وحدة مراجعات الكتب
مراجعة: عبد الباسط الغابري
أكاديمي وباحث تونسي في مركز الدراسات الإسلامية في القيروان. دكتوراه في اللغة العربية وآدابها. رئيس تحرير مجلّة دراسات إسلامية معاصرة؛ له عدد من الكتب والمؤلفات في دور النشر التونسية.
الكتاب: الأزمة الأيديولوجية العربية وفاعليتها في مآزق الانتقال الديمقراطي ومآلاتها
تأليف: سهيل الحبيّب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مكان النشر: بيروت/ لبنان.
تاريخ النشر: 2017
المحتويات
قصور النموذج التحليلي المؤسّسي
مفارقات الوفاقية العربية الديمقراطية وجناية الفاعلين السياسيين
شروط أفول الأيديولوجيا العربية الراهنة وصوغ متخيّلات جديدة
لئن كثرت الكتابات المهتمّة بالبحث في المسألة الديمقراطية العربية ضمن ما يحلو لبعضهم تسميته بـ”علم الثورات”، فإنّ تلك الكثرة كانت على حساب القيمة المنهجية والعلمية. وهو ما لم يساعد في تحصيل تراكم معرفي يسهم في جدية المراجعات الفكرية وصقل التجارب السياسية وتعميق الرؤية التاريخية. ويعدّ الكتاب الجديد للباحث التونسي سهيل الحبيّب حول الأزمة الأيديولوجية العربية الراهنة في مجرى الثورات العربية إسهامًا نوعيًّا جديرًا بالقراءة والتقويم، إذ لا يقتصر رهانه على الجانب المعرفي وإنّما يشمل كذلك الجانب النفسي والحضاري[1]، نظرًا إلى السياق العام الذي شاع فيه اليأس إلى حدّ تردّدت فيه بشدّة أشدّ المقولات الشوفينية التي تعزّز صورة العرب والمسلمين النمطية في المخيال والوعي الغربيين[2].
يتمحور االمشكل الأساس الذي يطرحه كتاب “الأزمة الأيديولوجية” أساسًا حول كيفية إنجاز قراءة تحليلية نقدية معمّقة تصحّح مسار الثورات العربية، وتوجّهها نحو ديمقراطية حقيقية تستوعب خصوصيات المسألة العربية، وتعيد فاعلية “بنية الأيديولوجية العربية الجامدة”[3].
يشي المشكل الأساس أو ذلك السؤال المركزي بالأزمة المركّبة التي تعيشها بلدان ما يعرف بـ”الربيع العربي” وتحديدًا تونس ومصر واليمن وليبيا، وهي النماذج التي اعتمدها الباحث التونسي أمثلة تاريخية راهنة، على الرغم من إقراره الصريح بتفاوت مستوى هذه التجارب بدليل تبنّيه ما هو رائج في الخطاب الإعلامي من حديث عن “الاستثناء التونسي”[4]. ولئن أوهمت تلك الازمة بتعدّد الفاعلين السياسيين المسهمين فيها، فإنّ “استئناف مشروع نقد الأيديولوجيا العربية المعاصرة”[5] الدي استهلّه المفكّر المغربي عبد الله العروي منذ ستينيات القرن الماضي يثبت المرجعية الأيديولوجية المشتركة التي تتحكّم في توجيه سلوكات أولئك الفاعلين وممارساتهم.
بيد أنّ ذلك الاستئناف لا يعني الوقوع في مزالق المحاكاة والتقيّد بالخيار المنهجي التاريخاني الذي انتهجه العروي بقدر ما يقتصر الأمر على الاستئناس بالانفتاح والتوسّع على مختلف المقاربات الحديثة والمعاصرة في الحاضنين العربي (شأن مشروع عزمي بشارة) أو الغربي (شأن أعمال إميل دوركايم Dukheim وآلان تورين(Touaine وغيرهما. ذلك أنّ المشكل الأساس المطروح يتوزّع في أسئلة فرعية متعدّدة يجمعها خيط ناظم واحد مداره أسباب الانزياح عن مسار الثورة من أجل الديمقراطية إلى “ثورات على الديمقراطية وضدّها”[6]. ولا شكّ في أنّ إيجاد نموذج تحليلي يستوعب المسألة المطروحة يقتضي قدرة نقدية بيّنة واطّلاعًا دقيقًا على الطروحات والمواقف الرائجة المختلفة، وخصوصًا أن مدة غير قصيرة مضت على اندلاع الانتفاضات العربية.
يمكن استنادًا إلى ما تقدّم ذكره صوغ أهمّ قضايا كتاب “الأزمة الأيديولوجية” في ثلاثة محاور بارزة؛ يتعلّق المحور الأوّل بنقد قصور النموذج التحليلي المؤسّسي الذي يعتمد معيار قوة المؤسّسات وضعفها في تفسير نجاح التجارب الانتقالية العربية وتعثّرها، ثم توجّه الباحث التونسي إلى البحث عن محور ثان تحليلي لمفارقات الوفاقية العربية الديمقراطية وجناية الفاعلين السياسيين على الثورات العربية، أمّا المحور الثالث فهو محور استشرافي ينهض بإبراز شروط أفول الأيديولوجيا العربية وصوغ متخيّلات جديدة تسهم في نحت براديغم جديد يؤسّس لتوافق حقيقي على الانتقال الديمقراطي.
قصور النموذج التحليلي المؤسّسي
يتضمّن كتاب الحبيّب الجديد إقرارًا صريحًا بوجود أزمة منهجية عميقة في الفكر العربي المعاصر والراهن. وهي أزمة مزدوجة التركيب نظرًا إلى ارتباطها بمستويين مختلفين ظاهرًا ومتآلفين باطنًا: يهتمّ المستوى الأوّل بـ”الوفاقية العربية” التي أطّرت وعي الفاعلين السياسيين في المسارات الانتقالية، بينما يهتمّ المستوى الثاني بجانب مهمّ من النخبة المفكّرة التي انخرطت في تحليل تلك المسارات الانتقالية وتفهّمها.
يهمّنا المستوى الثاني في هذا السياق بافتراض أنه شكّل التمهيد النظري والمنهجي الذي وجّه الباحث التونسي إلى البحث عن طرح بديل سواء بالنقض أم التعديل. ولئن نبه الحبيّب إلى قيمة النموذج التحليلي المؤسّسي[7] في تحليل المسارات الانتقالية العربية وتفهّمها، فإنّه نبّه إلى بعض المزالق المعرفية والمنهجية المترتّبة عنه نتيجة التقيّد الحرفي بالتطبيقات المنهجية الغربية من دون مراعاة خصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي[8] التي تقتضي الاجتهاد والتجديد.
تتمثّل أبرز هنّات النموذج التحليلي المؤسّسي ومخاطره المطبّقة في تحليل المسارات الانتقالية الديمقراطية العربية في اختزاله لمفهوم المؤسّسة في الجانب المادي وعدم إدراجه للبنى الرمزية من تمثّلات وتخيّلات ذهنية وعصبيات قبلية ضمن مدارات اهتمامه. على الرغم من أنّ مفهوم المؤسّسة يستوعب هذه العناصر[9]، وهو ما يجعله قاصرًا عن تفسير سيرورة المرحلة الانتقالية الليبية مثلًا، فيجنح صاحبه إلى التوصيف بدلًا من التحليل والاستنتاج[10]. ويحدّد الحبيّب مواطن ذلك القصور في خمس مشكلات كبرى وهي كما يأتي:
– “إذا كانت المؤسّسة القديمة قوية بما يجعلها تعود بعد سيادة المؤسّسات الجديدة التي تترجم إرادة قوى الثورة، فما الذي كان يمنعها من إجهاض الحراك الثوري في مهده؟”.
– “لماذا اقترن البناء المادي للمؤسّسات الديمقراطية في بلدان الثورات العربية بمظاهر من الفوضى السياسية والصراع المجتمعي؟”.
– “لماذا لم تؤدّ هذه المؤسّسات الدور الذي تؤدّيه في المجتمعات التي حقّقت بالفعل التحوّل الديمقراطي؟”.
– “لماذا بدا ما يسمّيه الباحث “التغيير الثوري” عنصرًا نقيضًا للبناء الديمقراطي؟”
– “لماذا غابت التحالفات في المسارات الانتقالية وحضرت بقوّة الاستقطابات بين النخب (…) الذين يمثّلون نظريًا القوى المستفيدة من قيام المؤسّسات الديمقراطية الوليدة؟”[11].
لا تقتصر نقائص النموذج التحليلي المؤسّسي على عدم قدرته على الإجابة عن هذه المشكلات المهمّة، وإنّما في كونه يفضي في النهاية إلى إثبات مقولة “الاستثناء العربي” التي تقرّ بعدم قدرة العرب على استيعاب الحداثة والديمقراطية[12]. فالتسليم بالقيمة المطلقة للنظام المؤسّساتي في توجيه حركة التاريخ يفوّض للفاعلين السياسيين الأقوياء السيطرة والهيمنة، ويجعل من الأطراف الأخرى وفي مقدّمتها النخبة خاضعة بالضرورة لمنطق ذلك التصوّر المؤسّسي. يقول الحبيّب معلّقا على ذلك الوضع المفارقي: “إنّه يجب أن يسيطر في هذه الحال ضرب من (المعجزات الإلهية) أو من (معجزات الحتميات الوضعانية) (مثل الحتمية التاريخية في الماركسية) حتّى تضعف المؤسّسة العسكرية ويضعف الفاعلون الذين يقفون وراءها، ويفسح المجال لقيام مؤسّسات ديمقراطية…”[13].
بيد أنّ ذلك النقد لا يستهدف التقويض التام للتصوّر المؤسّسي، وإنّما يروم تعديله وتوسيعه[14] ليشمل المتخيّلات الأيديولوجية بصفتها عنصرًا مهمًّا في حسم المسارات الانتقالية العربية ومآلاتها وارتباط “البنية المؤسّسية في كلّ مجتمع والمتخيّلات الاجتماعية التي يستبطنها”[15]. وقد جرى الربط بين المتخيّلات الاجتماعية والتأثير الأيديولوجي استنادًا إلى التعريف الذي وضعه بيار أنسارتPierre Ansart للأيديولوجيا[16].
يذهب الباحث التونسي إلى أنّ عددًا من المتخيّلات الاجتماعية قد انحرف بالثورات العربية من ثورات مطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية في إطار مفهوم المواطنة إلى ثورات ضد الديمقراطية وتشويه لمؤسّساتها الدستورية والسياسية. يذكر من تلك المتخيّلات “متخيّل المراهنة على البنى القبلية”[17] و”متخيّل المراهنة على أسلمة المجتمع”[18] ومتخيّل المماثلة بين “التعدّدية الهوياتية” و”التعدّدية البرامجية”[19]. ويفسّر الحبيّب تأثير هذه المتخيّلات الاجتماعية في ضوء توجيه عنصر مهيمن كأنه “صمغ لاصق” يؤلّف بينها ما أسماه بـ”براديغم الصراع المجتمعي المادي”[20]، وهو براديغم ينتمي معرفيًا إلى بنية تقليدية قديمة لا علاقة لها بالحداثة والديمقراطية.
وإذا كان الحبيّب قد أشار إلى تركيزه على ثلاثة مفهومات أساسية متمثّلة في “الثورة والديمقراطية والوفاقية”[21]، فإنّه لم يغفل بقية المفهومات المرتبطة بالمسألة الأيديولوجية العربية شأن مفهومات “النقد الأيديولوجي” و”التنازل الأيديولوجي”[22] و”الأيديولوجيا المشدوهة الجامدة”[23] و”التوحيد الأيديولوجي”[24].
ولا شكّ في أنّ هذا التوسّع المفهوماتي مقصود، إذ يهدف إلى تسويغ عمدة الخيار المنهجي المعتمد الذي يفترض وجود علاقة عميقة بين أداء الفاعلين السياسيين الأساسيين في المسارات الانتقالية العربية وتمثّلات اجتماعية معيّنة تحكّمت في مآلاتها[25].
مفارقات الوفاقية العربية الديمقراطية وجناية الفاعلين السياسيين
تكمن معضلة الثورات العربية في هزالة المستوى التنظيري سواء قبل اندلاع تلك الثورات أم بعد تأسيس المؤسّسات الديمقراطية ودساتيرها الجديدة، إذ يرجع الباحث التونسي تعثر المسارات الثورية العملية وتحوّلها في كثير من الأحيان إلى مآلات معاكسة تمامًا لصميم العملية الديمقراطية والمفارقات التي أطّرت الفعل الديمقراطي العربي منذ تسعينيات القرن الماضي ضمن ما يعرف بالوفاقية العربية ممثّلة في بعض أعلام الفكر العربي البارزين مثل خير الدين حسيب وعبد الإله بلقزيز وفهمي هويدي وعلي خليفة الكواري[26]. وقد عمّق الفاعلون السياسيون المباشرون لعملية التحوّل الديمقراطي تلك المفارقات بدلًا من تلافيها، وبخاصّة أنّ مناخ الحرية العام كان يسمح بذلك بعد سقوط رؤوس الأنظمة السياسية في تونس ومصر وليبيا واليمن.
تتجلّى مفارقة الوفاقية العربية في أكثر من مستوى بداية من مفارقة الواجب والحاصل، إذ بدل أن تسعى التيّارات الأيديولوجية الأربعة البارزة في العالم العربي (القوميون واليساريون الراديكاليون والإسلاميون والليبراليون) لمراجعات فكرية جادّة عملت على محاولة تقريب الديمقراطية من تخيّلات تلك التيّارات في إطار مشروع “الكتلة التاريخية” التي يمكن أن تشترك فيها القوى السياسية الفاعلة جميعها من دون أن تخسر عناوينها الأيديولوجية البارزة. وقد اعتمد الوفاقيون العرب في سبيل تحقيق ذلك الرهان ما سمّاه الحبيّب بـ”استراتيجيا التركيب”[27] و”استراتيجيا جسر المسافات الأيديولوجية”[28] بين مختلف القوى السياسية في سبيل التخلّص من الاستبداد ودحره بوصفه العائق الأكبر الذي يحول دون كسب مختلف المعارك الحضارية. وقد غلب هذا “الطابع الهدمي” للأديولوجيا العربية على حساب رصيدها المعرفي، ما جعلها عاجزة عن مسايرة الحراك التأسيسي عندما دقّت ساعة البناء والانتقال من طور القوة إلى طور الفعل، إذ طغى على الحوادث “براديغم الصراع المجتمعي المادي”[29] بين مختلف تلك التيارات التي ظنت الوفاقية العربية أنّه من الممكن جمعها في كتلة تاريخية واحدة. ولعلّ مفهوم “اللاشعور الأيديولوجي”[30] الذي صاغه الحبيّب يلخّص هذا الوضع المفارقي المتعلّق بالواجب والحاصل.
تعدّ مفارقة “الوفاق والصراع”[31] امتدادًا للمفارقة السابقة لتداخلهما تداخلًا جدليًا، ذلك أنّ الوفاقية العربية في سعيها الظاهر لتجسير المسافات الأيديولوجية بين مختلف الأيديولوجيات العربية تناست هشاشة ذلك التوافق الذي لا يمكن أن يحجب صراعًا حادًّا بين تلك الأيديولوجيات أو غضّت الطرف عنه في مرحلة المسارات الانتقالية الديمقراطية نظرًا إلى عدم تحرّرهم من براديغم الصراع المجتمعي المادي الذي يعوق عملية تمثّل واعية للثورات العربية بصفتها ثورات من أجل الديمقراطية والمواطنة. غير أنّ الرصيد المعرفي للوفاقية العربية لم يكن يسمح بتشكيل براديغم جديد عمدته مفهوم المواطنة.
يذهب الحبيّب إلى أنّ الفاعلين السياسيين في التجارب الانتقالية العربية[32] لم يقدروا على تجاوز مزالق الوفاقية العربية، بل إنّهم عمّقوا شرخ تلك المفارقات لأسباب عدّة منها عمق تأثير “المتخيّلات الدينية الهوياتية”[33] و”المتخيّلات الماركسية الطبقية”[34]. وقد غذّى هذه المتخيّلات “براديغم الصراع المجتمعي المادي” ما صيّر عناوين الممارسة الديمقراطية شأن “الانتخاب” و”الدستور” و”الأغلبية النيايبة” أدوات في خدمة “الثورة الهوياتية” أو “الثورة الطبقية” بدل أن تكون آليات ترسيخ للعملية الديمقراطية و”تمثّل ثورات المواطنيين”[35].
وقد كان من نتائج هذا كله أن تشكّلت مفارقة كبرى بين ظاهر الخطاب وباطنه وبين المتصوّر والمتحقّق إلى حدّ انحرفت فيه العملية الديمقراطية وغدت سببًا من أسباب نشاة “الجماعات العضوية العصبوية”[36] وتفشت أعراض الجماعات الهوياتية والقبلية المناقضة لمنطق الممارسة السياسية الديمقراطية وشروط التعدّدية الحزبية البرامجية. وقد اختزل الباحث التونسي هذه المفارقة التي يمكن تسميتها بـ”مفارقة المفارقات” التي جمعت التناقضات جلّها قائلًا: “نلاحظ أنّ متخيّلات الثورة الطبقية ومستتبعاتها شأن متخيّلات الثورة الهوياتية ومستتبعاتها تفرغ مفردات الممارسة السياسية الديمقراطية من محتوياتها الحقيقية، وتحوّلها إلى مجرّد عناوين تخفي تحتها مضامين ممارسة الصراعات والتناحرات الفئوية. وإذا كنّا لاحظنا أنّ مفهومات (الانتخابات) و(المنافسة الانتخابية) و(حكم الأغلبية) التبست بدلالة التمكين (للطائفة المنصورة) و(الإزاحة القاتلة) للخصم أو العدو الثقافي، فإنّنا نلاحظ هنا أنّ مفهوم (المعارضة) ملتبس بمضمون آخر من المضامين المعبّرة عن الصراع المجتمعي الفئوي الذي يناقض جوهر الفكرة الديمقراطية أي مضمون الصراع الطبقي الذي لا سبيل إلى حسمه إلاّ من خلال العنف الثوري”[37].
لئن كانت هذه الملاحظة التي صاغها الحبيّب تستوعب جانبًا مهمًّا من “المنطق العبثي” الذي عوّق التحوّل الديمقراطي العربي وما يزال يعوّقه، فإنّ المماثلة بين التيارين الأيديولوجيين اليساري والإسلامي بحاجة إلى مراجعة جادّة. ذلك أنّه يغيّب تمامًا اختلال توازنهما سواء قبل اندلاع الثورات العربية أم بعدها استنادًا إلى أنّ التيار اليساري شكّل البنية العميقة للأنظمة الحاكمة أو حتّى ضمن الحكومات الانتقالية التي تكفّلت بالإعداد للاستحقاقات الانتخابية النزيهة وإنجاحها، إضافة إلى استحواذه على أهمّ الوظائف الحسّاسة في أجهزة الدولة لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية يطول شرحها.
شروط أفول الأيديولوجيا العربية الراهنة وصوغ متخيّلات جديدة
لئن نقد الباحث التونسي النموذج التحليلي المؤسّسي مثلما أشرنا إلى ذلك في مفتتح هذه المراجعة، فإنّه قد أشار في سياق استشرافه لمستقبل “المسألة العربية” إلى أهميّة الاستفادة من ذلك التصوّر المؤسّسي الذي من شأنه أن يدعم رؤيته النقدية الأيديولوجية، وهو ما يمكن أن يسهم في تجاوز “العوامل التاريخية”[38] التي تعوق دمقرطة العالم العربي.
يجمع الحبيّب في إقراره بقابلية العالم العربي للتحوّل الديمقراطي بين الجانبين النظري والعملي: يحيل الجانب الأوّل على إمكان اعتماد مشروع المفكّر العربي عزمي بشارة إطارًا نظريًا لتجاوز مآزق الأيديولوجيا العربية المعاصرة والراهنة وإيجاد تسوية حقيقية “لا تسوية سياسية إنشائية”[39] للمسألة العربية. ويجد اختياره لمشروع بشارة مسوّغاته في ريادية أفكاره وتماسك طروحاته التي جعلته يعتمد “البنى المجتمعية المدنية الحديثة لا البنى الهوياتية التقليدية”[40] في ترجيحه لإمكانات نجاح التحوّل الديمقراطي العربي من عدمها لذلك لا غرابة في توفّقه المبكّر عند ترشيح المجتمع التونسي لتأسيس “دولة المواطنين العربية الأولى”[41]، أو بتعبير آخر صحّة استشرافه في حدوث ما بات يعرف بـ”الاستثناء التونسي”[42]. أمّا الجانب العملي فيتعلّق أساسًا بالتجربة الديمقراطية التونسية الناشئة التي كشفت أنّ الاستفادة من المنجزات المدنية لدولة الاستقلال ضرورية في عمليّة البناء الديمقراطي، وهو ما يخالف التصوّرات الهوياتية[43] التي تعدّ البنى القبلية والمتخيّلات الدينية من العوامل الميسّرة للانتقال من “دولة الاستبداد” إلى دولة العدالة والإسعاد.
لقد شكلّ ما سمّاه الحبيّب بـ”الحواضن المجتمعية الموضوعية”[44] -التي ما كان من الممكن بروزها لولا حرص “دولة ما بعد الاستعمار” على إرسائها بنسب متفاوتة- المنقذ الظاهر للمسار الانتقالي التونسي من الانتكاس والارتداد إلى الاستبداد ومن ثمّ انبثاق الاستثناء التونسي. على الرغم من معارضة بعض القوى الثورية في البداية لمبادرة الحوار الوطني لظنهم أنّه شكل من أشكال إعاقة المسار الثوري إضافة إلى إمكان اقترانه بتدخّلات بعض القوى الدولية والإقليمية[45].
بيد أنّ الحبيّب ينبّه إلى أنّ إمكان صمود التجربة الديمقراطية التونسية واستمراريها وتطوّرها يظلّ رهين تحوّل حقيقي وحاسم من براديغم الصراع المجتمعي المادي إلى براديغم ثورات من أجل الديمقراطية أي من “الديمقراطية الوفاقية إلى بدائل الوفاق على التحوّل الديمقراطي أو منطق المسألة العربية باعتباره أرضية لهذا البديل”[46].
يجري ذلك الانتقال من براديغم قديم إلى براديغم جديد انطلاقًا من مراجعة نقدية معمّقة سواء للأدبيات التي أطّرت الوفاقية العربية أم خيارات الفاعلين السياسيين الرئيسيين المباشرين لعملية الانتقال الديمقراطي. وقد نبّه الباحث التونسي إلى محورية مفهوم المواطنة كما صاغه طوماس مارشالThomas Humphrey Marshall منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ تم فيه استيعاب ثلاث مكوّنات أساسية تشمل الحقوق المدنية والحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية[47]. وهي حقوق ليست غريبة عن صميم المطالب المرفوعة في الثورات العربية قبل أن ينحرف بها الفاعلون السياسيون إلى مدارات هوياتية وطبقية تعدّ من الأسباب العميقة لتعثّر مسارات التحوّل الديمقراطي وانقلابها إلى استبداد في الحالة المصرية وصراع قبلي ودموي في الحالتين اليمنية والليبية.
لئن كان اعتماد النقد الأيديولوجي في نقد الأيديولوجيا العربية الراهنة من صميم المنهجية السليمة التي تشترط أن تكون الآليات المنهجية التحليلية من الحقل المدروس نفسه تجنّبا للإسقاط، فإنّه من الوجيه التساؤل عن مدى إمكان نجاح المقاربة النقدية الأيديولوجية في صوغ أنساق معرفية بديلة. إذ إن ظننا راسخ في أنّ النقد الأيديولوجي شأنه شأن النقد الثقافي تقتصر نجاعته المنهجية في التفكيك والهدم، وهو بهذا المعنى يصعب أن يكون أداة فاعلة في عملية التأسيس والبناء. ولعلّ الصعوبات التطبيقية التي أفصح عنها الباحث التونسي في أثناء إشارته إلى المشكلات التي يواجهها نموذجه التحليلي الأيديولوجي في تناول الحالة التونسية، ما اضطره إلى تبنّي النموذج التحليلي المؤسّسي الذي نقده في مستهلّ كتابه تثبت حقيقة المزالق المترتّبة على خياره المنهجي.
يسوغ لنا التساؤل في هذا الصدد عن حقيقة الأيديولوجيا التي يتحدّث عنها الحبيب بصفة تجعلها تستوعب عددًا من المفهومات الأخرى مثل المتخيّلات الاجتماعية والثقافة السياسية؟ إذ ليست التصوّرات والتمثّلات وحدها من تكسبها ذلك التأثير، وإنّما كذلك توازنات الواقع ومعطياته، فالخيارات الأيديولوجية ليست تصوّرات ماقبلية في الحالة العربية الراهنة بقدر ماهي إفراز لسيرورة تاريخية تمازجت فيها العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية[48]. وهو معطى لا يمكن تغييبه في تفهّم معضلات المسألة العربية بأبعادها جميعها؛ السياسية والحقوقية والاقتصادية والثقافية. إضافة إلى ذلك يمكن مساءلة مفهوم الديمقراطية في تطبيقاته العربية ومدى حتميته بالنسبة إلى المجتمعات العربية؟ وبمعنى آخر ألم يكن بالإمكان البحث عن نموذج عربي إسلامي بديل لنظام الحكم وبخاصّة بعد بروز بعض الاجتهادات في هذا المضمار لدى المفكّر المغربي طه عبد الرحمن الذي يتحدّث عن الدولة الائتمانية[49] بديلًا من الدولة الديانية والعلمانية؟
إذا كان البحث في هذه الموضوعات انطلاقًا من تخصّص الحضارة الحديثة الذي ينتمي إليه صاحب كتاب الأزمة الأيديولوجية، يفترض اختيار نماذج مدروسة محدّدة، فإنّ ذلك لا يعني عدم التوسّع في اختيار المدوّنة المدروسة وتدقيقها بحيث يكون كلّ نموذج مدروس يعبّر عن عيّنة فكرية ومجالية محدّدة. إنّ الاعتماد المكثّف لنصوص الغنوشي وأبي يعرب المرزوقي لتحليل انقلاب “ثورات المواطنيين” إلى ثورات هوياتية سواء في الحالة التونسية أم حتّى في الحالة الليبية يمكن عدّه شكلًا من أشكال التعميم، إذ كان يفترض الاعتماد على نصوص الفاعلين السياسيين الليبيين وهي مبثوثة بثًا مكثّفًا في الفضاء الإلكتروني إن تعذّر وجود النصّ المطبوع. ويمكن عدّ الإيجاز الذي وسم الحديث عن مفارقة الأيديولوجيا اليسارية خصوصًا في الحالة التونسية أمر غير مسوّغ ويحدّ من فوائد الموضوعية العلمية المطلوبة في هذا الغرض.
إجمالًا يعدّ كتاب الأزمة الأيديولوجية العربية مساهمة نوعية سواء في مجال تفهّم “العطالة السياسية” وتعثّر العملية الديمقراطية أم في مسيرة الباحث التونسي الذي كان إلى وقت قريب من أنصار النقد الثقافي والمشتغلين على مقولاته وتطبيقاته[50].
[1] – سهيل الحبيّب، الأزمة الأيديولوجية العربية وفاعليتها في مآزق مسارات الانتقال الديمقراطي ومآلاتها (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، صص 15-45.
[2] – يمكن التذكير في هذا الصدد بمواقف أرنست رينان وبرنارد لويس التي راجعنا جانبًا منها في أثناء قراءتنا لكتاب برنارد لويس “أزمة الإسلام” في موقع مؤمنون بلا حدود: http://www.mominoun.com/articles/
[3] -الحبيّب، الأزمة الأيديولوجية، م س، ص 270.
[4] -المصدر نفسه، ص 219.
[5] – المصدر نفسه، ص 27.
[6] – المصدر نفسه، ص 230.
[7] -اعتمد الحبيّب بحث حسن الحاج علي الموسوم بـ”مراحل انتقال الثورات العربية مدخل مؤسّسي للتفسير”. وهو بحث فائز بالجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية سنة 2014، ونشر ضمن كتاب جماعي عنوانه أطوار التاريخ الانتقالي مآل الثورات العربية (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، راجع الحبيّب، الأزمة الأيديولوجية، صص 16-17.
[8] – المصدر نفسه، ص 16.
[9] -للتعريف بالمؤسّسة راجع المصدر السابق، ص 17.
[10] – المصدر نفسه، ص 19.
[11] – المصدر نفسه، ص 24.
[12] – المصدر نفسه ، ص 23.
[13] المصدر نفسه، ص ن.
[14] – المصدر نفسه، ص 19.
[15] – المصدر نفسه، ص 43.
[16] -“تشكّل الأيديولوجيا نظام تأويل للواقع الاجتماعي المنظّم حول نواة من التمثّلات الأولية التي تستخدم أداة قراءة للواقع في إطار العمل”. راجع كتاب الأزمة الايديولوجية، م س، ص 43 الهامش 28.
[17] – المصدر نفسه، ص 26.
[18] – المصدر نفسه، ص 219.
[19] – المصدر نفسه، ص 206.
[20] – المصدر نفسه، ص 52-70.
[21] – المصدر نفسه، ص 45-48.
[22] – المصدر نفسه، ص 64.
[23] – المصدر نفسه، ص 264-265.
[24] – المصدر نفسه، ص 151.
[25] – المصدر نفسه، ص 37.
[26] – المصدر نفسه، ص 75-269.
[27] – المصدر نفسه، ص 76.
[28] – المصدر نفسه، ص 155.
[29] – المصدر نفسه، ص ن.
[30] – المصدر نفسه، ص 52-70.
[31] -المصدر نقسه، ص 89.
[32] -لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحبيّب يقرّ صراحة بتميّز الاستثناء التونسي بصفة نسبية بفضل وجود “حواضن ديمقراطية” و”البراغماتية السياسية” التي انتهجتها حركة النهضة التونسية. وقد كان يمكن التوسّع في هذا الأمر لو اهتمّ بالتجربة الديمقراطية المغربية التي جرت من دون بهرج إعلامي.
[33] -المصدر نقسه، ص 125.
[34] -المصدر نقسه، ص 86.
[35] -المصدر نقسه، ص 123.
[36] -المصدر نقسه، ص 178.
[37] -المصدر نقسه، ص 235.
[38] -المصدر نقسه، ص 283.
[39] -المصدر نقسه، ص 107.
[40] -المصدر نقسه، ص 289.
[41] -عزمي بشارة، الثورة التونسية المجيدة بنية ثورة وصيرورتها من خلال مآلاتها (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 24-25 نقلًا عن كتاب الأزمة الأيديولوجية، ص 288.
[42] -المصدر نقسه، ص 285.
[43] -يركّز الحبيّب في هذا الصدد على مواقف الشيخ راشد الغنوشي التي عدّ فيها ليبيا واليمن مهيّأتان أكثر من تونس لمباشرة عملية الانتقال الديمقراطي نظرًا إلى استمرارية البنى القبلية وعدم تهلّل المؤسّسات الدينية التقليدية بخلاف تونس التي فكّكت فيها الدولة التونسية تلك البنى التقليدية وأضعفتها.
[44] -المصدر نقسه، ص 279 .
[45] -وقد عبّر عن هذا الموقف بصورة واضحة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعّمه الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، وأفصح عن ذلك الموقف أبو يعرب المرزوقي الذي يلقّبه الحبيّب في كتابه بـ”فيلسوف النهضة”.
[46] -المصدر نقسه، ص 282.
[47] -المصدر نقسه، ص 139.
[48] -يمكن التذكير في هذا الصدد بتساؤل محمد عابد الجابري عن مصير النهضة الأوروبية لو تزامن بروزها مع وجود قوى دولية مناوئة لها مثلما حدث في الحالة العربية. وهو افتراض لا يطمس بقية العوامل الذاتية والداخلية. انظر: محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994).
[49] -طه عبد الرحمن، روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2012).
[50] -انظر: سهيل الحبيّب، خطاب النقد الثقافي في الفكر العربي المعاصر معالم في مشروع آخر (بيروت، دار الطليعة، 2008)، 271ص.