الكتاب: الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية
تأليف: بارينجتون مور
ترجمة: أحمد محمود
الناشر: المنظمة العربية للترجمة
مكان النشر: بيروت.
تاريخ النشر: 2008
يقدم “بارينجتون مور” في كتابه تجربة تاريخية للثورات والانتقالات التي أسست للأنظمة السياسية الديمقراطية والديكتاتورية في القرن العشرين، من خلال تحليله لأدوار الطبقات المختلفة في حدوث الثورات التي غيرت أنظمة الحكم. قراءة دقيقة لصعود الأنظمة السياسية لا يغيب عنها البحث في البعد الأخلاقي المؤسّس لها.
فالكتاب يهتم بكشف الظروف التاريخية التي جعلت طبقتي الفلاحين وملاك الأراضي قوة مهيمنة وراء ظهور الأنظمة الديمقراطية أو الفاشية والشيوعية “دكتاتوريات اليمين واليسار” كما يقول عنها.
أسئلة “مور” تضعنا جميعًا من قراء ومهتمين وباحثين أمام أسئلة جوهرية ومربكة، ربما كان من أهمها هو: هل يحتاج الوصول إلى الحرية إلى قدر ضئيل أم كثير من العنف؟ وهل يحتاج الانتقال إلى مجتمع ديمقراطي إلى نسف مصالح وبنية طبقة اجتماعية معينة؟
تناول “مور” ست تجارب للنظم السياسية في العالم توزّعت بين أميركا وأوروبا وآسيا، مناقشًا “الأدوار السياسية” للطبقات في عملية التحول إلى المجتمع الحديث.
جاء الكتاب في ثلاثة أبواب وتسعة فصول.
في الباب الأول: الأصول الثورية للديمقراطية الثورية يناقش “مور” هنا تجارب كل من إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية “السبيل الديمقراطي والرأسمالي إلى المجتمع الحديث”.
ففي الفصل الأول المعنون بـ : “إنكلترا وإسهامات العنف في التحول التدريجي“، يقودنا مور إلى موضوع التحول الديمقراطي في إنكلترا ليجيب عن تساؤل هو: “لماذا بلغت عملية التحول الصناعي في إنكلترا أوجها عند إقامة مجتمع حر نسبيًا؟”. عادة ما يأتي الجواب مرتبطًا بموضوع “التسامح الديني والحرية السياسية ودور المكون الأرستقراطي” من دون الحديث عن المتغيّر الرئيس وهو: دور الطبقات في الريف في التحول إلى التصنيع.
يعود مور إلى التاريخ الإنكليزي منذ القرن الرابع عشر تقريبًا، ليوضح تطور مواقف ومصالح الطبقات في الانتقال إلى شكل جديد من الممارسة السياسية، وشكل نظام الحكم ليتوافق مع المصالح الاقتصادية، ومشاريع التحديث والتمدين الخاصة بها.
من هنا يرى مور أن “الثورة الانكليزية” يمكن قراءتها بأنها مجابهة بين العقل التجاري الخاص بطبقة ملاك الأراضي العليا، وصغار المُلّاك من جهة، والمحاولات الملكية للحفاظ على النظام القديم من جهة أخرى.
مع إعدام الملك “تشارلز الأول” على الملأ من قبل المجلس الجمهوري -المرة الأولى والأخيرة التي أصبحت فيها بريطانيا جمهورية- كانت الريبة وعدم الارتياح يغلبان على مواقف أصحاب الثروات “رؤوس الأموال”، فقد سقط جناحا النظام الاجتماعي القائم “التاج الملكي والسلطة الدينية ممثلة بالكنيسة”، ورحّب أصحاب الثروات بعد ذلك بعودة الملكية بعيدًا عن الحكم المطلق، بشكل يتوافق مع مصالحهم.
يلاحظ “مور” أن الثورة الإنكليزية لم تشهد ظهورًا للفلاحين و”غوغاء” المدن على غرار ما جرى في الثورة الفرنسية، وهو ما ساعد على عدم إقامة ديكتاتورية، حيث ظل النظام القديم في الثورة الإنكليزية قائمًا، وكانت سياسة قادة التمرد رأسمالية واضحة، فقد كانوا يرفضون تدخل التاج الملكي في حقوق الملكية الخاصة بمُلّاك الأراضي، وكانوا، أيضًا، ضد تدخل الراديكاليين من الطبقات الأدنى وتم التصدي لهذه المحاولات.
وثمة خصوصية أخرى لبريطانيا وهي تزايد قوة “البرلمان” خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر على حساب سلطة الملك، وهو ما أسّس لعصر التحول الديمقراطي “القرن التاسع عشر” عبر طريق سلمي. ويبرز دور البرلمان هنا بكونه يمثل مؤسسة احتوت في بنيتها توزيع الثقل الجديد لكافة العناصر الاجتماعية الجديدة ومصالحها، حيث بدت وكأنها “محكمة” لتسوية النزاعات، وقد ترافق صعود البرلمان بالتوازي مع انحسار طبقة الفلاحين، التي تم تصفيتها بشكل منظم.
كان لهذا بحسب “مور” دوره الفاصل في عملية التحول الديمقراطي، والسبب هو أنه بالقضاء على طبقة الفلاحين فإن التحديث كان يتطور من دون معوقات القوى المحافظة، ويضمن عدم قيام ثورات للفلاحين “على غرار النموذج الروسي والصيني”.
في الفصل الثاني المعون بـ“التطور والثورة في فرنسا” يقارن “مور” بين طبقة الأعيان الإنكليزية وطبقة النبلاء الفرنسيين، والمصائر المختلفة التي أسست للاختلاف بين أدوار الطبقتين في الثورات، وبالتالي، التأثير في شكل الديمقراطية التي ظهرت فيما بعد.
منذ القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، بدأت تظهر طبقة البرجوازية في المدن وعملها في الذهب والفضة ودورهما في تحديد أسعار السوق للمنتجات، وهو ما أثر على طبقة النبلاء مالكي الأراضي الزراعية، وسط خطة بدأت من لويس الرابع عشر لتقليص حجم تلك الطبقة إقطاعيًا وبيروقراطيًا.
يرى “مور” أن الطبقة البرجوازية لم تستطع تقويض النمط الإقطاعي، ولم تكن قائدة حركة تحديث الريف نحو عالم الرأسمالي، بل كانت تعتمد على البلاط الملكي وموجهة نحو إنتاج السلاح والكماليات.
لم ينجح المجتمع الفرنسي في إيجاد برلمان يضم ملاك الأراضي وبرجوازيي المدن، فقد حرم نمو الملكية الفرنسية طبقات ملاك الأراضي العليا من المسؤولية السياسية، وحوّل جزءًا كبيرًا من قوة الدفع البرجوازية لمصلحتها.
في مرحلة لاحقة، شكلت الترتيبات الإقطاعية المتحدة مع ترتيبات الاستبداد الملكي الآليات السياسية، التي استخرجت بها الطبقة الأرستقراطية الفرنسية المالكة للأراضي الفائض الاقتصادي من الفلاحين. كانت تلك الآلية السياسية حاسمة، ولذلك كشف الفلاحون في زمن الثورة عن فطرة سياسية سليمة، حين سعوا لسحق تلك المعدات والأدوات ما ساعد على سحق النظام القديم.
كانت طبقة الفلاحين هي الفيصل في الثورة الفرنسية، وفي الانتفاضات ضد انحراف مسار الثورة في سنوات لاحقة، ولم تزل عملية عدم المساواة في توزيع مصادر الثروة والاستبعاد الذي عانته تلك الطبقة من فوائد التحديث الصناعي والتجاري للريف، تلعب دورها في الراديكالية المتزايدة عند كل انتفاضة اتسمت بالعنف خلال السنوات اللاحقة القصيرة للثورة الفرنسية الكبرى.
لم تنتهِ الثورة الفرنسية عند عام 1791، بل ناضل الفلاحون على مراحل لتحصيل حقوقهم وإلغاء الامتيازات الخاصة لطبقة ملاك الأراضي من النبلاء، وظهرت عدة احتجاجات أشهرها تلك التي كانت ردة فعل ضد تصدير الحبوب إلى الخارج، وقد امتازت تلك الانتفاضات بالراديكالية المدعومة من أجنحة سياسية زخرت بها فرنسا ما قبل الثورة وما بعدها.
امتاز المجتمع الفرنسي بتنوعه الهائل، وهو ما جعل لطبقة الفلاحين، مثلًا، أو فقراء المدن أشكالًا متعددة، ما خلق اتجاهات اجتماعية متباينة، ما أثر في مشاركتها في بعض الانتفاضات في منطقة أو قطاع محدد أو عدم مشاركتها فيها، ولهذا يرى “مور” أن القضاء العنيف على النظام القديم كان خطوة ضرورية من أجل فرنسا في طريقها الطويل نحو الديمقراطية.
كانت العقبات التي واجهتها الديمقراطية مختلفة، فالمجتمع الفرنسي لم يولّد برلمانا من ملاك الأراضي مع بعض الأعضاء من البرجوازيين على الطريقة الإنكليزية، وكانت الطبقات العليا عدوًّا للديمقراطية الليبرالية. ومع ذلك لا يرى “مور” أن الثورة كانت هي الطريق الوحيد نحو الديمقراطية في فرنسا، بل كان يمكن سلك دروب أخرى، فحتمية الثورة الفرنسية بعينها كلام غير دقيق، وإنما كانت الأكثر حسما بين الخيارات التي يمكن أن تكون واردة وقتذاك.
وفي ظل ظروف الاستبداد الملكي، تكيفت الطبقات العليا مالكة الأراضي مع التغلغل التدريجي للرأسمالية من خلال زيادة الضغط على الفلاحين. وحتى منتصف القرن الثامن عشر كان تحديث المجتمع الفرنسي يتم عن طريق التاج، وكجزء من هذه المعادلة تولد اندماج بين طبقة النبلاء والطبقة البرجوازية من خلال المَلكية وليس معارضا لها، وهو ما أدى إلى إضفاء الصبغة الإقطاعية على قطاع كبير من الطبقة البرجوازية، بدلًا من أن يحدث العكس. ولهذا؛ ففي لحظة الثورة وما بعدها، كان الظهور الكبير للحركات الراديكالية الفلاحية مع راديكاليّي فقراء المدن خصوصًا في القضاء على النظام الإقطاعي، مستفيدة -الطبقة البرجوازية- من بعض صلاتها ومشروعها الاقتصادي في تحصيل مكاسب سياسية في مرحلة لاحقة.
في الفصل الثالث: “الحرب الأهلية الأميركية: آخر الثورات الرأسمالية” يرى “مور” أن حداثة أميركا كدولة بحكم تأسيسها المتأخر، أعطاها جملة من الميزات عن الدول الأوروبية والآسيوية “المغرقة في القدم كتشكيل سياسي وطبقي”. ففي طريقها نحو الرأسمالية، لم يكن في أميركا مواجهة مع “طبقة الفلاحين” على غرار أوروبا وآسيا، وبالتالي؛ فلم تجر عملية “تفكيك” لمجتمع زراعي، إقطاعيًّا كان أم بيروقراطيًّا، إذ كانت الزراعة في طبعتها الأميركية زراعة تجارية.
لكن التاريخ الأميركي شهد معركتين كبيرتين ساهمتا في تحول الولايات المتحدة إلى الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية. المعركة الأولى هي الثورة الأميركية ضد بريطانيا، والثانية هي الحرب الأهلية الأميركية.
وتُعَدّ الحرب الأهلية “سياسيًّا واقتصاديًّا” نقطة التحول بين مرحلتين اقتصاديتين “زراعية وصناعية”، إذ كرس انتصار الشمال انتصارًا للاقتصاد والفكر الصناعي على اقتصاد الجنوب الزراعي وفكره، لكن الذي جرى بعد ذلك هو توحيد دستور أميركا بموافقة الولايات جميعها، بعد عملية مصالحة طويلة.
يطرح “مور” سؤالا محرجا للتاريخ الأميركي وهو: ألم يكن من الممكن تجنب تلك الحرب الأهلية، وقتذاك، ما دامت العقلانية هي التي قادت إلى شكل الديمقراطية الحالي فيها؟ ويرى “مور” أنه خلال منتصف القرن التاسع عشر “قبل الحرب الأهلية” تشكلت ثلاثة أشكال مختلفة في المجتمع: الجنوب الذي يزرع القطن، والغرب أرض المزارعين الأحرار، والشمال الذي يتحول نحو التصنيع.
اقتصاديًّا؛ كان هناك تكامل بين تلك الأشكال الإنتاجية، فزراعة القطن في الجنوب بالأيدي العاملة من العبيد كانت رمانة الميزان بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي واقتصاد العالم كذلك، وعجلة ضرورية لتنامي حجم الرأسمالية الصناعية في الشمال.
فلماذا نشأت الحرب الأهلية إذًا؟. يرى مور أن تخوف الشمال من اختلاف النظام الاجتماعي والسياسي مع الجنوب في طريق التحول نحو الرأسمالية، هو الذي فرض شكل المواجهات المسلحة الشهيرة بينهما.
أشعلت ولايات الغرب “المفتوحة حديثا” الحرب بين الشمال والجنوب، ولقد تخوف الشمال من تكريس العبودية كنظام مستمر مما قد يقلب الموازيين بين ولايات العبيد “الجنوب” وولايات الأحرار “الشمال”. بحلول عام 1820 كانت المشكلة قد احتدمت، وفشلت جميع التسويات الممكنة بين الشمال والجنوب، إلى أن أتى عام 1857 وهو العام الذي شهد انهيارًا اقتصاديًّا هبطت فيه أسعار القطن بشكل غير متوقع، مع ارتفاع أسعار العبيد بسبب كثرة الطلب عليهم وقلّتهم، “فلم يكن في الإمكان استيراد العبيد بشكل قانوني كما في السابق” وهذا ما سبب غضب الجنوب.
يلفت “مور” أيضًا إلى نقطة مهمة في مسببات ذلك الصراع؛ فالجنوب كان بلا طبقة برجوازية حقيقية على الرغم من أن مالك المزرعة فيها رأسماليّ، لكنه يختلف عن رأسمالي في الشمال. لم تكن الحضارة التي نشأت في الجنوب حضارة برجوازية ولم تقم على حياة المدينة، على غرار ما حصل في أوروبا من تحدٍّ للطبقة الأرستقراطية في موضوع ارتباط مكانة الفرد بنسبه. هكذا بقيت مناطق الجنوب تستلهم نمط الفكر الأرستقراطي ناظرة إلى أفكار الثورتين الأميركية والفرنسية على أنها هدامة.
يبدو الخلاف هنا حضاريًّا رؤيةً وفلسفةً، وهو ما يراه “مور” حالة فريدة بوجود نظامين اقتصاديين في مكان جغرافي واحد ينتميان إلى دولة واحدة، ويختلفان في الأسس الفكرية المؤسسة لهما، مع وجود حكومة مركزية لها سلطتها في المنطقتين!
ما الذي حدث إذًأ؟ يتوصل “مور” إلى نتيجة مفادها التالي:
لم تسبّب المنافسة بين الاقتصادين الشمالي والجنوبي الحرب الأهلية، فقد كانا متكاملين في أحسن الأحوال، ولم يرتبطا ببعضهما بعضًا في أسوأ الحالات. فلم يشكل “في رأي مور” مجتمع الجنوب بنظامه الاقتصادي القائم على العبودية أي خطر على النمو الرأسمالي في الشمال، لكن من الواضح أن المجتمع الجنوبي كان يشكل عقبة ضخمة في سبيل الديمقراطية. فكل تصور للديمقراطية يتضمن مبادئ المساواة بين البشر والحرية. كان مجتمع الجنوب يرى نفسه وريثًا للثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر، ووريثًا للثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، ووريثًا للثورة الأميركية في القرن الثامن عشر. ويبدو أن انتصار الشمال في الحرب الأهلية -على الرغم من جميع نتائجه الغامضة- انتصارٌ سياسيٌّ للحريّة، إذا قارنّاه بما كان يمكن أن يحدث لو انتصر الجنوب في الحرب. فلو انتصر الجنوب لكان نظام الرق قد ترسخ في الولايات الغربية المفتوحة حديثًا، والتي أحاطت بالشمال الشرقي، وقتئذٍ سيكون اقتصاد الولايات المتحدة مثل اقتصاد روسيا قبل الثورة البلشفية (اقتصاد الأملاك الشاسعة، والأرستقراطية المناهضة للديمقراطية، وطبقة تجارية وصناعية ضعيفة وتابعة وعاجزة، وغير قادرة على الاندفاع نحو الديمقراطية السياسية وغير راغبة في ذلك).
يتوقف “مور” عند تناول التجارب الثلاث تلك، لينتقل في عمله المقارن هذا إلى التجربة الآسيوية وتحديدًا في الصين واليابان والهند، وخصوصية كل تجربة استنادًا إلى الوزن الذي كانت تحمله الطبقات في كل مجتمع على حدة.
في الباب الثاني: ثلاثة سبل إلى العالم الحديث في آسيا، يحاول مور دحض فكرة أن طريق الوصول إلى المجتمع الصناعي هو حتمًا يمرّ عبر الرأسمالية والديمقراطية السياسية، ليصل إلى فرضيته بأن التحديث غير الديمقراطي بل والمعادي للديمقراطية يحقق نجاحًا أيضًا.
الفصل الرابع: والمعنون بـ “انهيار الصين الإمبريالية وأصول المتغير الشيوعي”، يطرح “مور” أسئلة عن السمات الحاسمة للمجتمع الصيني خلال عصر أسرة مانشو (1644-191)، وكيف حددت هذه الملامح الهيكلية اتجاه التطور اللاحق في الصين، الذي بلغ ذروته في منتصف القرن العشرين بالانتصار الشيوعي.
ما سمات الطبقة العليا الصينية المالكة للأراضي التي تساعد على تبرير غياب أي دافع قوي في اتجاه الديمقراطية البرلمانية عندما انهار النظام الإمبريالي؟
كانت الصلة بين المنصب والثروة من خلال النسب أحد أهم ملامح المجتمع الصيني، وكانت الطبقة العليا من الموظفين العلماء وملاك الأراضي هم طبقة الأعيان.
كيف نجح مالك الأرض في جعل الفلاحين يعملون من أجله في غياب الإجبار الإقطاعي؟ كان ذلك عن طريق ترتيبات التأجير التي لا تختلف في أي شكل أساسي عن تلك القائمة في ظل الرأسمالية الحديثة. كان التأجير شكلًا من أشكال المشاركة التي يملكها العمل بأجر. كان مالك الأرض يقدّم الأرض بينما يقدّم الفلاحون العمل، وكان المحصول يقسم بين الاثنين. وفي ظل هذه الترتيبات كان لملاك الأراضي مصلحة محددة في الزيادة السكانية؛ فزيادة عدد الفلاحين يرفع قيمة الإيجارات التي يحصل عليها مالك الأرض.
كان ضغط السكان يخدم مصالح مالك الأرض وحده، ما دامت هناك حكومة قوية تحفظ النظام، وتضمن حقوق ملكيته وتؤمن تحصيل إيجاراته، وكان ذلك عمل البيروقراطية الإمبراطورية، لذلك كان للزيادة السكانية مسببات اقتصادية وسياسية محددة.
لم تخلق الصين الإمبراطورية طبقة تجارية وصناعية حضرية، كما حدث في مراحل الإقطاع الأخيرة في أوروبا الغربية. ويرى مور أن أنشطة تحقيق الثروة كانت تشكل تهديدًا لطبقة الموظفين العلماء؛ لأنها كانت تمثل سلّمًا بديلًا للمكانة، وأرضا بديلة لمشروعية المكانة الاجتماعية الرفيعة. منع النظام الإمبراطوري أي محاولة لتقسيم طبقي وسياسي جديد. وكان لا بد من محاولات حثيثة لكسر النظام الإمبراطوري، وتشكيل طبقات جديدة تتوافق مع العصر الحديث، الذي دخلته الصين بطبقة وسطى صغيرة العدد، وتابعة من الناحية السياسية. فلم تضع هذه الطبقة أيديولوجيا مستقلة خاصة بها كما في الغرب الأوروبي. ومع ذلك، فقد قامت بدور مهمّ في تقويض الدولة البيروقراطية، وإنشاء تجمعات سياسية جديدة في محاولة الاستبدال بها.
لم تشكّل الطبقات العليا المالكة للأراضي في الصين أيً معارضة مهمة للنظام الإمبراطوري على الرغم من وجود بعض من اعتنقوا بعض الأفكار الليبرالية الغربية.
وهو ما قلّل من مرونة رد الصين على التحدي التاريخي الجديد، الذي تمثل في انحلال كامل للحكومة المركزية، فقد تحطم النظام الحاكم الذي استمر في كثير من ملامحه الرئيسة لقرون، خلال نحو مئة عام تحت تأثير الضربات الغربية.
مع نهاية حكم أسرة مانشو 1911، وإعلان الجمهورية 1912، انتقلت السلطة إلى أيدي ولاة المقاطعات المحليين، وخلال فترة عقد ونصف تشبثت قطاعات من طبقة الأعيان بالسلطة، إما بالتحول إلى أمراء حرب أو بالتحالف مع أصحاب النزعة العسكرية، فقد تحطم الجهاز الاجتماعي والثقافي الذي كان يعطيهم المشروعية على نحو لا يُرجى معه الإصلاح، وكان لا بد أن يكون خلفاؤهم ملاك الأراضي وحدهم، أو رجال العصابات، أو توليفة من الجماعتين.
مع عشرينيات القرن العشرين (فترة الكومنتانج)، كانت المصالح التجارية والصناعية قد أصبحت عاملًا مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية الصينية، وإن كان اعتمادها المستمر على كل من الأجانب وتبعيتها للمصالح الزراعية، قد أجبراها على القيام بدور مختلف عن نظيرتها الغربية. كان قطاع صغير من ملاك الأراضي بالقرب من المدن الساحلية قد بدأ في الاندماج مع هذه الطبقة، وتحول أفراده إلى مؤجّرين، وقد ظهر العمال الحضريون بطريقة عاصفة وعنيفة.[1]
عجز الكومنتانج عن تحقيق إصلاحات جادة في العلاقات الزراعية، ولم تغير الإصلاحات التي قام بها في سيطرة النخب على الحياة المحلية؛ فالسلطة السياسية في الريف بقيت في أيدي طبقة الأعيان السابقة.
لا يعير “مور” الحصار الياباني والاحتلال فيما بعد دوره في تحقيق تقدم في عهد الكومنتانج، فيرى فشل المصالح التجارية والصناعية في إحراز تقدم كبير يعود إلى المعارضة الزراعية المستمرة، لتحويل الصين إلى قوة صناعية.
كل ذلك أدى إلى وجود صبغة تمردية عند الفلاح الصيني، دعمها “في تصوّر مور” سياسة الاحتلال الياباني التي صبت في مصلحة الحزب الشيوعي الصيني.
فحتى عام 1926 لم يبدِ الحزب الشيوعي اهتمامًا لاستخدام الفلاحين كقاعدة للحركة الثورية، بل كان يعتمد على انتفاضات البروليتاريا في المدن ما أدّى إلى عواقب دموية مفجعة.
كان لابد من التخلي عن التشدد الماركسي وتبني إستراتيجية “ماو” الخاصة بالاعتماد على الفلاحين. وكان المكوّن الحاسم هو الغزو الياباني وسياسته وقتَ الاحتلال.
ردًّا على الاحتلال الياباني، انتقل مسؤولو الكومنتانج وملاك الأراضي من الريف إلى المدن، ما سمح الفلاحين بأن يفعلوا ما يحلو لهم. وأدّت عمليات تطهير جيوب المقاومة والإبادة المتكررة التي قام بها الجيش الياباني إلى الجمع بين الفلاحين في كتلة من التضامن. وبذلك أدى اليابانيون مهمّتين ثوريتين أساسيتين للشيوعيين؛ القضاء على النخب القديمة، والتضامن بين المضطهدين.
على مستوى النظام الاقتصادي في فترة الشيوعية وتثبيت أركانها في مقاطعات الصين الواسعة، استطاع النظام الشيوعي صوغ علاقة جديدة بين القرية والحكومة القومية، فقد بات من الواضح لكل فلاح أن حياته اليومية تعتمد على السلطة السياسية القومية، وبناء على تلك الصلة استخرج الشيوعيون من القرية أكثر مما كان مالك الأرض والمؤجر والكومنتانج يأخذانه من قبل. كان الفلاحون، بحسب مور، بمنزلة الديناميت الذي فجر النظام القديم، ووفر القوة المحركة الأساسية، التي كانت وراء انتصار حزب عقد العزم على أن يحقق، من خلال الرعب الشديد، مرحلة يفترض أنها حتمية من التاريخ، لا وجود فيها لطبقة الفلاحين.
في الفصل الخامس: “الفاشية الآسيوية: اليابان” يحفر “مور” في الطرق الخلفية التي أدت إلى تحول اليابان إلى الرأسمالية، وهو ما يسمّيه التحول من “الأعلى إلى الأسفل”.
لقد كان وضع اليابان والصين وروسيا متشابهًا، ففي القرن السابع عشر وصلت إلى سلطة هذه البلدان حكومات قوية أنهت تاريخًا طويلًا من الاقتتال والحروب الداخلية. لكن نزوع اليابان إلى التحديث كان مغايرًا، فتشكلت قوةً صناعيةً كبرى في بدايات القرن العشرين، ولم تشهد ثورة فلاحية كما في الصين وروسيا.
مع انتصار “توكوجاوا أياسو” في معركة “سيكيجهارا” 1600 عمت فترة من السلم الداخلي، وعُرف هذا النظام من الحكم في جوانبه السياسية والرسمية باسم “شوجن توكوجاوا” واستمر حتى عودة الإمبراطور عام 1868. وكانت الفكرة الأساسية للشوجن هي المحافظة على النظام والسلم، وكان المجتمع منقسمًا إلى حكام ومحكومين، هم في أغلبيتهم من الفلاحين الذين كانت طبقات المحاربين الحاكمة تعدهم في الأساس أداة لفلاحة الأرض، وإنتاج الضرائب لمنفعتها. عانى الفلاحون من الغبن في توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية أيضا، وكان التخوف من تغيّر بنية النظام بظهور طبقات جديدة تعيد توزيع المصالح من جديد، وقد ظهرت تلك الطبقة “التجار”.
كان التقسيم الطبقي “اقتصاديًّا وسياسيًّا” في فترة الشوجن كالتالي: الإمبراطور كاسم رمزي وحجة للشوجن لفرض السيطرة، ثم أسرة توكوجاوا، ويملكون ما بين ربع الأراضي وخمسها، ثم جماعة صغيرة “السادة العظام/الدايمبو” ولها مزارع شاسعة تنتج الأرز، ثم الساموراي/المحاربون الذين كان بينهم تفاوت كبير في السلطة والثروة، وقد قدر عددهم بنحو مليونين وكانوا أتباعًا عسكريين للدايمبو يتلقون منها راتبًا سنويًّا من الأرز. وهذه خطوة سياسية جعلت الساموراي بعيدين عن قواعد السلطة المستقلة في الريف يأتمرون بالعائلة المسيطرة والدايمبو، وجرى حرمانهم بشكل منظم من أي دور في مجتمع اليابان فترة حكم الشوجن، وانهار وضعهم الاقتصادي فكانوا سببًا رئيسًا لإطاحة حكم الشوجن.
لم يستطع نظام الشوجن المحافظة على التقسيم الطبقي الذي كرسه، فقد بدأت الصراعات مع ظهور بعض القوى الاجتماعية. يرى “مور” وجود عاملين تسببا في نهاية نظام الشوجن هما “الترف والسلم”؛ فمع زيادة ترف طبقة الدايمبو، ازدادت أشكال البذخ والإنفاق، ما أضعفها وحفّز طبقات تجار المدن “تشونين” على الظهور كشريك اقتصادي؛ فقد اضطر الدايمبور إلى شحن منتجات مزارعهم إلى السوق بوساطة خدمات التجار، وبذلك أصبحوا يعتمدون على التجار في تسويق سلعهم في المدن، ومن جهة أخرى فقد اعتمد التجار على الدايمبو لتوفير الحماية السياسية. من جانب آخر، وبسبب الإنفاق الجديد للدايمبو؛ فقد انخفضت رواتب الساموراي التابعين لهم، في وقت بدأت مكانتهم المجتمعية تنحسر؛ إذ جرى تبديل واضح في تقسيم طبقي جديد يعتمد على رأس المال والثروة في إحراز المكانة الاجتماعية. هذا مع التنويه إلى أن الساموراي كان ممنوعا من ممارسة من ممارسة أي نشاط تجاري.
هذه الأسباب “في رأي مور” أجبرت الساموراي على الانخراط في أعمال العنف، مع رفضهم بناء موانئ جديدة رغبة من “التشونين” ما يعني ازدياد حضور الغرب في اليابان. وفي معادلة شائكة، حدث اضطراب في أواخر حكم “الشوجن” وبرزت طبقة “تشونين” كقوة تفوقت على قوة الأرستقراطية اليابانية “الدايمبو وجناحها القتالي الساموراي”. وأصبحت عائلات الساموراي الفقيرة تبيع التجار مرتبتها السياسية، وبذلك نشأت طبقتين من مجموع الطبقات السابقة: طبقة تجار محاربين، وطبقة دايمبو وساموراي تجار، ما مهد لسقوط الحامل الطبقي الذي يقوم عليه نظام حكم الشوجن.
ترافق ذلك مع استغلال أنصار الإمبراطور “ميجي” للأوضاع، فتم تحريض الفلاحين للقيام بالتمرد. وكان الفلاحون في هذه المرحلة قد أُفقروا بشكل منظم، نتيجة الضرائب الباهظة التي فرضت عليهم، ولوقوعهم نهبًا لتقلبات السوق، ما أفقدهم كثيرًا من حيازاتهم الزراعية لصالح المرابين، وبعد سلسلة من التمرد الفلاحي عاد الإمبراطور ليكون هو السلطة المركزية، ويبدأ عصر “الميجي/الإصلاح” وقصة اليابان الرأسمالية.
في عصر “ميجي” (1868-1912) بدأت خطوات اليابان نحو المجتمع الصناعي، لكن من دون تغييرات كبيرة في قضايا الضرائب، وتحمّل طبقة الفلاحين أعباء متزايدة، حاولت الحكومة المحافظة التخفيف منها.
أسس عصر ميجي بنية مؤسسية يابانية بامتياز، فقد تم إقرار التجنيد الإجباري، وأقيم نظام تعليم إلزامي 1890، ومع بداية القرن العشرين شهدت اليابان دخول جميع من هم في سن التعليم إلى المدارس، في وقت تلقوا فيه التعليم والروح القومية، في مسعى طَموح لبناء دولة قوية تتخلص من محاولات سيطرة الغرب.
شهدت هذه المرحلة تعايشًا بين الإقطاعية والرأسمالية لخلق دولة قوية. وتم استيعاب طبقة الساموراي في حركة التصنيع الجديدة، بمنحهم القروض لاستصلاح الأراضي وممارسة بعض الأعمال التجارية، من دون أن تصيب حكومة ميجي فيها نجاحا كبيرا، فقد فشلت بالعموم في نشاطاتها الزراعية والتجارية، واكتفت بأن تكون ذات حيازات زراعية محدودة.
استطاعت قوانين ميجي إزالة حاجز الإقطاعية التي تحول دون تطوير التجارة الزراعية، فحققت اليابان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى تكيفًا ًفريدا مع متطلبات المجتمع الصناعي الحديث. لكنها من ناحية أخرى لم تستطع تغيير بنية تمركز الطبقات الاجتماعية، فلم يتحول مُلّاك الأراضي إلى رأسماليين زراعيين، بل بقيت طبقة “طفيلية” اتضحت ملامحُها بسيطرتها على المشهد الريفي بُعيد عام 1915.
يمكن تقسيم التاريخ السياسي لليابان الحديثة منذ عودة الملكية إلى ثلاث مراحل: تنتهي الأولى بفشل الليبرالية الزراعية في تبني دستور شكلي وبعض مظاهر الديمقراطية البرلمانية 1889، وتنتهي المرحلة الثانية بفشل القوى الديمقراطية في اقتحام الحواجز التي أقامها ذلك النظام، وهي النتيجة التي وضحت مع بداية الكساد الكبير في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، واستهل فشل الثلاثينيات المرحلة الثالثة من اقتصاد الحرب والنسخة اليابانية من النظام الشمولي اليميني.
انتهى عصر ميجي بصعود حركة “ليبرالية” من ردّة الفعل الإقطاعي والشوفيني للساموراي، وقد سميت “ليبرالية” تجاوزًا لأنها طالبت بالمشاركة العامة في السياسة “المناقشة والتصويت”. وكانت المشكلة في عصر ميجي هي مشكلة توافق الطبقات العليا في المناطق الريفية مع النظام الجديد.
عقب الحرب العالمية الأولى، تغير توازن القوى في المجتمع الياباني ضد مصلحة النخبة الريفية، وكانت العشرينيات ذروة الديمقراطية اليابانية وتأثير الأعمال التجارية على السياسة فيها، وبعد وفاة الجنرال ياماجاتا 1922 انتقلت السلطة تدريجيًّا من العسكريين إلى أيدي الطبقات التجارية.
لكن فترة الكساد الاقتصادي غيّرت ملامح التجربة الرأسمالية اليابانية، التي لم توزع فوائدها على نحو يحقق مصلحة شعبية في المحافظة على الديمقراطية اليابانية. لقد ساهم نشوء الرأسمالية اليابانية في ظروف مختلفة في عدم حملها للأفكار الديمقراطية على غرار أوروبا القرن التاسع عشر.
عام 1928 منح حق الاقتراع للذكور، في وقت كانت أغلبية الأصوات يتحكم بها ملاك الأراضي الريفيين. وشهدت المرحلة حتى 1940 تاريخ تثبيت الفاشية “بحسب مور” موجة من الانقلابات والاغتيالات وحظر الأحزاب واستصدار قوانين تعسفية، ما أفسح المجال لما يسميه بالفاشية اليابانية، وهي مرحلة أثرت فيها مؤسسات صناعية رأسمالية كبيرة مثل ميتسوبيشي.
كان اشتغال “مور” هنا على المقارنة بين التجربة اليابانية بخصوصيتها والتجربة الألمانية على المستوى السياسي، والتجربة الإنكليزية على المستوى الاقتصادي، والتجربة الفرنسية على مستوى علاقة الطبقات بالثورات على نظام الحكم.
في الفصل السادس: “الديمقراطية في آسيا: الهند وثمن التغيير السلمي”، يرى “مور” أن الهند حالة خاصة، إذ لم تشهد ثورة رأسمالية من أعلى أو من أسفل تؤدي الى الفاشية، أو ثورة فلاحين تؤدي الى الشيوعية؛ بسبب “درجة البؤس الريفي في الهند”، على عكس الحال في الصين، حيث كان التمرد والثورة حاسمَين في العصرَين: ما قبل الحديث والحديث.
تنتمي الهند، كنوع سياسي، إلى العالم الحديث؛ فعند وفاة نهرو 1964 كانت الديمقراطية موجودة منذ 17 عاما، ومع أن الديمقراطية لم تتصف بالكمال إلا أنها لم تكن نتيجة افتعال، فقد كان هناك نظام برلماني معمول به منذ الاستقلال 1947، ونظام قضائي مستقل وحريات ليبرالية (انتخابات عامة حرة وسيطرة مدنية على الجيش ورئيس للدولة).
لماذا لم يؤدّ دخول الهند في العالم الجديد إلى انتفاضات سياسية واقتصادية؟
أقام المسلمون فترة فتح الهند بيروقراطية زراعية أو نسخة آسيوية من الحكم الملكي المطلق، وهو نظام سياسي لا يتلاءم مع الديمقراطية السياسية ونمو الطبقة التجارية، ولم تكن بين الفلاحين أي قوى نشيطة تؤدي إلى انفصال اقتصادي أو سياسي عن المجتمع السائد، في ظل فلاحة بدائية تعتمد على نظام الالتزام (الضرائب) من جهة، ونظام فلاحي يعتمد على النظام الطائفي من جهة أخرى.[2]
وبمنح الطائفة إطارًا للنشاط الاجتماعي كله، فقد باتت الحكومة المركزية زائدة عن الحاجة، ومن ثم كان اتخاذ المعارضة الفلاحية شكل التمرّدات الضخمة أقل ترجيحا. وكان في الإمكان استيعاب التجديد والمعارضة من دون تغيير بوساطة تشكيل طوائف وطوائف فرعية جديدة.
انهار النظام المغولي بسبب ديناميكية الاستغلال المتزايد الذي أفرزه نظام الالتزام، وأعطى بذلك الفرصة للأوروبيين كي يؤسّسوا موطئ قدم إقليميًّا خلال القرن الثامن عشر. وفي طريق التحديث قبل الغزو البريطاني كانت هناك عوائق في بنية المجتمع الهندي، أضيفت إليها عوائق أخرى نتيجة هذا الغزو.
حال الوجود البريطاني من دون تكوين تحالف رجعي للنخبة المالكة للأراضي مع البرجوازية الضعيفة، وكان ذلك إسهاما مهمّا في اتجاه الديمقراطية السياسية، إضافة إلى التأثير الثقافي البريطاني. كانت السلطات البريطانية تعتمد على الطبقات العليا مالكة الأرض، وكانت الطبقة البرجوازية المحلية، ولاسيما أصحاب المصانع، تشعر أن السياسات البريطانية، وخصوصا تلك المتعلقة بحرية التجارة، تحد من حركتها. وعندما نمت الحركة الوطنية وبحثت لها عن أساس جماهيري، كان “غاندي” بمنزلة حلقة بين البرجوازية القوية وطبقة الفلاحين؛ من خلال مبدأ اللا عنف والوصاية، وتمجيد مجتمع القرية الهندي؛ ولهذا السبب لم تتخذ الحركة القومية شكلًا ثوريًّا، مع أن العصيان المدني أجبر الإمبراطورية البريطانية -التي أصابها الوهن- على الانسحاب. وبنتيجة تلك القوى كانت الديمقراطية السياسية، ولكنها ديمقراطية لم تكن ذات دور كبير في تحديث بنية الهند الاجتماعية.
حين تم طرد البريطانيين عام 1947، أحكمت حلقة مفرغة إغلاق نفسها في المجتمع الهندي، فلم يكن هناك إلّا دافع صغير جدًّا نحو التصنيع، إذ لم يكن يجري استغلال الموارد وتجميعها من أجل بناء المصنع. وكانت الزراعة راكدة وغير كافية؛ لأن المدينة لم تكن تذهب إلى الريف لتحفيز الإنتاجية أو تغيير المجتمع الريفي؛ ولهذا السبب نفسه لم يكن الريف يولد الموارد التي يمكن استخدامها للنمو الصناعي، بل إن مالك الأرض والمرابي كانا يحصدان أي فائض لأغراض غير إنتاجية في الأساس.
استمدت تنمية المجتمع بداية من 1952 مكوناتها من ثلاثة عناصر: إيمان غاندي بالنسخة المثالية من القرية الهندية بوصفه أنسب مجتمع للإنسان المتدين، والتجربة الأميركية مع خدمة التوسع الزراعي، و تأثيرات النظام الأبوي البريطاني وخصوصًا حركة الارتقاء بالقرية.
أنتج ذلك الأصل الغريب فكرتين أساسيتين تشكلان المبادئ الأساسية لبرنامج تنمية المجتمع، وهما أن فلاحي الهند سوف يرغبون في التقدم الاقتصادي والمحافظة عليه، وضرورة حدوث تغيير على نحو ديمقراطي.
بعد مناقشته تلك التجارب، يفرد مور في الفصل السابع تصوراته حول السبيل الديمقراطي إلى المجتمع الحديث ضمن الباب الثالث المعنون بـ: دلالات وتصورات نظرية.
يؤسس مور في قراءته للتجارب السابقة السبل الثلاثة الموصلة إلى العالم الحديث: السبيل الأول يجمع بين الرأسمالية والديمقراطية البرلمانية (الثورة البرجوازية) أميركا وبريطانيا وفرنسا، والسبيل الثاني رأسماليٌّ أيضًا، ولكن في غياب الموجة الثورية القوية، إذ مرّ هذا السبيل من خلال أشكال سياسية رجعية ليبلغ ذروته بالفاشية (ألمانيا واليابان)، والسبيل الثالث هو الشيوعي (روسيا والصين). أما الهند فبقيت على تخوم تلك السبل الثلاثة.
سعى “مور” واجتهد خلال صفحات كتابه في قراءته للثورات، إلى محاولة وضع تصور نظري تحليلي، مغاير بشكل جلي للقراءة الماركسية، ومنح طبقتي الفلاحين وملاك الأراضي دورهما في الانتقالات الكبرى، في أنظمة الحكم في المجتمعات المختلفة. واضعا في الوقت ذاته معايير غربية، يقيس بناء عليها مدى اقتراب أو ابتعاد تجارب الدول الأخرى عنها، على الرغم من أن دراسته تقوم على المنهج المقارن بين التجارب، وهو في تصورنا لا يستقيم مع خصوصية بنية المجتمعات الآسيوية، مثلًا، بشكل عام، وحتى خصوصية تلك البلدان بين بعضها بعضًا. زد على ذلك؛ فإن الحديث عن أقاليم الصين والهند، مثلًا، يستدعي البحث في الخصوصيات المحلية، والاختلافات بينها، ومدى نجاح تجارب الديمقراطية فيها.
وعلى الرغم من جهد مور المستمر في توضيح ذلك؛ فإن الإحالة الدائمة على فشل التحليل الماركسي في قراءة بعض جوانب حركة تاريخ المجتمعات والصراعات الطبقية وشكل السلطة السياسية، يجعلنا نعتقد بانتماء هذه الدراسة إلى روح البحث والنقد الأميركيّين، في محاولات كليهما تقديم إطار تفسيريّ قابل للحياة، كنقيض مشروع للتصور الماركسي.
قلب “مور” كل المفاهيم والمصطلحات التي اعتادها تفسير تاريخ المجتمعات والصراعات الطبقية، بطريقة تجعلنا نعيد النظر مطولًا في مشروعية التحليل هنا، وهو جهد يلقي الضوء بشكل كبير على تعدد القراءات والتحليلات، وهو ما يؤيده بالضرورة كل فكر وتحليل منفتح يحاول الخروج من أيديولوجيا “نطاق التفسير المحدود” حتى ولو كانت تقف وراء هذه المحاولة منافع ومحركات أيديولوجية.
[1] فاز (الكومنتانج) أواخر 1927 بمساعدة شيوعية بالسيطرة على جزء ضخم من الصين منطلقا من الجنوب، معتمدا على قيادة موجات السخط بين الفلاحين والعمال، لذلك كان برنامج الكومنتانج الاجتماعي يختلف عن أمراء الحرب حيث تغلب عليه ووحد الصين بناء على البرنامج الثوري.
[2] كان هناك أربع طوائف أساسية: 1- البراهما: وهم طبقة سدنة المعابد والرهبان، 2- الكشتريا: وهم طبقة الحكام والقادة العسكريين، 3- الفايش: وهم طبقة التجار والصناع والزراع، 4- الشودرا: المنبوذون وهم الطبقة الدنيئة ويُحدّد دورهم بحسب التعاليم.