الخلاف بين منظري الليبرالية الحديثة، ونوعًا ما التقليدية من ناحية، واليساريين والاشتراكيين والماركسيين من ناحية ثانية، حيت ينطلق الليبراليون من محورية قوانين السوق وآلياته في تنظيم المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وفق قاعدة البقاء للأفضل، إذ يعتقدون أن حاجات المجتمع ومتطلبات العملية الإنتاجية كافية لدفع المجتمع نحو التطور والرقي، الذي سوف يسود ويعمم على مختلف الشرائح والفئات والطبقات مع مرور الزمن. وسوف تُنبذ البضائع والسلع التي لا ترقى للحد الأدنى من الجودة المطلوبة أو التي لا تتوافق قيمتها المادية مع المعايير السائدة في السوق، كما سوف تشمل هذه القاعدة البشر الذين لم يتكيفوا مع حاجات المجتمع والسوق، ولم يطوروا قدراتهم وإمكاناتهم الذاتية كي يتمكنوا من ولوج سوق العمل ومن تأمين دخل شهري يكفيهم لسداد حاجاتهم الرئيسية والضرورية.
لكننا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهدنا تنامي النموذج الرأسمالي الأكثر وحشية، وهو ما انعكس تلقائيًا على حقوق البشر وإمكاناتهم المادية وغير المادية، إذ ارتفعت نسب التسرب من المؤسسات التعليمية، وانخفضت نسب الراغبين في التحصيل العلمي العالي الجامعي وما بعد الجامعي، فضلًا عن تزايد أعداد الوفيات نتيجة تقصير نظام التأمين الصحي الذي يفترض به تأمين الطبابة لجميع المواطنين، ووفيات فيروس كورونا خيرُ مثال على ذلك، كما يحدث في أقوى الاقتصاديات العالمية الليبرالية الأميركية والفرنسية. مع ملاحظة الاستثناء الألماني عن غالبية التجارب الليبرالية الأخرى، في كل ما يتعلق بالخدمات الطبية والتعليمية، أي بدور الدولة الاجتماعي، وبما يخص أيضًا حجم تفاوت الدخل ونسب القابعين تحت خط الفقر بين الألمان القليل نسبيًا، مقارنة بنظرائهم الفرنسيين والبريطانيين والأميركيين حتى الآن، بالرغم من تقهقرها في السنوات الماضية.
وهو ما يتطلب تعزيز دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي بما لا يحد كثيرًا من دور وحرية رأسمال الخاص، كما أوضحت ذلك، الباحث دون أن يخصها في الدول المتطورة، بقوله: “وأن تكون ملكية المدارس والجامعات حكومية، وأن تكون وسائل الإعلام جمعيات أو شركات تعاونية تعكس مصالح الناس، لا شركات خاصة يملكها أفراد”. فمن الواضح أن تجربة الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية لم تحقق النجاح الذي كانت تتوقعه، كما يبدو جليًا أن تهميش دور الدولة حتى إلغائه كليًا يصبّ في مصلحة مراكمة رأس المال في أيدي قلة قليلة جدًا لا تتعدى نسبتها 1% فقط وأحيانًا أقل. وهو ما يؤدي إلى خلل بين في قدرات وإمكانات المواطنين، وفق ثروتهم المادية التي تنعكس كذلك على فرصهم في الحصول على تعليم جيد ورعاية صحية مناسبة وفرص عمل مميزة ذات دخل مادي جيد، وهو ما ينطبق بصورة شبه كلية على الدول المتحضرة والمتطورة ذات المؤسسات الديمقراطية الليبرالية الراسخة.
- دور الدولة في دول العالم الثالث:
يؤمن البعض بقدرة مجتمعات الدول الديمقراطية المتطورة على ضبط لجام الليبرالية المتوحشة، عبر العملية الانتخابية والحركات الاحتجاجية النقابية والجامعية، وعلى الرغم من عدم اتفاقي مع هذا الطرح المتفائل، لتجاهله العديد من العوائق أمام إنتاج تغيير حقيقي عبر تلك الاحتجاجات؛ فلن نختلف حول غياب آليات التحكم الشعبي في دول العالم الثالث عمومًا، ودولنا العربية خصوصًا، التي تسودها حكومات استبدادية وإقصائية تحتجز المجتمع وتمنعه من مجرد التعبير عن ذاته، فكيف له أن ينظم نفسه ويعمل على فرض رؤيته السياسية والاقتصادية على الدولة، وهو ما يتطلب تغييرًا جذريًا يطيح بمجمل البنية المسيطرة.
بيد أن الإطاحة بالقوى المسيطرة تُعدّ خطوة منقوصة وغير كافية في دول العالم الثالث، ودولنا العربية خصوصًا، وإنْ امتلكت الحركة الاحتجاجية والثورية الشعبية رؤيتها ومشروعها السياسي والاقتصادي الواضح الأبعاد، نظرًا للصعوبات المفروضة إقليميًا ودوليًا على أي مشاريع تنموية حقيقية، فالنمط الاقتصادي المسيطر عالميًا اليوم هو نمط إمبريالي، يقوض إمكانات تطور الدول الناشئة والساعية للتطور، ويفرض عليها نمطًا تبعيًا كخيار وحيد وربّما أوحد، وهو ما يتبدى في عدد من الدول التي تحظى بمستوى مقبول نسبيًا من الديمقراطية السياسية، دون أن تترافق مع تطور ملحوظ في إمكاناتها العلمية والتقنية وتطورها العلمي عمومًا والإنتاجي خصوصًا، كسنغافورا وماليزيا وتركيا والبرازيل والهند… إلخ. طبعًا هناك مماسك كثيرة وعديدة على بنية هذه الدول سياسيًا، إذ لا ترقى أي منها إلى مستوى الدول الديمقراطية بنسختها الليبرالية المعاصرة، ولم تتمكن أي منها من بناء اقتصاد إنتاجي متطور، يخترق الصناعات الأكثر تطورًا ومحورية على المستوى العالمي، لصالح اقتصاد مبني على القطاعات المالية والسياحية والإنتاجية التجميعية وعلى استخراج وتصدير ثروات البلد الباطنية والزراعية التي تفرضها الشركات الرأسمالية الكبرى، كمنتج ماليزيا الأول زيت النخيل.
وهو ما يتطلب رؤية ومخططًا محكمًا لتجاوز معوقات الدول الرأسمالية والإمبريالية الكبرى، يتيح للدول الناشئة تأمين حد أدنى من متطلبات التطور والنمو العلمي والإنتاجي، كي تنجح لاحقًا في بناء اقتصاد قوي ومستقل غير مرتبط بمحددات الدول الكبرى وخطوطها الحمراء. الأمر الذي يتطلب دورًا مركزيًا من قبل الدولة الوطنية، يتجاوز حدود دورها الاجتماعي والخدمي الذي تحدثنا عنه في الدول التي حققت التقدم والتطور العلمي والإنتاجي صناعيًا. أي لا يمكن قصر دور الدولة في دول العالم الثالث على الإطار الاجتماعي فقط، ولا بد من أن تؤدي دورًا مركزيا في العملية الاقتصادية والإنتاجية، وهو ما يثير مخاوف لدى شرائح واسعة من المثقفين العرب، نظرًا لما يعدونه عودة للنظام الذي كان سائدًا في الاتحاد السوفيتي والدول المشابهة له.
طبعًا يخلط البعض بين حقيقية النظام الاشتراكي السوفييتي، وبين الأنظمة العربية الرثة ذات الخطاب الاشتراكي، وبغض النظر الآن عن هذا التفصيل الهامشي هنا، لا بد من التعمق في أسباب هذه الدعوة، والبحث عن وسائل معالجة الأخطاء التي أفشلت التجربة السوفيتية، للعمل على خلق تصور أكثر مرونة، وأكثر تلبية لاحتياجات المنطقة والشعوب والدول. فمن النقاط الرئيسية المطلوب تجاوزها مستقبلًا كيفيةُ تأمين بيئة قانونية ودستورية تتيح للقطاع الخاص الاستثمار داخل دولنا الوطنية، بالتزامن مع دفعه نحو استثمارات تنموية تطور البنية الاقتصادية الإنتاجية، وتطور أيضًا النظام التعليمي، وتستثمر في مراكز الأبحاث العلمية وفي الكفاءات البشرية المحلية وتربطهما بالعملية الإنتاجية. فهذه هي القطاعات والمجالات المحظور على الدول الساعية للتطور والتنمية الحقيقية ولوجُها، وهو ما يجب على الدولة فرضه عبر القوانين والتشريعات، ومن خلال تحفيز القطاع الخاص للاستثمار فيها، بما يضمن أيضًا تحديد قدرات الدولة التسلطية وقوتها الأمنية الداخلية، أي أننا بحاجة إلى هيكلية متكاملة تعمل على تقليص قدرات الدولة التسلطية والأمنية الداخلية، وتضمن فصلًا كاملًا بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية والإعلامية، بالتزامن مع تنمية دورها الاجتماعي، كي تتمكن من تلبية حاجات المجتمع صحيًا وتعليميًا وتنمويًا، وكذلك بما يخص دورها الاقتصادي الواضح على مستوى التخطيط الاستراتيجي، ووضع النظم التي تشجع على زيادة الاستثمارات الخاصة فيها، وعلى ربط هذه الاستثمارات بمشاريع الدولة التنموية.
- الملكية الفردية:
تمثل الملكية الفردية أحد أهم مواضيع الخلاف التقليدية بين الليبراليين والماركسيين تحديدًا، واليساريين عمومًا. وهو الخلاف الذي حاولت المقالة تجنبه، من خلال عدم الغوص كثيرًا في هذا التفصيل المهم، حيث اكتفى الباحث بعرض رؤيته للديمقراطية الاقتصادية بشكل مبهم قليلًا، ربّما لمحاولته التوسط بين النظرتين المتناقضتين بخصوص المفهوم، ليبراليًا وماركسيًا، إذ قال: “ستقوم الديمقراطية الاقتصادية على اقتصاد السوق الحر، حيث سيبقى التملك حرًا بدون قيود، والاستثمار حرًا، والدخول إلى السوق والخروج منه حرًا، وتشكل الأسعار في السوق يبقى حرًا، وفق آلية العرض والطلب، وضمن هذه السوق الحرة، ستعمل قوى الديمقراطية الاقتصادية لتنمية عدالة اجتماعية أعلى، وستعمل من خلال قناتين: الأولى هي زيادة حصة الأجور من الدخل؛ والثانية هي توسيع قاعدة الملكية وزيادة عدد المالكين، وتنمية حصة الملكية المشتركة والجماعية ودورها في عملية الإنتاج وفي التأثير السياسي والاجتماعي”. وأعتقد أن هناك بعض التناقض أو على الأقل بعض الغموض، في الفقرة السابقة، يتطلب شرحًا أكثر وتوضيحًا أكبر، للآلية الديمقراطية الاقتصادية الهادفة إلى توسيع قاعدة المالكين والملكية، وتحفيز الملكية المشتركة والجماعية، فهل يقصد أنها ممكنة عبر الدعاية والإعلان والتثقيف بأهميتها، أم عبر التشريعات والقوانين المشجعة لها؟ وفي الحالة الأخيرة، ألا يحد ذلك من حرية الملكية الفردية التي أشار إليها في بداية الفقرة المذكورة؟!
طبعًا أدرك جيدًا إشكالية الموضوع ومقدار الجدل الذي قد يتبع هذا النقاش، غير أن الانطلاق من فكرة المقالة المتمثلة في مركزية وأهمية العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وخطأ الاكتفاء بديمقراطية سياسية وفق النموذج الليبرالي، يفرض علينا نقاش موضوع الملكية. لذا أعتقد أن من المفيد في البداية ملاحظة دور الدولة في ضبط الحرية السياسية، أو لنقل في ضمان عدالة تطبيقها وفق الآليات والأعراف المعمول بها ليبراليًا، كفصل الدين عن الدولة، ونبذ الجماعات العنيفة والعنصرية، حيث تفرض الدول ومؤسساتها القانونية والتشريعية والدستورية بعض القوانين الناظمة للمسار الديمقراطي، وفق اعتقاد مفاده أن هذه القوانين والإجراءات تكفل المساواة في الفرص، وتضمن حق التعبير وتصون حياة وحقوق المواطنين. وبالتالي؛ لا يجد الليبراليون والمثقفون الديمقراطيون أي حرج من هذه القوانين، حتى لو فرضت بعض القيود على حرية المتعصبين والعنصريين والفاشيين، فالحرية السياسية تفرض محاربة ومنع سيطرة مثل هذه الأفكار والمجموعات. ويتم ذلك عبر منظومة متكاملة تعليمية وإعلامية وتشريعية، كي تتعزز قيم الليبرالية الديمقراطية، وتلغى القيم المغايرة لها، بما يشمل قيم ومبادئ إنسانية مناهضة لليبرالية أحيانًا. وهو ما يدفعني إلى الاستغراب من رفض نقاش أهمية فرض قيود، ولو محدودة، على الملكية الفردية وملكية وسائل الإنتاج، والإقرار بدور الدولة وبنيتها الفوقية كاملة؛ إعلاميًا وتعليميًا وتشريعيًا؛ في تشجيع الملكية الجماعية والتشاركية، وتطويرها وتعزيز دورها الاقتصادي، حتى تصبح الشكل الأكثر رواجًا في ملكية وسائل الإنتاج الصناعية والزراعية والمعرفية والتقنية. طبعًا لا أدعي قدرتي الآن على تحديد هذه القوانين والإجراءات بدقة ووضوح، فالموضوع شائك ودقيق في آن معًا، ويحتاج إلى جهود بحثية ومعرفية متعددة ومتخصصة وجماعية، فضلًا عن مراجعة حثيثة للتجارب العالمية السابقة، بنسختيها الاشتراكية والليبرالية، مرورًا ببعض التجارب الأقل انحيازًا إلى أي منهما. لكن الخلاصة الأساسية من كل ذلك أن العدالة الاقتصادية والاجتماعية، أو الديمقراطية الاقتصادية -كما يحلو لسمير تسميتها- توجب التحرر من تقديس حرية التملك المطلقة ولا سيما ما يخص وسائل الإنتاج، والانفتاح على تحديد القواعد التي تهذب هذه الملكية وتعزز العدالة والمساواة والحرية الفردية، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وهو ما آمل أن يتم البحث به ونقاشه بجدية قريبًا، بعيدًا عن هيمنة الخطاب الرائج عالميًا.
- الخلاصة:
إن التخوف من التجربة السوفييتية يحتاج إلى بحث عن حلول تتجنب الإشكالية الضخمة التي وقعت فيها، بدلًا من نبذها كاملة، كرأسمالية الدولة وبيروقراطيتها، والحد من القدرات البشرية وتأطيرها في قوالب جامدة مغلقة، وصولًا إلى تقويض الحرية الفردية السياسية منها والاجتماعية والثقافية. فهي تجربة مهمة، على الرغم من كل سلبياتها، ولا تقلّ أهمية عن التجربة الرأسمالية الحافلة هي الأخرى بالعديد من المظاهر السلبية، التي سلطت المقالة المذكورة الضوءَ على أهمّها. فمن الواضح، وفق المسار التاريخي العالمي، ومن توازن القوى الحالي، عجز دول العالم الثالث عن كسر الفيتو الإمبريالي المفروض على تطورها ونموها، دون تعزيز دور الدولة الاقتصادي، ولو انحصر في إطار التخطيط والتنظيم الاستراتيجي ودعم المشروعات الكبرى المرتبطة بإمكانات البلد الطبيعية وثرواتها الباطنية، وبما يضمن عدم الانجرار نحو سلبيات النموذج السوفييتي من رأسمالية الدولة وبيروقراطيتها ودكتاتوريتها.
أما في الدول المتطورة والمتحضرة والديمقراطية، وفق مفاهيم العصر الراهن، وبغض النظر عن مكامن الخلل في المنظومة الديمقراطية الليبرالية، فهي الدول التي قد تنجح في تحقيق عدالة اقتصادية واجتماعية -كالتي أوضحها مقال الباحث- عبر الإجراءات الدستورية والقانونية التي اقترحها والمتمثلة بقوله: “يتعزز نمو الملكية المشتركة وحصة الأجور من الدخل، بحزمة من السياسات القطاعية في سوق العمل وتشريعات الملكية والسياسة الضريبية والمالية والنقدية وقروض المصارف وشروط التمويل وغيرها، ويضيق المجال عن التفصيل أكثر في ذلك”.
تسلّط مقالة الباحث الضوءَ على دور ووعي الطبقات المتوسطة والمفقرة من صغار الكسبة، في فرض هذه القوانين والدساتير، بقوله: “تنمو الملكية المشتركة، وتنمو الديمقراطية الاقتصادية، بقدر ما ينمو وعي الناس ووعي المشتغلين بمصالحهم، وبقدر ما تنمو قدرتهم على العمل الجماعي المنظم، في وجه كتلة المالكين الكبار، وبقدر ما يتبلور تصور لبديل (طريق) محدد واضح ومتكامل”. وصولًا إلى قدرتهم على تنظيم وعيهم ومطالبهم سياسيًا، عبر أحزابهم الخاصة بهم والمتحررة من سطوة وهيمنة رأس المال، وهو أمر ممكن التحقيق نظريًا في دولةٍ كفرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية، بينما أجده مستبعدًا أو صعبًا جدًا -عمليًا- نتيجة ممانعة الأحزاب المحكومة من قبل رأس المال أولًا، ودور الدولة ومجمل البنية الفوقية المسيطرة، إعلاميًا وتعليميًا وثقافيًا، وصولًا إلى دور جهاز الشرطة والأمن الأقل بروزًا في هذه الدول ثانيًا. فقد أخبرتنا التجارب الشعبية الماضية العربية منها والغربية، ومن ضمنها تجارب الاحتجاجات الأميركية والفرنسية والأوروبية، أن النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية يمرّ بطرق شائكة ومتعرجة، وبكثير من العوائق والمطبات التي يخلقها أصحاب المصلحة من أجل تقويض عملية التغيير، وهم الذين يملكون المال الكافي للسيطرة على جميع مفاصل الدولة وأجهزتها.
وعلى ذلك؛ أتفق حول ضرورة تنظيم المفقرين وصغار ومتوسطي الدخل ضمن بنى حزبية جديدة، تطرح برنامجًا ثوريًا وواقعيًا، ينطلق من أولوية ومحورية وتكامل الحرية والعدالة والمساواة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والقانونية أولًا، وتعيد تعريف الدولة وتحديد أدوارها ومسؤولياتها الوطنية وفق مكانة وقدرات الدولة ذاتها، ووفق فهم وتحليل الظرف الدولي النابذ لهذا المشروع أو الحاضن له، ثانيًا، وتعمل على خرق البنى والمفاهيم الجامدة التي أفرزها الصراع الأميركي – السوفيتي في القرن الماضي، ثالثًا. من أجل خلق مفاهيم معاصرة تلبي حاجات الشعوب ومتطلبات التطور والتنمية، وتضمن للشعوب دورها في الحكم عبر ممثليها المنتخبين، تمامًا كما تضمن محاسبتهم الفورية على أي تقصير أو انحراف عن أهداف وتطلعات الغالبية العظمى، بعيدًا عن هيمنة رأس المال وتحكمه في مجريات الأمور، نسبيًا أو كليًا.