الكتاب:
اسم الكتاب: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات
المؤلف: برهان غليون
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
الطبعة الثالثة، 2012.
عدد الصفحات: 178.
لا شك في أن المسألة الطائفية إحدى المشكلات خطرة الخطِرة التي تواجه الأمم، وتعمل على تقويض أركانها؛ لما تفرزه من اصطفافات، تؤدي إلى تفكك المجتمعات، وتسعى إلى زعزعة السلم الأهلي؛ لينتهي الى حالة من الشلل على الصّعد الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ونتيجة لتصاعد النزاعات الطائفية -مؤخرًا- في منطقتنا العربية؛ فقد أفرد الدكتور برهان غليون كتابًا عنها، متلمّسًا إرهاصاتها، ساعيًا إلى كشف أسبابها، عاملًا على اقتراح حلولٍ ملائمة، من وجهة نظره.
لقد قسم الدكتور برهان غليون كتابه إلى مقدمة وأربعةِ فصول، يتناول كلٌ منها عددًا من الموضوعات؛ لتكتمل الصورة أمام القارئ من حيث الأسباب والنتائج والحلول؛ فجاء البحث مستوفيًا شروطه البنائية، حيث ابتدأ بمقدمة تحليلية، استعرض فيها أسباب ابتلاء مجتمعاتنا العربية بهذا الطاعون الطائفي، ثم سعى إلى اقتراح بعض الحلول. وقد اشتمل الكتاب على الفصول التالية:
الفصل الأول: الأمة، الأقلية والأغلبية.
الفصل الثاني: توزيع السلطة وتقسيم الجماعة.
الفصل الثالث: النزاع الطائفي.
الفصل الرابع: مواد نظرية لدراسة المجتمع الطائفي.
استطاع المؤلف -في بحثه- أن يُظهر كثيرًا من الأسباب الكامنة خلف هذه المسألة الشائكة، والتي يعتقد كثير من الكتّاب والباحثين السياسيين والمثقفين والنقّاد أنها من تداعيات التعددية الدينية أو المذهبية، غافلين عن أسباب أخرى، ليست بأقل أهمية عن الأولى وهي الانتماء والمواطنة ، بل قد تزيد أهمية عنها في بعض المجتمعات، بحسب طبيعتها؛ لذلك، يقول الدكتور برهان غليون: “والواقع أن الفكرة الرئيسة التي ميز طرح المسألة الطائفية، في هذا الكتاب، هي تحرير مسألة الطائفية، التي كثيرًا ما نشكو منها في مجتمعاتنا المشرقية المعاصرة، عن المسألة الدينية، وربطها بتحليل العلاقات الاجتماعية والسياسية، المتعلقة ببنية السلطة بشكل خاص”، ويقول أيضًا: “وحتى وقت قريب ساد الاعتقاد أن أصل الطائفية وجود التعدد المذهبي والديني، الذي يشكل خصيصة من خصائص مجتمعاتنا، وفي مثل هذا التصور الستاتيكي والسطحي، لمسألة الطائفية، تبدو المشكلة وكأنها نتيجة عاهة بنيوية، مرتبطة بتكوين المجتمعات العربية المشرقية ذاتها، ولا يمكن فصلها عنها، طالما بقيت هذه المجتمعات ذات بنية تعددية؛ ما يعني أن لا أحد يملك حلًا نهائيًّا أو علاجًا شافيًا لها”.
لذلك نجد الدكتور برهان غليون يضع يده على جرحٍ، ما فتئ ينزف، ويستنزف مقدرات المجتمعات المشرقية، فيقول: “ليست التعددية الدينية هي السبب في إضعاف الدولة القومية أو الوطنية، وإنما غياب الطابع الوطني والقومي الحقيقي لهذه الدولة”.
ونتيجة للتشخيص السيء، واللاواقعي، للمسألة الطائفية؛ أخذت المجتمعات المشرقية بوضع حلول آنية غير مفيدة، بل قد تتصاعد التوترات الطائفية في المستقبل المتوسط، أو البعيد، ونتيجة لهذا الخلط في تبيان حقيقة الأسباب الكامنة وراء مشكلة الطائفية؛ فقد وقعت مجتمعاتنا العربية في طائفية سلطوية لها ماهية جديدة، ظنًّا من قادة المجتمعات، ونخبها السياسية والفكرية، أن علاج الطائفية يمرّ، كما يقول الدكتور برهان غليون: “عبر إدانة العصبيات، والتضامنات الأهلية، كلها وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية، وهو ما يعني -عمليًّا- تفكيك عرى التلاحم المجتمعي، وتحويل الممسكين بالسلطة والشأن العام أنفسهم، داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلى طائفة وحيدة، محتكرة للسلطة والثروة كلتيهما، بصورة نهائية”.
وهذا أهم ما سعى المؤلف إليه لتسليط الضوء عليه في بحثه هذا، ولعله كان موفقًا في إبراز هذه الأسباب، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الأسباب التقليدية لهذه الفوبيا الطائفية، التي سعى مفكرو الشرق وسياسيوه لإظهاره كسبب رئيس، مع أن كثيرًا من المجتمعات العربية والشرقية متجانسة -إلى حدٍ ما- ثقافيًّا ودينيًّا ومجتمعيًّا، غير أن بذور الطائفية وإرهاصاتها تقضُ مضجعها ليل نهار.
ومن خلال العنوان العريض الذي وضعه المؤلف: “البحث عن إجماع قومي جديد”، بدأ الدكتور برهان غليون أولى خطواته نحو تحديد مفهوم جديد للمجتمعات الشرقية، ذات الأغلبية التي تدين بالإسلام، حين قال: “عُرف حتى القرن الثامن عشر على الأقل بروحه السمحة والمتسامحة”؛ حيث أشار، من خلال نظرته إلى الواقع العربي، وتشخيصه للطائفية، المتغلغلة في أدق تفاصيله الاجتماعية والثقافية والسياسية، إلى أن مشكلتنا ليست التعددية المذهبية، أو الدينية فحسب، وأن الأقليات لا تقتصر على الأقليات الدينية، حيث قال: “فهناك أقليات أقوامية(1) تطرح من المشكلات ما لا يمكن حله في إطار المفاهيم، والممارسات الراهنة للسياسة العربية”، في حين أن كثيرًا من المجتمعات العربية تنتمي إلى مجموعة دينية واحدة، غير متمايزة مذهبيًا أو عقائديًا، لكن تجد بينها، من الصراع، ما لا تجده في غيرها من المجتمعات، ذات العصبية المذهبية. يقول الدكتور برهان غليون: ” فالعلاقات الأشد حساسية، وتوترًا، هي تلك التي تنشأ بين جماعات، تنتمي إلى القومية ذاتها، والثقافة ذاتها”.
ونتيجة لوجود الأقليات في المجتمعات العربية، ذات الأغلبية غير المتمايزة؛ تحاول هذه الأقليات أن تحافظ على تمايزها الثقافي والديني والقومي، مع محاولتها الاندماج داخل هذه المجتمعات، فيقول المؤلف: “أما عندما يتجاوز الأمر مسألة تعيين التمايز الذاتي، لجماعة صغيرة ضمن جماعة قومية أكبر؛ فتتحول القضية -مباشرة- لدى الأقلية الدينية “الأقوامية” المتميزة، إلى قضية قومية أو شبه قومية”.[1]
إلا أن الحديث عن الأقليات الدينية، من المحرمات في مجتمعاتنا العربية، وهذا ما أكده الدكتور برهان غليون في قوله: “أصبح تأكيد الذات المحرم، على الصعيد الأيديولوجي، يتجسّد في تأكيد العلاقة بالدولة، وفي النفوذ إلى السلطة، وظهر -أحيانًا- كصراع سياسي بين حداثة وتقليد، بين دولة علمانية ودولة دينية”.
درجت العادة، في المجتمعات العربية، عدّ التهرب من مشكلاتها هو طريق الحل، بما يماثل فعل النعامة في مواجهة التحديات، عن طريق نخبها، في قوله: “لا يزال الإنكار هو أساس الحوار السياسي، من أجل وحدة وطنية”، “وأصبح التساوي، في فقدان الهوية، هو شرط قيام مساواة بلا هوية، كما أصبح التخلي عن الذاتية قاعدة بناء الدولة العصرية، وفي الوقت الذي أصبحت فيه فكرة التخلي عن الذاتية الثقافية، للجماعات المختلفة المكونة للجماعة القومية، هي أساس الممارسة السياسية”.
فهذه الحلول التي قامت على أساس باطل، في محاولة دفع كل جماعة إلى إنكار تمايزها الثقافي والديني، كشرط للوحدة الوطنية المزعومة، كانت ذرًا للرماد في العيون “اذ هي اتفاق سلبي باطل”؛ ما يؤدي إلى اضمحلال الهوية الوطنية المتمايزة بتعددها، أمام ((الجماعات القومية الخارجية الأخرى؛ الأمر الذي يعني، في العصر الراهن، الاستلاب للغرب، وتقديس ثقافته”.
وعلى الرغم من أن المؤلف أطال النفس، في تقرير أن المجتمعات المتمايزة ثقافيًا ودينيًا، لا تُبنى الوحدة الوطنية فيها، على أساس إنكار كل جماعة منها لما يمايزها، ويميزها، من أفكار وعقائد، كما تحاول النخب التقليدية الفكرية أن تصنعه؛ ما يعاملها بخلاف قصدها، إلا أنه استطاع -يقينًا- أن يضع النقاط على الحروف لما تمرّ به الأمة العربية اليوم من أعاصير، تهددها ككيان موحد مستقل، وتجعله رهنًا لمخطط الخارج وخططه.
في الحقيقة إن الصراع بين الأقلية والأغلبية، في أي مجتمع من المجتمعات، إنما يعود إلى التقسيم العمودي لهذا المجتمع الذي يعتمد على تنمية التمايز، واللجوء إلى العصبية عند مواجهة المشكلات، لذلك كان الحل لفك هذا التخاصم، بين الأقلية والأغلبية، هو محاولة إيجاد تقسيمات أفقية، تُخرج الشعب، بمختلف مكوناته، عن العقل الجمعي الضيق الذي يحاول أن يشد أي فرد من الجماعة نحو الجماعة نفسها، لا نحو الدولة، كما يقول المؤلف “وأنا أميل إلى الاعتقاد أن ظهور تقسيمات أفقية عميقة، بدلًا من التقسيمات العمودية العصبوية (الطائفية أو الإقليمية الجغرافية)، هو من خصائص المجتمع المتطور، أي المستقر نسبيًّا، والمتوسع اقتصاديًا، القادر على تعميق حركة الدمج الاجتماعي في نمط حياة واحدة”.
وقد عنى المؤلف بالتقسيم الأفقي؛ لإيجاد صيغ مجتمعية جديدة، تصهر الجميع في إطار الدولة، دون أن تطلب منهم غض النظر عما يميّز كل جماعة عن أخرى، فبمقدار ما يتسع هذا الإطار الاجتماعي، بقدر ما تزداد وحدة الجماعة المتمايزة في الدولة والوطنية، وفي هذا السياق، يقول الدكتور برهان غليون: “ويترافق الانحطاط والانكماش الاجتماعيين مع عودة التقسيمات العمودية”، “فالتقسيم العصبوي للمجتمع، يعكس الطابع المتأزم وغير المستقر للنظام الاجتماعي”.
ثم أخذ المؤلف يبحث، وبنظرة عميقة فاحصة، عن لب المشكلة الطائفية في البلاد العربية المسلمة، حيث حاول -من خلال كتابه- أن يُوصل القارئ إلى فكرته التي حاول إثباتها، وقد وفق بذلك إلى حد كبير، وهذه الفكرة تُبنى على أن التعدد المذهبي والأقوامي والعشائري والعصبوي ليس سببًا في ما وصلت إليه مجتمعاتنا العربية، كما أن إلغاء التمايز، وتحريم الحديث عنه، بين المكونات المختلفة ليس حلًا، إنه كمن يختبئ من الشمس خلف إصبعه، بل إن المشكلة الطائفية تبدأ عندما تتحول أيديولوجية الأغلبية إلى تفكير الأقلية، وتسعى إلى الانكفاء إلى عصبويتها وتقسيماتها العامودية؛ لذلك، كان من واجب الباحث أن يعرف سبب تحول الأغلبية المجتمعية إلى أقلية سياسية، تفكر بمنطق الطائفة “فتاريخ تحوّل الجماعة الإسلامية السنية في العالم العربي، والشيعية في إيران، إلى الطائفة، هو الذي يستحق الدراسة، ويفسر بعض جوانب التاريخ الراهن للصراع السياسي الداخلي: العربي والفارسي”، “إذن، لا تنشأ مشكلة الأقلية إلا عندما تكون هناك مشكلة أغلبية، أي: عندما تعجز طبقة اجتماعية واسعة عن تحقيق مواطنتها في الدولة، وتفشل في تغيير هذه الدولة؛ فإنها تنكفئ إلى حل مشكلتها، ليس على صعيد المجتمع السياسي، وإنما على صعيد المجتمع المدني”.
وعليه، فإن الحل هو التقسيم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الأفقي، الذي يضمن صفات كل جماعة، مع إيجاد فرص للاندماج المجتمعي التي تحقق فيها كل جماعة مواطنيتها، بشكل مساوٍ، مع غيرها من الجماعات الأخرى، ضمن دائرة الدولة الواحدة.
وفي الحقيقة إن النظم الحديثة -اليوم- لم تستطع أن تستوعب هذه الصراعات الاجتماعية، لكنها نجحت، كما يقول المؤلف: “في أن تبني سلطة أقلية معزولة، ودولة شديدة البلادة، تجاه الضغوطات الاجتماعية الكبرى”.
وبالتالي، إذا أردنا حل المشكلة الطائفية لا بد لنا من حل مشكلة السلطة الحاكمة، والدولة ككل، وليس طرح الحل التقليدي المعلب فحسب، أي: الاعتراف بحقوق الأقليات، وغيره من الحلول الساذجة؛ لأن المشكلة قائمة عند الأغلبية أيضًا، فضلًا عن الأقلية.
وفي عرضنا تاريخ المنطقة التي كانت تهيمن فيها الفكرة الإسلامية، كفكرة أغلبية، وبفعل التدخلات الخارجية من جهة، ولحل بعض المشكلات من جهة أخرى، جاءت فكرة القومية التي ظهرت، وكأنها ردة فعل على الماضي، وكرفض لعصور الازدهار والتقدم الإسلامي، وكتقليد للغرب، وتخلّ عن الهوية، فوقعت مجتمعاتنا العربية في مشكلة أخرى، والتي عبر عنها المؤلف في قوله: “فالأغلبية تريد أن تنكر نخبتها الحديثة الإسلامية ذاتها”.
وأخذت التدخلات الغربية تزيد من هذا الشعور، خاصة بعد إثارتها “مشكلة الأقليات الدينية التي ستتحول في ما بعد، في القرن التاسع عشر، إلى مشكلة كبرى عالمية”.
حيث أخذت الدول الغربية تفرض حمايتها على الأقليات، التي تضمها الدولة العثمانية بين جنباتها، هذا الأمر أدى إلى تداعيات كبيرة، “فعلى المستوى الأول الاقتصادي، كانت النتيجة أن معظم تجارة الشرق الأوسط، قد انتقلت إلى أيدي الأقليات الدينية المسيحية واليهودية؛ ما أدى إلى تدهور أحوال الأغلبية الاقتصادية، ((من الصحيح -إذن- أنه منذ منتصف القرن الماضي، على الأقل، كانت الأغلبية قد بدأت تشعر بأن الأرض تميد من تحت أقدامها”.
هذا العرض التاريخي السردي الذي جعله المؤلف سببًا آخر من أسباب إذكاء الطائفية في المجتمعات العربية والمسلمة، مازال -إلى اليوم- يؤرّق كثيرين من دعاة الوحدة الوطنية ونخبها السياسية التي ظهرت في العهد القريب، والتي جاءت، بدلًا من تقريب الفجوة بين الجماعات المتمايزة المكونة للمجتمع، بأفكار زادت من حدة الاصطفافات الطائفية، بل عمدت بعض هذه النخب إلى الأقلية لضمان دعمها الاقتصادي؛ ما جعل الأغلبية المجتمعية تشعر بالامتعاض، والخوف على هويتها المميزة لها، ما أفضى إلى انفجار الأوضاع المجتمعية، أو اقترابها من الانفجار، ودليل هذا ما نراه من التفات مكونات الدولة الواحدة إلى الاصطفاف الأقوامي والعصبوي والمذهبي والديني، بمجرد أن تضعف البنية الجمعية التي تمثلها الدولة، أو عند الشعور بضعفها.
ثم قام المؤلف، من خلال المحور الذي نصبه، والذي أسماه “العزل الثقافي”، يحث الخُطا لتلمس كل وجوه الأزمة الطائفية التي مازالت مجتمعاتنا تسعى إلى التخلص من تداعياتها الواسعة، التي وصلت إلى حدّ انهيار الكيانات التي كانت -في وقت سابق- موحدة، أو تظهر كموحدة إلى حدٍ ما.
فنتيجة التدخلات الخارجية التي أحدثت تفكّكًا في بنية الدولة العثمانية، ظهرت مجموعة من الأفكار التي حملتها نخبة متعلمة من المجتمع، أدّت هذه الأفكار إلى ضرب العصبوية الدينية التي قامت عليها الدولة آنذاك، بل كما يقول المؤلف: “وساد في نهاية القرن الماضي الشعور العام، لدى النخبة الاجتماعية المكونة من مختلف الطوائف، برفض العصبية الدينية، ووسمها بالتعصب، أساس كل الأمراض الاجتماعية))، وقامت جماعة أخرى كردة فعل أيضًا، جعلت من الدين والعصبية الدينية “ضرورية لبقاء العصبية الوطنية، وليس لتحقيق أهداف دينية خاصة”.
وفي خضم هذه الاصطفافات جاءت نظرية القومية العربية، بعد الحرب العالمية الأولى، كمحاولة للتسوية والمصالحة بين الدين والجنسية، “لكن هذه الذاتية لم تر -للأسف- النور كحركة فكرية وسياسية، ولم تُحقَّق -حتى اليوم- في واقع سياسي واقتصادي، يدفع إلى تكوين شعور واقعي بتضامن المصالح والأفكار”.
ثم أوضح المؤلف أسباب فشل القومية العربية بما قرره سابقًا من عدم خلق الأوضاع الملائمة للتقسيم الأفقي للمكونات المجتمعية، “وقد أُبعد، ولا شك، الدين عن السلطة، لدى تكوين الدول العربية التي تبنّت، بشكل عام وإلى حد كبير، المبادئ والقوانين الوضعية، إلا فيما يتعلق بالحقوق الشخصية، لكن بقدر ما عجزت الفكرة القومية عن إنشاء ذاتية ووعي جديدين، دهريين جماعيين، جاء هذا الإبعاد بنتيجة معاكسة، وهي تعميق دور الدين في السياسة”.
ثم إن إبعاد الدين عن الدولة الذي اتخذه القوميون، كوسيلة للتحديث والخطاب المتطور، بزعمهم؛ جعل الأغلبية الإسلامية تشعر بالتحول إلى “أقلية ثقافية”، قال المؤلف: ((جعل ردود أفعالها -على هذا الصعيد- ردود أفعال الأقلية الحريصة على هويتها المهددة والطامحة -باستمرار- إلى تأكيد هذه الهوية على الصعيد الثقافي، نظرًا إلى عجزها عن تأكيدها على الصعيد السياسي”؛ الأمر الذي أدى إلى المزيد من التكتلات والاصطفافات الطائفية المقيتة.
إن هذا التحديث السياسي، القائم على مبدأ “فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية؛ وهنا كانت المشكلة الحقيقة التي لايزال يتخبط فيها المجتمع العربي والإسلامي حتى اليوم. في هذه الأحوال أعطت العلمانية السياسية نتائج معاكسة؛ فتحالف النخب التقليدية والحديثة، يحمل معه -باستمرار- الاستبداد والدكتاتورية، ويثير ضده إجماعًا شعبيًا”.
ثم يقول المؤلف: “لقد أخفقت العلمانية، عندما عجزت عن أن تكون وعاء فاعلًا، ونمطًا في العلاقات الاجتماعية، منذورًا لدفع الديمقراطية إلى الأمام”، أي فشلت العلمانية في أن توجد عقدًا مجتمعيًا بين المكونات المتمايزة في مجتمعاتنا العربية، عقدًا يربط بين تحقيق المساواة والقانون، وبين المواطنة وإلغاء الدين عن الدولة.
وعلى الرغم من أن الأفكار ذاتها التي قادت أوروبا من التعصب إلى التسامح، ومن سيطرة الدين عبر رجاله إلى سيطرة الدولة، كان لها عندنا مفعول معاكس، حيث أدى تأثير العقلانية الحديثة إلى انغلاق الوعي، كما أدى تأثير العلمانية، إلى ضياع التسامح الديني وسيطرة الطائفية وتغلغل العصبيات.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الطائفية هي الوليد غير الشرعي للانفصال بين الدين والدولة، ويرجع المؤلف سبب ذلك إلى قوله: “خضوع الدين للسياسة هو الشرط الأول للدهرية منذ ميكافيللي الذي أوصى أميره ألّا ينسى أهمية هذا العامل في الصراع على السلطة. ذلك أن إخضاع الدين للسياسة يعني استخدام ما تبقى من العصبية الماضية في سبيل تحقيق أهداف مادية دنيوية، لا علاقة لها بالدين”.
لقد كانت الطائفية نتيجة حتمية لمقدمات سوداء، وهذه المقدمات التي حاول أصحابها أن يلعبوا على عدة حبال، فمن جهة، حاولوا إرضاء أصحاب الآراء الحديثة؛ فتستروا خلف العلمانية، فاصلين بين السلطة الزمانية والسلطة الدينية، كون الدين عاملًا في ما وصلت إليه المجتمعات من تداعيات ثقافية واجتماعية واقتصادية وعلمية، على حدّ زعمهم، ومن جهة أخرى، فقد حاولوا التقرب إلى الأغلبية المجتمعية التي تعدّ الدين أساسًا جمعيًّا لهم، يلتفون حوله كلما نابهم أمر، وحلت بهم شدة؛ فحاول كثير من أصحاب الأفكار العلمانية والدهرية التقرب من الدين ونخبه؛ لإضفاء نوع من الشرعية التي طالما فقدوها، من وجهة نظر هذه الأغلبية الاجتماعية، والأقلية السياسية في الوقت نفسه.
وبعد هذا السرد التاريخي والموضوعي للأسباب المؤدية إلى المزيد من الطائفية، والصراع الدائم بين الأقلية والأغلبية؛ كان لا بد للمؤلف، كنتيجة طبيعية لما توصل إليه عبر العرض التاريخي؛ من أن يطرح السؤال المفصلي الذي هو محور البحث كله، وهو:
هل هناك حل لمشكلة الأقليات؟
لقد سعى المؤلف -هنا- ليكرس الأسباب نفسها التي طرحها كعوامل رئيسة للمشكلة، إضافةً إلى أنه مازال يدور حول فكرة الحل الذي يعتقده ناجعًا -إلى حد كبير- في الحد من ظاهرة الطائفية؛ حيث يرى المؤلف أن الحل الوحيد لمشكلة الأقليات، في عالمنا العربي الإسلامي، يكمن في إيجاد تطور أفقي للمسألة، وذلك من خلال إيجاد أمور أخرى، أهم وأعظم من العصبية الضيقة؛ فتجتمع كل المكونات المجتمعية حولها، كعقد اجتماعي يحل بديلًا عن العقد العصبي السابق، أو الأقوامي الضيق، ولاشك في أن هذا من وظائف الدولة، بل هو أهم وظيفة من وظائفها. يقول الدكتور برهان غليون: “إن انحلال العلاقات العصبية التقليدية، إذا لم يسنده ظهور عصبية جديدة أعلى أو أسمى، تعطي الفرد المنفصل عن الأسرة أو العشيرة أو الطائفة شعورًا بالحماية والأمن والمساواة؛ يظهر كما لو أنه تخلٍّ عن الذات، وتشريد و استلاب وضياع محض”.
وفي هذه الأحوال بات التخلي عن العصبية والإقليمية والطائفية أيضًا كما لو كان تخليًا عن المواطنة ولحقوق السياسية وقدرة التأثير في المحيط، إذ إنه يقود إلى فقدان كل سلطة، وكل إمكانية في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تخص الجماعة.
ولما كان الغرب قد طبق هذا الحل نوعًا ما في بلاده المتنوعة ثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا ومذهبيًّا؛ فقد بات من الممكن أن يتخلى الفرد، بما يمثله من تمايز وصفات إيديولوجيّة، عن حريّته، وإلّا؛ كما يقول المؤلف: “لم يكن من الممكن التخلي عن حرية الفرد الطبيعية للدولة في الغرب، إلّا لأن الدولة فتحت مجالًا أوسع؛ لتفتّح حريّة كلّ الأفراد وذاتياتهم وإمكاناتهم: الثقافية والسياسية والاقتصادية”.
إذن؛ فحل المشكلة الطائفية عامةً، ومسألة الأقليات خاصة، إنّما تكمن في الوظيفة العظمى التي تقوم بها الدول والحكومات في مجتمعاتنا العربية، والذي هو إيجاد عصبية أخرى يتعلق بها نظر الأفراد جميعًا، أقلية وأغلبية، فتكون هذه العصبية بمنزلة رحم يجمع الجميع في عقد اجتماعي، ودعامته التي يقوم عليها هو تحقيق آمال الجميع وتطلعاتهم وثقافاتهم تحت مظلة الدولة، التي تكفل حق الجميع، وتكون على مسافة واحدة من جميع الأطياف، هذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا إن أحسّت الأقليات بالسكون المجتمعي، وأحست الأكثرية الاجتماعية أنها غير مستهدفة في فكرها الجمعي، حتى وإن لم تقم الدولة بهذا الدور المصيري. يقول المؤلف: “نحن نعتقد أن هذا الميل إلى التفكك والتجزؤ مرشح لأن يستمر في المجتمع العربي بفعل الظروف التبعية الموضوعية التي تعمل على الأصعدة الثلاثة: الثقافية والسياسية والاقتصادية”.
وعليه؛ نستطيع أن نقول: إن مشكلة الطائفية والأقليات ممكنة الحلّ، وليست فكرة مغروسة إلى الأبد في الأذهان والأرواح، وذلك عن طريق إيجاد عصبوية أخرى هي أقوى وأعلى من العصبوية الطائفية، يقول المؤلف: “فالدولة الحديثة الغربية استطاعت بنجاح أن تستبدل الكنيسة كإطار تعبئة شعبية وممارسة ونضال سياسي عندما خلقت في موازاتها بنيات وآليات أكثر قدرة وفاعلية على بلورة الحقيقة القومية”، وبذلك استطاعت هذه الدول وعن طريق إحداث منابر حزبية، وأطر شعبية-جمعت كل مكونات الشعب أو أغلبها- تحويل الصراع من صراع بين العصبويات إلى صراع بين التيارات، أو الاتجاهات القومية الجديدة .
وبذلك نجد، كما يقول المؤلف: “فبسبب انعدام الأطر القومية فعلًا، أي المعبّرة عن إرادة جميع الأفراد، أو التي تتيح التعبير المتساوي لجميع الإرادات داخل الدولة المركزية، نجد أن الأطر التقليدية العصبوية الدينية أو المحلية أو العائلية تنتعش من جديد بشكل تصبح فيه مماثلة للدولة”.
عندئذ نجد أن كل الدعوات التي تبنتها بعض النخب المجتمعية، والتي تسعى لحل هذه المشكلة العويصة القابلة للحل حقيقة وفعلًا، نجد أن النخب تبنت مجموعة من الإيديولوجيات والأفكار التي اختلفت باختلاف أصولها، غير أنّه لا يمكن لهذه الأفكار أن تحلّ مشكلة الطائفية، يقول المؤلف: “فالقضية ليست قضية دعوة ولا قضية أيديولوجية شكلية. إنما القضية هي أساسًا قضية السلطة، أي علاقة أفراد المجتمع ككل بالدولة، التي تبلور علاقة كل واحد منهم بالأخر”.
فلا يمكن إذاَ حل النزاعات الطائفية ولا مشكلة الأقليات عن طريق الأفكار التقليدية الشكلية التي لا تُسمن ولا تغنِي، فمن العبث أن نحاول حل هذه المشكلة عن طريق العلمانية التي تدعو إلى المساواة، أو عن طريق التعاليم الدينية التي تؤكد على التسامح، ولا من خلال الأطر القانونية التي تحدد حقوق كل فرد وواجباته، لأن المسألة أعمق من ذلك وأخطر، لأنها تتمثل في الكيان الجامع الذي يجمع كل المكونات المجتمعية بجميع تناقضاتها، أو صفاتها المميزة في إطار واحد، يكون للجميع حق إبداء الرأي فيه بلا حرج.
وعليه؛ فإن ما يجري اليوم في مجتمعاتنا الشرقية أو العربية من محاولة للإيحاء بأن المشكلة قد تم حلها عن طريق إنشاء مجالس تمثيلية تجمع جميع المكونات؛ إنّما هو ذرٌّ للرماد في العيون، ومحاولة لمعالجة مرض مزمن بالإيحاء للمريض بالشفاء، لكن ما يلبث أن ينقلب السحر على الساحر وتكتشف المجتمعات أن ما جرى إنما هو معالجة نظرية فقط، لا قيمة لها على أرض الواقع، بل نجدها أحيانًا تعمّق الهوة أكثر فأكثر، بل قد تكون هذه المجالس التمثيلية أو البرلمانات مجرد انعكاس للواقع الطائفي الموجود في المجتمع.
وفي الفصل الرابع والأخير نجد المؤلف يحاول أن يعود إلى قاعدة المشكلة بعد أن طرح الأسباب الكامنة وراء الظاهرة الطائفية واقترح العلاج الناجع لها من وجهة نظره، ويحاول الدكتور برهان غليون أن يتلمّس المجتمع الطائفي مشخّصًا بعض سماته و مرتكزاته، عاملًا على جعل هذه السمات دليلًا على جدوى ما اقترحه من حلول وصدق ما طرحه من أفكار، ففي مجتمعاتنا الشرقية والعربية التي حاولت القومية فيها صهر الجميع في إطار الدولة على أساس وحدة اللغة والدين والعرق، لم تنجح على الإطلاق في ذلك، لأن هذا التطابق المزعوم لا يمكن أن يكون هو المكون الأساسي والقاعدة المثلى لقيام مفهوم الأمة، و لكن تكوين الأمم “كان يقوم بالأساس على هذا التصالب المستمر بين العروق والأجناس والثقافات. وربما كان هذا التصالب هو مصدر الإخصاب، وبفقدانه، يمكن توقع زوال الكثير من الأقوام”.
إذًا؛ فإن السعي الحثيث خلف تشكيل أمة واحدة عن طريق انعدام التمايز بين مكونات هذا المجتمع الذي يُراد إقامة مفهوم الأمة فيه، إنما هو حلم وخيال؛ لأن محاولة انزاع مميزات الجميع أمر صعب ومستحيل التحقق، بل إن الشواهد التاريخية دلّت على أن كثيرًا من الأمم نشأت وازدهرت على الرغم من الاختلافات الجذرية بين مكوناتها المتمايزة، فمثلًا: “وقد خلق الإسلام كثقافة أممية الأمة العربية، كما خلق أيضًا الأمة التركية الحديثة، وحفظ للشعوب التي تبنت ثقافته العربية كيانها أمام الغزوات الآسيوية والأوربية العنيفة، بمثل ما حفظت هذه الشعوب في مراحل متأخرة الكيان العربي وحمته من الغزوات الاستعمارية الكاسحة. وكان منبع التطور والتقدم لمختلف هذه الشعوب هو إلى حد كبير وجود الإمبراطورية المتعددة الأجناس”. يقول الدكتور برهان غليون: “فلو اكتفى العرب بدولتهم الكندية أو الغسانية أو المنذرية، لبادوا كما بادت ممالكهم الجنوبية، ولو بقي الأتراك في هضبتهم المنغولية لتغيّر مجراهم ومجرى تاريخ غيرهم من الشعوب”.
فمفهوم قيام الأمة القومية على أساس وحدة العرق أو ما يسمى بالعرق الصافي، ما هو إلا ضرب من الوهم الذي يسعى كثير من مفكري الشرق والغرب إلى تبنّيه على الرغم من أن الحوادث التاريخية تكذبه.
المشكلة الكبرى هو جعل الوحدة الثقافية أساسًا لإنشاء مفهوم الأمة، مع أن هذه العامل من أكثر العوامل تقلبًا وتغيرًا، وعُدّ التمايز بين الثقافات عامل هدم للأمم التي تتبنى هذه النظريات الجوفاء هو أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى انهيار هذه الأمم، فالثقافة ليست هي التي تحدد مفهوم الدولة أو السلطة، مع أنه كما يقول المؤلف وحسب اعتقاده: “إن السلطة هي التي تحدد الثقافة”، وعليه: فإنّ قيام الدولة التي تعبر عن جميع مكوناتها المتمايزة هو الذي يفرض ثقافة مستقلة جمعية، يقول الدكتور برهان غليون: “وإلى حد كبير يمكن القول إن الإمبراطوريات هي التي تخلق الأمم، وتنجب الشعوب، بقدر ما تستطيع أن تعد صهر الأجناس والثقافات وتغربلها، بحيث تفرض الثقافة الأكثر حيوية وفاعلية نفسها وتتطور مع تطور الحضارة”.
فبقدر ما تستطيع المجتمعات المتمايزة المكونات أن تجد حلولًا لما بينها من تناقضات على كافة المستويات، تستطيع أن تقيم وحدتها السياسية والثقافية، وهذا لا يكون إلا عن طريق بناء السلطة والدولة التي تستطيع أن تجمع جميع المكونات وتوحد نظرتها، وذلك من خلال التطور الأفقي للمجتمع الذي يفرض نوعًا جديدًا من العلاقات التي تكون فيها العصبويات الإثنية والثقافية والدينية نوعًا من الإثراء الحضاري لا الاختلاف الجذري، يقول الدكتور برهان غليون: “فتكون الأمم يتبلور في سيرورة تاريخية مركبة وممتدة على مراحل، تتضمن كشرط أساسي، نشوء ثقافة عليا مشتركة. ولا تنشأ هذه الثقافة إلا من خلال علاقة معقدة، تبدأ بتبلور ثقافة نخبوية مرتبطة بالسلطة”.
ولا يخطر في البال أن شرط وجود هذه الثقافة العليا يكمن في انعدام وجود ثقافات دنيا، لأنّ ذلك ضرب من الخيال السياسي الذي تتبناه بعض النخب اللاواعية، ولكنّ هذه الثقافات الدنيا ستعمل تحت مظلة الثقافة العليا كنوع من التميز الناعم المثري للمجتمع لا معول هدم له، عندئذ –كما يقول المؤلف- “عندئذ يصبح انتماء الأفراد أو النخب المحلية إلى الثقافة العليا هو قاعدة الوصول إلى السلطة، أو المشاركة فيها، وهو مصدر الصعود الفردي، وتحسين شروط المعيشة والحياة والترقي”، وبقدر ما تكون الثقافة العليا ثقافة توحيد ودمج؛ بقدر ما تعلو الثقافات الدنيا محاولة رفع عقيدتها لحماية أفرادها المنتمين إليها: “فالثقافة العليا ليست عامل إقصاء للثقافات بل هي عبارة عن صياغة قيم والنظم القديمة أو الجزئية للجماعات من دون أن تلغيها” وهذه الثقافة العليا لا يمكن أن تعلو إلا عن طريق الدولة والسلطة التي تسعى إلى بناء ثقافة جمعية لا مذهبية أو إيديولوجية محدودة.
كما أن كل مجتمع، يتضمّن جماعات ثقافية وأيديولوجية مختلفة كذلك فإنه يتكون من مجموعات إقليمية أو جنسية أو عائلية مختلفة متمايزة، وعليه؛ فإن الدولة أو السلطة لا يمكن أن تقوم إلا عن طريق تجاوز هذه الاصطفافات الإقليمية أو العائلية أو الجنسية المتمايزة وحينئذ -وكما يقول المؤلف- “وهكذا يحل تحالف القوى محل تآلف السلطات العصبوية” لكنّ ذلك مشروط بإيجاد سلطة قادرة على إيجاد صيغ جمعية، تجد فيها جميع هذه الفئات بما هي عليه من تمايز واختلاف قدرة على المشاركة “في السلطة المركزية الجديدة”.
وبناء على ذلك نجد -وكما يقول المؤلف-: “إن دراسة نشوء مشكلة الأقليات والمشكلة الطائفية في العالم العربي إذن مرتبطة بالتدهور التاريخي التدريجي أو المفاجئ لهذين النوعين من الإجماع الثقافي أو السياسي. لذلك ستفضي تجارب التحديث العربية والإسلامية كلها إلى النتيجة ذاتها، ولو أنها أخذت أشكالًا مختلفة هنا وهناك”.
وأخيرًا؛ يمكنني القول إنّ هذه الدراسة لامست إلى حد كبير ما تعيشه الشعوب المشرقية عامة والعربية خاصة من أمراض ومشكلات أخطرها مسألة الأقليات وما ينتج عنها من اصطفافات طائفية، ما فتئ الخارج بمستعمريه العسكريين والفكريين يحاول أن يفتّ من عضد الأمة من خلالها.
لقد كانت هذه الدراسة تحليلًا موضوعيًا لهذه المشكلة، وكان طرحها للأسباب واقتراح الحلول واقعيًا بعيدًا عن الخيال، يعتمد النظرة الفاحصة والفكر الدقيق لسياسات النخبة التي تحلم بإنهاء التمايزات الفكرية والاجتماعية والثقافية عن طريق ممارسة الدجل السياسي الذي ملته الشعوب ومحته الأفكار، حيث اعتمدت هذه النخب على طرح أسباب غير واقعية لهذه المشكلة، وبالتالي؛ فقد باتت الحلول المطروحة بعيدة كل البعد عن حلول منطقية للمعضلة.
إن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء المشكلة الطائفية ليست هذه التمايزات الثقافية والدينية المجتمعية والجنسية و الإثنية…….الخ والذي يزعم ذلك من النخب إنما أراد أن يبرر تقاعسه وفشله في إيجاد الحل الناجع، فكان كمن يختبئ من الشمس وراء أصبعه، يقول المؤلف: “إن ما نريد أن تضيفه هذه الدراسة يتلخص في قلب المفهوم السائد الذي يفسر ضعف التكوين القومي بوجود التمايزات الثقافية أو الأجناسية السابقة أو الموروثة، والذي لا يعمل بذلك إلا على تخليد الوضع القائم ببثه لملامح نظرية تربط تكون الأمة بنوع من السديمية الثقافية” بل إن الأسباب الحقيقة لهذه المشكلة إنما يكمن في عجز هذه المجتمعات عن إيجاد سلطة تكون فيها جميع هذه الفئات المتمايزة قادرة على التعبير المتساوي دون التمييز مع حفاظ كل فئة من الفئات على ما يميزها من صفات، وذلك لا يكون إلا عن طريق التطور الأفقي للمجتمع، والذي يتلخص في إيجاد عصبيات جديدة هي أنفع وأعلى واقوى من العصبية الضيقة التي يلجأ إليها الأفراد عند انعدام هذه العصبية الجديدة، وأي تقصير من السلطة في إيجاد هذا التطور الأفقي للحياة المجتمعية سيكون مبررًا لكل الفئات للجوء إلى التطور العمودي الخطير الذي يزيد من ارتباط الفرد وانحيازه إلى فئة و إثنيّة وجنسية وغير ذلك من العصبيات.
وأخطر ما يكون الأمر عندما تحسّ الأغلبية بعدم قدرتها على التعبير عن رأيها في ظل السلطة القائمة، وعندئذ تتحول هذه الأغلبية المجتمعية إلى أقلية سياسية فتنحاز الأغلبية إلى إثنيّتها وعصبويتها، وبالتالي؛ فإنّ المجتمع يصبح قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.
ولا شك في أن للتدخلات الخارجية في الحياة المجتمعية الشرقية والعربية أثرها في خلق هذه المشكلة الخطرة، وذلك عن طريق فرض حمايتها على الأقليات الموجودة داخل تلك المجتمعات، الأمر الذي يجعل الأغلبية معزولة سياسيًا واقتصاديًا من خلال تركز القوة السياسية والاقتصادية في يد الأقلية، فما يؤدي إلى فقدان الأغلبية ثقتها بالسلطة لعدم قدرتها على إبداء الرأي، وتعمد الأغلبية المجتمعية بالتالي إلى الانحياز إلى إثنيتها وجنسيتها وعصبويتها كحل لحماية نفسها.
فالسلطة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن وجود هذه المشكلة، وعن انحياز جميع الفئات المتمايزة فيها لعصوبيتها وإثنيتها، وكلما ضعف تأثير هذه السلطة في إيجاد الثقافة العليا سيكون ذلك نازعًا يدفع كل الفئات إلى الركون إلى ثقافتها الدنيا.
لقد استطاع الدكتور برهان غليون في هذا البحث أن يأتي بأفكار جديدة عن طبيعة المشكلة الطائفية، التي تظل، بالطبع، في حاجة إلى نقاش معمق للإحاطة بها من جوانبها المختلفة.
Ethnology(1)-(الأقوامية): مصطلح ظهر حديثًا لدى بعض الباحثين، كتعريب لمصطلح “الإثنية”
وهو علم دراسة المظاهر المادية والثقافية، لشعب من الشعوب، أو مجتمع من المجتمعات. [المحرر].