عنوان الكتاب بالفرنسية: Les Arabes, leur destin et le notre
دار النشر: 2015 Découverte La
عدد الصفحات: 260
مؤلف الكتاب: جان بيير فيليو Jean-Pierre Filiu
من أشهر الفرنسيين المتخصصين في القضايا العربية. ينطلق في كتابه هذا من الأحداث اليومية التي يقدمها الإعلام الذي يربط بين العرب والعنف والتعصب. بدءا من المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية وانتهاءً بحروب العراق وسورية، ومرورًا بظهور الجهادية العالمية.
يقدم فليو، تاريخًا مختلفا للعرب. تاريخًا مرتبطًا بقوة بتاريخ فرنسا وأوروبا. تشكل عبر الحملات العسكرية والمستوطنات العدوانية، والوعود الخادعة، والمناورات الدبلوماسية. تاريخًا من مساندة النظم الدكتاتورية المتوحشة أو النظم الظلامية.
هذا التاريخ المشترك الذي شكل مأساة العرب، يجب ألا ينسينا تاريخًا آخر، لا يعرف عنه إلّا القليل، تاريخ التحرر العقلي “عصر التنوير العربي” في القرن التاسع عشر، وتاريخ الغليان الديمقراطي والثورات الاجتماعية، والتي غالبًا، ما تم سحقها بوحشية. قام العرب بمحاولات كثيرة للتحرر من الهيمنة الغربية، ومن قمع الطغاة، لكي يتمكنوا من أن يكتبوا تاريخهم.
يرى فليو، أن التوترات الحالية التي تشهدها المنطقة العربية تستحق قراءة أخرى مليئة بالآمال: فمن هذه المأساة هناك ولادة عالم عربي جديد.
ترجمت بحوث فليو، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في قسم العلوم السياسية (جامعة باريس). المتعلّقة بالعالم العربي الإسلامي، إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.
قصّة تحرر
يتناول هذا الكتاب العلاقات العربية الفرنسية من منظور مميز، إذ يؤكد على التلازم بين حرية العرب وحرية أوروبا، خصوصا فرنسا. وهذا ما يعبر عنه المؤلف من خلال إهداء هذا الكتاب إلى الذين استشهدوا في السنوات الأخيرة من أجل حرية العرب. فالمعركة هي “معركتنا” نحن (الفرنسيين) كما يقول؛ لأننا لن نكون أحرارًا أبدًا ما لم يكونوا هم كذلك.
ويرى أن ثورات الربيع العربي هي محاولة لاستئناف حركة النهضة والتنوير. ثورات ضد أنظمة الفساد والاستبداد وتوريث الجمهوريات وانسداد أفق النمو والتطور.
إن قرونًا من الشراكة بين العرب وفرنسا تجعلها معنية مباشرة بحرية العرب فهي لا تستطيع تحمل آثار ما يلحقه الطغاة بالشعوب. ويؤكد على الترابط الوثيق بين الأمن الأوروبي، خاصة أمن فرنسا، والأمن في العالم العربي.
يتناول المؤلف العلاقات العربية الفرنسية منذ بداياتها، والتي تعود إلى القرن الثامن، حين بادل هارون الرشيد شارلمان البعثات الدبلوماسية. تميزت هذه العلاقات بطابعها الودي والسلمي حتى مرحلة الحروب الصليبية. ثم عاودت هذه العلاقات مسارها الأول، حيث تحالف فرانسوا الأول مع السلطان العثماني سليمان القانوني، وارتبطا باتفاقية تعطي امتيازات دبلوماسية للتجار الفرنسيين، وضمانات لجميع الحجاج الأوروبيين للأراضي المقدسة. وقد عرفت هذه العلاقات تطورًا خاصًا يقودنا إلى حلب عام 1680، حيث تحولت البعثات المتنقلة إلى ممثلية فرنسية دائمة، في هذه المدينة التي تعدّ أهم المراكز التجارية في الشرق، وتبين هذه المحطات الدور النشط لفرنسا في العالم العربي عبر التاريخ. والإرادة الفرنسية أن تكون حاضرة في المشرق العربي، عن طريق الحوار وليس عن طريق السلاح.
جاءت حملة نابليون في عام 1798، لتشكل منعطفا مهمّا في علاقة فرنسا بالمشرق العربي، ولتؤكد الخصائص العالمية للثورة الفرنسية. أّرّخت السنوات الثلاث من حملة نابليون، لمشروع ثقافي ولبداية النهضة العربية، وبداية مواجهة التحدي المزدوج للهيمنة العثمانية من جهة، والتوسع الاستعماري الغربي من جهة ثانية.
تطور هذا النزوع النهضوي خلال القرن التاسع عشر، ولكنه تحطم بالمحاصصة الاستعمارية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. فما إن خرج العرب من تحت السيطرة العثمانية حتى وقعوا تحت الوصاية الاستعمارية، واحتاجوا عشرات السنين من الكفاح لنيل الاستقلال، لكن هذا الاستقلال لم يكتمل بفعل هيمنة الأنظمة الدكتاتورية.
إن الأزمة الحالية التي أخذت طابعًا ثوريًّا وسميت بـ”الربيع العربي” تعكس أزمة عميقة؛ حيث لم تستوف النهضة وعودها بالتحرر بعد قرنين من الزمن.
العرب والنهضة 1801- 1913
لم يكن مفهوم الشعب العربي موجودًا قبل النهضة. بدأ العرب الشعور بذاتهم تدريجيًا عبر النهضة التي تقارن بعصر الأنوار في أوروبا.
عند بداية حملة نابليون، كان العالم العربي خاضعًا، في معظمه، للإمبراطورية العثمانية. بعد هذه الحملة بدأ محمد علي باشا في مصر برنامجا تحديثيًا شاملًا للجيش وللاقتصاد وفرض سيطرة الدولة، وقدم نفسه كمتابع لمشروع نابليون في “التمدن”. في عام 1828 أرسل 44 موفدًا إلى فرنسا على رأسهم رفاعة الطهطاوي الذي أبحر في الحضارة الفرنسية خلال خمس سنوات. حظي محمد على بدعم فرنسا في مشروعه الحداثي؛ حيث تمكن جيشه من اقتحام عكا، وفتح الطريق إلى بلاد الشام وهدد الأناضول.
مرة أخرى يتدخل الإنكليز إلى جانب العثمانيين لإخراج محمد على من بلاد الشام، إضافة إلى ذلك، دفع الاستعمار الاستيطاني للجزائر إلى إطلاق دينامية النهضة العربية، ولعبت تونس دورًا تنويريًّا، حيث أُلغيت العبودية، وأُعلن الدستور في عام 1861 قبل أن تتبناه السلطنة العثمانية، إضافة إلى اصلاحات متلاحقة في مختلف الميادين.
الإسلاميون والقوميون
كانت مصر، عندما باغتتها حملة نابليون، في أوج مشروع تحديثي تقوده الدولة. وكانت تونس تؤكد طموحها في سياق دستوري، كما كانت القاعدة الثالثة للتنوير تظهر في المشرق العربي حيث تسارع التفاعل الثقافي. أدى تطور المطابع والطباعة في القرن التاسع عشر إلى إصدار عشرة آلاف كتاب، أي أكثر مما صدر خلال الألف سنة السابقة. وساهمت الطباعة في علمنة اللغة وظهور الصحافة وانتقال الأخبار.
يلحّ الكواكبيّ على فصل الدين عن السياسة، وتنطوي أفكاره على نوع من التركيب بين القومية والدين حيث نادى، من منفاه في القاهرة، بإقامة خلافة عربية في تحدٍّ واضح للباب العالي وللسلطنة العثمانية.
كان على رواد النهضة مواجهة الهيمنة العثمانية، وتحدي التوسع الغربي الاستعماري. فقد بدأت النهضة العربية تأخذ أشكالًا مختلفة من التحرر الثقافي، وتوكيد الذات القومية، والتأكيد على أهمية النمو الاقتصادي، وعقلنة الإدارة وتطوير الأفكار الدستورية. ولم يكن التفاعل يوما بين المثقفين العرب كما هو في هذه المرحلة. حيث أخذت رؤيتهم للنهضة والتنوير تتجذر في لغتهم، وفي ثقافة الاعتزاز بقوميتهم. كان الطموح كبيرًا جدًّا، إلى درجة أنه لم يفضِ إلّا إلى الإحباط.
السلام والحرب (1914 – 1925)
أحكمت بريطانيا سيطرتها على مصر والخليج، وهيمنت فرنسا على أفريقيا الشمالية؛ فلم يلقَ إعلان السلطنة العثمانية للجهاد ضد الاستعمار آذانًا صاغية عند العرب، بسبب الهوة القائمة مع العثمانيين. فشلت السلطنة في تلاحم الشعوب الاسلامية تحت راية الخلافة، إذا حدثت المواجهة بين العرب والأتراك في الحرب العالمية الأولى.
اتفق الشريف حسين مع الإنكليز على اعترافهم باستقلال الأراضي العربية الواقعة تحت السيطرة العثمانية، مقابل تحالفه الدفاعي معهم. ولكن، كلما تراجع الأتراك في الحرب تراجع الإنكليز في وعودهم. خصوصًا، بعد إصدار وعد بلفور بتسهيل إقامة كيان يهودي في فلسطين.
على الرغم من الشراكة القوية للعرب في الحرب ودورهم في تحقيق النصر، إلا أن محادثات باريس للسلام تجاهلتهم. وبضغط من بريطانيا تمت دعوة الملك فيصل كممثل للحجاز فحسب.
تشكل حزب الاستقلال وكانت نواته منظمة “الفتاة”، وقد دُعي هذا الحزب للمؤتمر الوطني السوري، الذي دعا فيصل بن الشريف حسين ليكون ملكًا على مملكة دستورية مؤسسة على مبادئ الحكومات الديمقراطية اللامركزية، ورفض أي تقسيم لسوريا الطبيعية.
ثارت مصر التي كانت تغلي في عام 1919 بعد نفي زغلول ورفاقه، ثورة سلمية، وقد تم قمعها بوحشية، على نمط ثورة ميدان التحرير في 2011. كانت ثورة سلمية في مواجهة عدو مدجج بالسلاح، وكانت شعاراتها وطنية لا دينية.
بعد إعلان الاستقلال في سورية، سرعان ما تم وضع المنطقة تحت الانتداب البريطاني-الفرنسي. في عام 1920، ثار العراق ضد الغزاة في وقت يبعث غورو بإنذاره الشهير إلى حكومة فيصل في دمشق. وتتصاعد الحمى الاستعمارية في فرنسا، ولا يتم الحديث إلا عن “الموارنة والمسيحيين”، مع تجاهل باقي مكونات المجتمع السوري. وسرعان ما أعلنت الجمهورية في تركيا وانتهت الخلافة. كما تم وضع حدّ لخلافة الشريف حسين على يد آل سعود. وهكذا انتهى قرابة قرن من محاولات النهضة، لتقع البلاد تحت الوصاية الأجنبية، ووصاية من يعادي النهضة، فأدى هذا السياق إلى إضعاف حركة التنوير العربية.
لم تعامل بريطانيا وفرنسا العرب كحلفاء على قدم المساواة، على الرغم من أنهما بادرتا إلى طلب التحالف معهم ضد العدو التركي–الألماني. وتم التعامل معهم كأعداء وليس كحلفاء. ما ترك أثرًا عميقا بعيد المدى بالشعور بالظلم.
يتساءل فليو: كيف يمكن للغرب تبني هذه السياسة التي تعدّ، أخلاقيًا، موضع جدل؟ وهي من الناحية الإستراتيجية، سياسة عشوائية، وما زلنا بعد قرن ندفع أثمان نتائج أزمات الشرق الأوسط، أي أثمان القرار بإخضاع العرب بدلًا من التحالف معهم.
كما يتناول المؤلف نصف قرن من النضال من أجل الاستقلال (1922-1971). حيث وقعت معظم البلدان العربية تحت سيطرة الاستعمار باستثناء السعودية واليمن. كان المستعمرون يرغبون في المواجهات المسلحة، نظرًا إلى امتلاكهم القوة الساحقة، وكانوا يتجنبون مواجهة الاحتجاجات السلمية، كما حدث في مصر عام 1919، حيث فرضت الثورة على الإنكليز كثيرًا من التنازلات. في حين تم سحق ثورة العشرين في العراق والثورات التي عرفها المغرب العربي.
استمرارية النهضة
أصيبت دينامية التحرر الوطني للنهضة العربية بالتراجع بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن اتجاهات القرن التاسع عشر القوية استمرّت مع تقدم التعليم باللغة العربية في فضاء علماني متحرر من الهيمنة الدينية. وتوسّع التبادل الفكري–الثقافي بين المفكرين في مختلف الأقطار العربية وفي الشتات.
عرفت مصر نوعًا من الاستقلال النسبي، ودخلت في نظام دستوري قائم على الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة. وتحالف الإسلاميون والقوميون في مواجهة الاستعمار في مصر وفي تونس. وازدهر الأدب والشعر المناهض للاستعمار وسياساته القمعية، خصوصًا مع حافظ إبراهيم وأبي القاسم الشابي.
القمع والتلاعب الاستعماري
إضافة إلى إعلان جمهورية لبنان الكبير، قامت فرنسا بتقسيم سورية إلى عدة دويلات. واستمر القمع في ليبيا وفي مصر، وسحق التمرد الشعبي بقوة غاشمة. كما تم تشجيع الاستيطان الأوروبي، ووضع نصف عدد سكان بعض المناطق في معسكرات اعتقال، واستمر تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين، الذي قوبل بثورة عارمة وإضراب تم سحقه بالقوة. وكذلك قوبلت الثورة المسلحة بحشد غير مسبوق؛ إذ وضعت بريطانيا 20000 جنديّ مقابل 2000 ثائر، وهكذا تمكنت من القضاء على الثورة، ما أتاح للمنظمات الصهيونية تثبيت أقدامها في فلسطين.
الجامعة العربية وإسرائيل
قامت 7 دول عربية بتأسيس هذه الجامعة، جُلُّها ترزح تحت النفوذ الاستعماري باستثناء اليمن والسعودية. بعد توقف الحرب العالمية الثانية قامت المظاهرات في دمشق وفي الجزائر تطالب بالاستقلال، هذه المظاهرات قوبلت بالسلاح وبالقصف الذي لم يتوقف، إلا بعد تدخل تشرشل. حيث كانت فرنسا تحت المراقبة الدولية في سورية، بينما كانت تتصرف بحرية في الجزائر. واعترفت بريطانيا بإخفاق انتدابها، ونيتها الانسحاب من فلسطين، بعد أن مهدت الأوضاع لإقامة إسرائيل، وحدثت النكبة بعد عجز الجيوش العربية عن المواجهة.
رحيل الاستعمار عن شمال أفريقيا
نجحت الملكية في المغرب في قيادة الحركة الوطنية التي انتهت إلى رحيل فرنسا، وشكلت تونس قطبًا مهمًا من أقطاب النهضة، وانتهت ثورة الجزائر برحيل فرنسا، وبذلك انتهى الاستعمار من شمال أفريقيا.
لم تتمثل فلسطين في الجامعة العربية إلّا بمنظمة التحرير الفلسطينية؛ ما يعني أن استمرار القضية الفلسطينية يعبر عن فشل الأنظمة العربية في حلها، كما استُخدمت قضية العرب الكبرى (فلسطين) حجةً وذريعة للأنظمة الدكتاتورية للتحكم والسيطرة واختطاف الاستقلال.
عشرون سنة من الانقلابات العسكرية (1949 – 1969).. الاختطاف الكبير
قام المصريون في عام 1919 بعصيان مدني في مواجهة الإمبراطورية البريطانية، كما عرف العرب في القاهرة وبيروت ودمشق عشرات السنين من الحياة البرلمانية والتعددية الحزبية والإعلام بتعدديته وتنوعه. فالإشارة إلى هذا الماضي القريب تثير الدهشة، لأن صورة العالم العربي مرتبطة بالعنف والتعسف.
كانت المأساة الفلسطينية الحجة التي مكّنت العسكر من إقصاء النخب السياسية المستقلة. كما أن المواجهة بين مصر الناصرية والسعودية أدت إلى تمزيق مركب الاسلام والقومية الذي شكل قلب التنوير العربي.
ضيّقت القوى الاستعمارية على الشعوب، إذ لم يكن أمامها غير الإذعان أو الثورة. وتم القضاء على الحياة البرلمانية، واتُّهِمت النخب بالفساد، واستُخدمت الحجج السوفياتية في تبرير ذلك، خُصوصًا، فيما يتعلق بالحرية “البورجوازية” وكونها مرتبطة بالقوى الاستعمارية. وهكذا بدت الدولة الوطنية مهددة بمزاودات الإسلاميين والقوميين، ثم بين الاتجاهات القومية فيما بينها؛ إذ وظفت القضية الفلسطينية في برامجها السياسية.
ارتبطت الانقلابات العسكرية في مصر وسورية بالقضية الفلسطينية، وهذا ما وضع النهضة في طريق مسدود؛ فإما الارتماء في حضن الدكتاتورية العسكرية، أو في حضن الإسلام السياسي بصيغته المصرية أو الوهابية. وهذا ما خلق التناقض بين القومية والإسلام، بعد أن قامت النهضة على التفاعل بين هذين المفهومين طوال القرن التاسع عشر. حيث تقدم الكواكبي في بلاد الشام بصيغة الديمقراطية الدستورية، وإقامة الخلافة العربية على هذه القاعدة الديمقراطية، وفصل الدين عن السياسة. وكذلك فعل محمد عبده في مصر.
تراجعت الديمقراطية في مصر بسبب المواجهة بين القومية العربية والإسلام السياسي، فيما نجح بورقيبة في تونس، في تفصيل نظام سياسي على مقاسه، وكذلك الأمر في الجزائر، وأطبقت نظم الدكتاتوريات العسكرية “التقدمية ” على العالم العربي.
الحرب العربية الباردة
تمحور النظام العربي من جهة، حول ناصر الذي يمثل القطب القومي، وفيصل من جهة ثانية وهو يمثل القطب الإسلامي. في أوج هذا التناحر، قامت إسرائيل بتوجيه ضربة قاسية إلى النظام العربي في عام 1967. وفي هذه الظروف تجذّرت الدكتاتوريات العسكرية في سورية وفي مصر والجزائر وليبيا. وأسست سلطتها المطلقة في منطق استملاكها ثروة البلاد وإعلان أبويتها على شعب غير مكتمل “النضج”، يدعى من وقت لآخر لتأكيد إذعانه بتجديد البيعة. هؤلاء العسكر المنتمون إلى طبقات شعبية فلاحية مهمشة من جانب النخبة يستوفون ثأرهم من هذه النخب.
كما أن الهزائم التي ألحقت بهذه الجيوش في حروبها الخارجية عوضت عنها، بسحقها من دون رحمة أيّ حراك داخلي، فهي لم تتردّد في التصرف مع شعوبها بوحشية تفوق وحشية الاحتلال، وكذلك مع كل شكل من المعارضة كان يتهم بالعمالة للإمبريالية والطابور الخامس. وتماهى الحزب الواحد مع أجهزة الاستخبارات، وأدّت هذه الانقلابات إلى ضحالة فكرية وثقافية مروعة.
خدعت حركة النهضة العربية من القوى الاستعمارية في الحرب العالمية الأولى. إلا أن الاستقلال لم يكن سوى خدعة أخرى، لأن الدكتاتورية بددت ثمار المعارك الشعبية من أجل الحرية. وبعد نكسة حزيران أضاع العرب طريق المعركة من أجل الحرية.
من كارثة إلى أخرى: جيل التنازلات
بدت الثورة الفلسطينية المخرج الوحيد لفتح آفاق السياسة العربية؛ باتباعها سياسة التوريط ومواجهتها مع النظام الأردني حيث ارتكبت أخطاء جسيمة، وجاء موت عبد الناصر الذي أنهكته هذه المواجهة ليشكل نهاية مرحلة برمّتها.
بدأ الانفتاح على الولايات المتحدة، وهُزم الفلسطينيون في الأردن، وهم غير مرحب بهم في سورية الأسد، فلجؤوا إلى لبنان.
تمكن الأسد والسادات من تصفية النظام الموروث، وقامت الدكتاتوريات في مصر وسورية واليمن والجزائر بتصحيح الدعوات المتهورة في معاداة الإمبريالية، وبدأت الانفتاح على دول الخليج.
جاءت حرب أكتوبر 1973، لتعزز هذه الأنظمة، وتكسبها نوعًا من الشرعية؛ فلأوّل مرة يظهر نوع من التنسيق بين الدول العربية، في المعركة كما في السياسة، حيث استخدم سلاح النفط، حتى نجح كيسنجر في الفسخ بين الجبهتين السورية والمصرية، وفي إرضاء دول الخليج وتوقيع اتفاق فك الارتباط موحيًا بأنه مقدمة لسلام شامل. إلا أن هذا الاتفاق ما زال بعيدًا عن السلام.
كما حققت منظمة التحرير الفلسطينية نجاحًا دبلوماسيًا واعترافًا دوليًّا، لكنها سرعان ما وجدت نفسها متورطة في الحرب الأهلية اللبنانية، وفي مواجهة مع جيش الأسد الذي أضعفها.
لعنة النفط
أدت صدمة النفط إلى تراكم ثروات هائلة في دول الخليج، وأحدثت تحولات اجتماعية عميقة، إلا أن سيطرة الإخوان المسلمين المنفيين في هذه البلدان، أدّت إلى تبني سياسات تعميق الأيديولوجيات الدينية المعادية للنهضة. ووصل تأثير هذه التحولات والعودة إلى التدين إلى كل أنحاء المنطقة العربية. كما أخفق النموذج الاقتصادي في الجزائر وفي ليبيا، في العراق -وحدها- كانت هناك خطوات حثيثة للتنمية والتنوير. وتراجعت الديمقراطية وتعمقت الدكتاتورية، ليس في بلدان النفط وحدها، إنما في عموم الوطن العربي.
تحولات عام 1979
كانت هذه السنة حاسمة بالنسبة إلى الوطن العربي، قيام الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفياتي لأفغانستان؛ فقد التحق جيل من المناضلين العرب (القوميين أو الماركسيين) بالإسلام الإيراني الصاعد، ليس بدوافع دينية، إنما بإرادة محو الهزائم السابقة. ووجدت أميركا وحليفتاها (مصر والسعودية) الفرصة سانحة لتشجيع الجهاد، ودفع الشباب العربي إلى أفغانستان.
وفي العام نفسه، تم توقيع السلام المنفصل بين مصر وإسرائيل، ما أخرج مصر من دائرة العمل العربي المشترك. ويتقدم صدام حسين بعد استيلائه المطلق على السلطة ليحمل شعار القومية العربية، بعد تصفية التيارات الراغبة في التقارب مع دمشق. وهكذا تحالف الأسد مع الخميني، وبطش صدام بالشيعة المقربين من إيران.
في عام 1980، قرر صدام دخول إيران مستغلًا هشاشة وضعها، إلا أن ذلك أدى إلى تماسك النظام الإيراني حول الخميني، ما جعل الحرب تستمر 8 سنوات. في مصر، دفعت ملاحقة المتطرفين، بعد قتل السادات، للذهاب إلى أفغانستان.
هذه التحولات عززت طغيان الأنظمة العربية التي اهتزت قواعدها، وبدأ الاستقطاب على أساس طائفي بين الشيعة والسنة. وكان الخطاب العلماني يخفي سيطرة الأقلية الطائفية.
هدأت جبهات الجولان وسيناء، وتمكن الأسد من سحق تمرد حماة عام 1982. وبدت الأنظمة العربية وكأنها محصّنة، إذ تعدّ الجماهير العربية مسألة كمية، يمكن تجاهلها على مستوى دولي رفيع.
عرفات– ميتران
وجود ميتران في رئاسة الجمهورية، المعروف بصداقته القوية لإسرائيل، لم يمنعه من الاعتراف بمنظمة التحرير، وإنقاذها بعد اجتياح بيروت عام 1982، وطالب بإقامة دولة فلسطينية في حدود الأراضي المحتلة عام 1967. في تلك الفترة ولدت حماس الرافضة لأي تنازل، والمدعومة من إيران وسورية. هذا التجاذب بدأ يقسم العالم العربي من جديد.
أزمة الكويت
في عام 1990 اجتاح صدام الكويت، ومن جديد ينقسم العالم العربي بين من يؤيد ومن يرفض. وجدت مصر وسورية فرصة ذهبية في غزو الكويت للعودة إلى الفعل في قلب العالم العربي، عبر مشاركتهما في عاصفة الصحراء التي انتهت الى هزيمة العراق وحصاره وإلى تعزيز القبضة الأمنية على المجتمع.
كانت أوروبا منشغلة في بناء ذاتها، فلم تهتم بالمسألة الديمقراطية في العالم العربي (الاستثناء العربي). فالمجازر المتكررة والسجون المكتظة والقبضة الأمنية العسكرية لم تواجه بردّات فعل مناسبة؛ ففهمت المجتمعات العربية أن الحقوق هي للآخرين للمحتلين وللأقوياء.
بدأ الشعور الجماعي والفردي بالعجز ينهش المقوّمات الحيوية للمجتمع؛ فالمنفى الداخلي أو الهروب الاستهلاكي أو التقوى باتت هي ردّات الفعل، لرأب الصدوع المؤلمة. وهكذا أصبحت الأوضاع خصبة، لنمو الانحراف الانتحاري ودخول زمن الرعب.
استخدام الرعب 1991–2011
في مطلع السبعينيات، أثارت عملية خطف طائرة بركانًا دوليًا، أخذ بُعدًا إعلاميًا غير مسبوق. لم يكن الخطف “إسلاميًا”، كان يقوم به وطنيون علمانيون. جاء حزب الله لتصفية كل شكل من أشكال المقاومة التقدمية في لبنان، قبل أن يفرض نفسه المقاوم الإسلامي الوحيد. وأصبحت العمليات الانتحارية المدهشة، وسيلته الأساسية لضرب المصالح الغربية والإسرائيلية في لبنان. وانتقلت تقنية العمليات الانتحارية إلى حماس. وتحول جنوب لبنان إلى مختبر للعنف.
ساهم الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982 في نمو حزب الله، الذي حلّ محلّ المقاومة الفلسطينية، وعزّز موقف حماس التي وقفت ضد الخيارات التفاوضية لمنظمة التحرير.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أعلنت أميركا النظام العالمي الجديد. ولم يكن يكفي صدام المنهك الهدف الكافي لتمثيل العدو لهذا النظام الجديد؛ فبدأ الترويج “للإرهاب الإسلامي” وسرعان ما فهم الطغاة العرب فائدة مثل هذا الانحراف الأيديولوجي.
جنرالات الجزائر كان لهم السبق في استعمال “الإرهاب الإسلامي” للتملص من نتائج الانتخابات ورفضها. كان يجب انتظار الجهاديين الأفغان لرؤية أول منظمة إرهابية معولمة. لتكون الشعوب العربية هي الضحية الأولى لهذه العسكرة. ففي الجزائر تصرف الجيش بوحشية تفوق وحشية المحتلين، في قمع انتفاضة الشباب السلمية.
حرب تدمير العراق ومفاوضات السلام ووصولها إلى طريق مسدود، وتنازلات السلطة التي لم تؤدِّ سوى إلى مضاعفة المستوطنات، أعطت حماس وزنًا قويًّا في أوساط الفلسطينيين. كما أن انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان، وفّر الفرصة لحزب الله ليعلن نصره الإلهي.
منظمة القاعدة ومحطة الجزيرة
كان دخول القوات الأطلسية إلى الخليج لمحاربة العراق، نقطة القطيعة بين بن لادن والسعودية. حيث غادرها إلى السودان ثم إلى أفغانستان، ليعلن الجهاد ضد أميركا التي تحتل السعودية. وكان باكورةُ أعماله تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا في عام 1998.
كما أنّ ظهور محطة الجزيرة وغيرها من المحطات الفضائية، حطم احتكار الأنظمة الحكومية للمحطات التلفزيونية. كانت الشعوب تتوق إلى سماع لغة مختلفة عن اللغة الخشبية المعتادة.
أعلنت القاعدة الجهاد وبدأت معسكراتها تعج بالمجاهدين، ووضعت في أولوياتها استهداف أميركا وحلفائها، وجاءت ضربات 11أيلول/سبتمبر2001، نقطة تحول في إعلان الجهاد ضد أميركا لاحتلالها الجزيرة العربية. ولم يكن ذلك غير اختطاف حركة الكفاح العربي.
الحرب الشاملة
أعلن بوش الابن الحرب الشاملة على الإرهاب الإسلامي. وتسابق الدكتاتوريون العرب لعرض خدماتهم، وتعاون استخباراتهم، وسارعت أميركا إلى تحطيم طالبان وبدأت تحشد لغزو العراق عام 2003.
بعد احتلال العراق قامت أميركا بحل الجيش، واجتثاث البعث، وتفكيك الدولة العراقية. إلا أنها سرعان ما جوبهت بمقاومة عنيدة. كأن أغلب المقاومين من العرب السنة، وهذا ما أدى إلى استقطاب طائفي، واتهام الكرد والشيعة بالتعاون مع الاحتلال.
ركّزت الدعاية الأميركية على الزرقاوي الأردني، ونسبت إليه عشرة أضعاف ما كان يقوم به من عمليات، وركّزت على مسألة الجهاديين، وإبعاد أي صبغة وطنية عن المقاومة العراقية. هذا الصعود للزرقاوي تجسد بعد تسميته من جهة بن لادن زعيمًا لفرع القاعدة في العراق. وسرعان ما ظهر فرع “القاعدة في المغرب” والقاعدة في “الجزيرة العربية”.
أدى غزو العراق إلى خلق “الثقب الأسود” وهيأ لكل أشكال الانحراف، كما أن منطق الفدراليات في الدستور العراقي، أدى إلى تعميق الهوة بين السنّة والشيعة والأكراد. وكان المسيحيون العراقيون الغائب الأكبر عن هذه الصفقات، وبدؤوا بالهروب الجماعي من أرض إبراهيم أي أرضهم منذ أكثر من ألفي سنة.
أدت الفوضى العراقية إلى اضطراب الأمن الأوروبي بشكل مستمر (أحداث مدريد في عام 2004 ولندن عام 2005). كما وضعت إسرائيل قمعها للانتفاضة في إطار التماهي بالمعركة ضد الارهاب، فأعيد احتلال الضفة الغربية ومحاصرة عرفات.
في اليمن أفاد صالح من علاقاته مع الجهاديين لقمع الماركسيين في الجنوب. وسرعان ما اندمج في الحرب على الإرهاب وبدأ يحصل على مساعدات أميركية سخية.
جاك شيراك والأسد الأب والابن
بحكم علاقته القوية بالحريري الذي قبل بالوصاية السورية، استقبل شيراك بشار الأسد في الأليزيه عام 1999، وكان الزعيم الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، وقبل بتوريث السلطة، وبتحويل الجمهورية إلى نوع من الملكية على غرار وراثة عبد الله الثاني نجل الملك حسين ومحمد السادس نجل الحسن الثاني. كان شيراك يعتقد مثل الحريري أن الأسد الشاب سيبدأ في الإصلاح، واستقبله في باريس مرتين. وبتأثير الحريري، عارض شيراك غزو العراق، إلا أن بوش الابن فعلها خارج إطار الأمم المتحدة.
استخدم شيراك صدقيته، لا لتدعيم الإصلاح في العالم العربي، بل لمساندة الأنظمة الحاكمة والمحافظة على ما هو موجود، ولكنّ اغتيال الحريري في عام 2005 كان صدمة قوية لشيراك الذي ساند ثورة الأرز، وصمّم على معاقبة بشار.
كما أظهر ساركوزي سياسته بمساندة الأنظمة الدكتاتورية، وفيها نوع من الاستمرارية لسياسة شيراك.
فتح بوش الابن بتدميره الدولة العراقية، الباب على مصراعيه للنفوذ الإيراني، كما أن غزو العراق أدى إلى زرع القاعدة في الشرق الأوسط، وانتشارها في كل المنطقة، وتطورت في المغرب حيث أصبحت تضرب في عموم أفريقيا.
العالم – بما فيه فرنسا- لا يهتم بالعرب إلا لتنبيههم إلى ضرورة المحافظة على الأنظمة التي تقمع تطلعاتهم. فمحادثات السلام تدور في الفراغ، والمستوطنات في توسع دائم، وغزّة في مواجهة رام الله، في حين كان مبارك والقذافي وصالح يحضرون أولادهم لتولي عرش “الجمهوريات” على غرار الدكتاتورية الوراثية للأسد في سورية.
لهذه الأسباب قامت الشعوب العربية لاستعادة ديناميكية النهضة، وبمفاجأة تامة، ثارت من أجل حقوقها.
الثورة والثورة المضادة (2011 – 2015)
الديكتاتورية والجهادية معركة واحدة.
استمدّ الآباء الأوائل بعض السلطة من شخصياتهم الاستثنائية (عبد الناصر، بو مدين وبو رقيبة). لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للورثة الذين أظهروا شراهة في كل شيء، في السلطة وفي الاقتصاد وفي خنق الأنفاس. فالنظام لم يعد مجرد آلة قمع سياسية، بل تغلغل إلى الفضاء الشخصي لاستعباد الفرد، وإرغامه على تسول ما يمكنه من البقاء. أو أن يجعل من الرشوة ما يكمل المرتب ليصبح العيش ممكنًا. وهكذا عمل “آباء الأمة” على نهب مصادر الثروة لمصلحة زمرتهم، عبر سياسة الخصخصة واحتكار القرار الاقتصادي.
لقد أنجز المجتمع العربي، خلال جيلين، ثورة صامتة: ثورة التحول الديموغرافي نحو الأسرة الحديثة، وانفجار النموذج الأبوي. يشترك مئات الملايين من الشباب العرب، من المغرب إلى الخليج، في درجات متفاوتة، في النوع نفسه من الإحباط؛ فهم لم يسبق لهم أن كانوا في هذا المستوى التربوي–التعليمي، إلا أنهم يعانون من شحّ الوظائف وفرص العمل. هذا الإحباط يعبر عنه بلغة عربية فصحى. إذ لم يسبق للعرب أن تبادلوا العربية بشكل جيد فيما بينهم كما في هذه الفترة، فترة توسع الفضاء التلفزيوني ووسائل التواصل الاجتماعي.
توافرت شروط الغليان لاستئناف النهضة، ولكن بنسبة مرتفعة، وبما لا يقاس، بفضل التقدم التكنولوجي وتطور شبكة التواصل الاجتماعي التي وفرت فرص التعددية والحوار وإبداء الرأي، وتبادل المعلومات حول الخطاب السياسي.
شكلت حادثة البوعزيزي المأساوية الشرارة التي أشعلت ثورة الشباب العربي الذي دفع الجماهير بالملايين للنزول إلى الشوارع ورفض الأنظمة القائمة: أنظمة الفساد والاستبداد.
أيام الغضب
لم يتمكن نظام بن علي من الصمود أكثر من شهر أمام المظاهرات. وانتصار الجماهير في تونس دفع ملايين المصريين لاحتلال ساحة التحرير، ما أدى إلى استقالة مبارك. وتبع ذلك نزول الجماهير إلى الساحات في البحرين، وفي اليمن. وتسارعت الأحداث في شباط/ فبراير 2011، في ليبيا حيث تحولت بسرعة إلى مواجهة مسلحة. وفي المغرب عمّت المسيرات المطالبة بالإصلاح.
أعلنت السعودية تخصيص 36 مليار دولار كحزمة اجتماعية، تبعها 13 مليارًا لإجهاض أي محاولة للحراك الشعبي. وكذلك أظهرت السلطات الجزائرية كرمًا غير مسبوق في توزيع عوائد النفط.
في 14 آذار/ مارس دخلت القوات السعودية–الإماراتية لإجهاض الحراك الشعبي في البحرين، وساعدهم في ذلك المزاودة الشيعية الايرانية التي تريد تحويل المعارضة الوطنية إلى معارضة طائفية.
في درعا بسورية، أحد معاقل البعث التاريخية، انهار جدار الخوف. ففي 15 آذار/ مارس أدى تعذيب الأطفال وإذلالهم إلى مظاهرات عارمة تم قمعها بوحشية. وفي 18 آذار/ مارس ارتكبت قوات صالح في اليمن مجزرة في ساحة التغيير، ما أدى إلى انشقاق في الجيش.
سرعان ما أدرك الأسد وصالح أهمية تضخيم التهديد الجهادي لتشويه المعارضة السلمية وتقسيمها. قام الأسد بإطلاق مئات المحتجزين من الجهاديين الذين التحقوا بصفوف الدولة الإسلامية في العراق، في الوقت الذي عمل على سحق الناشطين السلميين وإخفائهم. ذهب صالح إلى أبعد من ذلك عندما أمر قواته بالتنازل عن زنجبار اليمن للجهاديين التي تحولت إلى عاصمة الإمارة الإسلامية في جنوبي اليمن.
الانحراف الليبي
اقتنع الرئيس الفرنسي بعد سقوط مبارك بضرورة التغيير السريع لكي يتمكن من تقدم المشهد، فقام بالاعتراف بالمجلس الوطني الليبي، وأدى التزام الناتو في المسألة الليبية واستمرارها أشهرًا طويلة إلى ارتباط صورة الثورة بالعنف الجامح.
في تموز/ يوليو2011، نجح التونسيون عن طريق الحوار والانتخابات الشفافة في تجاوز هذه المرحلة. وفي مصر أدى سقوط مبارك إلى خلق دينامية ما زالت تحرك البلاد. حتى في المغرب تم طرح دستور جديد، بتأثير التحركات الجماهيرية في المنطقة.
وفي تشرين الأوّل/ أكتوبر 2011، نجح السوريون في جمع تياراتهم السياسية في المجلس الوطني. وعلى الرغم من شفافيته، مقارنة مع نظيره الليبي، إلا أن ساركوزي وأقرانه الأوروبيين، رفضوا الاعتراف به كما فعلوا بالنسبة إلى المجلس الليبي. وهذا ما جعله عرضة للتدخل الخليجي التركي، وازدياد نفوذ الإخوان المسلمين، وسدّ الطريق أمام كثيرٍ كان يمكن أن ينشقّوا عن النظام.
الفخ اليمني
بعد تعرض صالح للاغتيال ضغطت السعودية في اتجاه حل وسط، يتضمّن انتقال السلطة بشكل هادئ إلى نائب الرئيس. وعندما فشل صالح في وقف السياق الديمقراطي عبر المجموعات الإرهابية، اتجه نحو عدوّه القديم: “الحوثي”. على غرار الأسد، يحاول صالح استعادة سلطته على أنقاض اليمن.
الرعب السوري
أعلنت الصيغة اليمنية كحل أمثل من جانب الجميع لتجنب الآلام والمغامرة الليبية. وخصوصًا أن الغرب بدأ ينظر بعين القلق إلى صعود الجيش الحر، وتنامي دوره ونجاحه في حرب العصابات. وشكّلت الصيغة اليمنية أساس الخطة العربية للسلام في كانون الثاني 2012. تضمّنت هذه الخطة تسليم السلطة لنائب الرئيس فاروق الشرع، الذي كلف بفتح الحوار مع المعارضة، في سياق تشكيل حكومة وحدة وطنية وتنظيم انتخابات حرة خلال شهرين. إلا أن اعتراض إيران وروسيا ودعمهما غير المشروط للأسد، أفشل هذه الخطة التي تبنتها الأمم المتحدة بأغلبية 137 صوتا مقابل 12، وكلف كوفي عنان بوضعها موضع التنفيذ. بدلًا من الاستجابة للتسوية، صعّد النظام القصف والمجازر (الحولة) وهذا ما حمل فرنسا وأميركا على سحب سفيريهما وطرد السفراء السوريين.
إضافة إلى فيتو مجلس الأمن، تمكن الأسد من الاعتماد على مسألة الارهاب الجهادي التي سيوظفها لتخويف العالم من البدائل. عندما وضع أوباما خطه الأحمر، فهم الأسد أنّه إذا تقيد بهذا الشرط، فكل شيء مسموح؛ قصف المدن واستخدام صواريخ سكود والبراميل …إلخ، فبدأ يستخدمها على نطاق واسع. وعندما استخدم السلاح الكيماوي، اكتفت واشنطن بتوقيع اتفاق سحب هذه الأسلحة، وترك الأسد يتابع المقتلة. هذا الوضع أدى إلى تصاعد دور الجهاديين كما أدى تدخل حزب الله إلى الإيحاء بأن الصراع أخذ بُعدا شيعيًا–سنيًّا. وأصبح على الجيش الحر أن يقاتل الأسد وداعش على جبهتين. ما أدى إلى تشتت قواه وبعثرتها. وبعد تخلي الغرب عن المعارضة السورية، نراه الآن يبدأ شيئًا فشيئًا استعادة علاقاته مع الطاغية.
المأزق المصري
بعد انقلاب السيسي، تم إفراغ الانتخابات من مضمونها الدستوري، وتحولت إلى وسيلة للسيطرة على الدولة؛ فجميع الفاعلين العسكريين في الثورة العربية المضادة، مقتنعون بحقهم الطبيعي في امتلاك البلد، والسيطرة على موارده؛ فأسباب النظام تتقدم على أسباب الدولة، ويتم التضحية بالمجتمع من أجل مصالح الطغمة الحاكمة.
مجازر رابعة في عام 2013، لا مثيل لها إلّا المجازر التي حدثت بعد حملة نابليون 1798. كما تعيدنا الوحشية الأسدية ومجازرها إلى تيمورلنك في 1400و1401. وهذا يعني أن رفض الدكتاتورية للنهضة ليست مسألة المحافظة على الأوضاع الراهنة، بل تعني النكوص المطلق نحو الزمن الأكثر انحطاطًا في التاريخ العربي، مع ما يرافقه من تدمير للتراث الحضاري. فالمشروع الإجرامي للأسد والسيسي وأمثالهما يتجاوز إعادة الاستبداد الوحشي، فهو يهدف إلى تجذير الخوف من أقل محاولة للتغيير لدى الناس.
في الخمسينيات من القرن الماضي كانت الدكتاتوريات تكتفي بمنع الأحزاب ومنع الانتخابات، بينما في عام 2015 يجب عليها الاستعانة بالبربرية الداعشية كاملةً، لوأد أحلام الجماهير المتطلعة نحو الحرية.
إن السير على خطا التحرر الفردي والجماعي الذي بدأه رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، هو الذي سيمكّننا من مواجهة تهديد الطغاة والجهاديين، حيث يغذي أحدهما الآخر.
يبين المؤلف العناصر التي تجعل مصير فرنسا مرتبطا بمصير العرب. فرنسا الثورة اعتقدت أن العرب هم عرب، في حين كانوا يعدّون أنفسهم مسلمين. حملة نابليون على مصر ودعم محمد علي من جهة، واحتلال الجزائر من جهة ثانية، وضع العلاقات العربية الفرنسية، في المدى البعيد، في تاريخ مشترك. كما أن الطموح الكوني لفرنسا دفعها للاستثمار في قيمها وقوتها. في حين عملت بريطانيا على الإدارة غير المباشرة، ما مكّنها من البقاء على مسافة ما.
عندما فرضت الجمهورية الثالثة بالقوة “الجزائر فرنسية”، ربطت مصير العرب بمصير فرنسا، وجاء فرض الانتداب على كثير من البلدان العربية لتعزيز هذه الروابط.
دخلت الدكتاتوريات العربية في أزمة دائمة ذات طبيعة ثورية، نتيجة رفضها المطلق الاعتراف بالشعب كمصدر للسلطة وللسيادة. أهمية هذه الأزمة المتشابكة تبقى ذاتها التي طرحت قبل نحو قرن من الزمان، في نهاية الإمبراطورية العثمانية: يتعلق الأمر بحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، هذا الحق الذي تم تجاهله في مرحلة التدخل الاستعماري، ومصادرته عند الاستقلال عبر التلاعب بالنظم العسكرية. كما أُلقيَ بهذا الحق جانبًا والكيل بمكيالين. ولا يطلب العرب إلا حقوقهم الأساسية، وعلى الفرنسيين تفهم هذه الحقوق أكثر من أي شعب آخر.
مأساة التحرر العربي، تثير في المجتمع الفرنسي ميلًا للرفض أكثر منه للتعاطف. وميلًا إلى الكآبة أكثر منه إلى جدية التفكير. وهذا ما يسعى إليه الطغاة العرب في دفعنا إلى عدم فهم المأساة التي تحدث في جنوب المتوسط، واستثارة مشاعر الرعب لشل إمكانية فهمنا، وإغراق المعنى الحقيقي لمعركة الحرية بالمجازر والدماء.
إن قرنين من الشراكة بين العرب والفرنسيين تجعل من الوهم محاولة وضع فرنسا في برج عاجي، حيث يمكنها تأمل الآلام التي يلحقها الطغاة والجهاديون بالشعوب. فنحن (الفرنسيون) في قلب العاصفة ولسنا في منأى عن الأخطار. وهذا يثبته عدد المحاولات الإرهابية المجهضة.
ويختم هذا الكتاب بالأمل؛ فالطغاة العرب لم يعد في إمكانهم التقاط أنفاسهم، فحماتهم الأجانب استنفدوا قدرتهم على التمويل وتحمل الخسائر. كما أن استبداد داعش إلى زوال؛ فهي مناقضة للواقع لأن المجتمعات لا يمكن أن تقبل بقانونها.
لكن الجلادين لا يرحلون وحدهم، بل يجب إسقاطهم، والعرب يعرفون ذلك، فإن لم نساعدهم في ذلك، فهم يأملون تفهمنا على الأقل. فهذا يتعلق بمستقبلنا المشترك وبحريتنا جميعًا.