الكتاب: الإنسان المؤرخ/ تأملات حول التاريخ والمؤرخين والعلوم الاجتماعية

تأليف: ماثيو جيدير

الناشر: منشورات أرمان كولين

مكان النشر: باريس. تاريخ النشر: 2013

مراجعة: محمد الإدريسي

 

 

يمكن عدّ كتاب “ الإنسان المؤرخ. تأملات حول التاريخ، والمؤرخين والعلوم الاجتماعية“، الذي أصدره المؤرخ الفرنسي المعاصر كريستوف شارل “Christophe Charle” (أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر [الثقافي والاجتماعي]  في جامعة السوربون، باريس- فرنسا، وأستاذ كرسي التاريخ المقارن للمجتمعات الأوروبية في المعهد الجامعي الفرنسي) مرجعًا إبستيمولوجيًا لا غنى عنه لكل باحث مهتم بالمعرفة التاريخية المعاصرة وإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة) التاريخ الحديث والمعاصر، من منظور المقاربة المقارنة والمتداخلة التخصصات المعتمدة ، ونظرًا إلى دقته المنهجية الإبستيمولوجية التي تعيد تحديد النسق العام للمنهج التاريخي، والهيستوريوغرافيا “historiographie”(علم التاريخ) والتاريخ الاجتماعي والثقافي المعاصر، حيث الكتابة التاريخية محط تفاعل وتكامل بين مختلف العلوم الفاعلة في إنتاج الظاهرة والواقعة التاريخية.

يقع الكتاب في 319 صفحة من الحجم الكبير ويتكون من ثلاثة أقسام تعالج قضايا ورهانات الخروج عن حدود الإنسان المؤرخ “Sortir des limites de l’Homo Historicus” وقضايا المنهج التاريخي وإشكالاته “Méthodes et problèmes”، فضلًا عن معالجة مسألة جد حساسة ضمن البناء الأكاديمي للمؤرخ المعاصر والمقترنة بالشروط الموضوعية لإنتاج المؤرخ الملتزم نفسه، بين الأمس واليوم، وهنا [الغرب الأوروبي] وهناك [باقي العالم] “Historiens engagés : d’hier et d’aujourd’hui, d’ici et d’ailleurs” من خلال نماذج مختارة لأكثر المؤرخين أهمية، الفاعلين في الساحة الأكاديمية الحديثة والمعاصرة.

يعد “الإنسان المؤرخ” امتدادًا لمسار بحثي [إبستيمولوجي] للسيد شارل حول قضايا المنهج، والهيستوريوغرافيا (علم التاريخ) والتاريخ الاجتماعي والثقافي الحديث والمعاصر في تفاعلها البنيوي مع الشروط الموضوعية لكتابة التاريخ العالمي كما التاريخ المحلي[1]، في إطار البحث عن مخرج أبسيمي من الأزمة[2] البنيوية التي يتخبط فيها التاريخ المعاصر سواء على مستوى المنهج[3] [قضايا الفهم والتفسير] أو على مستوى الموضوع والموضوعية[4] [قضايا الالتزام]، فضلًا عن إشكالية الكوني والمحلي في كتابة التاريخ الراهن [ما بعد المعاصر].

يمكن أن نعد القرن الحادي والعشرين قرن التداخل بين التخصصات بامتياز، حيث إن النقاش الإبستيمولوجي لم يعد قائمًا حول التأسيس لعلم التاريخ الخالص (المنغلق) وللمعرفة الإبستيمولوجية المنغلقة بالماضي الإنساني، بل حتى مقولة “الإنسان المؤرخ” الخالص أضحت محط نقاش وجدل كبيرين. أصبحت الكتابة التاريخية نتاج تفاعل بنيوي بين الثقافات الثلاثة (العلوم الطبيعة، والإنسانيات والعلوم الاجتماعية) من منطلق أن تعدد الخطابات العلمية والإبستيمولوجية سند قوي لتأسيس معرفة تاريخية متداخلة التخصصات تسير في اتجاه البحث عن تاريخ كوني[5] يأخذ في الحسبان الخصوصيات المحلية للثقافات والمجتمعات المختلفة، ولا يتأثر بالخطابات السياسية فحسب، في إطار تعدد المعارف والمناهج التاريخية ووحدة التاريخ الإنساني.

ما يميز كتاب “الإنسان المؤرخ” أيضًا بحثه عن صورة الالتزام في أعمال مجموعة من المؤرخين الحديثين والمعاصرين، إذ إن المعرفة التاريخية المعاصرة والجديدة قد أضحت نتاج تفاعل بنيوي بين القضايا التاريخية والمسائل الاجتماعية والسياسية، والمؤرخ الملتزم يجد نفسه بالضرورة مسؤولًا عن كتابة التاريخ الكوني أو المحلي آخذًا طبيعة الشروط الموضوعية المنتجة لمسلسل التغيرات السياسية والاجتماعية الدولية في الحسبان، وبالتالي يجعل نفسه مسؤولًا بالضرورة عن القضية الإبستيمولوجية [المنهج والموضوعية] والقضية السوسيو- سياسية [المجتمع والتحولات الإقليمية والدولية]: “إن المؤرخ الملتزم هو من يبحث عن جعل المعرفة التاريخية نابعة من المجتمع ونحو المجتمع”.

كما أشرنا سابقا، يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام متكاملة ومتداخلة في ما بينها، تشكل مدخلًا نسقيًّا لمعالجة القضايا الإبستيمولوجية للمعرفة التاريخية، وأزمة الكتابة التاريخية خلال العقود الأخيرة. نجد أن الإرث البورديوي حاضر بقوة في البنية الذهنية للمؤرخ وضمن اختياراته الإبستيمولوجية، إذ إن العنوان نفسه (Homo Historicus) يحيلنا بالضرورة على أحد المؤلفات النقدية الأكثر أهمية لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو “Pierre Bourdieu” خلال ثمانينيات القرن الماضي.

يتعلق الأمر بكتاب “الإنسان الأكاديمي[6]” (Homo Academicus). يرسم شارل صورة ” إبستيمولوجية” عامة حول الشروط الموضوعية التي تنتج المؤرخ وتحكم عمله داخل الساحة الأكاديمية، من خلال نماذج مختارة (بدءًا من ” فرديناند برونو ” Ferdinand Brunot” وصولًا إلى “سيفان كوليني” “Stefan Collini”): مناهجهم، ومساراتهم البحثية ومواقعهم الأكاديمية.

انطلاقًا من تحليل نظام الاستعدادات القبلية الجامعية المحدد للبراديغم النسقي للمؤرخين الأوروبيين المعاصرين (بخاصة الفرنسيين) –لشروط عملهم وتصنيفاتهم العلمية والشبكية- يقدم لنا شارل مقاربتين إبستيمولوجيتين لاختراق الحقل الأكاديمي للمؤرخين: انعكاسية شمولية إزاء خصائص ورهانات “حرفة” “métier” المؤرخ ضمن الوضع المعاصر للعلوم الاجتماعية وتداخل التخصصات من جهة، واستكشاف المناقشات المنهجية، في بعدها الأكثر دقة وحِدّةً من جهة أخرى. يتعلق الأمر بانعكاسية نقدية مستمدة من النسق العام لنظرية “سوسيولوجيا السوسيولوجيا”، التي دافع عنها بيير بوردو خلال العقود الأخيرة، من أجل تخليص السوسيولوجيا من النزعات الإيديولوجية واللاعلمية وإنتاج الإنسان الأكاديمي الملتزم بالقضية السوسيولوجية.

سبق للمؤرخ كريستوف شارل أن قدم تصورًا نقديًّا حول الشروط الموضوعية لتقويم [المؤرخين] الجامعيين[7]، بين خلاله أهمية الفكر النظري وخطاب المنهج في صناعة المثقف الجديد، مستحضرًا نظريات الحقول لبيير بورديو من أجل فهم النسق العام لمهنية الحقل الأكاديمي التاريخي. يتعلق الأمر بمحاولة التأسيس لتاريخ نقدي للمؤرخين أو إبستيمولوجيا المهنة والمهنيين والمؤرخين، يمكن من خلالها الكشف عن مكامن الخلل الإبستيمولوجي على مستوى الخطاب والمنهج ودور المؤرخين في تعزيز وتكريس أزمة المعرفة والكتابة التاريخية: لن تكون هذه المهمة باليسيرة إذا لم تستوف شرطين اثنين

1-العمل على الوعي الإبستيمولوجي بأهمية التداخل بين التخصصات واستثمار المناهج العابرة للتخصصات في إنتاج كتابة تاريخية علمية وملتزمة،

2-ضرورة الانفتاح على السوسيولوجيا كتخصص مجاور ومساعد للتاريخ في الآن نفسه، كونه أحد أكثر العلوم الاجتماعية أهمية والتي استفادت من مختلف المقاربات الإبستيمولوجية لتعزيز مسألة الالتزام.

كما أشرنا سابقًا، فإن هذا المؤلَّف يعكس اختيارًا إبستيمولوجيًّا للمؤرخ يحاول من خلاله البحث في الشروط الإبستيمولوجية والموضوعية لـ “حرف المؤرخ”، ومناقشة قضايا المنهج والكتابة التاريخية فضلًا عن تكريس ثقافة الاعتراف في الأدبيات العلمية من خلال تدارس مسألة الالتزام في أعمال مجموعة من المؤرخين المؤسسيين. لكن ما يثير الاهتمام أيضًا، هو أن المؤَلَّف في حقيقة الأمر تجميع لمجموعة من المقالات –بخاصة القسم الثاني- التي نشرها الباحث خلال العقدين الماضيين، الأمر الذي يعكس التزامًا موضوعيًّا من طرف الباحث بالانعكاسية النقدية الذاتية كمدخل إبستيمولوجي لمساءلة راهنية المنهج التاريخي تنظيرًا ومراسًا، والبحث عن السبل البنيوية لتعزيز التداخل بين التخصصات من منطلق أن العلم المعاصر لصيق بالضرورة بكونية المعرفة والحق الكوني كما المحلي في العلم. لذلك فحديثه عن الالتزام التاريخي بالقضايا السياسية والاجتماعية من طرف المؤرخين الغربيين المعاصرين، هو دعوة صريحة إلى إنتاج معرفة تاريخية معاصرة بصيغة الجمع تنتصر للحق الإنساني –كما العلمي- لمختلف الجماعات العلمية في دول الجنوب في مناقشة قضايا التداخل المنهجي ومسائل الالتزام في التاريخ المعاصر. لن يتأتى ذلك إلا بالعمل على تعزيز الاهتمام بقضايا “إبستيمولوجيا التاريخ كمهنة” ضمن البرامج الاستراتيجية للجماعات العلمية، والجامعات والمراكز البحثية. لذلك وجب تجاوز قضايا السياسي والاجتماعي في إنتاج الكتابة التاريخية والاهتمام أولًا بالشروط الموضوعية لـ “كاتب التاريخ” أو مدون التاريخ (المؤرخ) ومنه الانفتاح على التفاعل بين الاجتماعي والثقافي في إنتاج التاريخ الكوني آخذًا في الحسبان الشروط المحلية لإنتاج الوقائع الاجتماعية والثقافية (التفاعل الإبستيمولوجي والحوار النسقي بين التاريخ والعلوم الاجتماعية).

ارتبطت هذه الدعوة إلى تجديد الحوار بين التاريخ والإبستيمولوجيا من جهة والتاريخ والعلوم الاجتماعية من جهة أخرى، بانعكاسية نقدية ذاتية للمؤرخ إزاء تداخل الاجتماعي والثقافي في كتابة التاريخ المعاصر نابعة من الشرط البنيوي لـ”مهنة المؤرخ” نفسه، حيث توزعت اهتمامات كريستوف شارل (منذ سبعينيات القرن الماضي) وتعددت في اتجاه التكامل مع العلوم الاجتماعية واستثمار مناهجها وتقنياتها الحديثة (تاريخ النخب؛ تاريخ البورجوازية؛ تاريخ المثقفين والجامعيين؛ تاريخ المجتمعات الامبريالية) الأمر الذي مكنه من الانخراط في السجالات والنقاشات الإبستيمولوجية التي طرحت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من موقع الممارس وليس المنظر  فحسب.

بالعودة إلى النقاش حول الشروط الموضوعية لعمل المؤرخ ولإنتاج التاريخ كـ “مهنة”، ضمن الجماعات العلمية، نجد أن انفتاح الباحث على النموذج الفرنسي[8] يعكس بالضرورة إرثًا إبستيمولوجيًا ونقديًا فريدًا من نوعه (مدرسة الحوليات خاصة) يمكن أن نقرأ في ضوئه المدرسة التاريخية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، حيث الجدل لا يزال مستمرا بين الكم والكيف، الانغلاق والانفتاح، الوصف والتفسير، العلمية واللاعلمية وأيضًا الأكاديمية والمهنية المؤسساتية.

في مقارنة بين المدرسة التاريخية الأوروبية والمدرسة التاريخية العربية، يمكن أن نعزو اختلاف الشروط البنيوية لكتابة الحدث والواقعة التاريخية، فضلًا عن إنتاج علم التاريخ نفسه، إلى غياب الإشكال الإبستيمولوجي ضمن مجال اهتمام المؤرخين العرب: ليس هناك وعي إبستيمولوجي لدى “الجماعة العلمية” بضرورة الالتزام بالنسق الانعكاسي في التعاطي مع البحوث والدراسات التاريخية. طبعًا لا يمكن أن نتحدث هنا عن منطق تفاضلي في ما يتعلق بالتقنيات والمناهج أو حتى التيمات الموضوعاتية، لكن غياب مواكبة نقدية وإبستيمولوجية من طرف الجماعات العلمية المختصة للإنتاجات العلمية التاريخية وضعف الانعكاسية النقدية لدى المؤرخين والباحثين (إبستيمولوجيا التاريخ والمؤرخ)، لن يؤدي بالضرورة إلى تأسيس علم تاريخ ملتزم في الوطن العربي، و الأمر  نفسه بالنسبة  للتخصصات الاجتماعية الأخرى، وتلك هي الفكرة الأساسية التي يؤكدها كريستوف شارل، حيث إن ما يميز تاريخ التاريخ الفرنسي [والأوربي عامة] هو الاهتمام بإبستيمولوجيا كتابة التاريخ أكثر من كتابة التاريخ نفسه، حيث تزاوج علم التاريخ بالإبستيمولوجيا والعلوم الاجتماعية بالشكل الذي عزز، خلال العقود الأخيرة، تنمية التاريخ كـ”مهنة”.

إن الدعوة إلى تجديد الحوار الإبستيمولوجي بين التاريخ والعلوم الاجتماعية ليست بالمقولة المستجدة، حيث إن الرواد المؤسسين للسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا دائمًا ما عدّوا التاريخ مختبرًا حقيقيًا للعلوم الاجتماعية، أي إن عالم الاجتماعي أو الأنثروبولوجي _في سياق بحثه عن القوانين المتحكمة في إنتاج الواقعة الاجتماعية أو الثقافية_ يساهم في كتابة التاريخ نفسه ويزود المؤرخ بالتقنيات والمناهج التي أثبتت فعاليتها في بناء التصور العلمي عن الظاهرة الاجتماعية.

اليوم، أصبحت السوسيولوجيا مرجعًا لا غنى عنه لأي مؤرخ ملتزم، خاصة في ما يتعلق بالجانب الإبستيمولوجي والانعكاسي، في إطار البحث عن الميكانيزمات الفعالة لمهنة التاريخ كحرفة (في إطار إبستيمولوجي وانعكاسي) والمؤرخ كفاعل ملتزم برهانات المسألة التاريخية كما القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية.

أضحت قضية الالتزام رهانًا أساسيًّا في حقل العلوم الاجتماعية المعاصرة، من منطلق أن المعرفة الموضوعية ليست بالضرورة نتاج تفاعل بين الباحث وموضوع البحث بقدر ما هي إنتاج إنساني محدد بشروط سوسيو-ثقافية وسياسية خاصة تجعل من العلم تعبيرًا عن تبلور الإنسان في الوجود. لذلك لم تعد المعرفة المتعالية والمنتجة “حول” المجتمع أساس بناء الحقيقة الاجتماعية، بل إن تعزيز مقاربات وبراديغمات معرفية تهدف إلى جعل المعرفة نابعة “من” المجتمع و”نحو” المجتمع هو رهان العلم الراهن.

ينخرط كريستوف شارل بدوره في هذا النقاش من خلال البحث في قضايا الالتزام ضمن فكر مجموعة من أبرز المؤرخين الحديثين والمعاصرين: يتعلق الأمر بـ ” فرديناند برونو” “Ferdinand Brunot” و”شارل سينيوبوز” “Charles Seignobos” و”إريك هوبسباوم” “Éric Hobsbawm” و”هانس أولريخ فيلور” Hans-Ulrich Wehler” و”فكتور كرادي” “Victor Karady” و”ستيفان كوليني” “Stefan Collini”. توزعت المشارب الثقافية والاتجاهات النظرية والإبستيمولوجية لهؤلاء المؤرخين، لكن تركز اهتمام كريستوف شارل في محاولة الإجابة عن السؤال التالي: إلى أي حد التزم هؤلاء المؤرخين بالقضية التاريخية والمسائل الاجتماعية والسياسية؟

للإجابة عن هذا السؤال الإبستيمولوجي يتتبع كريستوف شارل المسار العلمي لهؤلاء المؤرخين، من جهة، بهدف التذكير والاعتراف بإسهاماتهم المختلفة في بناء التاريخ المعاصر والراهن، ومن جهة أخرى يقف عند اختياراتهم المنهجية والنظرية وتأثيرها في بناء المعرفة التاريخية المعاصرة. فسواء تعلق الأمر بالتأريخ للحداثة، والإمبريالية وللمثقفين أو للمجتمع الفرنسي أو الألماني أو البريطاني، فإن العودة إلى الأصول تظل خيارًا إبستيمولوجيا لا غنى عنه من أجل إنتاج كتابة تاريخية متفاعلة مع العلوم الاجتماعية، في إطار تجديد الحوار الإبستيمولوجي مع السوسيولوجيا على وجه الخصوص.

إن الأزمة الثلاثية التي تمر فيها العلوم الاجتماعية الأميركية[9] (المنهجية، والسياسية والنظرية)، فرضت على المختصين العودة إلى الأصول المنهجية والنظرية للرواد الأوائل (بخاصة علماء الاجتماع) في إطار مقاربة انعكاسية ونقدية ذات بعد إبستيمولوجي تهدف إلى المصالحة بين العلوم الاجتماعية والمجتمع. لذلك يمكن اعتبار تشجيع ثقافة الاعتراف بالمؤرخين (سواء الغربيين أو العرب) شرطًا لا غنى عنه للمصالحة مع الماضي والحاضر والبحث عن صيغ نظرية ومنهجية رائدة لتعزيز الحوار المستقبلي مع العلوم الاجتماعية.

إضافة إلى ذلك، لم يعد التاريخ، كمعرفة علمية بالماضي الإنساني، مجرد ترسيمات أكاديمية حول المجتمع والثقافة، بل أصبح اليوم يفرض على المؤرخ ضرورة ربط العلمي بالاجتماعي والنقدي بالسياسي، وبالتالي الدمج بين القضية التاريخية والمسائل الاجتماعية والسياسية اقتداءً بالرواد الأوائل وسيرًا على خطاهم، مع الأخذ في الحسبان الخصوصيات المعاصرة للحضارة الإنسانية (قضايا البيئة، الحروب والصراعات).

في الختام، يمكن أن نعد “الإنسان المؤرخ” دعوة صريحة إلى تعزيز مسلسل تجديد الحوار بين العلوم الاجتماعية من جهة، والتاريخ والسوسيولوجيا من جهة أخرى. لذلك سيكون هذا الكتاب مرجعًا لا غنى عنه لتكوين الطلبة، والأساتذة والمهتمين بالقضايا الإبستيمولوجية والمنهجية للتاريخ الراهن والمقارن، لكونه يزودنا بعدة منهجية وتصورات إبستيمولوجية ونقدية تنتصر للحوار وتتجاهل الانغلاق في إطار البحث عن إنتاج كتابة تاريخية كونية   تنظر بأهمية إلى الحق المجتمعي والإنساني في إنتاج التاريخ المحلي وكتابة التاريخ الكوني.

علاوة على ذلك، نجد أن “الجماعات العلمية” في حاجة ماسة إلى تبني رؤية انعكاسية لتنمية وعي وحدة البحث العلمي العربي ووحدة وعي البحث العلمي العربي، في إطار تنمية الاهتمام بالإبستيمولوجيا كتخصص مرجعي لا غنى عنه ضمن الدراسات التاريخية والمقارنة (وأيضًا ضمن مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية)، يمكن من خلاله إنتاج معرفة تاريخية في العالم العربي قادرة على اختراق الخفي والتعمق في الظاهر، في إطار تجديد الحوار بين التخصصات المجاورة وتعزيز قيم النقد الذاتي والانعكاسية الذاتية لدى “الجماعات العلمية”.

[1] – لمزيد من التفاصيل حول هذا المشروع الابستيمولوجي الطموح، والذي تعود جذوره لعقود خلت، انظر:

Christophe charle, Histoire globale, histoire nationale ? Comment réconcilier recherche et pédagogie Dans Le Débat 2013/3 (n° 175)

Christophe charle, Histoire sociale de la France au XIXème siècle, Paris, Ed. du Seuil, 1991, 392 pages, 3ème éd. corrigée 1996.

Christophe charle, Éditeur de Histoire sociale, histoire globale?, actes du colloque de l’IHMC, Paris, Editions de la MSH, 1993, 222 pages.

Christophe charle, Macro-histoire sociale et micro-histoire sociale. Quelques réflexions sur l’évolution des méthodes en histoire sociale depuis dix ans, dans Histoire sociale, histoire globale?, Paris, Ed. de la MSH, 1993, pp. 45-57.

[2] – انظر:

Christophe charle, La crise de l’histoire, Lettre d’information de l’IHMC, 15-1988, pp. 1-4.

[3] – انظر:

Christophe charle, Méthodes historiques et méthodes littéraires, pour un usage croisé Dans Romantisme 2009/1 (n° 143).

[4] – انظر:

Christophe charle, Etre historien en France: une nouvelle profession?, dans F. Bédarida (dir.)، L’histoire et le métier d’historien en France 1945-1995, Paris, Editions de la Maison des sciences de l’homme, 1995, pp. 21-44.

Christophe charle, Chercheur en histoire, histoire de chercheur, Les Cahiers rationalistes, novembre 1991, n° 462, pp. 39-44.

[5] – انظر:

Christophe charle, L’organisation de la recherche en sciences sociales en France depuis 1945: bref bilan historique et critique L’organisation de la recherche en France Dans Revue d’histoire moderne et contemporaine 2008/5 (n° 55-4bis)

Christophe charle, Discours pluriel et histoire singulière (1870-2000) Dans Revue d’histoire moderne et contemporaine 2003/4 (no50-4).

[6] – انظر:

Pierre Bourdieu, “Homo Academicus”, Collection «Le sens commun» ,  1984, 320 p.

[7] – انظر:

Christophe charle, L’évaluation des enseignants-chercheurs Critiques et propositions Dans Vingtième Siècle. Revue d’histoire 2009/2 (n° 102).

[8] – لمزيد من التفاصيل، انظر:

Christophe charle, Etre historien en France: une nouvelle profession?, dans F. Bédarida (dir.), L’histoire et le métier d’historien en France 1945-1995, Paris, Editions de la Maison des sciences de l’homme, 1995, pp. 21-44.

[9] – انظر:

Szelenyi, Ivan, The Triple Crisis of US Sociology. Global Dialogue. VOL. 5 / # 2 / JUNE 2015.