وحدة مراجعات الكتب          

مراجعة: حاتم التليلي محمودي

الكتاب: النساء والإرهاب، دراسة جندرية

تأليف: د. آمال قرامي ومنية عرفاوي

النّاشر: مسكلياني للنشر والتوزيع

مكان النشر: تونس

تاريخ النشر: 2017

المحتويات

مقدمة

النّساء: من الانتماء إلى أداء الدّور

نساء مغربيات: سرديّة حداثة ملغومة

الأخريات: من سيتعاطف معهنّ؟

خاتمة

مقدمة

ربّما يصحّ توصيف الإرهاب بكارثة هذا العصر، لا بوصفه امتدادًا لأصناف العنف المروّع جلها التي مارستها التيارات الدينية المتعصبة والمسلحة، بل لأنّ مولد التجلّي المفرط لدمويته كان بالتوازي مع ثورات عربية عدّة، منها التي نجحت نسبيًّا في فرض الانتقال الديمقراطي وإطاحة نظم الحكم الفاسدة، ومنها من هي الآن معرّضة للاستئصال نتيجة إجرام الدكتاتوريات وتدخّل قوى أجنبية في شؤونها، ونتيجة تمكّن الإرهابيين تشويهها، فأصبحت بمنزلة قربان عدميّ لا غد لها ولا مستقبل في ضوء المعارك الطاحنة التي نشهدها خصوصًا في سوريّة. إضافة إلى ذلك، لقد تمكن الارهاب إعطاء الحكومات الجائرة مشروعية طحن شعوبها وإبادتها، وتوسعت مجالات جرائمه خارج الدول العربية بعد أن جرت عولمته بصيغة أو بأخرى، ما يدفع بأيّ باحث اليوم إلى الاعتراف بكارثيته ونجاعته اللاإنسانية.

ضمن هذا السياق التاريخي، بالغ التعقيد والالتباس، وطوال السنوات الأخيرات المحفوفات بمعاجم الدم وأشلاء الضحايا، صدرت مئات المقالات والبحوث والكتب المعالجة لهذه الظاهرة المرعبة، لعلّ من بينها الكتاب الذي صدر في آخر سنة 2017 وحمل عنوان “النساء والإرهاب”. أما ما يدفعنا إلى مراجعته الآن بوصفه مبحثًا متعلّقًا بفهم الظاهرة الإرهابية من زاوية جديدة نرى أنّها لم تُطْرَق بعد من الدارسين والمحللين، ألا وهي تلك المقاربة الجندرية التي صاحبته، وهذا ما لا يفصح عنه العنوان في أوّل لحظة نتأمّل فيها غلاف الكتاب فحسب، أو الصورة المصاحبة له بعد أن تضمنت مشهد امرأة ملثّمة ومسلّحة، وإنما كلمة النّاشر (شوقي العنيزي) التي نقرأ منها على ظهر الغلاف ما يأتي: “لا يحلّل هذا الكتاب سير النّساء والفتيات المنتميات إلى الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية فحسب بل إنّه ينظر في بنية العلاقات: النساء/ الرجال، والنساء/ النساء، وأشكال توزيع السلطة وبناء الهويّات، وأنماط الخطابات (…) ولا يهتمّ الكتاب بالفئة التي اختارت المشاركة في الأنشطة الإرهابية فقط بل إنّه يحاول منح الصوت لأمّهات وزوجات وشقيقات ارتبط مصيرهنّ بالإرهاب”.

أيّ دور إذًا للنساء في صناعة الإرهاب؟ وأيّ مكانة لهنّ؟ وما مدى نجاعة حضورهنّ وتأثيرهنّ في إثارة هذا الرّعب الكوني الذي صرنا نراه يوميًّا؟ وما مصيرهنّ أمام النّزعة الذكوريّة المتسلّطة لدى الجماعات الإرهابية؟ وهل أقصى ما يمكن أن يُسْمَحُ لهنّ به هو ذلك الحضور الإيروسي المتعلّق بالجنس أم أنّ لهنّ أدوارًا أخرى كالقتال وحمل السلاح؟ وما ذنب الأمّهات والزوجات والشقيقات وغيرهنّ من النساء اللاتي التجأ رجالهنّ وأبناؤهنّ إلى القتال مع التنظيمات الجهادية فماتوا أو لقوا حتفهم وضاعت أخبارهم؟ أي صورة للمرأة في منظور الإرهاب وخلفياته الدينية؟

يبدو أنّ تنشيط هذه الأسئلة من باب محاورة هذا الكتاب لم يكن من عدم، فمثلما نستدلّ على ذلك في أثناء تفحّصنا الغلاف، ندرك ذلك أيضًا من خلال فصوله السبعة، إذ حمل الأوّل عنوان “دراسات الإرهاب والجندر” والثاني “جندرة القتال/ الجهاد/ الإرهاب” والثالث “فتنة التنظيم والجماعة أو في دواعي الانتماء” والرابع “أدوار النساء داخل الجماعات المتطرّفة والإرهابية” والخامس “الإرهابيات المغاربيات “دراسة بورتريهات” والسادس “في علاقة الأسر بالإرهاب: آلام ومعاناة ووصم” أما السابع فقد حمل عنوان “الإرهاب وتشكل الهويات”. تؤلّف هذه العناوين جميعها مداخل إضافية لفهم متن الكتاب في ما بعد، إذ تمثّل الدلالات معظمها مفاتيح لجلّ تلك الأسئلة التي طرحناها سلفًا، نحن نضعها الآن على طاولة التشريح بقصد معرفة كنه الظاهرة الإرهابية من زاوية جندرية تبحث أيضًا في التطرّف النسائي لا الرجالي فقط، وبخاصة بعد أن تحوّل هذا الأمر إلى ظاهرة لافتة للانتباه منذ “ارتفاع أعداد المنتسبات إلى الجماعات الإرهابية، والمتعاطفات مع الجماعات المتطرّفة، وإقدام عدد من المغاربيات على المشاركة في الأعمال الإرهابية تخطيطًا، وتنفيذًا يضاف إلى ذلك شدّ عدد من التونسيات الرحال إلى “بلاد الشّام” لمؤازرة الإخوان”([1]).

النّساء: استرداد لتاريخ القتال وفتنة الانتماء إلى الإرهاب

تكمن طرافة الكتاب في كونه يدرس الظاهرة الإرهابية من زاوية اهتمامه بمنزلة النساء في صناعة العنف وممارسته، وهذا ما لم يُدرَس عمومًا في الدراسات والبحوث معظمها، وحتّى إنّه لم يعد ممكنًا إغفال الحضور النسائيّ أو شطبه من دائرة العنف الإرهابيّ فإنّ الإعلاميين والباحثين معظمهم نظروا إلى ذلك من زاوية اجتماعية يسودها المنطق الذكوريّ، إلا أن الحقيقة باتت تأخذ منعرجًا مخالفًا، فتجنيد المرأة للقتال أو اصطفافها وراء التنظيمات المتطرّفة ما هو إلا نزعة ثوريّة بافلوفيّة ضدّ التسلّط الرّجاليّ، فلم تعد ترمز إلى السلام أو الطمأنينة أو الضعف أو النقصان بقدر ما هي الآن لا تقل ضراوة وقوّة عن الرّجل، وتعبّر (آمال قرامي) عن ذلك بالقول “حين تتّخذ المرأة العنف المادّي وسيلة للتغيير، وتلحق الأذى بالأبرياء فإنّها تربك نسق التمثّلات فتقضي على التصوّرات التقليديّة التي يحملها المجتمع البطريكي عن النساء”([2]). لا يعدّ ذلك نوعًا من التعاطف تجاه هذا السلوك القائم على العنف والقتل، بقدر ما يمثّل حافزًا لإعادة النظر في منزلة المرأة اجتماعيًا وسياسيًا منذ صدر الإسلام بعد أن جرى استبعاد حضورها في الحروب والغزوات من المؤرّخين، وهذا ما يجعل تفكيك الظاهرة الإرهابية الحاليّة أمرًا أكثر شموليّة.

نقرأ في هذا الكتاب ما يقوّض عددًا المزاعم القائلة بضعف النّساء تاريخيّا وعدم مشاركتهنّ في الغزوات والحروب، إذ بقدر ما كان لهنّ دور كبير في تحفيز الرّجال على القتال، شاركن أيضا في عمليّات القتل مثلما كان الحال مع (أسماء بنت يزيد الأنصارية) التي قتلت وحدها سبعة من الروم. إضافة إلى ذلك فإنّ المدوّنة الفقهية على الرغم من اعتراضها على النساء في أكثر من موضع، أباحت لهنّ الخروج مع الرجال والمجاهدين، وحتّى إن دورهنّ كان ثانويًّا مقابل الرّجل، فإنّ ذلك لم يمنع في ما بعد اكتساحهنّ للعمليات الإرهابيّة مثلما هو الحال مع حركة (نمور التاميل) في سريلانكا التي “اعتمدت في مواجهتها على العناصر النسائية الحاملات للأحزمة النّاسفة”([3]). أمّا حديثا، فقد صار واضحًا وجليّا مشاركتهنّ في التخطيط والممارسة لحوادث العنف، بعد أن جرى تجنيدهنّ مع تيّارات إرهابيّة معاصرة كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش. لقد استغلّت هذه التنظيمات واقع القضية الفلسطينية وتاريخ النساء المقاومات ومن ثمّ بحثت عن الشرعية الدينية والفقهية التي تخوّل للنساء ممارسة القتل والتفجير وحمل السلاح نوعًا من التلاعب بمصيرهنّ. إنّنا على ما يبدو تجاه نوع جديد من الإرهاب، فعلى غرار الحضور النّسوي المهمّ الذي بات يشهده، بات يكتسب طابعًا عالميًا وحداثيًا من خلال توسّع رقعة نشاطه ومن خلال إمكاناته المذهلة في توظيف عالم التكنولوجيا والتقنية، وهو ما يجعله يكتسب فتنة مذهلة تخوّل له استقطاب مزيد من المقاتلات والمقاتلين.

من هشاشة هويّة الأشخاص إلى المنعطفات التكنولوجيّة المريعة ومنهما إلى حالات الفقر والتهميش وتكميم الأفواه ووصولًا إلى الرّغبة الملحّة في إيجاد معنى لوجود الذّات، يسهل كثيرًا أن يتحوّل المرء إلى شخص عنيف ومتطرّف، وأمام انسداد الأفق وحالة اليأس ودمويّة الدكتاتوريّات، تصبح التنظيمات الإرهابية الملجأ الوحيد لهؤلاء: هكذا تنتفض النساء بدورهنّ ليقعن فريسة سهلة في شرك الدجّالين والدمويين. يصبح الإرهاب بهذا الشكل بمنزلة الوطن المتخيّل بالنسبة إلى من رفضها الوطن الأصلي وبخاصّة أمام وضع النقص والسيطرة الذكورية أيضًا. ثمّة رغبة في التحرّر من المجتمع الرجالي نتيجة “بنية المجتمعات البطريكية التي يسود فيها اضطهاد النّساء، والفصل الصارم بين الجنسين والممارسات الإقصائية، وهي عوامل من شأنها أن توفّر مناخًا اجتماعيًا يسمح للأبناء بالتحوّل إلى إرهابيين”([4]). وثمّة أيضا رغبة في التخلّص من الفقر كما السلطة السياسيّة الجائرة، لكنّها رغبة قادتها ممارسة مغلوطة فقادت بدورها إلى هجرة نحو الحتف والموت، إذ في النّهاية تمثّل نوعًا من التّدمير الذّاتي، وذلك من منطلق الدّفع بحالة الضعف والتهميش والعنف المسلّط عليهنّ إلى أقصاه.

لقد تمكّنت تلك التنظيمات الإرهابية -بما لها من سحر خطابيّ وقدرة على إحداث مغالطات تاريخيّة كبيرة وقوّة كبيرة على التواصل في الوسائط الافتراضية وتلبّسها بحقائق يقينية مصدرها الدّين- صيدَ عدد مهول من النّساء الباحثات عن عاطفة رجاليّة والرّاغبات في تغيير واقعهنّ أو المقتنعات بضرورة خدمة الدين بوصفها ضرورة قصوى: هكذا كانت هجرتهنّ إلى الإرهاب، وفي ما بعد جرى تحديد مهمّات كلّ واحدة، سواء كانت حاملة للسلاح أم مساهمة في تسفير أخريات أو خادمة للمقاتلين في صفوف أعتى التنظيمات التي يركّز عليها الآن أكبر الباحثين والدارسين بعد محافل الدم التي وقعت في كثير من البلدان وبخاصّة سوريّة.

النّساء: من الانتماء إلى أداء الدّور

ليس الإرهاب معطى لفظيّا وميتافيزيقيّا مجرّدا، بقدر ما هو التقاء بين مجموعة متباينة من النّاس، يؤلّفون في ما بينهم صناعة حدث مروّع وقائم على القتل والعنف. يفترض على كلّ من هؤلاء أن يؤدي دورًا ما، ويحقّق مهمّة بعينها، ومن دون فضاء يلتقون فيه لا يمكنهم النّجاح في تحقيق ذاك الحدث. عليه صار يمكن القول إنّ المجنّدات في صفوف التنظيمات الإرهابية معظمهن وجدن في نهاية المطاف الفضاء الذي من خلاله يؤدين أدوارًا مختلفة، وهي أدوار تؤلّف في ما بينها جميعا صناعة الموت، وهذا يتطلّب أوّلًا مهمّة أدائيّة تقوم بها كلّ مجنّدة، ويراعى في ذلك قدراتها وإمكاناتها على تنفيذها ومن ثمّة تتناسج جملة الأشكال الأدائيّة لتصبح بمنزلة الضفيرة الواحدة على أن تسفر في ما بعد بحدث إرهابيّ الذي يتبنّاه التنظيم الذّي يعدّ بدوره المنتج الأكبر لهذا الحدث الذي يتحقّق في فضاء ما.

سَيُخَيَّلُ لنا مع  كتاب “النّساء والإرهاب” أنّنا مقابل طقس احتفالي بعينه، أو لنقل من باب المجاز اللغوي إنّنا مقابل عمل فُرْجَويّ تقوم به جملة من الشّخصيات كلّ منها تؤدّي دورها الخاصّ في سبيل صناعة فرجة ذلك العرض الاحتفاليّ، أمّا عن أدوار النّساء المتعلّقة بصناعته فهي متباينة ومختلفة ومتنوّعة، إذ منها المتعلقة بالدور التقليدي للمرأة مثلما كان سائدًا في أزمنة المعارك والغزوات الإسلامية، ومنها المتعلّقة بالاستقطاب والتجنيد، ومنها المتعلّقة بالدّعم الإعلامي، ومنها أيضًا المشاركة في العمليّات الانتحاريّة، إضافة إلى توفير المتعة الجنسية والمساهمة في تهريب الرسائل أو التخطيط.

هذه الأدوار المختلفة التي تقوم بها جملة من النساء في التنظيمات الإرهابية بمختلفها، تعكس أكثر من دلالة ومعنى، فهي من جهة تستأصل الهيمنة الذكورية في المجتمعات الأصولية وتوحي في ظاهرها بنزعة تحرّرية حقّقتها المرأة، إلا أنّها في نهاية المطاف حرّية قائمة على بناء المستقبل عبر بوابة المشي إلى الخلف والتقهقر إلى الظلامية، أما من جهة أخرى، فهي توحي بنمط تنظيمي قويّ ومخيف، إذ إنّ هذه الأدوار جميعها تؤلّف نشاطًا اجتماعيًا يؤدّي في ما بعد إلى صناعة الحوادث الإرهابية، وهي حوادث ستنتقل في ما بعد إلى الوسائط الافتراضية كما لو أنّها فرجة مهجّنة لكن لها من القوّة والمتانة التقنية ما يجعلها تستقطب مجنّدات أخريات وخلق فزّاعة عالمية مخيفة.

ضمن هذا السياق تصرّح مؤلّفتا الكتاب، أنّه جرى استغلال النّساء بشكل مروّع، وذلك من خلال تحفيزهنّ على الانتقام بدافع دينيّ أو جنسيّ أو ثقافيّ من كلّ سلطة لحقت بهنّ، حتّى إنّ مشاركتهنّ في القتل أصبحت بمنزلة ردّ اعتبار لهنّ ومحفّزا على إثبات كينونتهنّ. رُبَّ عدميّة كهذه تدفع بامرأة ما إلى أن “تتباهى أمام الكاميرا بحمل السلاح ولا تتوانى عن الإشادة بالعنف الممارس في “الدولة الإسلامية” بل وصل الأمر ببعض الفتيات إلى حمل رأس من نفّذ فيه الحدّ”([5])، ولكن علينا أن ننتبه، فهذه العدميّة لم تصب النساء فحسب، بل أصبحت عامّة وضحيّتها الرّجال أيضا، وكثيرًا ما نقلت إلينا الوسائط الافتراضية نماذجًا من فرجات عدة بشعة وفظيعة إلى حدّ لا يطاق، منذ حرق الطيّار الأردني “معن الكساسبة” وذبح الطفل السّوريّ “عبد الله العيسى” على يد أتباع “حركة نور الدين الزنكي”، ومنذ عشرات المشاهد الأخرى المفزعة. هذه العدميّة التي لا يحكمها غير قانون الدمّ لم تسقط فيها نساء التنظيمات الإرهابية ورجالها فحسب، بل سقط فيها أيضًا من يصدّر نفسه الآن مدافعًا عن الأوطان ضدّ الإرهاب، وتكشف الوقائع الدائرة حاليًّا عن ذلك، فكم مرّة نشاهد جنودًا وضباطًا تابعين إلى الأسد أو غيره ينكلّون بأجساد الإرهابيين وبشكل بشع جدًّا. إنّنا مقابل عالم أثبت عجزه على التقدّم في اتجاه المستقبل، فصار لزامًا عليه ابتكار أعداء له كي يكتسب مشروعية وجوده، وليس أدلّ على ذلك من هذه الشّذرة التي نقرؤها الآن “تأتي قوّة الشرّ كمجدّد للقوّة الإلهية، هنا أيضًا يتعلّق الأمر بعرض شبه لاهوتيّ، لدرجة يمكن الاعتقاد أنّه لو كان الإرهاب غير موجود، لابتكره النظام”([6]). هكذا يمكن القول بعدم إدانة التنظيمات الإرهابيّة وحدها بقدر ما يمكن إدانة الأنظمة المحاربة للإرهاب لأنّ دكتاتوريتها وعجزها أفضيا بشكل أو بآخر إلى صناعة الإرهاب أو التواطؤ معه، وهو ما سيغذّي، ضرورة، ضراوة الحرب الدّائرة والتجاء النساء إلى القتال نوعًا من ردّ فعل بافلوفيّ.

نساء مغربيات: سرديّة حداثة ملغومة

لئن تكفّلت (آمال قرامي) بفصول هذا الكتاب معظمها، فإنّ (منية العرفاوي) وبخاصّة في الفصل الرابع قدّمت لنا جملة من الأسماء لنساء مغربيات تورّطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الإرهاب، وهنّ تباعًا فتيحة الحسني ومليكة العرود وحسناء آيت بو لحسن وحياة بومدين وإيمان لغريس ومحرزية بن سعّد وفاطمة الزواغي وغفران شيخاوي وأسماء البخاري ومنيرة السويسي وأماني بن شلبيّة وناهد العامري.

ما يعنينا في هذا السياق ليس خطر هذا العدد من النّساء، وليس مهمّة كلّ امرأة منهنّ وما اقترفته من جرائم، وليس مصيرهنّ، وليس حضورهنّ الفعليّ سواء في تونس أو سوريّة أو في مناطق أخرى من النّزاع، بل ما يعنينا هو كيف يمكن أن نقوّض بهذا الشكل السردية التي بشّرت بها الأنظمة التونسيّة قبل الثورة وبعدها إن صحّ القول. إنّ ما يدعو إليه اليوم الحداثيون هو أنّ المرأة في تونس قطعت أشواطًا كبيرة في سبيل تحقيق المساواة مع الرّجل وفي جلّ الميادين، وما يدعون إليه أكثر هو أنّ حرّيتهنّ كانت منذ محاولات الرّئيس الراحل “الحبيب بورقيبة” وما سنّه من قوانين أو تشريعات في مجلّة الأحوال الشخصية، لكنّ السؤال المركزيّ الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت المرأة التونسية فعلًا كذلك، فما الدافع الذي جعلها تبارك هجرتها إلى الموت والقتل والعنف؟. رُبَّ مفارقة مدهشة تجعلنا نقرّ الآن بأنّ ما قدّمه الرئيس السابق ليس سوى إسقاطًا حداثيًا غربيًا على مجتمع ما زالت تُخَصَّبُ فيه الأصوليات والأفكار الرجعية، وما زالت مواطناته ومواطنيه تحت وطأة التهميش والفقر. إنّ ما يدفع اليوم بنساء مغاربيات “تونسيات” إلى الهجرة نحو التنظيمات المتطرّفة والإرهابية هو ما ينسف أسطورة الحداثة الرّائجة في تونس، كما يدين دكتاتوريات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.

يوحي الإرهاب هنا بأنّه علامة جدّ واضحة على فشل المشروعات الحداثية، وإذا كنّا نفترض أنّ “الدولة الحديثة لدى العرب اليوم تمارس “العنف الشّرعي”، وتقتات بعض مشروعيتها منه. لكنّها لا تمارس إرهابا لأنّ الإرهاب لا يستمدّ من الحقّ الوضعيّ شرعيته الخاصّة. فما هو الإرهاب إذًا؟ إنّه ضرب من الدمار الذي يصرّفه رهط من النّاس باسم حقّ لا علاقة له من حيث طبيعته لا بالدولة الحديثة ولا حتّى بالدولة الوسيطة. إنّه ليس عنفًا ولا فتنة، بل هو ممارسة من نوع جديد تحارب الدولة الحديثة ولكن على أرضيتها التاريخيّة عينها!”([7])، فإنّه سيحقّ لنا طرح السؤال الآتي: ما الحداثة في سياق الدكتاتوريات العربية؟ إنّها محض استحداث سلفيّ وماضويّ، وما مدى أهمّية الدولة المدنيّة وقد انتقلت -في المستوى الفكري والسياسي- من وعدٍ يقول بالعقل التنويري إلى حقيقة تقول بعقل أداتي ونفعي، إنّها محض مصنع تسيّره آلات حداثة ملغومة لا يمكن بدورها إلا أن تشرّع ابتكار الإرهاب ضدّ عنفها الخاصّ.

الأخريات: من سيتعاطف معهنّ؟

لا يرمي الكتاب في فصله السادس إلى التعاطف مع الإرهابيات من عدمه، بقدر ما يحاول تسليط الضوء على نساء أخريات اكتوين بنار الإرهاب، كالأمّهات اللواتي فقدن أقرباء وأبناء وبنات، هذه المقاربة الجندريّة التي ظلّت وفيّة إلى أبعد حدّ في تناولها لهذه الظاهرة تدفعنا الآن إلى مزيد من طرح الأسئلة، إذ ما الذي يمكن أن تدلي به امرأة أو تصرّح به وهي التي فقدت ابنها على يد الإرهابيين؟ وما الذي يمكن أن تقوله في صورة ما إذا كان بدوره إرهابيّا ولقي حتفه؟. مثلما ثمّة المتعاطفة مع التنظيمات الإرهابية ثمّة أيضًا من هي ضحيّة الجهل والتهميش والأميّة، وعلى الرغم من كونها خارج معادلة النزاع برمّته تفقد وليدها. للأولى حكمة الشهادة والفخر بما أنجزه ابنها قاتلًا أو مقتولًا، أما للثانية فليس لها غير العزاء والصبر والآلام في الحالات كلها.

ثمّة أمثلة عدة تسوقها لنا (منية العرفاوي)، لعلّ أهمّها تلك المتعلّقة بذلك القاتل الضحوك، الإرهابي (سيف الدّين الرّزقي) الذي قام بأبشع عمليّة قتل شهدتها تونس في سنة 2015، وتحديدًا في نزل (الإمبريال) في محافظة (سوسة)، إذ تمكن ببندقية كلاشنكوف من قتل حوالى تسعة وثلاثين سائحًا. بعد محاصرته وقتله وصل النّبأ إلى أمّه فصرخت متعجّبة “لن أصدّق أبدًا أنّ ابني فعل ذلك، لن أصدّق أبدا”([8]). ولكنّه في النّهاية قاتل مات هو الآخر، أمّا ما تبقّى ففجيعة مضاعفة لا يمكنها أن تتوّج إلا بلحظة تراجيدية بالغة المفارقة، إذ بين دمع أقرباء الضحايا وغضب العامّة وسخط بعضهم ضدّ الإرهاب ودمع تلك الأمّ يكمن ذلك الحرج الأخلاقي.

مثال آخر تورده (منية العرفاوي)، كان قد هزّ وقعه الشارع التونسي، ألا وهو نحر الرّاعي (مبروك السلطاني) على يد مجموعة إرهابية في جبل المغيلة في الوسط الغربي التونسي أمام ابن عمّه الذي جرى إجباره من قبل الإرهابيين على أن يحمل رأس الضحيّة ويعود به إلى أهله. في تلك اللحظات العصيبة عاد قطيع الماعز إلى الأمّ (زعرة) ولم يعد ابنها. وعلى العكس، فقد جرى الاحتفاظ برأس (مبروك السلطاني) في ثلّاجة بانتظار العثور على باقي الجثّة في الجبل. ما يزيد من وقع معاناة تلك الأمّ في ما بعد هو أنّ أولئك الإرهابيين وبعد مدّة من الزمن تمكنوا من ذبح أخي (مبروك السلطاني) بالطريقة والوحشية نفسيهما، ولا أحد الآن لديه من الجرأة الأخلاقية ما يكفي لتقديم العزاء إلى تلك الأمّ.

أمثلة عدة نقرؤها في هذا الكتاب عن أمّهات وزوجات لا علاقة لهنّ من بعيد أو قريب بالإرهاب، ولكنّهنّ اكتوين به، في سورية وليبيا وتونس والعراق وفي مدن أخرى من بقاع العالم. لا يتعلّق الأمر هنا بدهشة أخلاقيّة بتنا نعيشها في هذا العالم، بقدر ما يمكن القول بأنّه على الإنسانية الآن أن تتجاوز الذّبح بغاية إعادة التفكير في هذا العالم نفسه.

خاتمة

قادتنا مصاحبة هذا الكتاب إلى نتائج عدة ومختلفة، وبقدر ما يمكن الاعتراف بمدى أهمّيته، يمكن أيضا الظفر بملاحظات لا يمكن إغفالها، فعلاوة على المنظور الجندري الذي تنزّل فيه كان أيضًا من تأليف امرأتين، وهو ما يوحي بنقلة في نسق التمثّلات السياسية والاجتماعية القائمة بوصفها الآن باتت تمثّل نوعا من انهيار الحصن الذكوري السّائد في مجالات شتى.

من جهة أخرى، كشف لنا الكتاب لا عن وهم الحرية التي طالبت بها النساء الإرهابيات -بوصفها حرية قائمة على ردّ فعل بافلوفي فكانت تمثّل نوعا من الإفراط في التدمير الذّاتي، فالهرب من جحيم الأنظمة السلطوية ومن الدكتاتوريات ومن التسلّط الذكوري لم يتوّج إلا بالإقامة في جحيم آخر قائم على الفتك والقتل والعدمية-، ولا عن هذا الكابوس المرعب الذي يدعى إرهابًا، وإنما أيضًا عن وحشيّة الأنظمة الدكتاتورية وكيف تساهم بشكل أو بآخر في اختراع العنف الذي يدفع بالنساء كما الرجال إلى التطرّف.

لم يعد الإرهاب مقتصرًا على النساء العربيات والمغربيات، بقدر ما أصبح يضمّ في نشاطه جنسيات من شتّى بقاع العالم، وهذا إن كان يعكس حجم العنف النسائي كما الرّجالي، يوحي أيضًا بعولمة هذه الظاهرة المرعبة، فلم تعد مقترنة بمستواها الجغرافي المشرقي أو الأفريقي بقدر ما أصبحت تكتسح الحدود الجغرافية، وهذا ما يعكس خللًا واضحًا في الأنظمة العالمية برمّتها، ويدعو مجدّدا إلى ضرورة إعادة التفكير في الرّاهن الدولي لأنّه بات من الواضح أنّه يتقدّم إلى أنفاق مغلقة لن تزيده إلا وقوعًا في الكوارث.

([1]) آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، مسكلياني للنّشر والتوزيع، ط1، تونس، 2017، ص 11

([2])  آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، ص 53.

([3])  آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، ص 65.

([4])  آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، ص 126.

([5])  آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، ص 271.

([6])  جان بودريار، إدغار موران وآخرون، عنف العالم، عزيز توما (مترجم)، دار الحوار للنّشر والتوزيع، ط1، 2014، ص 63.

([7]) فتحي المسكيني، الهويّة والزمان، دار الطليعة للطباعة والنّشر، بيروت، ط1، 2001، ص 76.

([8]) آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب، ص 395.