المحتويات
كلمة العدد الأوّل من مجلة قلمون
- في التمييز بين النقد والانتقاد
- وعي صادق الفلسفي
- مسار وعي العلاقة بين الدين والعلم
- العقلانية النقدية والدين
- العلمانية والإسلام في فكر صادق جلال العظم السياسي
- الرائد والمحذّر والثوري
- النقد السياسي للواقع العربي
- صادق العظم واستبطان الفوات
- النقد الجندري المرأة في فكر صادق جلال العظم
- العظم دون جوانًا
- الحداثة وتجلياتها في المنهج النقدي لصادق جلال العظم
- مناقشة لآراء صادق العظم في العولمة
- صادق العظم مثقفًا عضويًا
- النقد المزدوج عند صادق العظم
كلمة العدد الأوّل من مجلة قلمون
تؤكد كلمة العدد الأوّل من مجلة قلمون بقلم الدكتور حازم نهار، مثل مؤسسات مركز حرمون كلها أن سورية ستظلّ واحدة، وأنّها بذلك تشبه سورية المتعدّدة دينيًا وعرقيًا وسياسيًا، وأن تاريخنا العامر بالأحادية السياسيّة يتطلب الاعتراف بالتنوع؛ ففيه اعترافٌ بالواقع، وغنىً له، ولمستقبل السوريين. قلمون تسعى لرؤيةٍ جامعة، توحد السوريين. وهنا تَطرح قلمون قضية مشكلة؛ فـ (الجامعة) في أحد معانيها تعني الأحادية، كذلك وليس فقط ما ذكرنا، ومن ثَمَّ هناك امتحان تقدمه قلمون على نفسها كما حرمون، يتعلق بالاعتراف بالواقع من ناحية، من دون الانغلاق على الذات الجامعة، وفأيّ خللٍ في ذلك قد يتسبب بتشظي الرؤية إلى ما لا يفيد السوريين، ويعزّز إمّا التشظي أو الأحادية القديمة.
المقالات
على هامش الوطن
يتصدى الدكتور يوسف سلامة في مقالةٍ مهمة (على هامش الوطن) لإشكالية الوطن، ويرفقه بمفهوم الهامش، ويستعرض مقولات فلسفية عن الزمان والمكان والكمية والكيف، ليقدم رؤية فلسفية عن معنى الوطن فلسفيًّا الذي يتضمن أيضًا اللاوطن، ويجول في تعقيدات الأمر من خلال مفهوم المتن (الوطن) والهامش (اللاوطن)، فيُعلي كذلك من شأن الهامش ما دام الوطن ذاته لا يعترف بالبشر أي هو ليس بوطنٍ، فيصبح الهامش أهم وأغنى وأثرى. وفي الأسطر الأخيرة من مقالته يقول: «إن منع الإنسان من حقه في المشاركة بالفعل السياسي سيؤدي آخر الأمر إلى تشظي الشخصية الإنسانية، وإلى تأكل الهوية.». هنا يركز سلامة على الوطن بالمعنى السياسي، ومن دون المشاركة السياسية يتقلص المعنى الوجودي للإنسان طبعًا، ومن ثَمَّ سيندفع نحو هويّاتٍ غير وطنيةٍ وهامشية. سلامة يفاجئنا بأنّ الهامش ذاته قد يتحول إلى وطن، ولكن كذلك قد يندفع الفرد والجماعات الهامشية إلى (بربريّة) ما، وبعد ذلك تختلط المفهومات، لأن الوطن أصبح متخمًا بالتشتت بين متن وهامش وثالثة التداخل بينهما. «الهامش قد تحوّل إلى متنٍ، بينما تحوّل الوطن إلى هامش صغير على هامش أكبر.».
هذه النتيجة إشكالية. إن الوطن يظلّ، وعلى الرغم من تعقيدات ما يمرُ به مواطنوه، هو بالتحديد المكان والزمان والذاكرة التي يجب الانطلاق منها والعودة إليها، وتغييرها ليصبح وطنًا، ولائقًا بسكانه ولا هوامش فيه.
الوعي والتاريخ
يكتب الدكتور أحمد برقاوي مقالًا، بعنوان (الوعي والتاريخ) يتصدّى فيه لعلاقة الوعي بالتاريخ؛ فالوعي تارةً يؤبّد الحاضر، وتارةً يرى المستقبل انطلاقًا من الحاضر، وهو الوعي الأهم والأدقّ. المقال ليس معنيًّا بقراءة التاريخ ذاته بل بقراءة الوعي في التاريخ؛ ولأن السياسة تحكم الواقع بصورة رئيسة، فالمقال يناقش قضية الإرادة الوهمية التي ترغب في إيقاف حركة التاريخ، وحشره ضمن بنية قديمة أصبحت حقائقُ التاريخ تقول بانتفائها. ومن هذه الزاوية يتمحور مقاله حول دور إيران في تسييس الوعي للطوائف الشيعية في العراق وسورية واليمن ولبنان، وأن هذا التسييس ضد التاريخ سيؤدي بالضرورة إلى تسييسٍ طائفيٍّ للسنة، ولكن ذلك ليس من التاريخ الحقيقيّ والمتغيّر في شيء. برقاوي لا يتصدّى لدور الإخوان المسلمين بالتحديد في مقاومة الإصلاح الديني ونزع التطييف عن الطائفة السنية، وكذلك لا يتصدى لدور السعودية في تطييف السنة قبل الثورة الإيرانية وتطييفها للشيعة العرب. المقال يقول بفساد هذه الصراعات الطائفية، ويتساءل في نهايته: «أنا لا أعرف كيف يمكن أن تُخلق القوى الديمقراطية الإنسانية المدافعة عن الحياة، وحق الحياة، وتخلق الإرادة فيُنقل الممكن الديمقراطي إلى الواقع». ربما كان على الدكتور برقاوي وهو أستاذ الفلسفة، أن يتصدّى لهذا السؤال بالتحديد، فهو الأدق بعد ثوراتٍ عربية تكاد حصيلتها أن تكون انتصارًا للثورات المضادة. برقاوي ذاته يُنهي مقاله قائلًا: «هل الممكن الديمقراطي حاضر في قلب التاريٍخ، ويحتاج إلى الإرادة المطابقة له؟ هذا السؤال يحتاج بدوره إلى حفر ونظر».
ملف العدد
مجلة قلمون وضعت لنفسها مهمة جديرة بالاهتمام، وهي إنجاز ملف في كل عدّد، وبدأت بمناقشة تجربة مؤلفات الدكتور صادق جلال العظم الذي غادرنا. وربما كان الأفضل لو اختيرت بعض المقالات الأخيرة له، ولا سيما المتعلقة بمفهومه عن (العلوية السياسية) أو تحليله الثورة السورية بعامة، لا الاكتفاء بقول أنّه كان مؤيدًا لها مثل ما كرّرت أغلب مقالات العدد «أنّه كان معها سواء “تأسلمت أو تعلمنت”».
العظم اسم مهم في المناقشات السورية، ولكن مؤلفاته تعالج ظواهر محدّدة بعينها، أي لا يعالج قضايا المجتمع بكلّيته، ولو استثنينا الجامعية منها، وكتابه الحواري المهم (دفاعًا عن المادية والتاريخ)، فإن نتاجه الفكري لا يسمح لنا بتسميته فيلسوفًا؛ ليس لأنّه لم يضع مذهبًا فلسفيًا خاصًا، وهذا أمر نادر الحدوث، ويقتصر على بضع أسماء منذ بداية الفلسفة، ولكن يمكن القول إنّه كان باحثًا مرموقًا ومساجلًا عظيمًا، ولست مع الرأي القائل بأنّه كان يساجل من أجل السجال وحده، فهذا يبخس الرجل حقه، ولا سيما أنّه عالج قضايا مثارة ثقافيًا وسياسيّا ودينيًا «الفكر الديني، أسباب الهزيمة، العولمة، فلسفة ما بعد الحداثة، ذهنية التحريم، وهكذا».
في التمييز بين النقد والانتقاد
أولى الدراسات للدكتور حسام الدين درويش وهي بعنوان (في التمييز بين النقد والانتقاد)، وضع أربعة معايير لقراءة نتاجات العظم من خلالها، وهي «أولًا: النقد تقويمٌ مسوّغٌ والانتقاد تقويمٌ غير مسوّغٍ، وثانيًا: النقد تقويمٌ محايثٌ أو داخلي والانتقاد تقويمٌ مفارقٌ أو خارجيُّ، والثالث: النقد يهتم بالإيجابيات والسلبيات، الانتقاد يركز اهتمامه على السلبيات فحسب ورابعًا: النقد/ الانتقاد بين سلبية وظيفة عملية التقويم وهدفها أو إيجابيتها». أظهر من خلال معاييره هذه تدقيقًا في نتاجات العظم، وفي رأيه أنً العظم شذّ في مؤلَّفين له عن النقد، أي اعتمد على الانتقاد، فالنقد يشمل الإيجابيات والسلبيات بينما الانتقاد يعنى بالسلبيات؛ وكتبه هذه هي (دفاعًا عن المادية والتاريخ)، و(نقد الفكر الديني). ينقد درويش الكتاب الأول، إذ يُعمّم فيه العظم أحكامه على الفلسفة ما بعد الحديثة، ويهمّشها بأسطر عدة، ومن دون أيّ أعمال درسيّةٍ وبحثية تستند إلى تلك الفلسفة. الأمر ذاته في الكتاب الثاني، فهو يقدّم نصوصًا في مواجهة نصوص، أي ينتقد الفكر الديني من خارجه، واستنادًا إلى أفكار علمية وماركسية، وبذلك يبتعد عن النقد ويقترب من الانتقاد بوصفه عملًا (خارجيًا)، وغير محايث ولا يتابع النصوص من داخلها. مؤلَّفاته الأخرى، ولا سيما (ذهنية التحريم)، و(ما بعد ذهنية التحريم) وسواهما من المؤلفات، يكتبها العظم وفق منهجية النقد، أي دراسة الظاهرة من داخلها ومن نواحيها كلها، وهذه هي سمة كتابات العظم.
يتناول درويش مفارقة في نصوص العظم، تتحدث عن الانتقال من تعداد أسباب الظاهرة التي تفيد بانهيارها، إلى تقديم الأمل بتغيير “تقدميٍّ” فيها، أي لا يجد سببًا حقيقيًا لهذا الانتقال من الانغلاق وإلى الانفتاح. درويش يفسر الأمر بأنّه يعود إلى رؤية العظم الماركسية، إذ تهتم بالتفسير والتغيير. ربما هذا الكلام أقرب إلى الدقة، ولكن العظم حينما حاول درويش استنطاقه، وكيفية الانتقال من الانغلاق والتأخر، فلا يجد إلّا تكرارًا لمقولات سائدة حينذاك، أي إنّ الحل في «الوحدة العربية، والتضامن العربي، وحشد الطاقات العربية كلها». الإشكالية هنا بالتحديد، فغياب الرؤية الشاملة للواقع، وتبنّي العظم لفكرة ماركسية حينها، تقول إن العلم هو الأساس وليس الفلسفة، هو ما أوقع العظم في الانشغال بظواهر محددة، واعتماد حلول عامة ومتداولة كما كان سائدًا حينها. والأمر ذاته تكرّر مع مقولته «أنا مع الثورة سواء تأسلمت أو تعلمنت»، ومن ثَمَّ لم يتناول أسبابها ولا أسباب تحولها في الاتجاهين، ولا تصويب ذلك، علمًا بأنّ مهمّة المثقف هي هذه بالتحديد، ولا سيما في زمن الثورات، وطالما يدعي الانشغال بها.
وعي صادق الفلسفي
المقال الثاني للدكتور أحمد برقاوي (وعي صادق الفلسفي). يتناول مقاله كتاب العظم (دفاعًا عن المادية والتاريخ)، ويرى أن العظم «ينتمي إلى الفلاسفة الماركسيين اللينينيّين»، أي إنّ العظم يعتمد المنهجيّة الماركسية اللّينينية في تفسير الفلسفات الحديثة، ولا سيّما في قضيّتي المادية والمثالية، ويؤكد العظم أن العلم هو الأساس في ظهور الفلسفة الحديثة، وهذا ما يرفضه برقاوي ناقدًا، فالعظم برأيه «يرفض رفضًا قاطعًا أن يكون العلم والفلسفة ثمرتان للعبقريات»، هنا يرفض رؤية العظم المادية للتاريخ وللفلسفة، ويؤكد على الفردية ودورها في الإبداع، فيقول مثلًا في رفض نقد العظم لهايدجر «إنه فيلسوف أراد أن يعود مرة أخرى إلى السؤال عن الكينونة بوصفها (الدازاين»). ومن ثمَّ لا يحق للعظم أن ينتقده في ذلك. برقاوي يرفض وجود قوانين معينة للتاريخ، ولنقل ميول معينة، ولهذا يركز على الفردية والأنا، وهنا يقع في الخطأ كما نظن؛ فما تدرسه العلوم الحديثة من علم الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وليس التاريخ فحسب، يؤكد الميول الموضوعية. برقاوي يرفض كذلك دور العلم في إنتاج مفهومات فلسفية جديدة كما يرى العظم، ويؤكد أن المفهومات الفلسفية التي قصدها العظم هي القديمة ذاتها. هذة المناقشة المفيدة بين المفكرين، تنغلق كليًا، وكأنّ لا لقاء مشترك بينهما؛ هنا المشكلة، لكل مفهوماته ورؤيته، ومن ثَمّ لا يرى برقاوي العظم في نتاجه أكثر من فيلسوف (أصولي عقائدي) ماركسي لينيني، يقرأ الفلسفة الحديثة والقديمة كلها وفق سرير بروكرست. وهذا ليس بصحيح، فالعظم يسرد أسباب تبنيه لأفكارٍ معينة، وهذه منهجيته في مؤلفاته كلها، وأخيرًا يُخرج برقاوي العظم من الماركسية والفلسفة، فهو ماركسيٌّ لينينيٌّ. الأخير اشتُهر زعيمًا اشتراكيًا وقائد ثورة أكثر من كونه فيلسوفًا ماركسيًا، ويتجاهل برقاوي مؤلفات لينين الفلسفية والاقتصادية من مثل المادية ونقد المذهب التجريبي، أو الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، والدفاتر الفلسفية وسواها.
مسار وعي العلاقة بين الدين والعلم
ثم يكتب الدكتور رشيد الحاج صالح دراسةً بعنوان (مسار وعي العلاقة بين الدين والعلم)، يتبع فيها تقسيمًا ثنائيًا لتاريخ العظم الفكري، ينتهي القسم الأول في عام 1995 وبعدها يبدأ الثاني، ويضع سمات لمنظور العظم للعلاقة بين الدين والعلم وهي مختلفة في المرحلتين. ففي المرحلة الأولى لا يفصل العظم في رأي الحاج صالح بين الجانب الميتافيزيقي للدين والجانب التاريخي والسياسي والثقافي، ويصف منظور العظم بـ (العلموية) أي تسييس العلم وافتراض أن الحقائق تصدر عنه فحسب، وأن كل حقائق صادرة عن الدين مثلًا ليست بصحيحة، وهذا يتجلى في كتاب العظم (نقد الفكر الديني)، ومن ثَمَّ فقد ضحى العظم بالإسلام بقضّه وقضيضه، ويفسر ذلك الحاج صالح بأنّ فهم العظم للعلم كان فهمًا تجريبيًا ماديًا. في المرحلة الثانية، يتجاوز العظم منظوره (العلموي)، ويتبنى منظورًا علميًا للدين، فيفصل فيه بين العقائدي والميتافيزيقي من ناحية، والتاريخي من ناحية أخرى، وبذلك يقول العظم إن العلم ينسجم مع الإسلام التاريخي، ولكنه يتناقض معه في العقائدي والميتافيزيقي. الحاج صالح يتوسع ناقدًا العظم في أنّه كان على خطأ حتى في ما يخص الميتافيزيقا، فرأي باحثنا، أن الفيزياء المعاصرة لا تحتاج إلى الفلسفة فحسب بل إلى الميتافيزيقا كذلك، ويذهب بنقده بعيدًا حينما يقول «إن اهتمام العلماء المعاصرين بالميتافيزيقا يكاد يكون معدومًا، وهذا هو السبب في عدم تمكّن الفيزياء المعاصرة من تحقيق أي مكتشفات كبيرة في المدة الأخيرة»، وينتهي بقولٍ ميتافيزيقيٍّ خالصٍ «فما وراء الطبيعة وجهة علماء الفيزياء الكبار في أحلك الأوضاع، ويبدو أنها قدر الفيزياء».
الحاج صالح ومن خلال انتقاداته واعتماده على علماء الفيزياء يريد تثمين العقائد الدينية ذاتها، وعدّها أيضًا علومًا، وأنّها تقدم حقائق لنا لم يكتشفها العلم (التجريبي) بعد؛ الحاج صالح بذلك يخلط بين الدين بوصفه منظومة عقائدية تخص جماعة بشرية محدّدة، وهناك ما يشبهها من عقائد كثيرة في أصقاع الأرض، والعلم التجريبي الذي يدرس الظواهر الطبيعية للوصول إلى قوانين كليّة بما يتعلق بالظاهرات المدروسة، وهي ظاهراتٍ موضوعية وكونية، ومع ذلك تظل القوانين ذاتها قابلة للتطور مع اكتشاف جوانب جديدة للظواهر أو ظواهر جديدة. هذه النظريات تتطلب خيالًا واسعًا لبناء الفرضيات قبل ذلك بالتأكيد، ولكن هذه الفكرة قضية مختلفة عن الميتافيزيقا والماورائيات بالمعنى الديني.
في كل حال هناك تيار فيزيائي يقول بالنسبية المطلقة والاحتمالية المطلقة، وهو تيار يحاول جاهدًا نسف الموضوعية والقوانين والمطلق، وهذا ما رفضه العظم في نقده فلسفات ما بعد الحداثة في حوارياته (دفاعًا عن المادية والتاريخ).
العقلانية النقدية والدين
الدكتور فالح عبد الجبار يبحث في (العقلانية النقدية والدين) عند العظم. فيبدأ بتأصيل حركة نقد الدين عربيًا، فيرى أن هذه الحركة بدأت بالدولة العثمانية والفارسية، ثم تجلّت عبر الأفغاني ومحمد عبدو وخير الدين التونسي، ويشكل العظم مدماكًا فيها في كتابه (نقد الفكر الديني)، إذ كان يَعد أن للدين «جوهر أحادي» ولاحقًا انتقل العظم إلى القول «بثنوية؛ انشطار وانقسام». يجول عبد الجبار بإحدى عشر ملاحظة في كيفية تمظهر الدين، ويؤكد ضرورة أن تُدرس هذه المجالات، وتُكمّل جهد الباحثين والعظم، من أجل عقلانية عربية وإصلاح حقيقي. عبد الجبار يشدد على الجوهري عند العظم، ويرى أن الهامشي أو العرضي ليس هو ما يُنقد لدى العظم من مثل موقفه الخاطئ من «التجربة التركية أو الثورة الإيرانية». وينتقد العظم في أنّه لم يوجه نقده «للمؤسسة الدينية أو للتدين الشعبي». وعني في نقده بالبعد الإبستيمولوجي في الستينيات وحركات الإسلام السياسي في التسعينيات.
يطرح عبد الجبار فكرة مهمة، وهي ضرورة ظهور (التخيل القومي للجماعة) أي للعرب، والتخلي عن التخيل الديني القديم، وهي مسؤولية الثقافة من ناحية والدولة من ناحية أخرى. ففي تغيير المخيال هذا يمكن أن تتشكّل هوية جديدة تحل مكان السابقة.
كما أحمد برقاوي ورشيد صالح كذلك كان فالح عبد الجبار، فهو يهُمش القول بأن المجتمعات تتحرك وفق ميول موضوعية، وأن الأفراد برأيه هم المجتمع، وهذا أمر يُريح المثقف من الدراسة الدقيقة لمستويات المجتمع وإظهار كيفية تحركها، وهنا نؤكد أن القانونية في علوم الطبيعية مسألة إمبريقية وقابلة للقياس، بينما الأمر غير ذلك في المجتمع، ولهذا ربما يهرب المثقف للتحدث عن دور الأفراد في صناعته، وهذا ما لا يمكن القبض عليه، فالأفراد يشكلون المليارات ومن ثَمَّ لا قوانين جامعة لهم، وليس من علاقات موضوعية ينخرطون فيها لأسباب تاريخية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو توقعات ممكنة لسير حركة المجتمع.
العلمانية والإسلام في فكر صادق جلال العظم السياسي
يشارك الدكتور عبد الباسط سيدا ببحثٍ صغير (العلمانية والإسلام في فكر صادق جلال العظم السياسي)، حاول فيه التصدي لمفهوم العلمانية، واعتمد تقسيم عبد الوهاب المسيري إلى علمانية شاملة وعلمانية نسبية وجزئية، ويرى في نهاية المقال أن العظم أصبح أقرب إلى العلمانية النسبية، التي تؤكد حياد الدولة تجاه الأديان والمذاهب الدينية المختلفة واستيعابها في إطار مؤسساتها، وبما لا يناقض مبدأ الحياد وفصل الدين عن الدولة. لفت انتباهي في مقالته القول الآتي «جذور هذه المشكلة –أي العلاقة بين الإسلام والعلمانية- وبداياتها، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه في المجتمعات»، ربما لم ينتبه سيدا –ويقول الأمر ذاته عزيز العظمة- إن العلمانية لم تكن مطروحة أبدًا حينئذ، ربما الأدق دراسة التاريخ القروسطي وعلاقاته بالدين، وتمييز تيارات الفكر فيه آنذاك من زاوية الدين أو العقلانية. ونضيف هنا بأن مفهوم العلمانية مفهوم حديث ومرتبط بمشروع النهضة الأوروبي وعصر التنوير والدولة القومية الحديثة، فمع الحداثة طُرحَ إشكال العلاقة بين الدولة والدين والعلمانية وحياد الدولة.
ويكرّر سيدا أيضًا مقولة العظم إن إسلام التجار والبازار هو الذي سيسود، أي الإسلام الأقرب إلى الشعبي والبعيد عن التسييس؛ والسؤال أليس الإسلام المعتدل هذا هو السائد في بقية المجتمعات، وأن التطرف هي حالة استثنائيّة وسياسيّة على أغلب تقدير. إن مقولة العظم هذه لا تضيف جديدًا يُميزُ إسلام سورية بحالٍ من الأحوال، فالتطرف والجهادية وحتى السلفية السياسية ظواهر هامشية لدى المؤمنين بالدين الإسلامي.
الرائد والمحذّر والثوري
الباحث كارستن فيلاند يكتب بحثًا شيّقًا بعنوان (الرائد والمحذّر والثوري) انشغل بمتابعة مواقف العظم، وتتناول مقالته (أوهام العظم السياسية) من مثل قول العظم بانتهاء الأصولية التقليدية، وأنّها «وصلت إلى لحظاتها الأخيرة اليائسة» بعد هجمات نيويورك وواشنطن 2001، وأن تركيا أصبحت قدوة لليساريين والقوميين العرب، وأن الربيع العربي يمثل معلمًا إيجابيًا في السياسة العربية المدنية، وتكراره أن الإسلام قابل للعلمنة، وأخيرًا أن الحركات الإسلامية تشكل خطرًا أقل من استمرار الواقع الاستبدادي العلماني.
الأفكار السابقة توضح أن العظم كان متيقنًا (وعقائديًا) بأن العولمة ستخلق واقعًا جديدًا، ويجادل في دراسته المطولة (ما العولمة)، ومن ثَمّ هناك عالم جديد يتجانس بانتقال دائرة الإنتاج كما رأى إلى الأطراف، ومن ثم ستنتهي الأصولية والأنظمة الاستبدادية، و(سيتعلمن) العالم المتخلف بالضرورة.
يرى فيلاند «أن العظم أصبح أكثر استيعابًا لدورٍ مُحتمل لهذا الدين في السياسة… بغياب وجود بديل ليبرالي في العالم العربي»، ويقصد أن العظم أراد الانطواء مجددًا ضمن المفكرين القائلين بإمكان إصلاح الدين التاريخي، مهمة رئيسة للفكر العربي الحديث وذلك لإحداث تغيير في الوعي العام، والولوج في عصر الحداثة. رأى أن مشكلة العظم ليست هنا، فالعظم يرفع من شأن العولمة في تجنيس العالم وتقدمه الكوني، ومن ثَمَّ من الطبيعي بمكان أن يتغير موقفه من الدين باتجاه توافقه مع العولمة، وهو ما يشير إليه في فكرته عن الإسلام التجاري بالتحديد، ومن ثَمَّ ليس إقرارًا بفشل الليبرالية، بل توافقًا مع العولمة فقد تبنى القول بأن الإسلام التاريخي كما تغير في مراحلة تاريخية قديمة يمكن أن يتوافق مع العلمنة، وأقصد أن العولمة تنشر الليبرالية، ومن ثم لا يمكن أن تتناقضا، والعظم مؤمن بسحرهما في تقدم المجتمعات وتجانسها.
النقد السياسي للواقع العربي
تناول الدكتور عبد الله تركماني (النقد السياسي للواقع العربي) لدى العظم، وتطرق لكتبه السياسية ولمقالاته ولآرائه الأكثر تعميمًا في الإعلام، ومن أهم كتبه (النقد الذاتي بعد الهزيمة (1968، و(نقد الفكر الديني (1969، و(دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية (1977 و (سياسة كارتر ومنظِّرو الحقبة السعودية (1977 و (زيارة السادات وبؤس السلام العادل 1978). ولفت انتباهي أن كتاب (النقد الذاتي بعد الهزيمة) بحث فيه من زاوية «بنية التأخر الغيبي، وقصور وعيها التاريخي» بحسب ما يشير تركماني. هناك مناقشة تتحدث عن مفهومات التأخر والتخلف والكولونيالية، والعلاقة بينها في تفسير بنية الواقع العربي وأسباب وضعيتها (المتأخرة)، وما زال الجدل مستمرًا: فهل المسألة في البنية القديمة المتوارثة أم في البنية الجديدة المرتبطة بالكولونيالية بوصفها تكوينًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا جديدًا، وليس فيه تجاهل لمفهوم التأخر، ولكنه يُفسرَه بطبيعة الطبقة البرجوازية الحاكمة عربيًا التي هي تابعة للرأسمالية العالمية، وبسبب مركزية الأخيرة، وتعبيرٌ طرفيٌّ عنها في هذه البلدان، أي إن التأخر ليس هو سبب تخلفنا وهزيمتنا بل التخلف/ الكولونيالية وطبيعة الأنظمة الناشئة هي السبب.
يؤكد تركماني أن العظم ما زال يعدّ الإخوان المسلمين (إصلاحًا مضادًا) لحركة النهضة والإصلاح الديني، ومن ثم فإن دعاويهم بخصوص الدولة المدنية كلها حديثٌ مُلفقٌ ما لم تترافق مع تخلصٍ كليٍّ من مفهومات إسلامية قديمة كما تأكيدهم في بياناتهم الأخيرة حول أن الدولة المدنية مرجعيّتها الإسلام بالضرورة، وبمن ثم هي دولة إسلامية بامتياز.
كان العظم يستخدم مصطلح «المجمع العسكري التجاري الاحتكاري» لتوصيف النظام السوري، ولاحقًا أطلقَ مصطلحًا جديدًا وهو (العلوية السياسية)، وشبهها بالمارونية السياسية في لبنان. العظم بمفهومه هذا، يُضحي بمفهومٍ أصيلٍ وقريب من الواقعية لمصلحة مفهوم أقرب إلى المواقف الإعلامية منه للفكرية، فالعلوية السياسية بوصفها مصطلحًا تفتقد للحزب الطائفي وللمؤسسات الطائفية المختلفة الأشكال، والمستوعبة لحاجات أفراد الطائفة كما حال مؤسسات الطائفة المارونية أو حزب الله مثلًا، بينما رئاسة الجيش السوري أو السلطة السياسية أو أجهزة الأمن فهي محدّدة بشخصيات من الطائفة العلوية، وهي محض شخصيات، ولها الفائدة الأساسية من ثروات الدولة، وطبعًا من دون تجاهل بقية (المُجمّع). الأنكى أن تلاميذه يعدّون المصطلح الإعلامي هذا إنجازًا فلسفيًا استثنائيًا.
صادق العظم واستبطان الفوات
الدكتور عزيز العظمة يكتب دراسة بعنوان (صادق العظم واستبطان الفوات)، يتناول فيها رؤية العظم للواقع ومشكلاته وتعقيداته، وأن العظم رفض مقولة أن مشكلات حاضرنا والتطييف والأصولية مسألة متعلق بالنص الديني، أو قديمة، بل إن هذه الفورة الأصولية متعلقة بـ «أن ما حل بنا كان نتيجة توافر بنى تحتية لوجستية لتحويل الدين، وإعادة تشكيله من دين معيشي يومي إلى دين استعراضي مفرط في الإغراب والاغتراب عن الدين التاريخي المعيش، دين يجعل نفسه في موقع البديل من المجتمع».
ربما سيجد القارئ أن مناقشتي في مفهوم التأخر في فقرة نقد نص الدكتور تركماني، تتناقض مع توضيحي لدفاع العظمة عن العظم، وفي القول إن مشكلات الواقع العربي تتعلق بالحاضر. أوضح فكرتي أن مفهومات التأخر متعلق بالماضي ومفهومات الحاضر مختلفة الدلالات، ومناقشتي تتناول المفهوم، وربما تخلى العظم ذاته عن مفهوم التأخر عبر العقود المتتالية.
على الرغم من تأكيد العظمة أن العظم لم يُقرأ بعد، ويجري النظر إليه من زاوية «ما وجدت إلا المديح المرسل»، فإنّه ينبري للدفاع عن وجهة نظر العظم، وتثمينه للنقد وللسجال، وأنّه كان مُصيبًا في رفض إعادة الثقافة إلى الدين فقط، وأنّ الهويّة تتشكل عبر الدين، أو أن هناك تفارق بين الشرق والغرب وأنهما لا يلتقيان. ويضيف العظمة، ولم لا نعتمد على كلية التراث، وليس فقط على الدين والتراث الديني، فيقول «إن نقاد العظم بخصوص رواية سلمان رشدي “آيات شيطانية” يستندون إلى خرافة ثقافية ترى أن المهم هو التكاتف حول الهوية في مواجهة الخارج».
ويوجه العظمة نقدًا لاذعًا لكتابٍ لطالما عدّوا أنفسهم علمانيين وقد اهتدوا إلى مفهوم الهوية بالمعنى الديني والتمحور حول الدين، فيقول «لمَ يُصار إلى إهداء الأصوليين إعلان استبطان المسلمة الأساس في مسلمات خطابهم السياسي الذاهبة إلى أن التراث قد يتلخص في الدين، وأن الدين قد يُختزل إلى كتاب صنم وشخصية صنم، وأنه– أي التراث– كيان ثابت، وعفة تامة لايدخل الباطل –أي التحول –إليهما، وأنه بذلك فوات صرف ينبغي له نبذ إحدى المهمات الأولى للمثقف؛ المهمة المعرفية والتعليمية.»
وهناك تعريف لافت للعظمة للعلمانية فيقول إنّها «إخضاع للدين ومؤسساته إلى القانون العام الذي ينبغي على الدولة حمايته»، ويؤكد دور الدولة «لا توظف الدولة الناضجة الدين سياسيًا، بل تضبطه قانونيًا وثقافيًا، أي إنها تثقف وتُمدن»، ويوجه رسالة «آن الأوان بعامة للمثقفين السوريين والعرب بعامة أن يقلعوا من ممالأة مقالات الإسلاميين وأبلسة التقدم والعلمانية وعن الانتصار للفوات».
للعظمة عدد من المؤلفات تتناول مسألة العلمانية، ويُصنَّفُ من أنصار العلمانية الشاملة، ولكن من دون عملية اجتثاثية للدين، ويريد بذلك تأسيس دولة حديثة تحمي حقوق الناس وتعيد الدين إلى صدور المؤمنين، وفي هذا يتوافق مع العظم في صراعاتهما ضد أيّ ممالأة للإسلاميين أو الوقوع في نظرات استشراقية معكوسة، وإظهار تمايز ماهوي بين الغرب والشرق وإعادة التطور كله إلى الأخير.
النقد الجندري المرأة في فكر صادق جلال العظم
وتصدت الدكتورة مية الرحبي لـ (النقد الجندري المرأة في فكر صادق جلال العظم» موضحة من خلال مؤلفات العظم رؤيته لحقوق المرأة، حيث المساواة الكاملة بين الجنسين، واستعرضت «النقد الذاتي بعد الهزيمة، وما بعد ذهنية التحريم، والحب والحب العذري»، ووقفت طويلًا عند الكتاب الأخير لما فيه من دراساتٍ تخص واقع المرأة مجتمعيًا، ومن خلال الزواج؛ وفي رأيها أن العظم تبنى الموقف الماركسي بخصوص العلاقة الزوجية التي يجب أن تقوم على (الحب والعاطفة المتبادلة)، وأن هذه العلاقة ستأخذ أبعادها كلها حين الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي. انتقدت الرحبي العظم في تسميته أنظمة الحكم بالتقدمية والاشتراكية، والكلام يخص كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وسمتها بالاستبدادية، وتوسّعت مُستدلة على فكرتها هذه بأن النظام لم يُشكّل أي نقلة في حقوق المرأة، بل إن التعليم العام حسّن من شروط عملها، ولكنها ظلت محكومة بالعلاقات التقليدية، وفي القانون تابعة للرجل وفقًا لقوانين الأحوال الشخصية، وحتى التمثيل السياسي لها كان تمثيلًا وهميًا. وعلى الرغم من أهمية فكرتها هذه، فإن التعليم العام لا شك في أنه أعطى للمرأة مجالات جديدة للعمل وغيّر من موقعها الاقتصادي.
تنتقد الرحبي مسألة تمثيل المرأة سياسيًا، فتجد ضرورة أن تتشكل حركات نسوية مستقلة وتدافع عن حقوق المرأة، وبما يتوافق مع النضال الديمقراطي العام، وتقترح نظام الكوتا شكلًا تمثيليًا لإيصال المرأة لمواقع الدولة كلها، ومناصفة، وذلك بافتراض أن مجتمعنا متخلف إلى حين حدوث تطور عام يؤدي إلى مساواة كاملة مع الرجل (الإله).
وتوضح الرحبي أن المرأة في ما قبل الإسلام لم تكن مساوية للرجل كما يقول هادي العلوي، وقد انتقده العظم في كتابه (ما بعد ذهنية التحريم)، بل كانت بعض النساء ومن طبقات ثرية هي الحائزة على حقوقٍ كثيرة، وفي الإسلام تراجع موقع المرأة تراجعًا كبيرًا مع خسارة عائشة معركة الجمل، واكتمل مجتمع الذكورة «عندما وضع الفقهاء أحكامهم التي أسبغوا فيها المقدس على الأحكام التي رسخت النظام الأبوي».
لا تخطئُ الرحبي في فكرة تشكيل تنظيمات خاصة بالنضال النسوي، والتحالف مع بقية التنظيمات الديمقراطية، ولكن فكرة الكوتا تشكل معضلة حقيقيّة، فهي ستكون مفروضة قسريًا على المجتمع، ومن ثم في حال طُبقَت سيكون لها آثار سلبية؛ من مثل شعور كتلة من الذكور بعدم أحقية ذلك، وأن الأمر يطبقُ قسريًا وهكذا، ومن ثم تغير موقع المرأة وأن يصبح مساويًا للرجل يتطلب تغييرات كبيرة في إحلال الصناعة الحديثة وتشكيل النقابات واشتراك المرأة فيها، وإطلاق إصلاح ديني يُنهي القوانين التي تجعل المرأة مُلحقة بالرجل، وإقرار علمانية الدولة وحقوق المواطنة.
العظم دون جوانًا
يكتب الباحث شادي كسحو، مقالًا بعنوان (العظم دون جوانًا) يحاول فيه قراءة كتاب الحب والحب العذري بالتحديد. يبدأ بتعريفٍ مُثير للفلسفة فهي (حب الحكمة وحكمة الحب)، وإذا كان الجزء الأول من القول معروفٌ ومكرّر، ويقول بحب المعرفة، فإن الجزء الثاني يثير الالتباس، فماذا يعني أن الفلسفة (حكمة الحب)، أليس هذا نسفًا للمفهومات الفلسفية منطقًا وفلسفة؛ يسهب باحثنا في تفريق العظم بين ظاهرة الامتداد والاشتداد، وأن الزواج التقليدي يماثل ظاهرة الامتداد في الحب، أمّا الظواهر التي كانت مختلفة عنه كالحب العذري والدون جوان فهي تطابق الاشتداد في الحب. يرى كسحو أن العظم أراد تحرير مفهوم الحب من «سطوة الإكراهين الديني والاجتماعي»، والتمييز بين «الميل الجنسي والحب»، ويشير إلى أن العظم أراد «الاشتداد ضد الامتداد، والحب ضد الزواج، والاختراق والخلخلة ضد التبلد والثبات»، ويستنتج وفق قراءة خاصة به، أن العظم يقصد «هو أن علاقتنا بأنفسنا أكثر أهمية وعمقًا من علاقتنا بأيّ مؤسسة اجتماعية او لاهوتية»، بل يضيف أن الشرق كلّه أخطأ في فهم الحب فيقول «يبدو أن فشلًا ما في جهازنا التأويلي، والإنسان الشرقي خصوصًا هي المسؤولة عن تعثر مفهوم الحب بمعناه الاشتدادي، وعن اللجوء إلى ثقافة الحب الممتد»، فهل هذا صحيحٌ؟ أظن أن كسحو يضحي بالتاريخ وتطوراته، عدا أنّه يُثمن تجارب خاصة جدًا، ويتوهم أنّها هي الحب الحقيقي. يُؤول كسحو العظم ليراه مُفضلًا للحب الاشتدادي ضد الامتدادي، والحب العذري والدون جوانية كذلك، وفي هذا السياق يسخرُ كسحو من مفهوم (إيريك فروم) للحب وسبب ذلك أن «فروم يكره الدون جوانيين، لأنهم يتحركون دائمًا خارج آلة التحليل النفسي للمجتمع السوي”، وكذلك ينتقد “خوسيه اورتيغا إي غاست»، وذلك لأنّه رفض الدون جوانيين، ويرى أن مفهومه للحب «نمط طريف من العقلانية القاحلة، إذ يجري التغاضي عن فورانات الأيروس وتجلياته كلها بطرائق ركيكة وتجريدات خلقية عائمة وجوفاء»، وأكد كسحو أن العظم يتموضع إلى جانب شبنهور في القول «كل التجربة الغرامية متجذرة في الدافع الجنسي وحده»، ليصل إلى نقد العظم قائلًا إن قراءته: «لم تستطع أن ترتفع بالتجربة العذرية إلى مصاف الخبرات القادرة على البوح والتعبير.. بل قراءته كسولة». وأن «بؤس هذا النوع من القراءة ناتج عن كونها قراءة تجري من الخارج»، وأن ما كان ينقص «تحليلات العظم هو نوع من الهرمونيطيقا السائلة». كسحو ينتقد كل منطق عقلاني لعقلنة قضايا الحياة، ويتقدم بفهم ذاتي (سائلٍ)، ويعدّه الحقيقة الموضوعية في موضوع الحب.
كسحو يشيد بالحب العذري والدون جوانية، ويعدّها الأساس في مفهوم الحب «لقد أصبح الحب، اللااتصال، شكلًا للإقامة في العالم» و«أن بوسع الحب إنجاز ثورة ليس على صعيد الأدب وحده، بل على صعيد الفكر ذاته».
كسحو لا يعترف إلا بالذات ويرى أن قراءة موضوع الحب من خارجه أمرٌ يشوهه ويعيدنا إلى دائرة العلاقة الزوجية التقليدية الامتدادية. يحصر كسحو مفهومه للحب في فئات محددة هم شعراء أو فلاسفة، وهذا يتناقض مع مفهوم الحب للأكثرية البشرية الذي يغلب عليه الامتداد تارة والاشتداد تارة. سأقول مع فروم عن الحب إنه موقف من الحياة، وفيه اكتشاف للذات، وليس من حب من دون شريك آخر، وبالطبع يشكل الحب أساسًا لحياة أفضل، أي إن كل علاقة بشرية لا تقوم على الاعتراف بالآخر ستكون علاقة فيها إشكالات كثيرة وربما فيها استغلال وظلم ونرجسية؛ لا شك في أن هناك ضرورة لتأسيس الحياة البشرية على الحب وهذا يتطلب شروطًا كثيرة والتخلص من أشكال الاستغلال والظلم والفاقة كلها. الحب بمعناه الاشتدادي سيظل ظاهرة نخبوية وسيظل الحب الامتدادي مسيطرًا مع تطوّرٍ نسبي فيه، له علاقة بتغيّر الحياة كلها وبما أتاحته للأفراد من حقوق و(سيولة) في الطلاق والانفصال وتعدّد الزيجات وهكذا.
الحداثة وتجلياتها في المنهج النقدي لصادق جلال العظم
دراسة الباحث ماهر مسعود (الحداثة وتجلياتها في المنهج النقدي لصادق جلال العظم) تأتي في سياق المديح المُرسل، كما قال عزيز العظمة عن كثير من (نقاد العظم). وعلى الرغم من ذلك، فقد حاول مسعود التصدي للتمايزات بين الحداثة الأوروبية ومرتكزاتها، والتحديث (السطحي) في منطقتنا، وكما ساوى بين التصنيع الأوروبي كأحد تلك المرتكزات والعقلنة والعلمنة وسواها كذلك، وجد أن التحديث العربي «لم يطل سوى بعض البنى الثقافية» بينما الأصل أن شكل التحديث الذي طُبقَ لا يسمح بتغيير تلك البنى، بل يستدعيه. الدراسة فيها متابعة لأعمال العظم ومن كتبه الأولى «نقد الفكر الديني وإلى دفاعًا عن المادية والتاريخ» وينتهي مدافعًا عن مفهوم العظم الإعلامي (العلوية السياسية)، وفي ذلك كله كان مسعود مُشيدًا بأعمال العظم مقارنةً بنصر حامد أبو زيد، ومتبنيًا أفكاره النقدية لكل من هايدجر وأدونيس، بل يجده الفيلسوف الحداثي الأوّل وإن ليس بالمعنى الزمني.
لا نقلّل من شأن العظم، ولكن من خلال اختياراته لموضوعات محددة، بل حتى حينما تصدى لمفهوم العولمة، لم يعمل العظم من أجل مشروع فكري يتجاوز نقد ظاهرة هنا وظاهرة هناك، وظل يُناقش مشكلاتنا من خلال ظواهر محدّدة، بينما كان المطلوب العمل على مشروعٍ فكريٍّ يوضح لماذا لم يتغير واقعنا، وكيف يتغير، وهو ما يرفضه مسعود، ظاننًا أن ذلك ميزة لمصلحة العظم وليست ضده.
مناقشة لآراء صادق العظم في العولمة
يتصدى الدكتور خضر زكريا لموضوعٍ مشكل في رؤية العظم في مقالته (مناقشة لآراء صادق العظم في العولمة)، فقد حاول العظم الإشارة إلى قضيتين فيها، أولًا: ولوج العالم مرحلة جديدة وأن الإمبريالية لم تعد أعلى مراحل الرأسمالية، بحسب ما قال لينين ومدرسة التبعية الماركسية، ويقترح مفهومًا جديدًا، وهو انتقال دائرة الإنتاج إلى الأطراف وليس التبادل والتوزيع فحسب، وبذلك سيصير العالم كلّه رأسماليًّا ومتشابهًا مع بلدان المركز، ويصبح بذلك من الخطأ الموافقة مع مدرسة التبعية أن الإمبريالية تُعمّق الفوارق بين الدول المركزية والأطراف، وأن الرأسمالية تُرسمل العالم إنتاجيًا وصناعيًا، والقضية الثانية هي بروز أدب عالمي مواكب وموافق لمفهومه عن العولمة كنمط رأسمالي كوني، وأبرز مثال (آيات شيطانية) لسلمان رشدي وما أثارته من جدالاتٍ عالمية.
يرفض زكريا نتائج العظم هذه، على الرغم من إقراره أن هناك ظواهرَ جديدةً برزت في الإمبريالية، فيقول «خلافي معه يكمن في تصوره أن هذا الانتقال يشمل الإنسانية جمعاء»، ويضيف «الذي يحدث هو توسيع نطاق نمط الإنتاج الرأسمالي المركزي، أما العلاقة الجوهرية بين المركز والأطراف فلم تتغير» أي إن الإمبريالية ما زالت تتحكم في العولمة والثورات التي قيل إنّها تُعولم العالم وتجعله قرية صغيرة! فهي لم تُحدث تغييرًا لمصلحة البشرية بل لمصلحة تلك المراكز، ولا سيما الشركات الكبرى فيها، ويضيف ما زال (استنزاف الفائض) المالي من الأطراف مستمرًا، ونتائج العولمة هي «زيادة في معدلات البطالة إلى درجات لم تعرفها تلك البلدان من قبل… وانتشار التطرف والعنف والفوضى الاجتماعية»، ونضيف هنا أن العالم الرأسمالي وعلى الرغم من عولمة العظم فقد دخل في أزمة رأسمالية كبيرة منذ 2008 ولم يخرج منها بعد.
ثم يقول زكريا، أنا من «القائلين بضرورة المواجهة الإيجابية لتحديات العولمة” و”لا بد أن تكون البلدان العربية حرّة في تحديد آليات الإصلاح الاقتصادي… لا أن تُفرض الخصخصة في كل مكان وكل مجال». لا شك في أن الثورات العلمية لا يمكن الوقوف ضدها، وبغض النظر عن المستفيدين الأساسيين منها، فهي من مكتسبات البشرية وستطوّر مجالات الحياة كافة. يرفض زكريا مفهوم الخصخصة بوصفه مفهومًا عامًا لأشكال الاقتصاد كلها. ونرى أن هذا الكلام دقيق جدًا؛ فالخصخصة كأحد أشكال العولمة اقتصاديًا تسهم في تفكيك الاقتصادات المحلية الطرفية وتدميرها، وهي تفكّك المكتسبات الاجتماعية للمفقرين كلها، كذلك في العالم كله، والأهم أن البلدان الطرفية لا يمكنها النهوض من دون القيام بتصنيع كبير لكل مجالاتها، وهذا يتناقض بشكل جذري مع إستراتيجية العولمة والدول العظمى وإستراتيجياتها في استنزاف الفائض المالي ونهب الموارد، ومن ثَمّ مواجهة العولمة تقتضي مشروعًا كليًا لمختلف مستويات المجتمع الطرفي، وهذا يطرح سؤالًا هل من رأسمالية طرفية لديها هذا المشروع لكيفية المواجهة، وكذلك أين هي المشروعات السياسية غير الرأسمالية لمواجهة العولمة والاستفادة منها بآن واحد.
صادق العظم مثقفًا عضويًا
كتب الدكتور يوسف بريك مقالًا بعنوان (صادق العظم مثقفًا عضويًا) حاول فيه إثبات فرضية عنوان مقاله، وبعد أن ميّز بين المثقف العضوي والتقليدي وفقًا لقراءته لأفكار المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي، عرض لمؤلفات العظم ووجد أنّها تُكمل بعضها في إطار نقد أسباب الهزيمة، وأن تلك الهزيمة «سياسية واجتماعية وثقافية أيضًا، أساسها الجهل والتجهيل والحط من قيمة العلم». وأوضح بريك أن العظم رفض مفهوم المؤامرة وأن الطبيعي في الأمور أن تُحيك الدول الرأسمالية المؤامرات، بينما المشكلة الأساسية هي أن مجتمعنا متأخر. بالعموم انتقدت الفكرة الأخيرة سابقًا، وأوضحت أن القضية تكمن في كيفية دخول بلداننا إلى الرأسمالية بوصفها تشكيلة اقتصادية واجتماعية كونية، وفي الطبقات الكولونيالية التي تشكّلت إثر ذلك، ومن ثم جذر (التأخر) يكمن في الحاضر وليس في الماضي أو في وراثة مجتمعنا له أو أن الحاضر امتداد طبيعي للماضي.
مقالة بريك في العظم يصح عليها أيضًا قول عزيز العظمة (المديح المُرسل).
النقد المزدوج عند صادق العظم
يختتم ملف العظم الدكتور يوسف سلامة بدراسةٍ بعنوان (النقد المزدوج عند صادق العظم) أي نقد الذات (الواقع العربي)، ونقد الآخر «الدول العظمى، ويصح أي آخر». يشيد بذلك سلامة بالعظم فهو مقاومٌ بنتاجاته الثقافية وأميرٌ في النقد وهو أكثر من يُتقنه.
ثم يوضح سلامة طرائق الكُتاب في الكتابة، فهما طريقتان، التفكير على التفكير، أي نقد النصوص، وحينئذ يكون النقد متعلقًا بالنصوص المنقودة، والتفكير في الأشياء ذاتها، فيُسمي الأوّلى بالهامشية والثانية بالمتن، أي يكتب فيها الكاتب أفكاره باستقلالية وبحرية ووفق اهتماماته وانشغالاته. ويرى سلامة أن العظم برع في طريقتي الكتابة هاتين.
يؤكد سلامة، أن في تفكير العظم جانبين اثنين، جانب تنويري، وجانب نقدي؛ وعبر استعراض هذه الأفكار وبعض أفكار مؤلفاته، وتحديدًا الأولى وذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم، يقول سلامة إن العظم كَتبَ في «نقد الدين، والنقد السياسي، والنقد الاجتماعي، والنقد النفسي»، ولكنه يتساءل وأين النقد الفلسفي: وحينما يستعرض كتاب (دفاعًا عن المادية والتاريخ)، فهو لا يُدخله ضمن النقد الفلسفي بدوره، ويترك تساؤله مفتوحًا.
يتناول سلامة منهجية الكُتاب العرب، فيجدهم بين غاضب على الآخر (الغربي)، ويحمله مسؤولية تخلفنا وأشهرهم مالك بن نبي، وغاضب من الذات (العرب)، وأشهرهم عبد الله القصيمي إذ سمى العرب (ظاهرة صوتية). وبهذا المدخل يناقش كتاب (ما بعد ذهنية التحريم)، ويرى أن العظم على الرغم من سداد نقده للكُتاب العرب، الذين لم يقرؤوا رواية سلمان رشدي، وكالوا للرواية وللكاتب أشنع الاتهامات، ومنها أنّه ينفذ مؤامرة ضد المسلمين، ولكن المشكلة أن العظم ذاته، حينما يؤكد أن الغرب السياسي والثقافي لم يقف مع رشدي، فهو أيضًا يقع في شركِ نظرية المؤامرة في أن الغرب يعزّز صورة محدّدة للإسلام، أي إن العظم ينضم إلى الكتاب الذي يقولون بالمؤامرة بحسب ما يقول سلامة.
يتناول سلامة النزعة الإنسانية عند العظم، فالأخير كتب كتبه دفاعًا عن القومية العربية، ولاحقًا عن رشدي، ودافع عن الشرق برمته، وأخيرًا ناصر الثورة السورية «أأسلمت أم تعلمنت».
مناقشة سلامة مفيدة للغاية، ولا سيما في مفهومه (التفكير في الأشياء)، لمناقشة نتاجات العظم، ولكن نصّه أيضًا جاء في إطار (التفكير على التفكير)، وهو ما أضعف النص وربما السبب أنّ وظيفة النص تقويم نتاجات العظم.
الدراسات
في قسم الدراسات، يستعرض بحث ميداني استمارات كثيرة لمعرفة أوضاع اللاجئين السوريين واتجاهاتهم المستقبلية، وهو بعنوان اتجاهات المستقبل عند السوريين اللاجئين في غازي عنتاب التركية.
وهو للباحث سلطان جلبي وبإشراف الدكتور حسام السعد، وإذا أشير إلى أهمية هكذا دراسات ميدانية الآن وفي المستقبل، وذلك ليتأسس علم اجتماع واقعي، يدرس المتغيرات والمؤثرات الجديدة على حياة المواطنين، والتخلص من نزعة التفكير التأملي، فإن هذا البحث يضع خلاصات متعدّدة، وتكاد تُرهق (تُضيّع) القارئ في كثرة الأعداد والنسب. وعلى الرغم من تأكيد الباحث أن قضية السوريين لا تختصر بالأرقام، فإن الأرقام المنشورة تَثبتُ في الذاكرة أمدًا طويلًا، وبالعموم فإن نتيجة البحث تؤكد أن أوضاع الأكثر استقرارًا للمبحوثين ولنقل ذوي الملكية داخل تركيا أو في سورية هم الأكثر استقرارًا وربما سيعاودون الاستقرار في سورية، وبخلافهم ممن لا يمتلكون شيئًا ولا عملًا في تركيا، فهؤلاء هم الأكثر والأكثر رفضًا للعودة، ورغبة في السفر كذلك.
المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع
ثم يتصدى الباحثان (جمال الشوفي وجمال أبو الحسن) لقضية «المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع»، ويستعرضان نظريات عدة، ويقومان بجولةٍ بحثيةٍ في المنظمات التي ظهرت قبل الثورة 2011 ومنذ 2000، ويجدان أنّ كثيرًا من تلك المنظمات التي فاقت الـ 1100 منظمة هدفها «التمكين والحوكمة»، أي تمكين المرأة وتعريفها بحقوقها وتعليم الديمقراطية والحكم الرشيد وأصوله وآلياته والنضال السلمي، ولكنهما يشيران إلى ملاحظةٍ مهمةٍ، وهي أن «قطاعات الصحة والتعليم وحقوق الإنسان أقلها جميعًا»، أي لم تكن هذه القطاعات ضمن اهتمامات المنظمات (المدنية) أغلبها فعليًّا، وهذا يدلّل على التسييس الواسع لهذا المنظمات وربما التبعية في أعمالها للمنظمات الخارجية، أي الداعمة لتشكيل المنظمات السورية (المدنية)، ويسأل الباحثان سؤالًا جيدًا «هل يمكن فعليًا أن تمثل الهيئات والمنظمات المدنية رافعة عمل سياسي للدول السورية الوطنية القادمة»؟ أظن أن هذه المنظمات لم تكن معنيةً بتغيير الوعي السوري نحو وعي المواطنة وتشكيل هوية حداثية، فقد شكلت ظاهرة سطحية للغاية تجاه المشكلات التي واجهت السوريين وما زالت تواجههم في الداخل والخارج. أضيف أيضًا أن المجتمع المدني لا يتشكل من المنظمات المعنية بأوضاع المرأة أو الطفل أو حقوق الإنسان أو الحكم الرشيد مثلًا، بل يتشكل المجتمع المدني وفقًا للحالة الاقتصادية للمجتمع، وهي المُغيبة في البحث؛ فالمجتمع المدني لا يُطرح من زاوية أنّه يملأ المساحة بين العائلة والدولة كما هو شائع، بل هو لما ذكرنا أولًا ثم تلك المساحة، فمثلًا حينما يكون المجتمع بدويًا فمنظماته تتعلق بهذا الشكل الإنتاجي، وكذلك في المجتمعات الزراعية، ومن ثم تسييس المجتمع المدني، وأنّه مرتبطٌ بمنظماتٍ مدنية أمرٌ خاطئٌ على الرغم من أنّه سائدٌ في الوعي السياسي السوري.
ورشة عمل
هي حوار أشرف عليه الدكتور عبد الله تركماني، واستضاف مجموعة من الباحثين والسياسيين السوريين وهم (أحمد طعمة، وحسن النيفي وعقاب يحيى، وبسام قوتلي، وحسام السعد)، وناقش بعض (سيناريوهات مستقبل سورية)، وهي (توسيع هامش المشاركة السياسية)، و(مناطق نفوذ للقوى الإقليمية)، و(التقسيم والنظام الفدرالي)، و(تشكيل هيئة حكم انتقالية)، و(قوات خارجية لإدارة المرحلة الانتقالية).
الجيد في هذا الحوار هو تعدّد وجهات النظر حول السيناريوهات المطروحة وعدم وضع خلاصة محدّدة له. تتضمن الورشة نقدًا جيدًا للمعارضة وتحديدًا في رفضها بيان جنيف واحد، وهذا صحيح تمامًا، وإن كان الأفضل لو نُوقش سبب ذلك الرفض، وعدم الاكتفاء بتفسير ذلك بحسب ما قال تركماني بأن «الخطاب الشعبوي قتل المعارضة»، إذ المشكلة الحقيقية تتعلق برؤية المعارضة كلها للثورة، التي تعاطت مع الثورة وفق مفردات بسيطة وتقول بأن الأهم زوال السلطة، وبعدها تبدأ عملية النهوض في سورية، أو كما عُمم رأيٌ خاطئٌ يقول: إن مهمة الثورة الهدم فحسب، وليس تقديم بدائل من النظام الحالي.
مراجعة كتاب (الحداثة السائلة)
في القسم السادس من المجلة تكتب الباحثة منى سويلمي قراءة ذكية لكتاب (الحداثة السائلة)، وهو من تأليف (زيجمونت باومان وترجمة حجاج أبو جبر)، الكتاب يأتي ضمن سلسلة كتب للمفكر البولندي الراحل، ويتناول «الحب، والأخلاق، والزمن، والخوف، والحياة (. أهميته في تناوله لقضية الحداثة الأوروبية بكليتها، فهو يفكك جوانب متعددة وفق خمسة مفهومات، تشكل فصول الكتاب وهي «التحرر، والفردية، والزمان/ المكان، والعمل، والجماعة».
يتناول فيها التفريق بين الحداثة الصلبة، وهي ذاتها الرأسمالية في مراحلها الأولى حيث تمجيد (العقل، المواطن، الصناعة، العلمانية، المساواة والمواطنة وسواها)، والحداثة وقد تجاوزت تلك المرحلة، وأطلق على المرحلة الجديدة (ما بعد الحداثة)، والمؤلف يتجاوز المرحلة الأخيرة ذاتها، حيث موت الإنسان، التاريخ، الكتابة، الفعل، وانتهاء الموضوعية والمطلق، وتمجيد النسبية وعودة الدين، والحديث المسهب عن صراع الأديان والحضارات والثقافات. المؤلف يقترح مصطلحًا جديدًا لتفسير الحياة في ظل العولمة “الحداثة السائلة” ويجد أن كل شيء أصبح سائلًا، ولم يعد أي مجال من مجالات الحياة بحالةٍ صلبةٍ، فالاقتصاد أصبح كوكبيًا ويمكن نقل الصناعات البسيطة إلى أيّ مكان في العالم، وتراجع مفهوم المواطنة واستُبدل به مفهوم الفرد، ويسود في (السائلة) الإغواء والإغراء والتسوق والاستهلاك، فهو عصر «فك الارتباط والزوغان والهرب السلسل»، وفيها يعيش البشر (حياة اللحظة)، وتؤكد الكاتبة مع المؤلف أن هناك حقيقة أساسية ثابتة، وهي أن «التغير هو الثابت الوحيد، واللايقين هو اليقين الوحيد»، وأن السيولة هي نموذج لنمط حياتنا المعاصرة. إنه عصر القلق، واضمحلال الروابط والعلاقات الإنسانية.
أيضًا هناك فكرة معبرة تقول «ففي ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان».
يُوصّف المؤلف العالم وفق حالته الراهنة؛ فهي حداثة سائلة، وهي المجتمع الرأسمالي الحالي، وفيها يتزايد الأغنياء غنىً والفقراء فقرًا، ومن ثمَّ إن السرعة في التحوّل والتغيّر كثابتٍ وحيدٍ تُعزّز كذلك من الحالة الطبقية للمجتمع، وأن الحداثة بنوعيها (الصلبة والسائلة)، لم تستهدف إيصال البشرية إلى حالة من المساواة والعدالة الفعلية، وهي قضايا رفعت شعارها الحداثة وما زالت قضايا الناس في كل مكان.
إصدارات مركز حرمون
القسم الأخير في المجلة يستعرض الباحث مناف الحمد فيه إصدارات (كتب) مركز حرمون للدراسات. وخاتمة العدد تتضمن شروط النشر في مؤسسات حرمون.
خاتمة
عدد قلمون الأوّل هذا، يعد إضافةً نوعيّة إلى شؤون الثقافة والسياسة في سورية، وربما يكون فاتحة مناقشات وحوارات كثيرة بين المهتمين بالثقافة والسياسة، والانشغال بملفاتٍ محدّدة بما يُثري العقل والروح.