وحدة مراجعات الكتب
مراجعة: جمال الشوفي
الكتاب: في العنف
تأليف: حنّـة أرندت
ترجمة: إبراهيم العريـس
الناشر: دار الســـاقي
مكان النشر: بيروت/ لبنان
تاريخ النشر: 2015
المحتويات
في العنف والخطر الكوني وضرورة النقد
الكاتبة في سطور
حنة أرندت من مواليد هانوفر- ألمانيا، أميركية الجنسية وألمانية الأصل، عاشت بين (1906و 1975)، بدأت حياتها دارسة في الفلسفة في جامعة ماربورغ، عند وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا، تحولت إلى العمل السياسي بوصفه عملًا في حياة (البشر _لا الإنسان الفرد_ الذين يعيشون على الأرض ويسكنون العالم). فعلى الرغم من أنها درست الفلسفة ونشرت مجلدان فيها لأعمال أستاذها كارل باسبرز بعنوان (الفلاسفة العظام)، إلا أنها ابتعدت عنها وعن الفكر النظري تجاه الواقع ومتغيراته وحوادثه. فبعد خروجها من معتقل النازية عام 1933، وهربها إلى باريس، فنيويورك في أميركا ([1])، بدأت في استكشاف الأثر المولد للعنف في المقولات الفلسفية الشمولية ونظمها السياسية المتمثلة بالنازية والشيوعية كلتيهما، لتعمل كاتبة وباحثة في الفكر السياسي، إذ نشرت كتابها الأشهر بعنوان: (أسس التوتاليتارية) ([2]) أو (أصل الاستبداد)، الكتاب الذي يعدّ من بين أفضل مئة كتاب في القرن العشرين، إذ عُدَّ -لدى الألمان- بمنزلة كتاب جيب واجب قراءته بعد سقوط النازية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية.
يُحسب لحنة أرندت، أنها على الرغم من مناصرتها للمسألة اليهودية ومظالمها في عصر النازية في أوروبا، وتأييدها لبناء دولة إسرائيل في فلسطين، إلا أنها عملت ضد النزعة العنصرية المتمثلة بهيمنة القوة بحسب تيودور هرتزل بقدر ما حاولت أن تؤسس لعلاقة حسن جوار مع العرب في المنطقة تقوم على سياسة قبول الآخر بالتراضي وبالعمل والفكر التواصلي. لأرندت عدد من المؤلفات والكتب في الفكر السياسي، أهمها: (أزمات الجمهوريّة)، و (رجال الدين في عصور مظلمة)، و(بين الماضي والمستقبل: ثمانية تمارين في الفكر السياسي (، و(في العنف) الكتاب الذي نتوخى مراجعته بوصفه خلاصة فكرية سياسية لأعمالها.
توطئة
كتاب (في العنف) يبدو كأنه خلاصة فكرية سياسية مكثفة جدًا، فعلى الرغم من أنه يقع في 112 صفحة، إلا أنه احتوى على 114 مرجعًا، و13 ملحقًا تتضمن تقارير سياسية للمناقشة في متن الكتاب، ما يبرز كثافة الكتاب وزخمه المعرفي من جانب، وقدرة الكاتبة على فتح حوارات عدة مع مدارس فكرية مختلفة ومتنوعة سواء في زمنها أم الممثلة للحياة السياسية الفكرية الأوروبية وتناقضاتها في قرون سابقة، أم تلك الممتدة إلى زمن وجودنا الحالي.
تبدو كثافة الكتاب الفكرية والسياسية من خلال المهمات الملقاة على الكاتبة في خوضها حوارات متعددة الأقطاب مع موضوع العنف، «الذي نادرًا ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة مع أنه ذو دور كبير في الحياة السياسية والاجتماعية لتاريخ البشر» ([3])، ومصادر تكونه السياسية والأيديولوجيات المنتجة له، سواء كانت أيديولوجيات ذات طابع شمولي، أم تقني، والخوض في جدل عميق ومكثف مع الأيديولوجيات ذات المصدر العاطفي واللاعقلاني في السياسة والمولدة للعنف. أضف إلى نقد السلطات وسياستها، وضرورة التفريق بينها _حالة أداتية_ وبين عنف السلطات القائمة على الإكراه بالعنف وأدواته، وإلقاء الضوء على الزاويات العاتمات في أيديولوجيا الشرعية الثورية، مرورًا بكثير من الجدالات المتعلقة بالحيزين النفسي والاجتماعي للعنف. ليحمل الكتاب في متنه موضوعات عدة ومتنوعة لا تكاد تستطيع معها إهمال جملة منه من دون تدقيق أو مقارنة، موضوعات تحاكي التجربة البشرية في محتواها ومضمونها سواء كانت سياسية أم فكرية، خصوصًا في مرحلتنا السورية والثورية الحالية، بما يمكن أن يؤسس لفكر سياسي عقلاني.
في العنف والخطر الكوني وضرورة النقد
لزمن طويل كان النفي الكلي، والمتحول إلى صراع سياسي وأيديولوجي ومن ثم عسكري مولدًا لصور العنف كلها، ومنتجًا لها، هو منتوج البشر السياسي، فكل أيديولوجيا تسعى إلى نقد نقيضها، ونسف جذوره، وتفنيدها، لتثبت أنها الأصلح والأقدر على الاستمرار من غيرها، ما ولد صراع المثنويات المتفانية فكريًا، ومن ثم عسكريًا حين يتحول إلى صراع نظم سياسية، لدرجة بات العالم مهددًا بخطر الانهيار الكلي. حنة أرندت تقف على ناصية المشهد العالمي، العالم: أيديولوجيات نظرية نسقية تحاول كل واحدة تقويض الأخرى، ولا تسعى لنفي الأخرى كليًا فحسب، ليس سياسيًا، بل عسكريًا وبالقوة أيضًا، كتلك التي حدثت في الحربين العالميتين في نزاع القوميات والأيديولوجيات الشمولية بين نازية وشيوعية أو نازية وليبرالية.
وأيضًا، نفي كل تقدم تقني وعلمي تتقدم به أدوات الهيمنة والسيطرة، أضف إلى نمو النزعات المعبرة عن الرفض في ما يسمى الحركات الثورية. لتذهب مباشرة إلى نقد الكل من دون أن تطرح البديل، حتى لا تسقط في شمولية الفكر الذي تنقده.
إن أغلبية المشتغلين بالنقد في علوم السياسة والفكر يعملون على تفنيد المقابل ونسفه وتقديم بديل منه، تحت نزعة مهيمنة قوامها الشمول واكتمال النظرية. وأرندت الضالعة في التاريخ الفلسفي والفكر النظري تدرك أن كل نظرية ما لم تقف عند حدي الزمان والمكان والحيز البشري في العمل فيها، ستتحول إلى آلة هيمنة على كل من يتخارج معها، فتصر في كثير من مواقع نقدها اللاذع على أن تقول إنها غير متيقنة من نتيجة الغد لأنه احتمالي «حيث لا يملك أحد جوابًا على السؤال المتعلق بالكيفية التي سيمكننا بها من نزع أنفسنا من العبثية الكلية لمثل هذا الوضع»([4])، وذلك على خلاف قطعية الأيديولوجيات الشاملة وحتميتها التي تتخذ على عاتقها ليس تفسير كل شيء فحسب، بل تجزم بحتمية كل نتيجة مستقبليًا، لأنها وحدها تملك أدوات السلطة والهيمنة السياسية على المجتمع وتظن بصحتها ظنًا مطلقًا ونهائيًا، ذلك الذي نقده الياس مرقص «ومن ليس عنده، في روحه وفكره، المطلق، يحول نسبيه إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد»([5]). تلك الأيديولوجيات الشمولية المصرة على نقض بعضها تولد العنف اللفظي أولًا والحروب ثانيًا والعنف والتعسف بالضرورة.
أرندت، وعلى خلافها الجذري مع الشمولية الشيوعية، وكل فكر شمولي يؤسس لسلطة سياسية مطلقة الهيمنة، تتفق مع ما توقعه لينين حول القرن العشرين بأنه قرن الحروب والثورات، والقاسم المشترك بينهما، عادة، هو العنف، فـ «أحداث القرن العشرين وحواراتها حوله هي التي أتت بهذه التأملات حول العنف، متخذة من سياق التسلح ومفهوم القوة كرادع ضامن للسلام، أنه يمثل خطرًا كونيًا على كل الحياة البشرية»([6]).
إذًا هو سؤال إمكان الخروج من مأزق المثنويات والأيديولوجيات المتفانية مثنويًا فكريًا وسياسيًا وفي النتيجة عسكريًا: الشيوعية الستالينية في مقابلة النازية الهتلرية، والاشتراكية في مقابل الرأسمالية، والتقدم العلمي في مقابل الثورية العاطفية اللاعقلانية، ما يتوجب على الفكر السياسي طرح «مشكلة العنف على الساحة السياسية، على خلفية هذه التجارب»([7])، تلك التي تستلزم النقد الحاد والتفكيك في بنيتها الفكرية النظرية في مواجهة مشكلات الواقع وتعيناته، بغية نفي العنف سياسيًا، ومن ثم اجتماعيًا وحياتيًا.
فالواقع الإنساني بتجربته الغنية والمتنوعة في تناقض دائم مع النظريات المشبعة بالشمولية والكلية كلها التي تبشر بخطر كوني شامل، إنها الحرب المولدة لأقسى درجات العنف الذي تطورت أدواته «تقنيًا إلى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية»([8]). فخطر أي حرب بين الدول الكبرى سيكون كارثيًا على الكون بمجمله، لتستبق تبعًا للعالم السوفياتي، ساخاروف، ضرورة العمل على إنهاء الحرب الباردة قبل تدشينها في عام 1989 على يد غورباتشوف وإعلان الحد من سباق التسلح النووي «إن الحرب النووية الحرارية ستكون بالتأكيد شيئًا آخر غير استمرار السياسة بطرق أخرى، تبعًا للصيغة التي وضعها كلاوزيفيتش، (الحرب كاستمرار للسياسة بوسائل أخرى) ستكون وسيلة للانتحار الجماعي»([9]).
ما يوجب العمل على تعرية السلطة، وليس كل سلطة، بل تلك التي تعتمد الشمول في طياتها والتعسف في أدواتها الفكرية والتقنية بالضرورة، وضرورة التفريق بين السلطة بشرعيتها السياسية والعنف المتولد عنها بخلاف ذلك، ونقد منظريها ومفكريها السياسيين، (أنبياء العنف) الذين يعدّون الحرب هي الملجأ الأخير لحسم النزاعات الدولية «أي الاستمرار العتيق للسياسة عن طرق العنف، في مجال العلاقات الخارجية»([10])، فـ «الحرب العالمية الثانية لم تأتِ بالسلم بل بالحرب الباردة، وأن الأكثر مصداقية بأن الفلسفات السياسية والنظم الاقتصادية والحقوقية هي التي تنمي القدرات الحربية وليس العكس، وذلك خلافًا مع كلاوزوفيتش وأنغلز»([11]).
فشروط التناقض المثنوي تلك سخرت القدرات الصناعية ومن ثم التقنية العصرية كلها لتحويل السلطات إلى حروب باردة في سباق محموم نحو الهيمنة والتحكم في مقدرات شعوبها والشعوب المغايرة لها أيضًا، «التقدم التكنولوجي إنما يقودنا مباشرة نحو الكارثة بل كذلك، أي التكنولوجيا، وصلت إلى مستوى من التطور بات معه أضأل اختراعاتنا المشؤومة قادرًا على أن يتحول إلى سلاح من أسلحة الحرب»([12]).
لدرجة بات الأفق مسدودًا أمام جيل الشباب الطامح إلى مستقبل أفضل، بل إلى حياة أفضل بفضل التقدم التقني الحاصل بوصفه منتجًا بشريًا عليه أن يخدم البشرية، ما دفعهم إلى كثير من الحركات الثورية التي كانت عنيفة في إحدى صورها، في أوروبا والولايات المتحدة فـ «تقدم العلوم قد كف عن التطابق مع تقدم الإنسانية، بل بات من شأنه أن يدق ناقوس النهاية للجنس البشري»([13])، وبات محط تساؤل وشكّ دائمين، فالمسار اللاإنساني لهذا التقدم، ونزعته نحو الهيمنة والتحكم هو المسؤول عن هذه الارتدادات بمثل ما عبر عنه جورج والد «إن ما نواجهه اليوم إنما هو جيل لم يعد بأي حال من الأحوال واثقًا من مجيء من المستقبل، وهو ذاته ما أكده أيضا ستيفن سبندر: العالم بات أشبه بقنبلة موقوتة دفنت، لكنها تطلق دقاتها في اللحظة الراهنة»([14]).
وهنا، يمكن القول إنها الرؤية المستمرة نفسها في عالم اليوم التي صرح عنها هنري كيسنجر، أحد أباطرة النظام العالمي الجديد/ القديم في آن معًا، ففي حديث له مع (ديلي سكيب) يدق ناقوس الحرب العالمية الثالثة المقبلة على الأبواب If You Can’t Hear the Drums of War You Must Be Deaf([15])، ويتفق معه ألكسندر دوغين([16])، لكن من بوابة مناقضة كلية، فهو المنظر الأكبر لعودة الاستقطاب العالمي وإعطاء روسيا البوتينية الدور الرئيس فيها في صراعها مع منظومة القطب العالمي الأوحد، النظريتان المتصارعتان اليوم في المسألة السورية، والمسؤولتان مباشرة عن استثمار ثورة شعبها إلى أبعد حد ممكن في انتصار إحداهما على الأخرى، من دون العمل على حسم ثورة شعبها، وهما القادرتان على ذلك، ما أوصلها إلى نتيجة كارثية من العنف والعنف المضاد. وهذا موضوع نقدي بات ضرورة وواجب على المشتغلين بالفكر السياسي تفكيكه وتعريته، بحيث إن أي قبول لإحدى السياستين من دون تحديد المسؤولية القانونية فيها، ورفض الأخرى مطلقًا هو عامل مسهم في تأجيج العنف ونزعات الكراهية المتوالدة في سياق الثورة السورية.
الشرعية الثورية والعنف
لم تفرد أرندت حيزًا كبيرًا لنقد النازية أو الستالينة بوصفهما منظومتين شموليتين في كتابها هذا، بقدر ما نقدت ما عاشته من أفكار ثورية في تجربتها الشيوعية قبل اعتقالها في ألمانيا، وهربها لاحقًا. فحيث إنها استفاضت في نقدها في كتابها (أسس التوتاليتارية)، ذهبت أرندت في كتاب (في العنف) إلى نقد المؤشرات الفكرية والأيديولوجية لكل من الحركات الثورية المحدثة والمتصفة بالعاطفية أو الغاضبة واللاعقلانية التي تؤجج نزعات العنف، والأيديولوجية العلمية والدولة البيرقراطية أيضًا، وذلك في نزاعهما مع كل من الرأسمالية أو الشيوعية. فأيًّا تكن مسوغات الأعمال الثورية المناهضة لاستبداد نظام سياسي ما أو سلطة مستبدة، إلا أنها عند تبنيها المقولات اللفظية المثيرة للعنف في معطيات تجربتها؛ ستحمل في طياتها العنف البشري الذي كان سبب حدوثها في الأصل، أو القيام ضدها.
إن «قدرة الإنسان على الفعل هي التي تجعله كائنًا سياسيًا»([17]) وهذا ما حاولت أرندت البحث عنه في حوارها مقولات الثورة التي تبناها جيل الشباب في أثر كتاب فرانز فانون (معذبو الأرض)، وما تبناه من خلفه جان بول سارتر في ذلك. إذ تجد أرندت أن مجمل الحركات الطلابية الغاضبة وحركات السود الثورية تبنت عفويًا المقولات التي اجتهد منظرو الماركسية لنحت جزالتها اللفظية ويعبر سارتر عن ذلك «العنف، مثل رمح أخيل يمكنه أن يلائم الجراح التي يسببها بنفسه، وإن كان صحيحًا، سيكون بوسع الثأر أن يكون الترياق العجائبي الذي يداوي كل شرورنا»([18]). فمع أن أرندت لا تخفي ميولها التضامنية مع الحركات الثورية ومظالم القائمين عليها إلا أنها ترقب بدقة الكيفية التي تتحول معها تلك المظالم إلى شرور بذاتها عندما تنتقل لتسهم بالدور نفسه الذي قامت به السلطات الذي كانت مسوغًا لوجودها، فكيف لسارتر أن يقول «قتل أوروبي عمل، هو عبارة عن إصابة عصفورين بحجر واحد، حيث إن الأمر يسفر عن إزالة مضطَهد ومضطهِد في الوقت عينه: حيث يتبقى لدينا رجل حر ورجل ميت وهذا لم يكن يقوله ماركس أبدًا»([19])، إذًا، الماركسية في جذورها المعرفية والقيمية هي ليست الماركسية نفسها في فعلها السياسي، ولا يمكن للفكر السياسي في حركاته الثورية أن يفرض شرعيته من خلال اللصوص وقطاع الطرق عبر العنف «اللصوص هم من سيضيئون الدرب أمام الشعب»([20])، النقطة التي تردها أرندت للغضب والمفعولات اللاعقلانية المرافقة له عند تغييب العمل السياسي وتحويله إلى استبدال سلطة بسلطة وفق مسوغات العنف وأدواته. ما يعيد مسألة المثنوية المتفانية وجوديًا ليس للساحة الفكرية واللفظية فحسب، بل لساحة الفعل المسوغ للعنف والتعسف تحت حكم الشرعية الثورية، وليس العمل السياسي المنظم والمتناسق.
لربما كانت أرندت أكثر تأثرًا بممارسة السياسة الديمقراطية وثقافتها، وهي ما عبرت عنه بأكثر من مكان في كتابها، ولكن هذا لم يجعلها أبدًا تتبنى سياساتها كلية بمثل ما فعلت نقيضتها الشيوعية من جانب، ولم تتبنَ فعلها العنيف في الجانب الآخر، بل على العكس ذهبت بأدواتها النقدية إلى تفكيك بنيتها القائمة على حكم العقلية العملية المحض للحياة السياسية «مما لا ريب فيه أن ليس ثمة ما هو أكثر رعبًا من تلك المكانة التي بات يتمتع بها، خلال العقود الأخيرة من السنين، أصحاب العقول العلمية الممنهجة»([21])، وتضيف أن فرضيات التحكم العلمية والتقنية بالحوادث والبشر ستقود إلى الخطر الأكبر وهو العنف والعنف المضاد الذي رصدته في أكثر من موضع في كتابها «مواجهة هذا النوع من التنظير الاستراتيجي، لا يطال جدواه المحدودة، بل يطال خطره، لأن من شأنه أن يقود إلى الاعتقاد بأن لدينا من الفهم للأحداث ومن السيطرة على مجراها، ما لا نملكه بالفعل»([22]). أرندت تقف بين حدين، تعيينين في السياسة والحياة معًا، رفض العنف القارض للسياسة، ورفض النظم المولدة لشروط البديل عبر العنف، فكما رفضت النازية والشيوعية في تناقضهما المولد للحروب، رفضت الفكر المولد لهما على أساس أن الحرب استمرار للسياسة لكن بأدوات أاخرى، وكما رفضت الأدوات العنفية سواء في حركات الطلاب أم السود الغاضبة تجاه التمييز العنصري، ترفض المقولات التي ولدت مفعولات هذا العنف كمقولة (فانون) التي كانت شعارًا في تلك الحركات (كرامة بلا خبز) التي تطرحها، ماذا لو وضعنا المواطن ذاته بين مقولتين مختلفتين «الكرامة مع خبز أو العبودية مع الكاتو»([23]).
وتنقد تلك الهيمنة للقوة العلمية على مفاصل الحياة المعيشة في النظم الديمقراطية، وبخاصة تلك التي أنتجت النظم البيرقراطية أو النظام غير المحدد للمسؤوليات، وكأنه نظام عمل طبيعي ملزم يقلص دائرة الفعل البشري وتواصله الحسي والإنساني، والأهم من ذلك يغيب المسؤولية الجرمية التي من الممكن أن تنشأ عنه، «فكلما كانت نزعة سيطرة البيروقراطية على الحياة العامة أكبر، كان إغراء العنف أكبر،.. لأن حكم لا أحد، هو، لا حكم»([24]).
في مقاربة مهمة لواقع المأساة السورية، في حصار مدنها وتهجير سكانها، تجلت موضوعة الشرعية الثورية لا في الصراع العنيف على السلطة وحسب -كما سنورد أدناه- بل في موضوعة ثقافة الموت الذي يشترك فيها الثوار في صناعة ذلك التلاحم الروحي في قبول مقولة الموت «ممارسة العنف إنما تلحم الناس مع بعضها بعضًا ككل واحد، بحسب فانون، حيث تتجلى في كل يوم تقريبًا، أروع آيات النبل ونكران الذات»([25])، وحيث إن أرندت رصدت الموقف من بوابة المبادر، أي الفعل المبادر بالقبول بمبدأ العنف ثوريًا، إلا أن الدراسات السيكولوجية والسياسية لليوم لم تتطرق إلى موقف الإنسان المدافع كما في الثورة السورية، إذ وقع عامة الشعب السوري موقع المدافع عن وجوده وعن اقتلاع، لا حريته وكرامته وحدهما، بل ارتباطه بمنزله وحياته وذكرياته، فهل يمكن تبرير العنف هنا؟ أم يجب تصنيفه خارج مقولة العنف، بوصف العنف فعلًا تعسفيًا بذاته وجوهره؟ وهل نتوقع أن ترصد الدراسات السياسية والاجتماعية والسيكولوجية هذه الظاهرة من بوابة حق الوجود، أم تكتفي بالوصفية والشكلية التي درجت عليها السياسات النفعية والغرضية في استثمار المسألة السورية وتكتفي بوصفها، ووصف الشعب السوري بأنه حاضنة إرهاب؟ سؤال مفتوح على الدراسة وعلى المشتغلين بالفكر السياسي لأنه سياسي بالمبدأ، ويشتغل في شؤون الناس ومصائرهم أيضًا.
السلطة والعنف
العمل السياسي بما يتضمنه من عمل حزبي، هو عمل في اتجاه الوصول إلى السلطة، وكل عمل سياسي هو ضرب من ترف ما لم يكن يحمل في طياته وأهدافه الوصول إلى سلطة، ما يبرز النزعة التاريخية في حركة الصراع التاريخي، فالصراع على السلطة والخلط بينها وبين العنف مفهومًا وتجسيدًا، جعل السلطة مرة آلة هيمنة مولدة للعنف بالدكتاتوريات ومرة أخرى محرضة على نفيها كونها مولدة للعنف بحسب الحركات الثورية. أرندت تذهب إلى التأسيس لسياسة تنفي العنف لتعيين السياسة مفرقة بين العنف والسلطة «السلطة تكمن في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في الجوهر»([26]).
تذهب أرندت إلى وضع مجمل التعريفات الكلاسيكية للسلطة المعمول بها في مجمل النظم السياسية ما بين الصفحات (32 إلى 40) في سياق نقدي:
- فولتيير: تقوم السلطة في جعل الآخرين يتصرفون تبعًا لاختياراتي.
- ماكس فيبر: أفرض إرادتي على الرغم من مقاومة الآخرين لها.
- سارتر: جعل الآخرين يطيعون رغبته.
- ليفي شتراوس: تسلط الإنسان على الإنسان.
- باسيران دانتراف: السلطة بوصفها نوعًا مخفضًا من العنف، فالسلطة مؤسسة قوة مؤهلة بحكم القانون.
- دي جوفينيل: الأمر والطاعة وهنا يكمن الشرط الأساس لوجود السلطة.
- جون ستيوارت ميل: رغبة في ممارسة السلطة، ورفض الإنسان أن تُمارس القيادة عليه.
- كلاوزوفيتش: فعل عنف يهدف إلى إجبار الخصم على فعل ما أريد.
- سلطة أو حكم البيرقراطية، كحكم مكتبي: حكم لا أحد الذي ينفي تحديد المسؤولية.
- حكم الإنسان للإنسان، حكم الفرد أو حكم القلة في النظم الملكية والأوليغارشية.
- حكم النخبة أو حكم الكثرة في النظم الأرستقراطية أو الديمقراطية.
أرندت ترى أن الأيديولوجيات كلها (يمينية ويسارية) تلتقي في رؤيتها للسلطة، ولا تفرق بين السلطة والعنف بل تستقي مفهوم السلطة مرتبطًا بالعنف، لتصل إلى تحديد سياسي يفرق بين العنف والسلطة والقدرة والقوة والتسلط.
فالنظم السياسية معظمها سوغت العنف الذي تمارسه السلطات بغية تثبيت الحكم، بحيث تشرع العنف كما تشرع السلطة، فـ «جوهر فعل العنف نفسه مقولة الغاية والوسيلة، وأن الغاية محاطة بخطر أن تتجاوزها الوسيلة التي تبررها التي لا يمكن الوصول إليها من دونها، فالعنف يحمل عنصرًا تعسفيًا عند غياب الغاية»([27])، بينما «السلطة تعني قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل، بل على الفعل المتناسق، السلطة لا تكون أبدًا خاصة فردية، بل إنها تعود إلى مجموعة»([28])، فالسلطة منتج سياسي يستلزم شرعية وجوده بينما «العنف قد يبرر لكنه لا يملك شرعية كما السلطة»([29]). فبقدر ما تكون القدرة خاصية فردية، والقوة المستخدمة مرادفًا للعنف، هي كلمة مرادفة لقوى الطبيعة التي يسعى العقل البشري لكشف العمى عنها، وتسخيرها لمصلحته، تكون السلطة ليست قدرة البشر على أن يعملوا في آن معًا وحسب، ولكن أن يعملوا بطريقة متناسقة، فالقوة في معناها الأصلي تصور رضائي أو طوعي تعتمد على اتفاق جماعة من الفاعلين الاجتماعيين على كيفية تنظيم القواعد، ووضعها لممارساتهم الحياتية المتعددة. فالقوة عند أرندت ضرورية لتحقيق التنسيق بين الأفراد لأداء هدف اجتماعي متفق عليه، فهي ضرورية لأي هيكل تنظيمي إنساني بوصفه سلطة، ولابد أن تقوم على الاقتناع الحر من جانب المحكومين، ومن ثم تكون القوة هنا قوة اجتماعية إيجابية، ومن دون هذا الرضاء يصبح الكيان السياسي القائم هو اغتصاب وتعسف. وبمن ثَمَّ السياسة التي تؤسس لها أرندت، هي فعل بشري يذهب باتجاه غياب نكران دور السلطة بوصفها فعلًا بشريًا مقومه الأساس العقد الاجتماعي الذي أسسته ثقافة عصر الأنوار، هي شرعية الفعل السياسي والعمل الحكومي الذي يقوم على نفي موضوعة العنف المرتبطة بأفكار الطاعة والإرادة والهيمنة وحكم الإنسان للإنسان، وتقتضي بالضرورة العمل السياسي الشرعي ضمن المجتمع لتصل بالضرورة إلى حكم البشر للبشر بعيدًا عن الإكراه والتعسف والتسلط وبالضرورة العنف.
السياسة والفكر السياسي عند أرندت، هما الفعل البشري المؤسس على فكرة شرعية البشر في توافقهم على شكل الحكم، فعندما تنحط السلطة لدرجة استخدام العنف تفقد وجودها الأول، وجودها السياسي كونه سلطة وتتحول إلى أداة إكراه وقمع، ما يجعل الفوضى والعنف في أشد أوجهما «وأن كل انحطاط يصيب السلطة هو دعوة مفتوحة للعنف- ولو لمجرد أن أولئك الذين يقبضون على السلطة، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، إذ يشعرون بأن هذه السلطة تفلت من أيديهم، يلاقون على الدوام أكبر قدر من الصعوبة دون مقاومة إغراء استبدال السلطة بالعنف»([30]).
السياسة التي تذهب أرندت للتأسيس لها هي سياسة بصفة علم قابل للتطور، لا وفق رغبات السلطات والأيديولوجيات فحسب، بل ناتج الأفعال الواقعية والفعلية التي تمس حياة البشر ومعاناتهم ومظالمهم وتفاعلاتهم، فلا تصبح المقولات الكبريات الممثلات للأيديولوجيات الشمولية قوة هيمنة كقوى الطبيعة، ولا تتحول السلطات إلى قدرات فردية تمارس فرض إرادتها على الآخرين، وليست هي حالة سيكولوجية، مرة تسوغ استخدامهما العنف، ومرة الوقوف ضدها في نزعة تسويغية وصفية وشكلية.
فالعنف الذي يتميز بفعله الأدواتي لا يعتمد العدد والكثرة بقدر اعتماده أدوات القمع المتعددة والمتقدّمة التي من الممكن أن تستخدمها الحكومات كما المناهضين لها، فحيث يمكنك تسويغ استخدام أدوات العنف للمعارضين للسلطة ستسوغ استخدام العنف وأدواته للسلطة ذاتها. بينما أنه من الممكن التوجه إلى عمل سياسي ينفي فكرة العنف من مصادرها الأولى، وهو تسويغ وسيلة استخدامها غاية، فعندما تكون الغاية الحكم بوصفه عقدًا اجتماعيًا، تصبح السلطة محض فعل أدواتي قابل للتداول وفق مفهومات المشاركة في الديمقراطية «الشعار السياسي الإيجابي المشترك بين متمردي الشرق والغرب هو المشاركة بالديمقراطية»([31]). من هذه الزاوية بالتحديد تجادل أرندت الحركات الثورية كلها شرقًا وغربًا «منظومات اشتراكية وعالم-ثالثية ومنظومات ليبرالية» مقولات السلطة وارتباطها بالعنف، والبحث عن السلطة وفق مقولات النفي والاجتثاث بدلًا من المشاركة السياسية، ما يؤدي إلى انتكاس الإنسان إلى مرتبة الحيوان في شدة عنفه الغريزي «نفي سبب العنف كونه عنصر دفاع يجعل في مقدور البشر أن يتجاوزوا في الحيوانية كافة الحيوانات الأخرى»([32]).
في سياق الثورة السورية، كان النزاع على السلطة هو المحرك الأساس لمجمل الفاعلين في الثورة سياسيًا، فعلى الرغم من إمكان تعليل العنف المقاوم لعنف سلطة النظام الذي اتخذ قرارًا فعليا بشن حرب على المجتمع، أفقده سلطته السياسية من حيث المبدأ وسوغ العنف من بعده، إلا أن المسألة التي لم تُرقب جيدًا في الفكر السياسي هي تلك الأفكار التي أسست لعنف وعنف مضاد، تلك المقدمات اللفظية التي أججت العنف بالاتجاهين سواء من جهة النظام أم من جهة المعارضة بمفعولاتها السياسية والثورية معًا، «إن الخلط بين هذا النوع من الانتفاض، أي الانفجار الغاضب، وبين حركات التحرر الوطني، معناه التنبؤ بإخفاق هذه الأخيرة – ناهيك عن الانتصار، غير المرجح على أي حال، لن يسفر عن تغيير العالم، أو النظام، بل عن تغيير القادة- ص 21». مثل انتشار فوضى التحكم في مناطق الصراع السورية كافة من خلال قوة السلاح، لم يولد لليوم سلطة سياسية بدلًا من النظام الذي فقد سلطته السياسية فعليًا عند تعليله حله الأمني والعسكري، كما كان يقول ماوتسي تونغ «السلطة تنبع من فوهة بندقية»، «فمن فوهة البندقية تنبع أكثر القيادات فاعلية، مسفرة عن أكثر أشكال الطاعة كمالًا. أما ما لا يمكنه أن ينبع من فوهة البندقية، فهو السلطة – ص 47». فعليًا هذه الخلاصة لأرندت نجدها مترسخة اليوم في خطاب النظام والمعارضة، فالكل يبحث عن تغيير القادة أو ترسيخ منطقة نفوذه العسكري ببندقيته أو ما تصل إليه قوته النارية، بحيث تحول معها مسار المفاوضات السياسية لا بناء على أهلية قوى المعارضة بوصفها نظامًا سياسيًا يمثل سلطة ثورة سياسيًا بقدر التنازع على أماكن النفوذ العسكري، ليتراجع بذلك المشروع الوطني السوري في التحول الديمقراطي من مسار باتجاه دولة وطنية تحكمها السياسة بوصفها ثقافة وسلوكًا بشريًا محكومًا بالأهلية والقبول، إلى موضوعة في تبادل الأراضي ومناطق السيطرة، ما قاد إلى تأجيج العنف المستمر إلى ما لا نهاية.
قد يذهب بعضهم إلى القول بأن النظام السوري ليس لديه حل سياسي يقدمه، وهذا قول يبدو أكثر صدقية من غيره، وهو ما برهنت عليه أرندت سلفًا «فالحكم بالعنف يعني أن السلطة قد ذهبت»([33])، إلا أن استمرار قوى المعارضة باستخدام شرعية السلاح في مناطق نفوذها يفقدها سلطتها السياسية بصورة مماثلة للنظام أيضًا، ويجعلها قابلة للاستثمار في المعادلة الإقليمية حول موضوعة الإرهاب، الإرهاب ليس بوصفه جوهر العنف، بقدر ما هو العقل التأكلي والمفتت للمجتمع عندما تغيب السلطة عن فعلها السياسي، وتهزم أمام العنف، وترى أرندت في ذلك «الإرهاب هو شكل الحكومة التي تحل في السلطة حين يكون العنف، بعد أن دمر كل سلطة، قد رفض التنازل عن مكانه، بل على العكس ظل مخضعًا كل شيء لسيطرته»([34])، حتى وصل المجتمع السوري بتعيناته الداخلية كلها إلى مجتمع مفتت اجتماعيًا، هش قابلًا للانكسار بكل اتجاه ممكن، بحيث أن مقولة أرندت ذاتها تبدو ماثلة للعيان في ذلك «والحال أن ذروة الإرهاب تكون حين تبدأ البوليسية بالتهام أبنائها، فيصبح جلاد الأمس ضحية اليوم. وتكون تلك اللحظة هي أيضًا اللحظة التي تختفي فيها السلطة كليًا»([35]).
إن المفعولات الثورية والسياسية للمعارضة لم تتخذ لنفسها مسارًا استراتيجيًا في تفكيك المقولات العنفية وطرائق ممارستها، ما أوقعها فعليًا في شباك التعقيد العالمي الروسي والأميركي وتنازعهم السياسي والدولي باستثمار كريه لموضوع الثورة السورية، فمنها من شارك سياسيًا ولفظيًا جبهة النصرة المتطرفة دينيًا، ومنها من أيد اجتثاث العلويين والأقليات، ومنها من عمل وفق مشروعية سيطرته العسكرية حتى لو فني فريق عسكري آخر، ومنها من عدّ شرعيته الثورية مطلقة ومارس صور الخطف والتعسف في مناطق سيطرته العسكرية ضد قوى المجتمع المدني، مصدر الحكم والتشريع الذي كانت لأجله الثورة، وليس ذلك فحسب، بل مصدر كل سلطة، ما يؤخر فعليًا أي جهد ثوري أو سياسي للوصول لمفعولات التغيير السياسي اجتماعيًا ومحليًا وما يمكن أن يُبنى عليه دوليًا في السياق ذاته «ليس العنف هو الذي يقود المجتمع القديم إلى الزوال بل التناقضات داخل المجتمع، كما أن ظهور المجتمع الجديد يسبقه اندلاع العنف دون أن يتسبب به ذلك الاندلاع»([36])، فالسلطة والعنف في تناقض دائم، وليس العنف هو مقوض السلطة فحسب بل طارد لكل عمل سياسي أو مدني.
في الخاتمة
لم تقدم أرندت كتابًا موسوعيًا في العنف، بقدر ما قدمت خلاصة نقدية مكثفة، استطاعت من خلالها التقاط كثير من العبارات التي قد تمر عليها عين القارئ وتدقيقها، نظن بأنها حميمية لسبب أو آخر، إلا أنها تمثل تناقضًا في ذاتها مع الغاية في الحرية ووسيلتها الثورية والتغييرية أو تمثل محتوى عنفيًا يتوالد ويتكاثر مع الزمن. هي القدرة الفكرية الموسوعية لأرندت، وقد أجازت في حواراتها وكأنها تمارس هوايتها النقدية في تقشير المضمر والمبطن من معاني اللغة واتجاهاتها المتعينة بالواقع فعلًا بشريًا.
كان من الممكن وصف كتاب أرندت بأنه صورة من الرومانسية السياسية التي تبحث عنها، سياسة بلا مفعولات الصراع البشري في السلطة وعليها، لولا أنها قدمت كثيرًا من الملاحظات في متن كتابها تفيد بواقعيتها السياسية التي تحاول التأسيس لها، فعلى الرغم من محاولة نفيها العنف عبر الممارسة السياسية للسلطة إلا أنها وقفت من مبدأ اللاعنف الغاندي من حيث كونه موجه ضد سلطة بريطانيا، ما أدى إلى نجاحه، ولو أنه مثلًا جابه الستالينية أو الهتلرية لكان سيسمى فعلًا بشريًا تافهًا سيتحول إلى عنف بالضرورة، وكأنه محاكاة فعلية لمفعولات الثورة السورية في أوج سلميتها التي واجهت نظامًا دكتاتوريًا مختلفًا عن النظام التونسي، لتصبح مقولتا العنف واللاعنف مجالين واسعين للعب بينهما في اقتناص سياسي أو استثمار على حساب مظالم الناس، وعفوية حراكهم وثورتهم، تستلزم بالضرورة دراسة نقدية تعاين الواقع الفعلي سياسيًا.
وفي جانب آخر، يمكن النظر إلى الكتاب بوصفه واحدًا من المؤلفات الذاهبة بترسيخ النظم الديمقراطية على حساب غيرها من النظم السياسية، لكن الكاتبة -في مواقع عدة- أشارت إلى كثير من مواقع ضعف هذه الأنظمة وقوانينها المحدثة في هذا الاتجاه، بل ذهبت في ملاحظات عدة في ملحق كتابها لتفنيد عدد من الكتابات في الصحف الغربية بمثل نيويورك تايمز ودير شبيغل، منتقدة كلًا من مفعولات سلطة الدولة القومية، وشكل حكمها الديمقراطي، وآلية تعاملها العنيف مع حركات الطلاب الثورية في الجامعات وغيرها، وأيضًا الطرائق العنيفة التي سلكتها تلك الحركات نفسها في وصولها إلى حقوقها المفترضة([37]). وليس ذلك فحسب، بل تلقي الضوء([38]) على أفكار (يورغن هابرماس) في نقده للمنظومة الشمولية التي تمارسها التقنية بوصفها أيديولوجيا، وضعف الماركسية الكلاسيكية منها والمحدثة في مجابهتها. وهنا كان من الممكن لكتاب (في العنف) أن يكمل مساره النقدي لو أنه أشار بوضوح أيضًا إلى المفعولات النقدية التي مارسها يورغن هابرماس في كتابيه (التقنية والعلم كأيديولوجيا) ([39])، (والمعرفة والمصلحة) ([40]) أو ما كتب عنه في هذا السياق في نقد المنظومة العالمية تقنيًا (يورغن هابرماس/ الأخلاق والتواصل) ([41])، بحيث تنتقل تصورات الكاتب إلى عالم أكثر التصاقًا، لا بالسياسة وحدها مثل ما تريد أرندت، بل بعالم مفتوح على حرية التواصل البشري خارج القنوات المجسرة له عبر منظومات العولمة الحديثة. في هذا السياق يمكن القول، إن زمن كتابة كتاب (في العنف) لم يكن يتيح بعد كلية الانفتاح على موضوعة نقدية كهذه، مع أن أرندت أشارت مبكرًا إلى عالم سيستخدم الروبو أو الأسلحة الجرثومية في عملياته العسكرية([42])، بوصفه تخفيفًا للتكلفة البشرية في معادلة العنف، لكنه سيزيد من موضوعة العنف البشري بعامة.
أرندت والفكر النقدي غير المؤمن بشمولية نظرية فلسفية، تدرك تمامًا أن نقدها السياسي لن يقف عند حدود كتابها، وكذا المشتغل في الفكر السياسي يدرك أن الواقع المتغير حمال أوجه متعددة في الاحتمال والمسار، فكما سيولد التمسك بالسلطة أدوات العنف المنبوذة، سيولد التمسك بالمقولات الأيديولوجية العماء عن الواقع ومتغيراته، السقطة ذاتها التي وقعت فيها كل من الأحزاب الشيوعية السورية والقومية أيضًا، عندما لم ترَ في واقع ثورة الشعب السوري نزعة تجاه التحرر ونفي عنف السلطة الدكتاتورية، الفكرة نفسها التي ساقتها أرندت خلف بورودون حول النهائي أو اليقيني في حكم النظريات المكتملة «ملاحظة بوردون العابرة التي تقول أن خصوبة اللامتوقع تبقى صحيحة لحسن الحظ، وما رميها بمزبلة التاريخ كحدث ناتج عن الصدفة أو نتعات التاريخ ليس سوى حيلة قديمة لتبرير يقينية النظرية بعيدًا عن الواقع مالم نم نقم، كبشر، بفعل إزاءها»([43])، تلك النظريات المستسهلة حل الواقع من أفكارها لا من الواقع بذاته، والمسوغة بالضرورة للعنف ضد البشر في واقعهم المتغير خلاف النظرية المطلقة بالأساس، ما يتطلب النقد والعمل النقدي دائمًا عملًا فكريًا وسياسيًا خلاقًا في الحكم والقيمة في آن معًا، لا يقف عند حدود كتاب أو نظرية بقدر ما هو عمل تفاعلي مستمر ما استمرت حياة البشر قائمة.
المصادر والمراجع
- أردنت. حنة، في العنف، إبراهيم العريس (مترجمًا)، (بيروت: دار الساقي، 2015).
- أسس التوتاليتارتية، أنطوان أبو زيد (مترجم)، ط2، (بيروت: دار الساقي)، 2016.
- حمدي. أبو النور، أبو النور حسن، يورغن هابرماس/الأخلاق والتواصل، (التنوير للدراسات والنشر، 2012).
- مرقص. إلياس، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (د.م، 1991).
- هابرماس. يورغن، المعرفة والمصلحة، حسن صقر (مترجم)، دار الجمل، ط1، 2001.
- العلم والتقنية كأيديولوجيا، حسن صقر (مترجم)، ط1، (دار الجمل، 2003).
([1]) https://goo.gl/2op91S
([2]) أسس التوتاليتارتية، أنطوان أبو زيد (مترجم)، ط2، (بيروت: دار الساقي)، 2016.
([3]) حنة أردنت، في العنف، ص10.
([4]) حنة أردنت، في العنف، ص5.
([5]) إلياس مرقص، المذهب الجدلي والمذهب الوضعي، (د.م، 1991)، ص20.
([15]) http://www.dailysquib.co.uk/world/3089-henry-kissinger-if-you-cant-hear-the-drums-of-war-you-must-be-deaf.html
([16]) – ألكسندر دوغين، العالم أقرب الى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى، مركز كاتخيون، 20/9/2016.
([37]) أردنت، في العنف، ملحق 13، ص110، المتعلق بمعدلات الجريمة والتعامل معها بصفتها ظاهرة عنفية، والملحق رقم 9، ص 105 المتعلق بمسألة التمييز العنصري ضد السود ومآلاته العنيفة سواء من الحكومة أو من حركات السود لنيل مساواتهم مع العرق الأبيض.
([38]) أردنت، في العنف،الملحق رقم 10، ص106.
([39]) يورغن هابرماس، العلم والتقنية كأيديولوجيا، حسن صقر (مترجم)، ط1، (دار الجمل، 2003).
([40]) يورغن هابرماس، المعرفة والمصلحة، حسن صقر (مترجم)، دار الجمل، ط1، 2001.
([41])أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورغن هابرماس/ الأخلاق والتواصل، (التنوير للدراسات والنشر، 2012).