وحدة مراجعات الكتب
مراجعة: إسلام محمد
الكتاب: الحياة سياسة، كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟
تأليف: آصف بيات
ترجمة: أحمد زايد
الناشر: المركز القومي للترجمة
مكان النشر: القاهرة/ مصر
تاريخ النشر: 2014
يعد كتاب (الحياة سياسة: كيف يغير الناس البسيطون الشرق الأوسط) للمؤلف الإيراني المعاصر آصف بيات، أحد الأدبيات المعاصرة المهمة التي سعت إلى رصد أكثر تفصيلًا وتحليلًا للمنطلق الثوري شرق الأوسطي، في محاولة لقراءة نقدية لعملية التغيير في المنطقة. ففي ثلاثة أبواب وعبر أربعة عشر فصلًا يسعى الكاتب لاستعراض مفصل لصور النضالات في الشرق الأوسط من أجل العيش والتكيف مع السياق المجتمعي الحضري، ومقاومة الاستبداد السياسي في العقود الأربعة الماضية.
يقدم الكاتب رؤية تفسيرية مغايرة لعملية التغيير في الشرق الأوسط، تعتمد دراسة دور الفئات الحضرية المهمشة من فقراء الحضر والمرأة المسلمة والشباب المتعولم في عملية التحول السياسي والاجتماعي، وهو يتجاوز المداخل السوسيولوجية التي عملت على دراسة هذا الدور، ليقدم منهجية نظرية مغايرة تعتمد الزحف الهادئ للمعتاد.
تقوم وحدة التحليل الأساس لآصف بيات على مفهوم اللاحركات الاجتماعية بوصفها أداة لوصف الحراك الثوري العربي الإسلامي وثورات الشارع العربي.
ففي الفصل الأول، بدأ الكاتب بمحاولة تقديم رؤية تفسيرية ومنهجية لاستراتيجيات التغيير في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بطرحه مفهوم اللاحركات الذي يعرفه بأنه جزء من النشاط الجماعي الذي يقوم به أفراد لا ينتمون إلى فئة واحدة أو طبقة واحدة، ويشترك فيها كثيرون حتى لو كانت هناك منظمات أو مؤسسات تكوّن هذا النشاط، وإن لم تكن هذه الممارسات موجهة بأيديولوجية أو بقيادات معترف بها أو تنظيمات، فـ (اللاحركات الاجتماعية) هي كيانات متمايزة من الحركات الاجتماعية، يقودها ملايين المهمشين من فقراء الحضر والمرأة المسلمة والشباب.
ويشير الكاتب إلى أن خصوصية النشاط السياسية في الشرق الأوسط التي شهدت سلسلة من الانتفاضات والثورات مدعومة بحراك فواعل شعبية، لا تمثل تعبيرًا نظريًّا عن مفهوم الحركات الاجتماعية التي ظهرت في شرق أوروبا وأميركا الشمالية، فالحركة أو القوى شرق الأوسطية بفعل السياسات الاستبدادية دفعت إلى العمل السري والتخريبي والتشظي والانشقاق، ما أدى إلى ظهور طقوس تسلطية للقيادة، وفقدها الديمقراطية الداخلية، وهو ما دفع ببعض القوى إلى البحث عن ملاذ آخر، فكان الميدان العام والشوارع السياسية التي تجمع النشاط السياسي وممارسة الحياة اليومية.
أما في الفصل الثاني، فيسعى الكاتب إلى التأكيد أن وقوف الدول التسلطية ضد التغيير، وتسلطها على عملية التحول الديمقراطي، والهيمنة الإمبريالية من الخارج؛ أدخل المنطقة في طريق مسدود، وأصبح البحث عن طريقة للتغيير من الداخل أمر ملح، وهنا يستعرض ما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي حاول رسم طريق للخروج من أمراض الشرق الأوسط بطريق الدعوة للتحول الجذري في المنطقة، وسعي التقرير إلى تقديم أكثر مؤشرات التراجع التنموي العربي أهمية، وحصرها في ثلاث فجوات رئيسة، وهي فجوة المعرفة، وفجوة الحرية الديمقراطية، وفجوة تمكين المرأة.
وهنا يحاول الكاتب تشريح ما جاء به التقرير، ونقده، في محاولة لمعالجة قصور البنى النظرية للتقرير التي تجاهلت عمومًا صور النضال شرق الأوسطي، وقواه آنذاك، متسائلًا عن كيفية إقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية، مجتمع ينتج نتاجًا رئيسًا من قوى السوق في الاقتصادات ما بعد الصناعية، ثم إنه يتساءل عن كيفية بناء مجتمع الحرية والحكم الرشيد، مشيرًا إلى أن التغيير قد يبدأ من أعلى،| ولكن لن يتحقق إلا بوجود حركات اجتماعية تجبر النخب على التفاوض من أجل الديمقراطية، مؤكدًا أن تحقيق تلك الأهداف مرتبط ارتباطًا وثيقًا ببنى القوى الاجتماعية، والمصالح الراسخة لها، وصور النضال الاجتماعي.
الباب الأول: والمعنون بـ (اللاحركات الاجتماعية) يسعى الكاتب فيه إلى تناول قوى اللاحركات الاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، وبيان هيكلها الاجتماعي المكون من المهمشين من فقراء الحضر والمرأة والشباب، ويستعرض صور نضال تلك القوى باستراتيجية الزحف الهادئ للمعتاد، وسياسة المرح بوصفها آلية تعبير عن التمرد.
ففي الفصل الثالث، يسعى الكاتب إلى وضع أسس منهجية ونظرية لاستراتيجية (الزحف الهادئ للمعتاد)، وذلك بقراءة تداعيات سياسات اقتصادات السوق، وبرامج الإصلاح الهيكلية للاقتصاد، والخصخصة، وما نتج منها من تأثيرات اجتماعية واسعة النطاق في منطقة الشرق الأوسط، أفضت إلى توسيع قاعدة الفقراء والمهمشين، ولا سيما بين أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة في المنطقة، وهو ما أطلق عليه حال البناء الجديد.
وانطلاقا من نقد الأدبيات اليسارية والليبرالية والمداخل السوسيولوجية التي عملت على تفسير تمدد ظاهرة الفقر والمهمشين، وتأثيرها في مجريات الحياة السياسية في الأمم، يسعى بيات إلى رصد القصور الذي عانته المداخل السوسيولوجية الوظيفية الأربعة، ومعالجته، وهي ((نموذج الفقراء السلبيون، نموذج استراتيجية البقاء، ونموذج الحركة الحضرية الإقليمية، ونموذج الحياة المقاومة في الحياة اليومية))، وذلك من خلال استراتيجية (الزحف الهادئ للمعتاد ) التي عدّها منهجية تفسيرية لنشاط الجماعات المهمشة في المدن الحضرية، فهي مجموعة الأفعال غير الجمعية المباشرة التي تحتاج صبرًا، وتتكون من أسر متفرقة سعيًا إلى الإيواء والاستهلاك الجمعي الحضري، وذلك بطرائق غير قانونية هادئة، ويُعبَّر عنها بصور النضال للحياة اليومية.
صراع _ اللاحركات الاجتماعية_ بوصفه مفهومًا تعبيريًا لتلك الجماعات مع الدولة هو صراع حتمي يقع في حدود الفضاء الفيزيقي والشوارع، وهذا الصراع لا يعني قدرة المهمشين أو اللاحركات في إحداث تحولات سياسية أوسع من تلك التي يمكن أن تحدثها الحركات القومية ما لم تُحَرَّك على أساس جمعي.
يتناول الكاتب في الفصل الرابع مدى التحول والتغير الذي شهدته استراتيجيات التكيف للفقراء والمهمشين في الشرق الأوسط، فقد أدى تراجع دور الدولة في دعم النشاط الاقتصادي والاجتماعي إلى تدهور الظروف الاجتماعية للفقراء والمهمشين، فيما عمل في اتجاه آخر على توسيع المجال العام والنظم المدنية، وتزامن مع ذلك فشل حركات الاحتجاج الجماهيرية من النشاط النقابي والعمل الإسلامي والمجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني في معالجة شاملة لأزمات الفقراء، ما أفضى إلى دعم صور النضال اليومية والتوسع في استراتيجية الزحف الهادئ للمعتاد بوصفها آلية لمقاومة هذا التدهور.
وفي رصد تاريخ تجربة الحركة الاحتجاجية المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط وخصيصاتها في العقود الأربعة الأخيرة، فإن الكاتب يشير إلى أن الصور القائمة من النشاط السياسي الجمعي في المجتمعات المحلية شرق الأوسطية سواء نقابات العمال أم الإسلام السياسي والمنظمات غير الحكومية؛ قد تشارك في تحقيق رفاهية مقصودة للجماعات المحرومة، ولكنها تفشل في قيادة حراك اجتماعي طويل الأمد من أجل التنمية، في حين يمكن لجماعات الزحف الهادئ للمعتاد إحداث تغيير أوسع، ولا سيما في السياسات العامة.
وتأثرًا بالنموذج النسوي الإيراني، يذهب الكاتب في الفصل الخامس إلى محاولة قراءة مغايرة لصور نضال المرأة المسلمة اليومية في دول المنطقة شرق الأوسطية التسلطية، محاولًا الوقوف على تفسير اجتماعي لممارسات النسوية شرق الأوسطية، فهو يفترض بأن المرأة المسلمة تسلك طرقًا مختلفة، تقاوم وتعارض وتفاوض في ضوئها الأنظمة التسلطية من دون أن تلجأ إلى حركات منظمة واسعة الانتشار، وذلك بممارسات يومية بتستخدم ما سماه (قوة الحضور)، ومثل هذا النشاط وفقًا لبيات تكمن قوته في أنه لا يمكن قمعه على عكس نشاط الحركات الاجتماعية التقليدية، وهو ما يدفع بالقول إن النسوية شرق الأوسطية (ما بعد الإسلاموية) قد تجاوزت المفهوم النمطي للحركات الاجتماعية التقليدية والجديدة على حد سواء، لتمارس استراتيجيات اللاحركات وأسلوبها، وأساليب المقاومة اليومية في صراعها مع الأنظمة المستبدة.
أما الفصل السادس فيطرح مشكلة الوزن السياسي للشباب المسلم في الشرق الأوسط، ودوره في عملية التحول الديمقراطي، فالسردية التاريخية للشرق الأوسط تشير إلى دور متزايد للشباب في نضالهم المتحدي للسلطة الخلقية والسياسية للنظم الدكتاتورية في المنطقة، وذلك سواء بانخراطه في الحركات الإسلاموية الثورية أم الحركات العلمانية، ومن ثم يتساءل الكاتب عن ماهية ذلك النضال والنقط الرمادية الفاصلة بين كونها نشاطًا ثوريًا أو إصلاحيًا.
يتبنى بيات مفهومًا مغايرًا لما تبنته النظرية الكلاسيكية للحركة الشبابية، وهو مفهوم الشبابية، ويعني وسطًا معيشيًا فكريًا، وأطلق عليه الكاتب لقب (هابيتوس) وهو مرتبط بمساحة التسامح والتعاطي مع مطالب الشبابية من السلطات السياسية والخلقية، فهو ليس فاعلًا ثوريًا، ولكنه يجسد التحدي الجمعي الذي يهدف إلى الدفاع عن الوسط المعيشي الفكري للشباب، ومن هنا يتطرق بيات إلى الشبكات السلبية التي تتكون في ضوئها الشبابية في إطار من اللاحركية، ويمكنها أن تحدث تغييرًا لوجودها في العلن فحسب، فهوية اللاحركية الشبابية تتكون من الحضور الجمعي لا الاحتجاج الجمعي، ومن هنا يعقد بيات مقارنة بين استراتيجية التجديد المتكيف للشبابية في مصر، واستراتيجية التكيف الهدام في إيران بوصفه أحد صور النضال الشبابية المعاصرة ضد قمع السلطة الخلقية والسياسية.
بناء على ما قدمه الكاتب في الفصل السابق المعني باستراتيجيات الشباب في كلٍ من مصر وإيران، فإنه يقدم في الفصل السابع الصور غير النمطية التي تقوم اللاحركات بتوظيفها للتعبير عن مطالبها ومقاومتها للأنظمة الدكتاتورية والسلطات الأبوية والخلقية الدينية، وهي تلك الصور التي أطلق عليها بيات (سياسة المرح) وتتكون من أنماط السلوك التي يكسر فيها الأفراد القيود المنظمة للحياة اليومية، والالتزامات المعيارية، والقوة المنظمة، فهي تعبير عن الفردية والتلقائية والخفة.
يؤكد بيات أن المرح الجمعي صورة من صور التمرد الطقسي ضد السلطة بصورها كلها، وهو الأمر الذي يفسر خوف الإسلاميين من سياسة المرح، بمثل ما يمتد هذا الخوف إلى باقي الديانات، وينتشر في الأوساط العلمانية المحافظة، وهنا يعود بالتجربة التاريخية إلى الوراء لاستكشاف صور المرح وأنماطه ما قبل الأصولية، وما بعدها في الشرق الأوسط، وفي إطار بحثه عن دوافع العداء للفن، يوضح أن هذا العداء لا يرتبط باهتمامات مذهبية محضة، ولكنها قضايا ذات بعد سياسي.
الباب الثاني: المعنون بـ (سياسة الشارع والشارع السياسي) يتنقل الكاتب في هذا الباب بين شوارع ومدن وميادين الشرق الأوسط، دارسًا أهمية مكان الاحتجاجات في المدن الحضرية، وموضحًا دور تلك الشوارع في التعبير عن الغضب على سياسات الهيمنة والسلطوية، في الوقت الذي تعبر فيه عن صور الصراع والتعايش الثقافي والطائفي، ولا سيما بين الأقباط والمسلمين في مصر، فيما يتطرق إلى نقد طروحة ما أسماه خرافة الفقراء الإسلامويين، منتهيًا إلى رصد حال الحراك العربي في العقود الأربعة الماضية، وتشخيصها.
ينطلق الفصل الثامن من قراءة سريعة للثورة الإيرانية 1979 إلى تناول ما أطلق عليه (مكانية الاحتجاجات)، وهو ما يقصد به الأسباب التي تجعل من صيغ مكانية (شوارع) معينة قادرة على تكوين الشعور والتضامنات الاحتجاجية، ومن ثم يسعى بيات إلى الحصول على أجوبة لأسئلة محورية، منها؛ لماذا تصبح الشوارع الحضرية هي أفضل الأماكن للأفعال وصور التعبير عن الغضب العام؟. فالثورة حركة حضرية، ثم إن المدن الحضرية هي أماكن للتناقضات والصراعات الاجتماعية، ومركز الثروة والقوة والناس، فالشوارع ليست هي المكان الذي يحتج فيه الناس ولكنه هذا هو العامل الذي يساعدهم على امتداد احتجاجاتهم خارج نطاق دائرتهم الحالية.
في الوقت نفسه يعمل بيات على رصد أكثر الخصائص الاجتماعية أهمية التي تمتاز بها الشوارع الحضرية ومنها أنها تشكل فضاءات يمكن أن تتجمع فيها الحشود المتحركة بسرعة ويسر قبل أن تجبر على التفرقة، مثلما أن لمثل هذه الشوارع رمزية تاريخية إما ذكريات نصر أو تمرد، فيما أن امتلاك هذه الشوارع لشبكة النقل جعل للاحتجاج فيها حضورًا أقوى، وأخيرًا تمتاز الشوارع بالمرونة التي يحتاجها المتظاهرون للمناورة والهرب من الشرطة، مثلما أن للشوارع قدرة أكبر على توسع الاحتجاجات.
يتطرق الفصل التاسع إلى قضايا الأيكولوجيا الحضرية للإسلام الثوري أو الجهادي، محاولًا الوقوف على إجابة لأسئلة مهمة مثلت محور أفكار هذا الفصل وهي هل هناك أيكولوجيا حضرية للإسلام الجهادي؟، وهل هناك توافق ضروري للمهمشيين الحضريين والأيديولوجيات الرادكالية؟، وهل يشكل المهمشون الحضريون المركز الطبيعي للممارسات الإسلاموية؟.
وسعيًا للإجابة على ذلك يذهب بيات إلى البرهنة على أن الإسلام الرادكالي لا يبدي اهتمامًا خلقيًا أو سياسيًا بفقراء الحضر، فالنزعة الإسلاموية الجهادية هي حركة أيديولوجية للطبقات الوسطى تهتم بصور النضال السياسي الأيديولوجي فحسب، وهي لا يمكنها أن تعمل بوصفها حركة اجتماعية معبرة عن الفئات الفقيرة، في الوقت نفسه يؤكد أن فقراء الحضر لا يمكنهم أن يبدوا التزاما أيديولوجيا بالممارسات اليومية للنزعة الإسلامية، ففقراء الحضر يتبعون تدينهم الشعب،ي وممارسة الحياة غير الرسمية، ومن ثم، يدعمون بدافع براغماتي ونفعي توجهات وحركات سياسية مختلفة بما فيها ذات النزعة الإسلاموية، وهنا يتطرق إلى السياقين الزمني والظرفي اللذين أديا إلى تلاقي المهمشين والإسلامويين، وينتهي إلى أنه على الرغم من وجود كثير من المتشددين الإسلاميين في العشوائيات إلا أنهم لا يملكون استراتيجية واحدة لتحريك الفقراء.
وفي دراسة السردية التاريخية لحقيقة الصراع الطائفي بين المسلمين والأقباط في مصر، يسعى الكاتب في الفصل العاشر إلى تناول جدلية الصراع والتعايش القائم بين أصحاب الثقافات والديانات المختلفة، وذلك في ما سماه (النزعة الكونية في الحياة اليومية)، وهي ما يقصد بها الطرائق التي من خلالها يستطيع الأفراد العاديون في الجماعات العرقية والجماعات الثقافية أن يختلطوا ويتواصلوا ويتفاعلوا ويشتركوا في القيم والممارسات والتاريخ والذاكرة.
ومن ثم نجده يتناول تضاريس الانقسام الطائفي في مصر، وسرديات الصراع التي تجذرت في مرحلة الاستعمار، وحكم السادات، وصعود حركات الإسلام السياسي، وهنا يؤكد أن الصراع الطائفي ارتبط بظروف وأحداث سياسية معينة، وبظهور النزعة الإسلاموية، وهو غالبًا ما يظهر بين النخب والمتشددين، وليس بين الأفراد العاديين، ثم إنه يتفاقم في القرى الريفية، لا في المدن الحضرية.
أما عن صور التعايش بين الأقباط والمسلمين في مصر فيتطرق بيات إلى قراءة صور التعايش كلها في أحد الأحياء الحضرية التاريخية والشعبية المعروفة، وهو حي شبرا بمصر، ويمتاز بالكثافة السكانية، والتنوع الطائفي، ووفقًا لبيات يمثل هذا الحي صورة حية للتعايش من خلال صور الحياة اليومية والجيرة وممارسة الشعائر الدينية بين الأقباط والمسلمين، منتهيًا إلى نتيجة، وهي إن القاهرة شهدت صورًا للتعايش أكثر مما شهدت من صراع.
أثار الكاتب في الفصل الحادي عشر حال التغير والتحول الذي شهده الشارع العربي، فعلى الرغم من الطروحات التي ظهرت في عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر التي أشارت إلى أن الشارع العربي غير رشيد، ويعبر عن غوغائية، وما تلا ذلك من تحليلات عن موت الشارع العربي تجاه غياب قدرته على إيقاف الحرب على أفغانستان أو العراق أو وقف العدوان الإسرائيلي على الضفة في 2002، إلا أن الشارع العربي شهد عددًا من التحولات والتغيرات لتي عبرت عن صور التضامن مع القضايا العربية وأنهت أسطورة موت الشارع العربي. ومن هنا يحاول بيات تقويم حال الشارع العربي من خلال مفهوم سياسة الشارع والشارع السياسي، ثم يتجاوز ذلك إلى رصد حال الشارع العربي والقضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة التي شكلت وجدانه في حقبته التاريخية، بدءًا بمقاومة الاستعمار، وانتهاء بمواجهة سياسات التكيف الهيكلي والعولمة.
ثم يتطرق إلى حال التجديد والإحياء التي شهدها الشارع العربي في مطلع الألفية الجديدة، وأتت بمضامين مختلفة، بدأت بحركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومعارضة غزو العراق في 2003، وتكللت بمعارضة الأنظمة القائمة بحثًا عن قيم الحرية والديمقراطية، ويشير بيات إلى أنه في الوقت الذي عملت فيه الدولة شرق الأوسطية على دعم سياستها بطريق الأمن والشرطة لمواجهة حركة التجديد التي شهدها الشارع العربي، طور الفاعلون الجدد في الساحة العربية آليات جديدة للتعبير عن الرفض للسياسات الاستبدادية الداخلية، والسياسات التدخلية الخارجية على حد سواء، ومن تلك الآليات حملات المقاطعة، والنشاط السياسي، وتوظيف الفضاء الألكتروني لخدمة أهدافهم. وعليه ينتهي بيات إلى تأكيد أن الشارع العربي ليس شارعًا ميتًا أو لا عقلانيًا، ولكنه شهد تحولات جوهرية بسبب الكوابح التي تعرض لها، والفرص الجديدة التي اكتسبها.
يدرس الكاتب في الباب الثالث المعنون بـ (الثورات) الثورات في الشرق الأوسط، بدراسة علاقتها بالحداثة، وبرصد حال الحراك الإسلامي في المنطقة يسعى الكاتب إلى استشراف مستقبل الثورات الإسلامية، واستراتيجيات تحقيق التغيير بعيدًا عن العنف، وهو ما أسماه بالثورة الإصلاحية ما بعد الإسلاموية، وتعتمد على وسائل اللاصمت واللاعنف، منتهيًا إلى محاولة تفسير ثورات الربيع العربي، وتشريحها في ضوء استراتيجية الزحف الهادئ للمعتاد.
وينطلق الكاتب في الفصل الثاني عشر من الفرضية القائلة؛ إن هذا العصر هو -ربما- عصر الثورات الإسلامية، وذلك لاستشراف مستقبل الثورات الإسلامية، فيحاول في هذا الفصل تجسيد أكثر التحولات والتغيرات المرتبطة بالحراك الإسلامي أهمية، وتشريحها، منطلقًا من أن الإسلام السياسي المعاصر لا يمكن أن تترجم تحولاته الحالية إلى ثورات سريعة وعنيفة، وذات أصول طبقية، وهو يجعل الثورة الإيرانية النموذج الأول والأخير للثورات الإسلامية التي يمكن أن يشهدها الشرق الأوسط، وهنا يشير إلى أن مستقبل الشرق الأوسط من المحتمل أن يحمل في طياته تغيرًا اجتماعيًا وسياسيًا أطلق عليها مصطلح (ثورة إصلاحية بعد إسلاموية(.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه بيات عن خصوصية الحداثة شرق الأوسطية، ومحورها التناقض بين التخلف الاقتصادي والتغير الاجتماعي والتخلف السياسي، يتساءل بيات عن موقع التمرد الإسلامي من ثورات الشرق الأوسط، وما إذا كانت رد فعل ضد الحداثة أم إنها يوتوبيا رجعية، أم إنها رد فعل على ما بعد الحداثة، وهنا يدعو بيات إلى إعادة دراسة الإسلام السياسي، لا في إطار أدبياته وخطاباته، ولكن في ضوء النشاط السياسي والتوجهات، وفي مضمار العيش في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن الإسلام في هذا الإطار يمكن أن يتحول إلى مركز النضال الثوري بسبب المصالح الظاهرة للنخب الدينية.
ومن مدخل تناقضات الثورية الإسلامية ينتقل بيات إلى تأكيد وجود اتجاهات داخل النزعة الإسلامية تؤدي بها إلى الابتعاد عن الطريق الثوري، وهي تلك الاتجاهات التي تتأثر بالطرائق الداخلية التي تعمل بها الحركات الإسلامية، ثم إنها تتأثر بالممارسات السياسية العالمية، وهو ما يدفعها إلى ما بعد الأسلمة، مشيرًا إلى أن حركات عدة بمثل حزب الله وحزب الوسط وحزب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب يمثلون هذا التوجه، مؤكدًا أن نمو الحركات الديمقراطية يدفع بالحركة الإسلامية إلى سلك المسار ما بعد الإسلاموي بصور الكفاح الإصلاحي لإحداث تغيير ديمقراطي، وهو ما يمكن تسميته (الثورات الإصلاحية ما بعد الإسلاموية).
استكمالًا لما طرحه الكاتب في الفصل السابق عن الثورة الإصلاحية ما بعد الإسلاموية، ينتقل في الفصل الثالث عشر إلى نقد طروحة إفشال الإسلام للديمقراطية، وعدائيته لها، فهو يرى أن طرحًا مثل هذا الطرح جاء وفقًا لتحليلات وتفسيرات للبنى الفكرية الإسلاموية، وليس في ضوء الظروف والسياقين الاجتماعي والسياسي اللذين قادا إلى مثل هذه البنى الفكرية، وهنا يسعى إلى تناول خلقيات الحركات الاجتماعية غير العنيفة، وخبراتها، وأطلق عليها اسم (ما بعد الإسلاموية)، وبوصفها جسرًا متواصلَ الربط بين الديمقراطية والإسلاموية سعت إلى تغيير سلمي اتسم باللاصمت واللاعنف، ما دام فن الحضور والنشاط الذي تقوده تلك الحركات موجودًا، ومن ثم يتعرض أيضًا للفرص والمصاعب أمام إقامة ديمقراطية ما بعد إسلاموية في الشرق الأوسط بأساليب سلمية.
وفي إطار التأصيل المفاهيمي لـ (ما بعد الإسلاموية) يؤكد الكاتب أنها تعد ظرفًا ومشروعًا في آن معًا، وهي تمثل محاولة إعادة بناء ذاتي للإسلاموية، ومحاولة واعية لإعادة صوغ المبررات العقلية لإدخال الإسلاموية في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جنبًا إلى جنب مع الاستراتيجيات المتصلة بها، وهنا يوضح الكاتب نقاط الالتقاء بين ما بعد الإسلاموية والضرورات العلمانية، ويشير إلى أن الحركتين الإسلاموية وما بعد الإسلاموية كلتيهما، واجهتا معارضة قوية من النخبة التي تحتكر القوة، ومن ثم يؤسس الكاتب لقواعد المنهجية التي يمكنها أن تحقق التغيير في الشرق الأوسط من دون اللجوء إلى العنف أو الثورة في ظل سيطرة النظم التسلطية الدينية والعلمانية.
ينتهي المطاف بالكاتب في الفصل الرابع عشر إلى جولة عربية قارئة ومفسرة لديناميات ثورات الربيع العربي وبخاصة في مصر وتونس، فهو يرصد ويحلل الأسس والدوافع الاجتماعية والسياسية التي دفعت إلى تشكيل جماعات وحركات جديدة قادت تلك الثورات، وهنا يستطرد في شرح موقف الإسلاميين والحركات الاجتماعية واللاحركات، ودورها في قيادة الثورات العربية، ويبدي اهتمامه بالشارع السياسي العربي الحضري الذي حفل بالصور غير النمطية للنضال العربي، منتهيًا إلى محاولة تفسير أن الثورات التي شهدتها تونس ومصر هي ثورات ما بعد إسلاموية في توجهها، فهي ليست إسلاموية خالصة أو علمانية، ثم إنها ثورات إصلاحية في مسارها وهي حضرية في توزيعها المكاني.
إن أبرز ما قدمه الكاتب في هذا الفصل هو تأكيده أنه على الرغم من امتلاك الثورات العربية المعاصرة قوة اجتماعية هائلة، إلا أنها تفتقد إلى السلطة الإدارية، فهي لم تحكم بعد، وتفتقر إلى وسائل الحكم الذي يجسد إرادة الثورة، وأنماط هذا الحكم، وعليه فإن هذه الثورات تدعو إلى إصلاحات ثورية عبر الدولة القديمة، وهو ما يجعل خطر استعادة الثورة المضادة قائمًا، لأن الثورة لم تغير النظم الرئيسة لقوة الدولة، مؤكدًا أن التحدي الأكبر لثورات الشرق الأوسط هو كيفية الابتعاد الأساس عن النظم القديمة من دون الحاجة إلى العنف، وفي ظل سيادة مبادئ الاندماج والعدل.
تأتي مراجعة هذا الكتاب مع مرور ستة أعوام على ثورات الربيع العربي التي بدأت من تونس ومصر كانون الثاني/ يناير 2011، وعلى الرغم من أن الأعوام الستة ليست كافية لاستكشاف المستقبل السياسي والاجتماعي للشرق الأوسط، فإنه يمكن القول إن هذه الأعوام قد عبرت عن أكثر الخصائص التي تناولها آصف بيات في كتابه أهمية، فعلى صعيد الفاعلين في مجرى أحداث تلك الثورات التي قادتها قوى اللاحركات الاجتماعية، وعبرت عن غياب أيديولوجيا جمعية للثائرين، وقادة ورابطة لهم، وهو ما يذهب إليه بعضهم لتفسير أسباب تشظي تلك الثورات وغياب قدرتها على تحقيق أهدافها بخلاف الثورات القومية.
وفيما تعدّ النظرة التحليلية لآصف بيات في ديناميات الثورات العربية، وأسبابها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي دفعت إلى تكوّن قوى اللاحركات الاجتماعية في ضوء استراتيجية الزحف الهادئ للمعتاد؛ من أكثر المداخل التفسيرية المعاصرة أهمية في فهم قيام الثورات شرق الأوسطية، وعلى الرغم من تأكيده خطر استعادة الثورة المضادة نتيجة افتقار تلك الثورات للسلطة الإدارية، فإن بيات قد شدد على دور العوامل الداخلية في التأثير في مسار التغيير من دون التطرق إلى العوامل الخارجية بوصفها آلية لإفشال الحراك الثوري أو إعاقته، على غرار نموذج الثورة السورية أو الليبية.
الحديث عن ثورة إصلاحية ما بعد إسلاموية ربما يعد من أكثر الطروحات التي تناولها بيات في كتابه أهمية، وبخاصة في ظل صعود قوى الإسلام السياسي ما بعد الإسلاموي في عقب الربيع العربي، فقد شهد المغرب نجاح حزب العدالة والتنمية في دورتين متتاليتين للانتخابات التشريعية، وشهد الأردن والكويت عودة الإسلاميين إلى الساحة السياسية بطريق الانتخابات البرلمانية، وعلى الرغم من أن هذه الجماعات اعتمدت في وصولها إلى سدة الحكم على رأس مالها الاجتماعي، إلا أنها تظل لا تستطيع تحقيق إجراءات إصلاحية ثورية وذلك لأنها لم تتخلص بعد من سيطرة القوة المركزية للأنظمة الحاكمة التي عملت على دمج الإسلاميين في الحياة السياسية استراتيجيةً للاحتواء، و ليست استراتيجية للتمكين.
البناء على أن الثورة الإيرانية هي النموذج الأفضل والأخير للثورات الإسلامية المعاصرة، إنما يشير إلى التحيز المنهجي والاستهلاك القياسي الذي أوقع الكاتب نفسه فيه، في محاولة لتعميم التجربة الإيرانية على باقي النماذج شرق الأوسطية، فكل نموذج يحتفي بخصوصيته الثورية وفواعله السياسية المختلفة، وإن كانت تقترب من النموذج الإيراني في بعض الديناميات، ثم إن الولع بالنموذج الإيراني جعل الكاتب يتجاهل التجربة الجزائرية التي مثلت نقطة تحول مهمة في تاريخ المنطقة العربية، وهو ما كان قد تنبه عليه أوليفيه روا في كتابه فشل تجربة الإسلام السياسي.
وتبقى طروحة مكانية الاحتجاج أبرز ما قدمه بيات في حديثه عن الشارع السياسي، وهو ما تداركته الأنظمة السياسية بعد ردة الربيع العربي، فقد سعى النظام المصري الحاكم لمحاولة السيطرة سيطرة تامة على الشوارع والميادين حتى إنها باتت تشبه الثكنات العسكرية والشرطية في مثل المناسبات الرمزية التي تحدث عنها بيات، وقيّدت حرية الشارع السياسي بقانون التظاهر وهو الأمر الذي دفع إلى فقدان اللاحركات الاجتماعية مضمارها العام و(الفيزيقي)، ليحل محله الفضاء الألكتروني من المنصات الألكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما بقي من سياسات المرح.