وحدة مراجعات الكتب
مراجعة: عماد الدين عشماوي.
الكتاب: المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن
تأليف: عمرو عثمان – مروة فكري
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مكان النشر: الدوحة/ قطر
تاريخ النشر: 2016
المحتويات
المثقف النهضوي العربي والديمقراطية
موقف المثقف العربي الحديث من الديمقراطية
ا- تيار الديمقراطية الليبرالية
تعد حركة ميدان تيانانمن عام 1989م، كبرى الحركات الثورية للإصلاح الديمقراطي في الصين منذ إعلان قيام الدولة عام 1949م، إلا أن إخفاقها وما صاحبها من نتائج كارثية على مستقبل الديمقراطية في الصين، جعل بعضهم يبحث في أسباب إخفاقها. ومن ضمن الأسباب التي يعدّها بعضهم العامل الرئيس في الإخفاق، تبرز متلازمة تينانيمن، وتشير إلى نخبوية المثقفين الذين قادوا هذه الحركة -بمثل ما تدعي الدراسة التي بين أيدينا- الذين افتقروا إلى نظرية جامعة للديمقراطية تعدّ المواطنين جميعهم متساوين، وشددوا على أولوية التأسيس للحريات العامة لا الديمقراطية في شكلها الإجرائي، وما صاحبها من ازدراء لطبقات الشعب وللعملية الديمقراطية التي تساوي بين الأفراد جميعم في إخفاقها في تحقيق أهدافها.
فهل أصيب كثير من المثقفين العرب -أيضًا- بمتلازمة تيانانمن؟
هذا ما يحاول هذا الكتاب/الدراسة، التي قام بها باحثان مصريان متخصصان في العلوم السياسية والإنسانية، الإجابة عنه في مقدمة وفصلين وخاتمة، باختبار فرضية وقوع المثقف العربي في براثن هذه المتلازمة، عبر تحليل كتابات عينة من المثقفين العرب المحدثين والمعاصرين في شأن الديمقراطية فضلًا عن مواقفهم مما أطلق عليه (الربيع العربي)، بافتراض أن هذا الاختبار حتمي إذا أردنا التفكير في الدور الذي يمكن للمثقف العربي القيام به في أي عملية تحول في الواقع العربي.
وتشمل العينة، مقالات صحافية تعرض مواقف بعض المثقفين العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين، إضافة إلى مقالات بعض المثقفين العرب المعاصرين في دورية محكمة متخصصة في الديمقراطية هي دورية (الديمقراطية) المصرية من عام 2000 إلى عام 2014.
في تعريف المثقف
يؤكد المؤلفان، أن الأدبيات الحديثة في شأن (المثقف) والأسئلة المتعلقة به، بدءًا من تعريفه، ومرورًا بوضعه في المجتمع، وعلاقته بطبقاته الاجتماعية، وسلطته السياسية بمعناها الواسع، وانتهاء بعلاقته بـ (الثقافة)، هي أسئلة غير محسومة الإجابة، بل تعد أسئلة مشكلة معضلة. فلا يمكن تعريف المثقف بصورة منفصلة عن الثقافة التي تسبق المثقف في عصرنا بالضرورة، فأي مثقف يولد وينضج في سياق ثقافي ما، لا بد من أخذه في الحسبان عند تعريفه.
ثم إن المثقف بوصفه فردًا في المجتمع، لا بد من درسه في سياقيه الزماني والمكاني. فدور المثقف في مجتمع استقر على مبادىء معينة، يبني عليها ويحسنها بتؤدة، لا يمكن أن يكون مثل دوره في مجتمع ما يزال يتلمس طريقه بين هويات مختلفة. ثم إن دوره في بيئة ديمقراطية ليبرالية يختلف عنه في بيئة سلطوية أو شمولية. فدور المثقف، في أي مجتمع، يعتمد على مجموعة كبيرة من العوامل، ربما من أكثرها أهمية مقدار الطبقة (المستهلكة) للثقافة والمتفاعلة معها، وهو عامل لا يملك المثقف نفسه قدرًا كبيرًا من التأثير فيه.
وأخيرًا، فإن التعامل مع قضية تعريف المثقف ودوره وعلاقته بالمجتمع والثقافة والسلطة، يحتاج إلى الموازنة بين النظرة القيمية المعيارية التي تتناول ما لا بد من توافره في شخص ما حتى يمكن وصفه مثقفًا، وواقع المثقفين تاريخيًا، وواقعهم في السياق (موضوع الدراسة) من جهة أخرى.
المثقف بين التمرد والمحافظة
يؤكد المؤلفان أن فكرة التمرد على السلطة، وارتباطها بالمثقف بوصفه متمردًا بطبيعته، ليست مسلمة لا جدل فيها، فالمثقف ينزع إلى التمرد بمثل ما ينزع إلى المحافظة على حد سواء، وعلاقة المثقف بالسلطة لا تخرج عن خمس حالات بحسب ما بيّنها عالم الاجتماع لويس كوزر: امتلاك السلطة؛ مستشارًا لها أو مسوغًا أو ناقدًا أو داعمًا لقوى خارجية تسعى لإضعافها أو إسقاطها.
المثقف الذي تعنى به الدراسة
تعبير المثقف في الدراسة التي بين أيدينا، يشير إلى الأكاديميين والمفكرين الذين يشتركون في مناقشة القضايا العامة، ويقومون بدور في تشكيل الرأي العام من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وينظر إليهم بصفة عامة بوصفهم منتمين إلى الشريحة التي توصف بالمثقفين المرتبطين بالظهور الإعلامي صانع المثقف اليوم.
عناصر متلازمة تيانانمن
ينطلق المؤلفان من أن متلازمة تيانانمن هي التي تحدد علاقة المثقف العربي بالديمقراطية، وترتبط بهذه المتلازمة (حزمة) من التصورات، تتعلق بنظرة المثقف إلى نفسه، وإلى وضعه المجتمعي، وموقفه من جمهور الشعب، والسلطة السياسية، ويمكن إجمالها في:
1- نظرة هؤلاء المثقفين، إلى أنفسهم بوصفهم طبقة مميزة تعلو على طبقات الشعب الأخرى، وتملك وحدها حق تحديد شؤون الحياة العامة.
2- فرض وصايتهم على الشعب في نوع من الاستبداد المستنير، إما بأنفسهم أو بالتحالف مع نظم استبدادية تحقق لهم بعض مطالبهم المتعلقة بالحريات العامة تحديدًا.
3- ازدراء الطبقات العاملة، والاستعلاء عليها؛ إلى درجة تمكنها من التصريح بغياب أهلية تلك الطبقات في تحديد شؤون الحياة العامة، ومن ثم تتهمها بالتسبب في إفشال أي حركة ديمقراطية.
4- الظن بأن لتأسيس الحريات العامة الأولوية على الممارسة الديمقراطية، ومن ثم لا ينظرون إلى الديمقراطية بافتراضها وسيلة لتأسيس تلك الحريات في ذاتها، إنما هي نتيجة تتحقق بعد تأسيس الحريات.
5- يرى قلة منهم أن الديمقراطية الإجرائية في ذاتها وسيلة إصلاح، وإن كانت ترفض منح الطبقات الأخرى حق المشاركة فيها.
ميادين عدة ورؤية واحدة
لا يمكن لمتابع موقف كثير من المثقفين العرب من حوادث الربيع العربي-مثل ما يدعي المؤلفان- إلا ملاحظة تشابه صارخ بين موقف المثقفين العرب من الديمقراطية وثورات الربيع العربي وجمهوره وخياراتهم، وموقف مثقفي الصين من الطبقات الأخرى؛ إذ يمكن النظر إلى الجدل في أسبقية الدستور أو الانتخابات بعد الثورة المصرية في عام 2011، أو الضغط على العسكريين من أجل تأجيل الانتخابات، أو وضع (مبادىء فوق دستورية).
ثم إن الازدراء الواضح لاختيارات الشعب الديمقراطية في الانتخابات التشريعية والرئاسية، والدعوة إلى الانقلاب على الاختيار الديمقراطي بدعوى حماية الحريات من التطرف الديني، بل استعدادهم للتحول إلى محض جزء من أدوات العسكر في دعم سلطتهم، في مقابل هامش ضيق من الحريات المقيدة، وغياب كامل أو شبه كامل للديمقراطية.
هذا كله -تعده الدراسة- انعكاسًا لنظرة نخبوية، اتسم بها المثقفون الذين عدّوا أنفسهم أكثر جدارة بتعريف صيغة الحريات المنشودة وحدودها. بل يؤكد المؤلفان -بكثير من الثقة- أن هؤلاء المثقفين رأوا أن تلك الحريات تعلو على حق الأجيال في اختيار قيمها بحرية من خلال الوسائل الديمقراطية.
ومن أجل إثبات هذه المسلمات التي انطلق منها المؤلفان، عمدا إلى دراسة العينة المختارة من المقالات في صحف القرنين الـ 19 والـ 20، وفي دورية الديمقراطية بين عامي 2000 و2014، لإثبات ما عداه متلازمة مرضية وتشابهًا صارخًا مع نخبة الصين التي قادت حركة ميدان تيانانمن، وتسببت في فشلها.
المثقف النهضوي العربي والديمقراطية
بتحليل مضمون بعض مقالات الصحف في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي حظيت بنوع من الانتشار، ومن ثم المشاركة في تشكيل الاتجاهات اللاحقة فيما يعنى بالديمقراطية، خلصت الدراسة إلى أن (الديمقراطية الشعبية) لم تكن من القضايا الأساس والملحة التي شغلت المثقفين في عصر (النهضة العربية)، وما تلاها.
وتدلل الدراسة على غياب الديمقراطية من (أجندة) المثقفين العرب منذ القرن التاسع عشر بثلاثة أمثلة: الأول كتاب ألبرت حوراني عن الفكر العربي في العصر الليبرالي الذي لا يفرد أي مساحة لقضية الديمقراطية، لدرجة أن مصطلح الديمقراطية لا يظهر في فهرس مفردات الكتاب، والمثال الثاني هو كتاب هشام شرابي عن المثقفين العرب والديمقراطية: عصر النهضة، ويؤكد اغتراب المثقفين العرب في وقت غابت فيه الجماهير العربية سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، والمثال الثالث هو كتاب الباحثة إليزابيث سوزان كساب عن قضايا الفكر العربي المعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وتخلص الدراسة إلى الحكم القاطع بأن المثقفين العرب معظمهم، إما تجاهلوا تعريف الديمقراطية تعريفًا محددًا، وإما شاب كتاباتهم عنها غموض أو تناقض، ونزعة نخبوية واضحة، ونفور من الديمقراطية الشعبية الإجرائية. مؤكدة أن تعميم هذا الحكم على موقف مثقفي عصر النهضة يعبر عن مواقفهم، وإن كان له استثناءات قليلة.
موقف المثقف العربي الحديث من الديمقراطية
خلص الكاتبان بالتحليلين الكمي والمضموني لعينة من مقالات دورية (الديمقراطية) المصرية بين عامي 2000 و2014م التي تناقش بعض تساؤلات الدراسة أو جميعها؛ إلى أن قضية تحديد ماهية الديمقراطية، نالت قدرًا لا بأس به من اهتمام المثقفين المعاصرين، إذ شغل الحديث عن الديمقراطية والتحول الديمقراطي النسبة الكبرى من اهتماماتهم.
ووبينوا أنهم انقسموا بين ثلاثة تيارات رئيسة تجاه هذه القضايا، ويتفرع عن كل واحد منها مقاربات ومواقف مختلفة، وينطوي كل تيار منها على فرضيات صريحة أو كامنة في ما يتعلق بدور النخبة في مقابل المجتمع أو الجمهور، تتمثل في:
ا- تيار الديمقراطية الليبرالية
وهو تيار يعدّ الحرية الفردية شرطًا ضروريًا في وجود الديمقراطية، وتفعيل عناصرها الأخرى، فنشأة الديمقراطية مرتبطة بالحقوق والحريات الفردية، وضماناتها أولًا، وهي ترتبط بفرضيات رئيسة تتعلق بالثقافة السياسية والنظرة إلى الجمهور وعلاقة الدين بالسياسة، وتشدد الدراسة على أن هذا التيار يقصر الحديث على الدولة الدينية بافتراضها مقابلًا للدولة المدنية، متجاهلًا الدولة العسكرية التي كانت حاضرة كثيرًا في الخبرة العربية المعاصرة، في مقابل الدولة المدنية، ومعوقة لها.
وترى الدراسة أيضًا، أن حديث المثقفين عن دور النخب الطليعي، وتوجسهم من خيارات الناخبين، يعكسان قدرًا من النزعة النخبوية التي تؤسس لنوع من الاستبداد الليبرالي (المستنير)، بما يشبه قادة حركة ميدان تيانانمن، وموقف مثقفي عصر النهضة الذين ركزوا في أولوية الحريات، ولم يهتموا كثيرًا بالتنظير للديمقراطية من حيث أهميتها وسبل تحقيقها دستوريًا وتنظيميًا، ثم إن هؤلاء المثقفين يمثل معظمهم النموذج الفرنسي في العلمانية، وأطلق عليه عزمي بشارة (العلمانية الصلبة) التي لا تكتفي بفصل الدولة عن الدين، بل تتخذ موقفا سلبيًا من التدين في المستوى الاجتماعي، في مقابل (العلمانية الرخوة) السالبة التي تعني في الأساس تحييد الدولة دينيًا، وتحييد آليات الإكراه عن الشأن الديني.
ب- تيار الديمقراطية الشعبية
وهو تيار ينطلق من تصورات مناقضة لتصورات التيار الأول، إذ يعنى هؤلاء بالدور الحاسم للمجتمع في اختيار حكامهم ومساءلتهم بطريق الاستحقاقات الانتخابية، ويعدون الديمقراطية التمثيلية النموذجَ الأفضل لتعبير الجماهير عن إرادتها التي تعلو بها على الحكومة التي انتخبتها، ويصرون على أن انتشار الديمقراطية في الغرب ارتبط بانتشار المشاركة السياسية لأغلبية المواطنين وتوسيع هذه المشاركة، وبعد قيام الثورات العربية انطلقت طروحاتهم من مبدأ أن الديمقراطية الإجرائية هي السبيل الوحيد لضمان ألا تخطف الدولة مرة أخرى لمصلحة فئة محدودة من المجتمع، وهم يشبهون التيار الرادكالي في حركة تيانانمن وبإيمانه بأن الديمقراطية ممارسة تصقلها التجربة العملية.
ج- تيار التمكين
هذا التيار يشدد على ضرورة توفير الشروط اللازمة التي تمكن الفرد ممارسة خياراته على نحو يتفق ورغباته الحقيقية. فالديمقراطية الإجرائية تكون زائفة إذا لم تقترن بتمكين الفرد بصورة إيجابية ممارسةَ حقوقه السياسية والعامة. وأنصار هذا التيار يهتمون بقضايا ومداخل أخرى للديمقراطية غير الحريات المدنية أو صناديق الانتخابات، بمثل المواطنة وإعادة العلاقة بين الحرية والديمقراطية والعدالة الشاملة، وهم يقتربون من رؤية التيار الثاني في نظرته لدور الشعب في المجال السياسي، ويهتمون بالثقافة السياسية للنخب المثقفة والشعب أيضًا. فتعثر الديمقراطية، عندهم، يعكس مشكلة الطرفين في ثقافتهما السياسية، والديمقراطية في رؤيتهما توسع مساحة المنافسة السياسية، وتمنح المواطنين سلطات حقيقية، وتحرر العقل من تقديس السلطة، وتساوي بين القمة والقاعدة.
مثقف أم وصي؟
وتخلص الدراسة، إلى أن المثقفين العرب -عمومًا- يؤمنون بخصوصية وضعهم في المجتمع، وهي الخصوصية التي تسوغ لهم فرض وصايتهم الفكرية على الشعب، وإن تكن غير مسوغة تاريخيًا وعمليًا، ويؤمن مثقفو العينة معظمهم بدور المثقف التنويري في المجتمع، إذ تقع على عاتقه مهمة تحسين الثقافة الشعبية لتتحول ثقافة مبادىء لا تقديس أشخاص، وهي نظرة تذكرنا -بمثل ما تشير إليه الدراسة- بنخبوية قادة حركة تيانانمن والمشتركين فيها، وتذهب الدراسة إلى أن المثقفين العرب لا يهتمون كثيرًا بإثبات استحقاقاتهم النخبوية هذه بناء على منجزات تاريخية، لكن سيطرت عليهم صورة الضحية، وألقوا اللوم على الأنظمة القمعية أو الشعوب التي لا تتجاوب معهم بالقدر الكافي أو التيارات الإسلامية التكفيرية أو الظلامية.
المثقف العربي والتغيير
أكدت الدراسة أن علاقة المثقف العربي بالسلطة لا تنفصل في كثير من الأحيان عن تصوره آلية إحداث التغيير، فمنهجه في التغيير يرسم ملامح علاقته بالسلطة، فأعضاء العينة معظمهم يميلون إلى التغيير من أعلى مركز السلطة ليعمم على المجتمع، بينما الأقلية تميل إلى أن يكون التغيير من أسفل عبر المجتمع.
لكن ما يجمع بينهما، نظرتهما للدولة أو السلطة -عمومًا- بوصفها الأداة الأساس في التغيير، وهو الموقف الذي يكشف بدوره عن ارتباط موقف المثقف من السلطة بنظرته إلى الجماهير، وتقويمه لها من حيث قدرتها على أن تكون عاملًا مساعدًا في التحول الديمقراطي بدلًا من أن تكون معوقة له، بمثل ما رأينا قادة الصين في لوم العمال وتحميلهم مسؤولية فشل الحركة.
هذا الأمر يجعل كثيرين منهم يسوغ الممارسات الاستبدادية للسلطة بناء على غياب الثقة برشاد الجماهير أو غياب الرغبة في سقوط الدولة بسقوط السلطة القائمة، وهو ما يشبه موقف القوميين العرب من قضية الديمقراطية في مرحلة المد القومي ومقاومة الاستعمار، وهو ما ظهر -أيضًا- في تأييد تحرك الجيش لعزل محمد مرسي الذي تصفه الدراسة بالانقلاب.
خاتمة
نقد الماضي ومساءلة الحاضر، أمر مفيد ومطلوب لا محالة، وبخاصة في المضمار الثقافي، ودور المثقفين العرب ووظائفهم في الظرف التاريخي الحرج الذي تجتازه أمتنا. لكن لماذا لا يتغير شىء في بلاد العرب في هذه السنوات الست التي مرت منذ هبوب رياح الثورات العربية، ولماذا استمرت الأحوال والسجالات الثقافية على ما هي عليه، من دون نقد حقيقي، وتجاوز فعلي لأخطاء هذه السنوات المتراكمة منذ عقود؟.
ولماذا لم يئن الأوان بعد لإعمال منطق (المراجعة) بين المثقفين العرب، لا للأفكار والقيم والتوجهات فحسب، بل للبرامج والوسائل والمنطلقات الفكرية والفهم التأويلية للأحكام والمنظومات الموجهة لهذا الاتجاه أو ذاك في رؤيته للتيارات الأخرى؟.
إن هذه الدراسة، على الرغم من سعيها -المحمود- إلى استكشاف نظرة عينة من المثقفين العرب إلى أنفسهم في مقابل باقي أفراد المجتمع، وإيمانهم بالديمقراطية الإجرائية، وعلاقتها بالحريات، ومنزلة الديمقراطية في ترتيب أولوياتهم، وكيف يعرفون أهلية المشاركة في العملية الديمقراطية، وأسباب تعاون بعضهم مع الأنظمة السلطوية المستبدة، وعلاقة ذلك الموقف من الديمقراطية بتوجهاتهم الأيديولوجية.
بافتراض، ذلك كله، بداية لمناقشة مواقف التيارات الثقافية العربية كلها من الديمقراطية وموقفها من السلطة الحاكمة، أملًا في المشاركة في فهم أزمة الواقع العربي ومن ثم التفكير في حلول لها على أسس منهجية ومعرفية واضحة، قد وقعت في عدد من الأخطاء والتسرع في الأحكام، ما أفقدها كثيرًا من قيمتها ومنها:
1- التحيز الأيديولوجي الذي رمت به عينة الدراسة، فأطلقت حكمها القاسي والنهائي على عامة المثقفين العرب من غير الإسلاميين، فغالبهم نخبويون، وصائيون، يعطون لأنفسهم حق إملاء شروط الديمقراطية، وحق التحالف مع أنظمة أسقطتها الشعوب في الثورات، واعتمادهم على التغيير من الأعلى، وغياب ثقتهم في رشد الجماهير العربية وضرورة التغيير من الأعلى، وانعدام ثقتهم في اختيارات الجماهير العربية، وأنهم يفتقدون لتراث فكري صلب في ما يخص الديمقراطية وما يتعلق بها من قضايا، بل إنها عدّت أن افتراض كثيرين منهم (مثقفين) هو ربما أكثر ارتباطًا بظهورهم الإعلامي مما هو بأصالة إنتاجهم الثقافي. وهو حكم قاطع وظالم من دون شك.
2- تعزو الدراسة أسباب فشل حركة تيانانمن إلى أمراض النخبة الصينية، من دون التنبه لباقي عوامل فشلها، والاعتماد على رؤية واحدة لعلاقة هذه النخب بالطبقات العاملة في المجتمع الصيني، أدى إلى تسطيح أسباب الإخفاق، مما كان بحاجة إلى التعمق أكثر في باقي الأسباب حتى تكون النتائج التي تخلص بها صحيحة، ومن ثم يمكن سحبها على بيئة أخرى، فالتركة المعقدة من الأسباب التي خلفتها هذه الاحتجاجات لا يمكن عزوها بسهولة إلى متلازمة تيانانمن بحسب ما عرفتها الدراسة فحسب، ثم إن إلصاق أمراض النخبة الصينية للنخب العربية لا يخضع لأي تفسير منطقي تدلل به الدراسة.
3- عدّت الدراسة الجدل في أسبقية الدستور أو الانتخابات بعد الثورة المصرية في عام 2011، أو الضغط على العسكريين من أجل تأجيل الانتخابات، أو وضع (مبادىء فوق دستورية)، والتعالي على خيارات الشعب الديمقراطية في الانتخابات التشريعية والرئاسية، والدعوة إلى الانقلاب على الخيار الديمقراطي بدعوى حماية الحريات من التطرف الديني، هي نوع من النخبوية الوصائية. وربما كانت هذه الأمثلة تمثل جزئيًا بعض الأشخاص أو التيارات، لكنها لا يمكن أن تكون صحيحة في المطلق، فكثير من هذه المواقف نتاج تغيرات وتحولات واقع تفاعل معه هؤلاء، وكان في بعض جوانبه قدر من المنطق والحقيقة أكثر مما تظهره الدراسة في صورة قاتمة وغير حقيقية.
4- تغاضت الدراسة عما أكدت عليه في فهم دور المثقف ومواقفه والمتمثلات في: أن أي مثقف يولد وينضج في سياق ثقافي ما، لا بد من أخذه في الحسبان عند تعريفه. وهو ما تجاهلته الدراسة، فوصلت إلى نتائج كان يمكن أن تتغير تمامًا لو تعمقت في السياق العربي، وما أنتجه من مواقف، ولا سيما مواقف القوى الإسلامية الأخرى من الديمقراطية والثورات والجيوش.
5- ثم إن اتخاذ كتب ألبرت حوارني وهشام شرابي وسوزان إليزابيث كسّاب أدلة على تهميش المسألة الديمقراطية في عصر النهضة، هو أمر لا يمكن أن يقدم دليلًا كافيًا للحكم على جهد المثقفين العرب في قرن كامل من علاقتهم بالحريات والديمقراطية والمجتمع.
6- الكتاب، ورؤيته ومنطلقاته وتحيزاته، يعد جزءًا من أزمة الثقافة والمثقفين العرب، وتحيزاتهم الشديدة في رؤيتهم لبعضهم من وجهة نظر أيديولوجية ضيقة، وما ينتجه ذلك من آثار على الثقافة والسياسة والاجتماع في مجتمعاتنا العربية، والمصابة بمتلازمة (علماني-إسلامي)، والأخطر على طبيعة البحث العلمي ومنهجيته.
7- ولعل المؤلفين كانا على صواب أكثر عندما قسّما المثقفين إلى تيارات ثلاثة فهو أقرب إلى الإنصاف، ويمكن أن يعمم على غالبية المدارس أو التوجهات الأيديولوجية بما فيها الإسلاميين في علاقتهم بالحريات والديمقراطية والثورات والجيوش والانقلابات، وكيفية التغيير وأولوياته. وهو ما يسمح بإنتاج دراسات تجيب عن أسئلة الدراسة المهمة إجابة أكثر توازنًا، وأقل تحيزًا، وأكثر تفسيرية.
وأخيرًا، يظل هذا الكتاب نموذجًا جيدًا للانطلاق في محاولة الإجابة عن كثير من التساؤلات المعلقة في مشهدنا السياسي العربي في علاقته بالثقافة والمثقفين، ودروهم في التغيير المنشود. فالكتاب بداية يمكن البناء عليها في تناول الموضوع من زوايا مختلفة أو من خلال عينة أخرى تثبت نتائجها أو تشكك فيها أو ترفضها كليًا، ولكنها بالتأكيد ستضيف إلى التراكم المعرفي في هذا الجانب الخطر والمهم والحاكم في مستقبل مجتمعاتنا العربية التي لا تنفصل فيها الثقافة عن السياسة والدين والاجتماع والاقتصاد.