مراجعة: خالد عثمان
تأليف: حمزة مصطفى المصطفى
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تاريخ النشر: 2012
مكان النشر: بيروت
ليس سهلاً على خبراء الاتصال أو علماء الاجتماع تحليل العلاقة المركبة الناشئة بين وسائل التواصل الاجتماعي والقائمين عليها من جهة، وجمهورها ذي الخصائص الفريدة من جهة أخرى، من حيث التأثير الذي تحدثه في هذا الجمهور، أو لنقل في الرأي العام عمومًا، خاصة في عالمنا العربي الذي لم يسهم أصلًا في إنتاج الطفرة الاتصالية ومستلزمات عملها. ويصبح الأمر بالتأكيد أكثر صعوبة عندما يحاول الباحث فهم هذه العلاقة وتفكيكها في ظروف شديدة التعقيد والحساسية، مثل أوضاع سورية في ظل الاحتجاجات التي بدأت في آذار سنة 2011 وتحولت بعد أشهر إلى احتجاجات مسلحة، بحيث بات يتشابك بشأنها، لدى الرأي العام، المدني بالعسكري والديني، والأيديولوجي بالسياسي.
يمهّد الكاتب، حمزة مصطفى المصطفى، لبحثه بالإشارة إلى اضطراره إلى الاعتماد على التاريخ اليومي المباشر والمتابعة الشخصية للأحداث والتطورات والظواهر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واختياره مدة زمنية محددة لرصدها، ومن ثم قياس المؤشرات والدلالات من خلالها، نظرًا لغياب الإحصاءات العلمية الموثقة وصعوبة إجرائها. وفي المقدمة يفترض الكاتب أن «وسائل الإعلام التقليدية التي تضبط وتوجه الحيز العام، عادةً في سورية، اختطفت من قبل الحيز العام الافتراضي، وأن وسائل التواصل الاجتماعي الفاعلة باتت تشكل المورد الأساسي للتفاعلات والتغيرات في القيم والرموز السياسية التي تنتج في المجتمع».
يسعى الكاتب إلى إثبات مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي أوالمجال العام الافتراضي في تكوين الكيانات التنظيمية وقوننتها، ضمن ما وصفه بـ «المجتمع الافتراضي»، وقدرة هذه الوسائل على التأثير الجذري، أو بعبارة أخرى: إعادة صياغة الرأي العام السوري افتراضيًا وميدانيًا. ويشرح في الفصل الأول بعض مفهومات أهم علماء الاجتماع والاتصال وتعريفاتهم بشأن الحيز أو المجال العام الافتراضي، ولا سيما تعريف يورغن هابرماس له بأنه: «التقاء الناس في منتديات شبه مفتوحة للنقاشات العامة». ويتوقف في هذا الفصل عند ما جرى قُبيل الاحتجاجات وفي أثنائها، إذ استفاد المستعدون للمشاركة فيها من رفع السلطة الحجب عن استعمال وسائل التواصل في شباط 2011 (قبل شهر تقريبًا من اندلاع تلك الاحتجاجات)، قائلًا: «إن السلطات الأمنية- السياسية في سورية أنتجت حيزًا عامًا خارج سلطتها وبإرادتها». ويلفت إلى أن غياب حيز واقعي أو ميداني يوازي الحيز الافتراضي أدى إلى إقبال المعنيين بالشأن العام على التركيز على الحيز الافتراضي لإنتاج المناقشات السياسية، في ظل تأثر الرأي العام في سورية بمجريات الأمور في الدول العربية، خاصة الثورة في تونس التي كانت حينها قد نجحت في تحقيق أهدافها، مستفيدةً من الحيز الافتراضي في إطلاق الاحتجاجات، ومن ثم تنظيمها.
يتناول الكاتب في الفصل الثاني أهم المواقع الإعلامية وصفحات التواصل الاجتماعي وأكثرها تأثيرًا في المجال الافتراضي السوري، ثم يسهب في تحليل دورها وأدوات عملها، ويتناول ثلاثة نماذج من هذه الوسائل التي وصفها بـ «الصفحات التعبيرية»، وهي: (صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011) و(شبكة شام الإخبارية) و (شبكة أوغاريت). ويستنتج، من خلال طريقة عرض الاستفتاءات التي كانت تطلقها (صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011) وتعليقات متابعيها وغير ذلك من المؤشرات، أنها أسهمت بقوة في إحداث التغيير الذي نشدته في الرأي العام السوري، ثم في إطلاق الاحتجاجات في سورية وتصعيد مطالبها من إصلاحية إلى جذرية كبرى، مثل «إسقاط النظام»، ومن ثم استدعاء التدخل الخارجي لتحقيق ذلك، على الرغم من أن هذا كان يخالف، في كثير من الأحيان، مطالب المحتجين أنفسهم، إضافةً إلى تجاوزه أطياف المعارضة الداخلية التقليدية.
يلفت الكاتب إلى أن هذه الصفحات كانت تفترق، عموماً وفي كثير من المفاصل الحساسة، حسب القائمين عليها ونزعاتهم العقائدية واتجاهاتهم السياسية، مع أنه من المفترض أن الهدف الذي تسعى إليه واحدٌ تقريبًا، وهو دعم الاحتجاجات، وصولًا إلى تحقيق مطالب المحتجين. وفي هذا السياق، يذهب إلى أبعد من ذلك في شرح فاعلية الشبكات المذكورة ويأتي بأدلة على أثرها الواضح في تأسيس الكيانات الافتراضية/ الميدانية الفاعلة معظمها، خلال المرحلة التي تناولها البحث، ثم يسوق أمثلة على ذلك، ومن أهمها (التنسيقيات) التي ظهرت بعد شهرين من انطلاق الاحتجاجات، ثم تصعيد شعاراتها، وصولًا إلى ظاهرة التسلح وتعمد إحداث أثرها الواقعي وغيره، من خلال الاستفتاءات المتحيزة التي دأبت على إدراجها والتسويق لنتائجها. ويخلص الكاتب هنا إلى أن من كان يحدد شعارات أيام الاحتجاجات (لا سيما أيام الجمع) هم القائمون على الصفحات التعبيرية، خاصة (صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011) التي لعبت دورًا فاعلًا يتجاوز رغبات المحتجين أو أهدافهم، من ثم المعارضة السياسية بأطرها التقليدية. وفي السياق ذاته، يسجل لهذه الشبكات امتناعها عن الانخراط في عرض الخطب الدينية التحريضية، مثل خطب عدنان العرعور، لكنه يشير إلى دورها في إقناع الرأي العام المحتج بالدعوة إلى التدخل الخارجي.
في الفصل الثالث، يتعامل الكاتب مع الصفحات «التحريضية الدينية» التي قصد بها الخطاب الديني شكلًا والسياسي مضموناً، ثم يبرز الدور السلبي للخطابات والشخصيات الدينية التي دأبت على عرض رؤيتها السياسية والعقائدية للأحداث من خلال الإطلالات التلفزيونية أو الخطب الجُمعية التي أحدثت أثرًا ملحوظًا في الرأي العام المحتج الذي ساهمت عوامل أخرى في تهيئته لتقبل مثل هذه الخطابات والتأثر بها، ومن بين ذلك خطب الشيخ يوسف القرضاوي المرتبطة بالدول العربية التي شهدت ثورات واحتجاجات، خاصة تلك المتعلقة بسورية. وفي السياق، يصف خطاب العرعور وعموم الخطابات التحريضية المشابهة بـ «الظاهرة العرعورية»، ثم يحاول تفسير انتشارها ويدلّل على أنها بدأت تلقى قَبولًا في الرأي العام، حتى قبل اندلاع الاحتجاجات سنة 2011، ولا يغفل ذكر الاستفزازات العقائدية والأخلاقية التي مارستها بعض أجهزة السلطة مع اندلاع الاحتجاجات، الأمر الذي هيّأ المتلقي أو جزءًا من الرأي العام لتقبل الرسالة التحريضية والتفاعل معها، بغض النظر عن المرسل أو الوسيلة.
يخصص الكاتب الفصل الرابع لمناقشة مفاصل صنع الرأي العام افتراضيًا، إذ يرصد الآلية التي اعتمدت في إطلاق تسميات معينة على أيام الاحتجاجات، ويبيّن كيف أن (صفحة الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011) استحوذت على نصيب الأسد، في سياق فرض اسم معين ومن خلال الاستبيانات المتحيزة والترويج لخيار معين يتوافق مع رغبات ورؤى القائمين عليها، ثم يسلط الضوء على الأثر السلبي التقسيمي للمجال الافتراضي في صفوف المعارضة، من خلال دعم طرف وشيطنة آخر، ويدلّل على فرض المجال الافتراضي، بأذرعه الفاعلة المختلفة، محددات التوجه ضمن الرأي العام ودفع فئات سياسية معينة إلى قبول شعارات لم تكن تطرحها، مثل استدعاء التدخل الخارجي، فضلًا عن الإسهام المباشر وغير المباشر في جعل بعض شعارات الاحتجاج ومظاهرها طائفيةً في مفاصل معينة، ثم يفسر كيف جرت تهيئة الرأي العام المحتج لقبول اعتماد علم خاص بالثورة، ويشرح ملابسات اعتماده بديلًا من العلم الرسمي الحالي والأسباب التي دفعت إلى ذلك والرمزية التي بات يحملها. ويؤكد الكاتب في هذا الفصل أن «الثورة انطلقت من الوسط الشعبي الريفي في مدن حوران، وأن تصنيفها سيسيولوجيًا أقرب إلى ثورة الأطراف»، ثم يتهم الصفحات التعبيرية أو الفاعلين في المجال الافتراضي عمومًا بتغطية الظاهرة المسلحة التي ترافقت مع بدء الحراك افتراضيًا.
يفرد الكاتب الفصل الخامس والأخير لدراسة الأثر الميداني للمجال الافتراضي، فيتناول نشأة التنسيقيات عبر مواقع التواصل، خاصة (فيسبوك)، ثم آليات عملها ودورها افتراضيًا وميدانيًا في توثيق الانتهاكات والتنسيق لتأمين الدعم اللوجستي للاحتجاجات، واتساقها معًا بعد نحو شهرين من العمل في ما بات يعرف بـ (اتحاد تنسيقيات الثورة). ويتناول الباحث هنا بالتفصيل كل ما يتعلق بعمل هذه التنسيقيات، مثل البعد التنظيمي وآليات اتخاذ القرار، ثم يصف الاتحاد المذكور الذي تمخض عن التقاء معظم تلك التنسيقيات بأنه تحول إلى ما يشبه الحزب السياسي الذي «يلخص برنامجه في إسقاط النظام». وفي السياق ذاته، يروي قصة نشأة (الهيئة العامة للثورة السورية) التي أصبحت في ما بعد، حسب وصفه، «أنضج تشكيل للحراك الثوري لجهة مصادر المعلومات والتوثيق»، على الرغم من أنه يظهر جوانب القصور فيها، من ناحية اختلاف أيديولوجيات القائمين عليها وتأثرهم بقوى المعارضة التقليدية وعدم قدرتها على فرض توجهاتها على بعض الصفحات التعبيرية التي ظلت تشكل، بحد ذاتها، مثالًا إضافيًا للتحول الكبير في المفهومات التقليدية الراسخة، مثل المجال العام ووسائل التواصل الاجتماعي والرأي العام.
لقد حاول الكاتب فهم تطور هذه المفاهيم المركبة وتحليلها في ظل طفرة اتصالية هائلة وأوضاع استثنائية شديدة الدقة، ونحسب أنه بذل جهدًا بحثيًا مضاعفًا في تتبع مدخلات وسائل التواصل الاجتماعي الفاعلة ومخرجاتها، في سبيل فهم دورها الافتراضي والميداني، فقدم بحثًا جديرًا بأن يكون مرجعًا لاستقاء المعلومات والاطلاع على تفاصيل مهمة ومثيرة حول انطلاق الاحتجاجات في سورية وتصاعدها، فضلًا عن كونه قراءة واقعية لدور وسائل التواصل الاجتماعي وفعاليتها وتأثيرها في الرأي العام، خاصة في ظل الوضعيات الاجتماعية الاستثنائية المشابهة. وفي المقابل، نرى أن افتراض الكاتب إمكانية قياس فاعلية وسائل التواصل الاجتماعي أو المجال العام الافتراضي في الرأي العام وتأثيرها بمعزل عن دراسة دور وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف ومحطات التلفزة، وصولاً إلى تعميمات يمكن الركون إليها ومن ثم استقراء المستقبل أو بناء تصور علمي يمكن البناء عليه في فهم الحالات الأخرى المشابهة؛ غير كاف ولا يغطي كل جوانب الموضوع، ولا سيما أنه اقتصر على تحليل عدد محدد من الصفحات أو مواقع التواصل ومنابر الإعلام الحديث ذات التوجه الموحد، وهو التوجه المعارض في فترة زمنية محددة وحرجة في مجتمع ورأي عام دهمه إعصار من الأحداث التي شهد بعضها بنفسه، ثم تابعها بصورة آنية مفرطة وعبر وسائل الإعلام التقليدية المؤثرة، ووجد في مواقع التواصل منبرًا مفتوحًا للتعبير عن موقفه إزاءها، بعيدًا عن الرقيب الأمني.
إن ما رصده الكاتب من أثر ميداني لم يكن فقط حصيلة تأثر الرأي العام أو العاملين في المجال العام الواقعي بالمجال العام الافتراضي المستحدث المتمثل بالصفحات والمنابر المشمولة بالدراسة فقط؛ إنما كان حصيلة جملة من المجالات العامة الافتراضية والواقعية، مثل تأثره بالإعلام التقليدي أو الجماهيري. ولقد أغفل أيضًا حضور الإعلام الرسمي التقليدي والافتراضي الموازي الداعم للسلطة، فهذا الإعلام لم يقف متفرجًا حينها، بل فعَّل كل ما يملك من أدوات في التشويش والتحريض والدعاية المضادة، ما أدى حتى في البدايات إلى إحداث انقسام واضح وحاد في الرأي العام، ومن ثم إحداث التأثير التدريجي في الرأي العام المتسرب من تأثير الإعلام الرسمي المعهود. وقد يصح القول إن الأداء الإعلامي الرسمي اتسم بالتخبط والوقوع في هفوات مهنيَة كارثية أسهمت في إضعاف تأثيره، لكنه استطاع أن يلج الحيز العام الافتراضي ويخلق حيزًا افتراضيًا من الموالين أيضًا، فاستطاع أن يوظفه ليبقي على جمهوره تحت السيطرة، على الأقل أولاً، ثم نجح في استقطاب جانب من الجمهور الآخر بالتدريج ثانيًا، أي إن النظام استخدم الحيز العام الافتراضي أيضًا، وأحدث تأثيرًا ملحوظًا لم يقتصر على جمهوره أو الرأي العام المؤيد له فقط، بل امتد وتسرب تدريجيًا ليؤثر في المعارض له أيضًا، أي إن ساحة الحيز العام الافتراضي لم تكن خالية أبدًا للطرف الآخر، مثلما قد يبدو من خلال الكتاب. ونعتقد أخيرًا أن ما يتم رصده من تفاعل الجمهور، عبر مواقع التواصل عمومًا، هو الرأي العام المتشكل أو الناجز والمُعبَّر عنه بمنسوب أعلى من الحرية، فقد نضج قبل وفي أثناء هذا التفاعل، لا خلاله أو بواسطته فحسب.