الكتاب: الربيع العربي آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير
تأليف: حسن محمد الزين
الناشر: دار القلم الجديد
مكان النشر: بيروت، تاريخ النشر: 2014.
لا شك في أن ما تمر به منطقتنا العربية من حوادث ومستجدات وتغيرات جذرية على الأصعدة كافة ولا سيما السياسية منها، وضع المفكر العربي في مفترق طرق لاستيعاب حقيقة ما يجري من جهة وما بين مؤيد ومعارض لها من جهة أخرى.
إن ما تشهده الساحة العربية من ثورات اصطلح على تسميتها “الربيع العربي” جعلت مفكري الأمة وسياسييها يجهدون في قراءة تلك الحوادث، كما لحظنا الكثير من التخبط الفكري والقراءات المتضادة مدفوعة بأيديولوجيات طائفية أو سياسية أو اقتصادية، ظهرت في السنوات الأولى من عمر الثورات العربية، حيث بادر بعضهم إلى اتهام الشباب الثائر بالتآمر على أمن الوطن، وبأنهم أدوات لتنفيذ أجندات خارجية، في حين أيد آخرون ذلك الحراك الشعبي و عدّوه حراكًا عفويًا جاء نتيجة الاستبداد و تراكمات من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عاشتها الشعوب العربية منذ الاستقلال، وحتى وقتنا الحالي، حيث انتفض هؤلاء الثائرون لكرامتهم ولعقود من الاستبداد والإذلال والتعذيب والإعدامات، قضى خلالها عشرات آلاف المعارضين سنوات في السجون والمعتقلات. ما بين هاتين القراءتين في رؤية ما يجري من حوادث على الساحة العربية تكمن حلقة خفية، قد يكون فكّها هو نقطة انطلاق، يمكن أن تفسر الحوادث الكبيرة التي تعيشها المنطقة.
لقد حاول الأستاذ “حسن محمد الزين” في كتابه “الربيع العربي وآخر عمليات الشرق الأوسط الكبير” أن يجد هذه الحلقة الخفية -على حد تعبيره- من خلال مجموعة كبيرة من الوثائق المعلوماتية لكثير من السياسيين والمفكرين والضباط والإستراتيجيين …إلخ، المقربين من الإدارة الأميركية وغيرها من مراكز صنع القرار العالمي، صدرت قبل سنوات من الربيع العربي والانتفاضات الشعبية التي عمت المنطقة العربية بدءًا بثورة تونس وانتهاءً بالثورة السورية، لتعطي القارئ والمفكر والمحلل العربي فرصة لوضع تحليلاته لما يجري على السكة الصحيحة بحسب ما يدعي الكاتب.
وفي هذا الكتاب لم ينف الباحث أن هناك أسبابًا ومعطيات وأزمات داخلية وموضوعية حفزت الشباب العربي على الانتفاض في وجه السلطة الحاكمة، لكنه لم يلغِ الفرضية الثانية التي تحاول أن تفسر ما يجري من حراك شعبي في الساحة العربية بأنه مخطط له في مراكز اتخاذ القرار العالمي، وأن هناك مسارات رسمها جهابذة السياسة الأميركية والغربية تتقاطع مع أهداف المنتفضين والثائرين، ثم تفترق عنها في غايات ومرام أخرى، حيث يقول في سياق ذلك: “ويستوي في الخطأ القائلون بنظرية المؤامرة لتفسير الثورات أو الذين قالوا بنظرية العقوبة والتلقائية، فكلاهما وقع في أزمة نقص المعطيات، واضطراب الروابط الاستدلالية”.
لقد عمل الكاتب في هذا البحث على سرد الاتجاهات المتناقضة والمتعددة، والتي حاولت أن تفسر -من وجهة نظره- الحوادث العربية الراهنة، من خلال قراءتها أو مرجعيتها ليصل إلى فكرته الأساس التي تقوم على أن سبب هذا التخبط والتناقض في التحليلات التي صدرت عن المفكرين العرب، هو نتيجة لفقدهم الأساس المنطقي، والمعطيات الجيوسياسية لتفسير أي ظاهرة طافية على السطح، حيث حاول الجميع أن يفسر ما يجري منطلقًا من فكرة سابقة وأيديولوجية تقليدية، وانحياز فكري إلى اتجاه من الاتجاهات أو حزب من الأحزاب، حيث يقول الكاتب عائبًا هذا التفكير السطحي والضحل في التحليل السياسي الذي مارسته النخب الفكرية العربية: “إن الغالبية من المحللين العرب لم يدرسوا الرابط بين التوقيت الزمني في اغتيال أسامة بن لادن الذي حدث في 2 أيار/ مايو 2011 وبين الثورات العربية مع أن الفارق بين الموضوعين لا يزيد عن ثلاثة أشهر، وهي المدة التي استغرقتها التحضيرات اللوجستية والاستطلاعية للعملية وفق تصريح توم دونيلون مستشار الأمن القومي الأميركي في 16 أيار 2011 بعد أسبوعين من العملية”.
كما يرى أن كثيرًا من الباحثين والمفكرين و المحللين السياسيين، يفتقرون إلى الحد الأدنى من الاطلاع على الساحات والحوادث التي يقومون بتحليلها، مع أننا في عصر الانفجار المعلوماتي، وما زال كثير من هؤلاء أسرى المنطق الأرسطي في القياس الذي لا يجوز أن يطبق على الجزئيات السياسية، بل للمعطيات التي تحتاج إلى جمع ومسح شامل “وقد لاحظنا كثيرًا من المحللين العرب الذين يدرسون السياسات والإستراتيجيات الأميركية، لا يعرفون عن مستجدات الوضع الاقتصادي والسياسي والجيوستراتيجي الأميركي إلا القليل من المعطيات، وهي معطيات عامة بمعظمها، وغالبًا ما تكون معطيات قديمة وتاريخية، ولم يجري تحديثها منذ سنوات”.
بعد أن وجه الكاتب النقد للمحللين المتقوقعين ضمن صور ومعلومات سابقة مختزنة مع تنحيتهم للمعلومات الجديدة والمستجدة في كل لحظة من اللحظات نتيجة لسرعة الانتشار المعلوماتي كان لابد للكاتب أن يقترح منهجية ثلاثية الأبعاد كما سماها، تحل محل الفكر التحليلي التقليدي. هذه المنهجية التي جاءت كنتيجة طبيعية للمتغيرات التي عصفت بالواقع الدولي والتي تتلخص بالدور القيادي الذي يمارسه الإعلام في صناعة السياسات الدولية وتقويض الشرعيات: “حيث لم تعد تضاريس الجغرافية الطبيعية والسيادية تقف حائلًا دون اختراق هذه الحدود كما كان في الحالة الكلاسيكية”، ومثل ذلك صعود القوى الناعمة الاقتصادية على حساب القوى العسكرية، وقيام التكتلات والمحاور الاقتصادية، وصعود التعددية القطبية الدولية، وتأكّل عناصر الدولة التي هي الشعب والأرض والسلطة في القانون الدولي، حيث لم تعد الدولة ذات السيادة هي الشخص أو الكيان القانوني الوحيد المعترف به في القانون الدولي، فدخلت عليه كيانات جديدة أولها الأفراد وثانيها المنظمات غير الحكومية والمؤسسات القضائية الملحقة بالقانون الدولي كمحكمة الجنايات الدولية، كل هذه الأسباب تحث الممتهن للتحليل أن يضعها نصب عينيه مع إمكانية الاستفادة منها وتوطينها ضمن فكرة التحليلي الذي صار من الواجب أن يخرج من دائرة الكلاسيكية التي عهدناها منذ عقود خلت.
إن هذه البداية التي ابتدأ بها الكاتب كمقدمة لبحثه الأساسي كانت موفقة نوعًا ما من الناحية النظرية حيث ابتدأ بانتقاد الطريقة التحليلية القديمة والكلاسيكية التي تؤدي إلى الخطأ في الوصول إلى النتائج الصحيحة، إذ من المعروف أن خطأ المقدمات يستلزم حتمًا خطأ النتائج ثم اقترح حلًا لهذه المشكلة التي يقع بها الكثيرون من أرباب التحليل السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، و هي فكرة “التحليل الثلاثي الأبعاد” الذي يعتمد على كل المعطيات المتوافرة من جميع النواحي وإن كان كلامه التحليلي من ناحية أخرى، متحيز وغير موضوعي.
ثم ينتقل الكاتب في القسم الأول من كتابه الذي ابتدأ به من مصطلح “الربيع العربي” الذي أطلق على حراك الشعوب العربية وثوراتها، فيحاول الكاتب أن يثبت من خلال تحليله للكلمات والمقالات والتصريحات وجهة نظره القائلة بأن هذا الحراك أو الثورات لم تكن عفوية مئة بالمئة بل كان مخططًا لها من جانب مراكز اتخاذ القرار العالمي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، حتى مصطلح الربيع العربي ما كان إلّا صدى أصوات أميركية وغربية حاولت أن تصف هذا الحراك الشعبي بهذا الوصف، ولم يكن هذا الاسم من جانب الأطراف الثائرة التي اجتاحت الشوارع، “فأول من استعمل مصطلح ومفردة الربيع العربي هو الباحث الأكاديمي الأميركي مارك لينش في مقالته التي نشرت في مجلة السياسية الخارجية -Foreign policy- بتاريخ لافت جدًا وهو 6 كانون الثاني/ يناير من عام 2011 بعد مرور أقل من أسبوع على بداية شرارة الاحتجاجات في تونس، وقبل سقوط نظام بن علي واتضاح المشهد”، وخلال رصده لتصريحات القادة لم يرَ أحد هؤلاء المسؤولين يشذَ عن هذه التسمية إلا القليل النادر، وإن حصل فعلى نحو الدمج اللغوي بين مفردتي “الثورات” و”الربيع العربي”.
وهنا يحاول المؤلف أن ينسف عفوية الحراك الشعبي العربي من الأساس من خلال إثبات وإيراد تصريحات توضح أن مصطلح الربيع العربي أساسًا لم يكن إلّا صنيعة هؤلاء الساسة في دول صنع القرار العالمي، ولم يكن من صنع هذه الجموع الشعبية الحاشدة التي عدّها مُسيرَّة و ليست مخيرَّة، و أن هذا المصطلح ما أطلق إلا لدغدغة مشاعر الجماهير العربية و أنه يخفي وراءه مخططًا تدميريًا خطِرًا يعيد تقسيم المنطقة -على حد تعبيره-، ثم إن عدد من السياسيين والصحفيين والكتاب أطلقوا لفظ عملية التغير أو عملية الربيع العربي، وكما هو معلوم فإن كلمة عملية ترتبط ضرورة بمشروع، فلها بداية و نهاية ولها إستراتيجيات وبرامج وأدوات.
ويعود الكاتب ليرصد ما جرى من وجهة نظره، مبتعدًا عن التفسيرات الأيديولوجية للحظة الثورية فيحاول عبر تفسير ما جرى في تونس أن يثبت وجهة نظره بأنه “هل من الممكن أن نصدق أن خبرًا أو مشهدًا أن شابًا مغمورًا وهو محمد بوعزيزي الذي أشعل النار بنفسه عبر عملية انتحار فردي تتكرر في تونس وسائر البلدان العربية فجر الثورات العربية وأحدث زلزالًا جيوستراتيجيًا دوليًا؟.
ثم يسوق الكاتب عدة حوادث انتحار مشابهة بل وأكثر منها قتامة جرت في تونس نفسها، وفي غيرها من البلدان العربية غير أنها لم تفضِ إلى النتائج ذاتها لحرق البوعزيزي لنفسه، ويجد الكاتب -بحسب رأيه الشخصي- أن التخطيط لما يسمى بالربيع العربي إنما بدأ في نهاية عام 2008 و تم تنفيذ الخطوة الأولى من العملية في إيران عام 2009، مع محاولة ما يسمى بالثورة الخضراء، ثم جاءت الخطوة الثانية في عملية الربيع العربي عام 2010، وفق تسلسل زماني، حيث تم الإعلان عن إنجاز مشروع التحولات العربية لمعهد السلام الأميركي عام 2010، تحت عنوان “تعزيز الأمن والديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير”. وفي 12 آب/ أغسطس 2010، أصدر الرئيس الأميركي باراك أوباما مذكرة رئاسية “أي قبل الربيع العربي بثلاثة أشهر ” يطلب فيها من نائبه “جو بايدن” ووزير دفاعه وهيلاري كلنتون وزيرة الخارجية و”توم دونيلون” مستشار الأمن القومي الذي عين قبل أن تهب رياح الثورات العربية بشهر واحد، كما طلب أوباما من سائر الوكالات والأجهزة الأميركية تحضير ما يلزم استعدادًا للتغيير والإصلاح السياسي في العالم العربي والشرق الأوسط، ثم يتساءل الكاتب “وهل من باب الصدفة إجراء الإدارة الأميركية مراجعة لسياستها العربية والشرق أوسطية والشمال إفريقية دولة بعد دولة ونظامًا بعد نظام كما طلب أوباما حرفيًا، وإضافة بند الإصلاح الجذري في العالم العربي على جدول الأعمال الأميركي قبل أشهر من اندلاع الحراك التونسي في 28 كانون الأول/ديسمبر 2012 وبعد إحراق البوعزيزي لنفسه في 17كانون الأول/ ديسمبر 2010”.
ويستمر المؤلف بطريقة سردية قد تتجاوز الضرورة في وضع القارئ أمام عشرات، بل مئات، التواريخ والوثائق والتصريحات التي تصب في صالح التفسير التآمري لثورات الربيع العربي، ففي منتدى (حرية الإنترنت) في هنغاريا الذي انعقد في أيلول/ سبتمبر 2010، والذي شهد مشاركة واسعة من الناشطين والمدونين العرب أبلغت الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها المشاركة -على حد تعبير المؤلف- بدء عملية الربيع العربي، والجدير بالذكر أن -هشام مرسي– وهو أحد المشاركين في هذا المنتدى هو رئيس أكاديمية التغيير التي مقرها الدوحة، إلا أن أخطر ما قاله عنه الكاتب “أنه صهر الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، و هشام مرسي هذا من أوائل الناشطين الذين نزلوا في ساحة التحرير في مصر وتم اعتقاله، لأنه من الذين أخبروا أن الربيع العربي قادم، وأن هذه هي لحظة الصفر.
وبعد هذا السرد العشوائي الذي استمر لعشرات الصفحات بدأ الكاتب بمحاولة لملمة ما بعثره من حوادث، ليكون على شكل هرم معلوماتي، وسلم تدريجي للحوادث التي جرت، محاولًا صهرها جميعًا في بوتقة الفكر التآمري الذي حاول المؤلف تفسير كل ما جرى من حوادث بناءً عليه، حيث حاول المؤلف في هذا الفصل أن يلملم شعث كل ما رآه واعتقد أنه يصب في خدمة مراده من تفسير، حتى لو كانت هذه الوثيقة -كما يحاول أن يصورها الكاتب- صادرة عن منظمة مغمورة أو صحفي مجهول الاسم أو كاتب غير معروف الهوية، المهم كما يلحظ قارئ الكتاب أن يثبت الكاتب وجهة نظره المنحازة والتي سنبين انحيازها ونبرهن عليه فيما سيأتي من صفحات.
في هذا الفصل من كتابه السردي حاول الكاتب من خلاله اتخام القارئ بآلاف التصريحات التي لا تقدم في الحقيقة أي قيمة علمية أو موضوعية، إلا أنها محاولة لتشكيك القارئ بكل شيء حوله، و في هذا الفصل يصور الكاتب أن تعثر عملية السلام وهزائم أميركا -كما يسميها الكاتب- وانتصار (حزب الله) كما يدعي وانتصار غزة، كان له أثر كبير في التمهيد للربيع العربي، بل أكثر من ذلك حيث ادعى الكاتب أن عجز الولايات المتحدة الأميركية ماليًا وعدم قدرتها على سداد ديونها وسنداتها كان عاملًا مهّد للثورات العربية، وفي تناقض عجيب من المؤلف بين تفسيره المبني على وجود مؤامرة حركت الشعوب العربية الساكنة، وبين وجود أسباب فعلية وحقيقية دفعت هذه الشعوب حين فاض كيلها إلى الانتفاض في وجه مستبديها، يدعي الكاتب أنه كان هناك دور لحركة كفاية المصرية التي بدأت نشاطها عام 2006، حيث طالبت منذ ذلك الوقت بالتغيير السياسي، رافضة التوريث الرئاسي لجمال مبارك، ومع أن دورها كان دون مفعول سياسي كبير، “لكنه كان بداية مرحلة لتغير النظام المصري، وهذا أمر موثق ولا جدال فيه، ويعترف به كافة المحللين المصريين”.ما ذكره الكاتب هنا يثبت وبشكل قاطع لا جدل فيه أن هناك أسبابًا داخلية وحاجة حقيقية إلى التغيير كانت سائدة في مصر كان أتونها محاولة النظام المصري البائد آنذاك توريث الحكم لجمال مبارك من خلال ديمقراطية عرجاء تجعل منه مطلوب الجماهير المصرية الأوحد، وإذا كان هذا الحراك قد استغل لحظة رنت إليها جماهير الأمة العربية كلحظة خلاص ممن جثم على رقابهم طوال عقود طويلة من الاستبداد والفساد و قمع للحريات، فهذا لا يعني مطلقًا أن هناك جهة ما حركت هذه الشعوب ضمن نظرية المؤامرة التي يحاول الكاتب أن يفسر بها كل ما يجرى حتى الآن، ثم إذا كانت الشعوب العربية الثائرة مسيرة من جانب أصحاب القرار العالمي ضمن خطة موضوعة لذلك، فهل كانت الأنظمة العربية الحاكمة -التي تملك أجهزة ومخابرات وأنظمة لجمع المعلومات- غافلة عن ذلك ولم تستعد له؟ وخاصة أن كل ما جرى كان مرسومًا ومخططًا له وكان يُطرح علنًا كما أورد المؤلف.
الأعجب من ذلك ما ذكره المؤلف، في أن المجلس القومي للاستخبارات الأميركية NIC نشر تقريرًا عام 2009، أي قبل نحو عامين من ثورات الربيع العربي أشار إلى “أن مواجهة العالم للحركات الإسلامية بعد الحرب الباردة 11 أيلول عززت من هيمنة حركات الإسلام السياسي على السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، وأن الضغط لأجل المزيد من الديمقراطية والتعددية السياسية في الشرق الأوسط سيؤدي إلى دور أكبر الحركات الإسلامية”، ثم يستنتج المؤلف من هذا أن هناك إدراكًا مبكرًا للإدارة الأميركية بمستجدات المنطقة.
أليس من التناقض أن نقول إن أميركا كانت تدرك أن أي محاولة لزعزعة الأنظمة السياسية القائمة سيؤدي إلى صعود نجم حركات الإسلام السياسي، ومع ذلك تضع أميركا خططها لقلب أنظمة الحكم الحامية للمصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة؟
أليس من قصور التحليل الجيوسياسي أن تدرك أميركا أن هذا الخطر التاريخي يتمثل بهذه الأحزاب الدينية التي طالما أعلنت بغضها وكراهيتها ومقاومتها للسياسة الأميركية في المنطقة، ثم تسعى بعد ذلك إلى تهيئة الظروف التي تؤدي إلى استلام الحكم من جانب هذه الحركات الراديكالية؟.
ثم هل يعد هذا تحليلًا موضوعيًا! ادّعى المؤلف أنه قام به وفق نظم معلومات وضعته أمام الحقيقة. إنها حقيقة أراد أن يصورها للقارئ وإن خالفت أدنى درجات التفكير السياسي المنطقي والتحليل الموضوعي، ثم يتهم المؤلف تصريحًا حينًا وتلميحًا أخرى كل الحركات والمنظمات والأحزاب التي شاركت في هذه الثورات بالتآمر، وأنها أدوات لتنفيذ هذه المؤامرة الخارجية كحركة 6 أبريل المصرية وكذلك حركة “أونونيموس التونسية” التي يقودها الشاب سليم عمامو أحد أبرز الناشطين في تونس، هذا بالإضافة إلى اتهام الحركات الإسلامية والليبرالية بتباع دورات مكثفة لتكون جزءًا من هذا المخطط التدميري المزعوم.
ثم يعود المؤلف وبعد عدة صفحات ليؤكد أن الإدارة الأميركية قررت “لجم وضبط الاندفاعة الديمقراطية للربيع العربي” وإعادة إرضاء حلفائها في لعبة توازنات القوى الإقليمية، وأن ذلك كان نتيجة لضعف التيار الليبرالي أمام قوة التيارات الإسلامية. وهنا يبدو منهج التحليل الذي اعتمده الكاتب لم يساعفه في الإرباك الذي وقع فيه، حين يرى أن المجلس القومي للاستخبارات الأميركية نشر في تقريره الصادر2009، أن الضغوط لأجل المزيد من الديمقراطية في الشرق الأوسط سيؤدي إلى دور أكبر للحركات الإسلامية، ثم يدعي أن الإدارة الأميركية قررت لجم الاندفاعة الديمقراطية العربية لضعف التيارات الليبرالية والعلمانية أمام قوة الحركات والتيارات الإسلامية، و في الوقت نفسه يدعي الكاتب أن أميركا دربت العديد من كوادر وقيادات هذه الحركات والقوى الإسلامية ضمن البرامج التي أعدتها الإدارة الأميركية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
إذًا، كيف لأميركا أن تخشى صعود نجم من ادعى الكاتب أنهم أدوات مشروعها، وأنهم أُعدوا ضمن برامج التدريب الأميركية ليكونوا قادرين على تنفيذ المخطط الأميركي للتغيير في المنطقة؟
ويتساءل المؤلف عن السر الكامن وراء خلو الثورات العربية من القيادات والرموز الواضحة، ثم يجيب بأن ذلك كان مقصودًا لأن القيادة الحقيقية ستكون خارجية، ثم أورد اسم من ادعى أنه أشهر الشخصيات التي لمع اسمها في الميادين العربية وهو “جين شارب” الذي نصح “ألّا تحمل الثورات أي هوية فكرية أو سياسية كي يشارك فيها الجميع”، وبغض النظر عن هذا الرجل المغمور غير المعروف حتى للنخب العربية التي قادت هذه الحركات الثورية فيما بعد، أستطيع القول إن السؤال الذي طرحه الكاتب ليس له إلا جوابٌ واحدٌ، و هو أن الثورات التي جرت لم يكن مخططًا لها أصلًا، وأنها جاءت نتيجة لفعل ثوري تراكمي بدأ أولًا بالمطالبة بالإصلاح وبعد أن يئست الشعوب العربية من سياسات الإصلاح تحولت للمطالبة بالتغير الجذري، وبعد أن وُوجهت احتجاجاتها السلمية بالقمع والعنف والسلاح والقتل والتعذيب والاعتقالات، تحولت إلى العمل العسكري الذي كان دفاعًا عن النفس أمام عنف الجيش و أجهزة الأمن، فلو أن الحراك الثوري كان منظمًا ومخططًا له منذ سنين، وأن تدريبات جرت لأحزاب وناشطين لإعداد كوادر لتنفيذ مخططات تآمرية كما يدعي الكاتب، لبرز عديد القادة الميدانيين منذ اللحظات الأولى لهذا الحراك.
وضمن هذا الفصل يركز الكاتب أيضًا على الدور القطري والتركي ويدّعي أن أميركا استبدلت بالمحور السعودي الباكستاني المحور القطري التركي، وأن لقطر دورًا كبيرًا بما يجري في المنطقة من خلال كثير من خيوط اللعبة التي تمسك بها، ففي قطر يقيم الدكتور يوسف القرضاوي وهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين “وهو مرجع كبير له اتصالات مع أغلب قادة الحركات الإسلامية في المنطقة”، “كما أن قطر تدعم مؤسسة النهضة للتغيير وإطلاق الطاقات الإنسانية” “كما أنها مركز الإعلام العربي الصانع للسياسات الإقليمية والدولية من خلال شبكة قناة الجزيرة”.
وهنا يبدو حديث الكاتب امتدادًا لتكرار التبريرات التي كانت تقدمها الأنظمة الديكتاتورية بداية الحراك الثوري، من أن المحتجين مدفوعون لـ “تخريب البلاد” بعد أن تم إغواؤهم وإغراؤهم ماليًا من جانب الحكومات والشخصيات التي تريد زعزعة الاستقرار، كقطر أو القرضاوي.
وفي كل مرة تلصق التهم بدولة أو تيار أو شخصية بتأجيج “التمرد” كتركيا وإردوغان في مرحلة لاحقة، ولعل الحالة السورية خير دليل على ذلك، فقد وصل الأمر إلى ادّعاء وجود “مؤامرة كونية” على نظام البعث الديكتاتوري!في القسم الثالث والأخير، والذي أسماه مؤلفه (التحليل السياسي الثلاثي الأبعاد على حالة الربيع العربي) يحاول المؤلف أن يرصد الأسباب البعيدة الكامنة وراء حوادث الربيع العربي والتي لخصها بعدة نقاط:
– تغير الجغرافيا الاقتصادية العالمية وأثر ذلك على قواعد الجغرافيا السياسية.
– سعي أميركا لإقفال الصراع مع العالم الإسلامي كضرورة للوصول إلى آسيا.
– إمساك أميركا بقاعدة بيانات الحركات الإسلامية بعد حوادث 11 أيلول/ سبتمبر وهو ما أغناها عن خدمات النظم العربية.
– الاتصالات الأميركية مع الإسلاميين قضت بالضرورة التخلي عن الدكتاتوريات كشرط لبناء هذه العلاقة بين الطرفين.
أخيرًا فإن هذا البحث، على الرغم مما ادعاه الكاتب من عمق في التحليل الجيوسياسي، والذي أسماه التحليل الثلاثي الأبعاد، لم يكن على هذا القدر من العمق والموضوعية بحسب ادعائه، بل حمل هذا الكتاب جملة من التناقضات الواضحة لا تحتاج ملاحظتها إلى عناء كبير سبق الإشارة إليها، وبنظرة متفحصة نلحظ أن الكاتب اجتهد ليثبت وجهة نظره التي تماثل رواية الأنظمة الحاكمة المستبدة التي قامت ضدها الثورات.
لقد حمل هذا الكتاب في طياته نفسًا طائفيًا واضحًا، ظهر من خلال اتهام ثورات وقوى وأحزاب محسوبة على طائفة معينة بالعمالة والتآمر، في حين يصف حركات أخرى بأنها ثورات سلمية شعبية مشروعة، حيث يرى أن ما جرى في البحرين يختلف عن غيره من الحراك: “ونضرب مثلًا حيًا يؤكد دقة هذا الاستنتاج؛ فما جرى لثورة البحرين السلمية التي تمتلك شعبية جماهيرية واضحة، والجميع يعترف بحاجة النظام البحريني إلى إصلاحات ديمقراطية”.
صحيح أن جميع الدول العربية بحاجة إلى إصلاحات ديمقراطية، لكن كثيرًا منها أيضًا في حاجة إلى هدم نظم الحكم السياسي فيها ومنها سورية ومصر وغيرها، أما أن تصدر البحرين كحالة منفردة في السلمية والقمع فهذا يجافي الحقيقة، ويدعم انحياز الكاتب لرواية إيران وحزب الله والنظام السوري وكل نظام وحزب طائفي، وهي أن ما جرى في البحرين هو ثورة تم قمعها ودفنها لأنها سلمية ومشروعة، وأن ما يجري في دول مثل سورية هو مؤامرة وغير ذلك من الكلام الذي يردده النظام وأبواقه.
ويذكر أن ما جرى في البحرين لم يكن سلميًا قط بل قتل كثيرًا من رجال الأمن، ولولا تدخل قوات درع الجزيرة لكانت البحرين اليوم محافظة إيرانية، حيث أن الموضوعية تقضي أن يرصد الكاتب تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي حضت على الانتفاضة في البحرين لقلب نظام الحكم فيها، والضغط على دول الخليج للسكوت على ما يجري في غيرها من الدول، ومع ذلك سماها ثورة وادعى أن ثلاثة أرباع الشعب البحريني خرج في هذه الثورة، فقال “ولنا عبرة فيما جرى في دولة البحرين حيث خرج أكثر من ثلاثة أرباع الشعب البحريني ضد النظام الملكي”؟.
ويكيل الكاتب الاتهامات بالتآمر على فصيل سياسي لبناني يختلف معه طائفيًا حيث يقول “وإطلاق أميركا لحركة 14 آذار لثورة الأرز”، مع أنه من المعلوم أن 14 آذار اللبنانية جاءت ردة فعل على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، والمتهم الرئيس في ذلك هو النظام السوري وحلفاؤه في لبنان، وعلى رأسهم حزب الله الذي شكل تحالفًا سمي جماعة 8 آذار، فلماذا اتهم هذا الفصيل بأنه أداة أميركية بينما غض البصر عن الفصيل الآخر ولم يسمِّه مثلًا أداة إيرانية؟ في وقت مازال يكيل الكاتب المديح لإيران والنظام السوري وحزب الله، ويسميهم محور المقاومة و الممانعة، مع أن الأمين العام لحزب الله السابق “صبحي الطفيلي” يؤكد أن حزب الله يحمي شمال إسرائيل، وحتى اليوم وعلى الرغم من التصريحات النارية للمسؤولين الإيرانيين لم تدخل إيران في مواجهة مع الشيطان الأكبر -كما يدعي- أو مع إسرائيل، حتى النظام السوري الذي حمى جبهة الجولان المحتل لتبقى أكثر الجبهات سكونًا على مدى عقود، بل يتبنى الكاتب نظرية أنظمة الاستبداد العربية نفسها، ويكرر مصطلحاتهم الإعلامية ذاتها، لذلك حاول أن يصف حوادث محافظة درعا السورية بالشغب، وهو اللفظ نفسه الذي أطلقته وسائل إعلام النظام السوري على انتفاضة أهالي درعا ضد نظام الأسد الاستبدادي، يقول الكاتب “وتقودنا هذه الدراسة إلى استنتاج منطقي يرى أن حوادث الشغب التي حصلت في محافظة درعا السورية في 15 آذار/ مارس عام 2011 لم تكن إلا شرارة جرى إشعالها من طرف جهات سورية تقف خلفها أجهزة مخابرات دولية”.
وبطريقة سردية تشعر القارئ أنه يشاهد قنوات إعلام النظام السوري يقول الكاتب: “تم استقدام فرق قناصة محترفة من إيطاليا من شركة بلاك ووتر لتصل إلى درعا لقتل عدد من المتظاهرين ورجال الشرطة لإحداث موجة اضطرابات أمنية”؟!.
بعد نهاية الكتاب، والاجتهاد في قراءة تحليلات متناقضة “تلوي رقبة” سرديات الحوادث لتتفق مع النتيجة التي يقررها الكاتب، نتساءل عن ماهية “المنهج ثلاثي الأبعاد” الذي لا يرى الحوادث إلا بمنظار أحادي ينحاز إلى الاستبداد والطائفية بامتياز.