الكتاب: إسلام السوق
تأليف: باتريك هايني
ترجمة: عومرية سلطاني
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر
مكان النشر: القاهرة
تاريخ النشر: 2015
يتتبع الباحث السويسري “باتريك هايني” في كتاب “إسلام السوق” نظرية كلّ من “جيل كيبيل” و”أولفييه روا” ويؤكدها في الوقت ذاته، وهي النظرية التي نظّرت لدخول الحركات الإسلامية في نمط الحياة المعلمن تصاعدًا مع تمثلها قيم السوق، بعد أن فشلت في تقديم نموذج للمجتمع الإسلامي “الصافي” قادر على العيش والاستمرار.
جاء الكتاب في أربعة فصول، في الفصل الأول المعنون بـ: تجاوز الإسلاموية، يرى هايني أن المشروع الإسلامي الكبير (السردية) قد تم تجاوزها، وبالتالي، الاستغناء عنها كمشروع حضاري كلي، بسبب نزعة “التبرجز” داخل الحركة الإسلامية.
لا يتعلق الأمر هنا بصدقية المشروع الإسلامي، لكنه يحيل “بحسب المؤلف” إلى ثلاثة تغيرات تحدث على أرض الواقع، هي:
نزع القداسة عن الإطار التنظيمي، ونقل المبادئ التي تأسست عليها من مساحة المطلق إلى مساحة النسبي، وظهور أشكال جديدة من التدين يغيب عنها الاهتمام بمسائل السياسة والدولة.
نزع القداسة عن الإطار التنظيمي
يستند هايني إلى تفكك الأطر التنظيمية الكلية للحركات الإسلامية ولاسيما حركة الإخوان المسلمين، وتراجع حماس المناضل الإسلاموي من جهة، وعضو هذه الجماعات من جهة أخرى، ولاسيما مع الانفتاح على الهياكل والأطر المرجعية الأخرى خارج الهياكل التنظيمية الإسلامية. مستندًا إلى تجارب بعض الحركات الإسلامية “الإخوان” وأشهر المواقع الإسلامية مثل “إسلام أون لاين”.
يستند هايني كمرجعية إلى الجيل الجديد من المنتمين إلى الحركات الإسلامية، فقد أصابهم التحفظ وعدم الرضا عن القيادات، في تكريس أسلوب الإخضاع، وعدم اتباع نموذج عصري مدني يحاكي أفراد هذه التنظيمات، وسط تأثيرات الهياكل التنظيمية ذات المرجعية غير الإسلامية.
ينسحب الأمر على بنية التعليم والاقتصاد والبنوك وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية العصرية، التي لم تعد أجوبة الخنوع كافية ومقنعة للشباب الجديد في الامتثال لأوامر القادة من دون مناقشة، والعمل على تغيير بنى التنظيم في شكله القديم.
مخيال غير محدود
نتج عن كل ما سبق نموذجا لـ “الإسلاموي الناقم”، وهو نموذج غير راض عن أداء التنظيمات الإسلامية في علاقتها وبنيتها التقليدية، لكنه لا يبتعد عن التنظيم ولا عن تدينه العميق، لكنه ينأى بنفسه عن سياسة التنظيم.
هذا النموذج يشكل نمطًا جديدًا من المعرفة، لا يهتم بالمشروع الإسلامي الكلي، بل على العكس يمثل “الوسيط الثقافي” الذي يستورد القيم الغربية ويزاوجها مع نمط الثقافة الإسلامية لديه، وينتج بالتالي نظامًا معرفيًّا متسقًا مع قناعاته وأيدلوجيته، فيهتم بالبحث، مثلًا، عن “نضال إسلامي لحماية البيئة” أو “نسوية إسلاموية” وتنمية ومواقف محددة من العولمة وغيرها من المنتوجات والمفاهيم الثقافية في إطار اندماج في سوق عالمي ثقافي يحدد نوعًا جديدًا لالتزامه، غير التزام المشروع الحضاري الكلي في نسخته الإسلامية السردية الكبرى كما هي عند الجيل السابق من قادة التنظيم. وهو الأمر الذي ينتج “أفرادا” مندمجين اجتماعيًا وغير مهتمين “بنيويًا” بالقضايا الكبرى.
نتج من ذلك سيولة في مفهوم “الجهاد” مثل “جهاد النهضة” و”الجهاد المدني” وربط مفهوم الجهاد بالعمل التطوعي والحركية الاجتماعية، ما فتح مساحات واسعة للتأويل حول المفاهيم الكبرى والصغرى في الإسلام، كان حامل رايتها رجال جدد من تيارات الإصلاح.
ينفتح الشباب الإسلاميون الجدد على العالم بطريقة مباشرة، فلا يصبح تسييس الإسلام حتميًّا وفي إمكانه التعايش مع المظاهر الورعة “ما بعد النضالية” التي تتميز بالانفتاح الثقافي، حيث تبرز التوجهات الاستهلاكية والفردانية.
العودة إلى إيقاعات العالم
يتناول “هايني” الموسيقى الإسلامية والنشيد الإسلامي. فقد كانا حكرا على أعضاء الجماعات في سنوات السبعينيات، وفي حقبة التسعينيات دخل موسيقيون إسلاميون في مرحلة تجديد التراث الغنائي الديني مازجين التراث الكامل لمكونات الثقافة الإسلامية “مناجاة صوفية وشعر ديني عربي وغيره” في مقاربة تدعو إلى الله والإسلام؛ يراها هايني أنها تشابه الإنجيليين الجدد في مجموعات الروك المسيحية. وبغض النظر عن الاهتمام بفاعلية أدائهم الفني، فإنهم يشتركون في مصالحة الإسلام مع الموسيقى ومع الثقافة. وهم بذلك يتجاوزون، بوعي أو بغير وعي، الأصل السلفي أولًا، ويبلورون نمطًا جديدًا من التدين “منفتحًا ومريحًا” ثانيًا.
وتأثرًا بالتجربة السوداء الأميركية في توحيد السود تحت راية الإسلام عبر فن جديد يجمع بين موسيقى “الراب” وتعاليم الدين الإسلامي المتسامح؛ انتقلت الموسيقى والأناشيد الاسىمية من مرحلة نقد الدولة وعدم استخدام الأدوات الموسيقية الحديثة، إلى مرحلة جديدة مرت بدخول بعض الآلات والإيقاع إلى الموسيقى والأناشيد الإسلامية، ثم انتشرت مجموعات الغناء الجديدة مع إحياء “الأعراس الإسلامية” للطبقى الوسطى وغيرت في مضامين النشيد إلى الحب والسعادة مبتعدة عن مضمون النشيد الأصلي الذي لا يتواءم مع روح المناسبات الجديدة، وذلك قبل أن تقتحم سوق الموسيقى العربية في التسعينيات، وتنافس الإصدارات الغنائية على قاعدة أقل نضالية.
واكتمل التحدي للسلفية على مستوى الموسيقى والنشيد، بظهور مهرجانات عالمية ذات صلة مثل ولادة “المهرجان الأوروبي الثالث للغناء الإسلامي” بدعم من الجمعية الأوروبية للفن والثقافة التي تحاول تقديم فن إسلامي مجرد من بعده النضالي، كما انتشر في ثمانينيات القرن العشرين ووصل هناك. وهو ما ساهم في الابتعاد عن التسييس والانفتاح على النماذج الثقافية غير الإسلامية، فاسحًا المجال لـ “الفن النظيف” كنوع يتميز بنزعته التوفيقية.
أسس ذلك لظهور “النشيد ما بعد الإسلامي” متعدد المذهبيات كالمصري مصطفى محمود ومجموعات موسيقية مثل “الهدى” و”الريحان” في ماليزيا” و”الطوارئ” في أميركا وفرقة “فانا” الألمانية التي تحولت إلى الإسلام و”سامي يوسف” بالطبع.
استهلاكية الحشمة الإسلامية
يتعرض نمط اللباس الإسلامي للتغير أيضا، وسيدخل نمط الحجاب واللباس في صراع مع رفض موضة الأزياء. وبين تجربة الإسلام السياسي واستهلاك السوق، سيظهر الأمر جليًا في “تركيا” في تكريس الموضة الإسلامية ترافقا مع ظهور برجوازية إسلامية تؤسس لفضاء إعلامي في تركيا العلمانية، يؤدي إلى إحداث تغيرات في التفضيلات الشخصية. في هذا السياق بين العولمة وإعادة الأسلمة، يؤدي الحجاب إلى ظهور روح توفيقية بين مسألة التأكيد على الهوية، وديناميات الرغبة في الانفتاح الثقافي.
في مصر أيضًا بدت الصيغة مشابهة، ودخل اللباس الإسلامي سوق الموضة المقبل من مصانع فرنسا وإيطاليا، وبدت صالات عرض اللباس الإسلامي الحديث والأزياء وعروضه مشابهة لأي احتفال استهلاكي آخر في دور الأزياء العالمية. وهذه كانت مرحلة “استهلاكية الحجاب” بين الأسلمة والحلم الأميركي للبرجوازية الإسلامية.
في مراحل اللباس الإسلامي التالية، ستدخل بعض التغيرات على نمط الزي الإسلامي الكامل منعتقا من رمزية اللباس الفجة للمرأة المسلمة ومقتربا أكثر من نمط الموضة الغربية البحتة.
زمن الدعوة العصرية
ظهر دعاة إسلاميون جدد يجمعون زخمًا اجتماعيًا حول إسلام “مرح وتنافسي” يؤكد حالة البرجزة التي دخلت نمط الحياة الإسلامية. تدين جديد متنصل من السياسة، متبرجز اجتماعيًا، ارتبط بشخصين هما: عبد الله جمنستيار في جنوب آسيا وعمرو خالد في العالم العربي.
يقدم الداعيتان في مواجهة الإسلام السياسي، خطابًا ناعمًا مستخدمين أساليب المبشرين الإنجليين الأميركيين، وتقنيات الحوار المتلفز “التوك شو” في مقاربة تسويقية للدعوة، مستخدمين مفاهيم مسيحية حول الدين والتقرب إلى الله والانعتاق وغيرها. والتركيز على العاطفة والتأمل والسعي لتحقيق السعادة الفردية، وهي القيم التي تسود خطابا يعتمد على العلاج الوجداني ويتناول مسائل الإيمان بمقاربات هادئة إلى جانب التركيز على تحقيق الأهداف “عبادة الطموح وتثمين النجاح والارتقاء الاجتماعي”. ويرى هايني أن دعوتيهما هي رغبة في تحويل الإسلام إلى “دين تعاقدي” كما هو الحال لدى بعض الحركات الإنجيلية الأميركية.
ينمو نمط جديد إذن يفك الارتباط بين قضايا الهوية والسياسة ويؤسس لنمط جديد من الفرد. إلغاء للوعي الجمعي لحساب تحول ذاتي للفرد.
في الفصل الثاني المعنون بـ “تدّين تحرِّكُه قوى السوق” ينتقل هايني إلى مفهوم “السوق” كفضاء لجأ إليه الإسلاميون الجدد بعد أن خاب أملهم في الخطاب الإسلامي الكلاسيكي.
يبرز “السوق” كخيار أكثر قابلية للاستمرار ليفتح المجال أمام “توجّه اقتصادي جديد” يميز حركة الأسلمة، بدعم من “الإسلاميين الناقمين” أو المقاولين الدينيين القريبين من عالم الأعمال والذين يسعون لتوفير معروض ديني يتوافق مع متطلبات تدين البرجوازية الكوزموبوليتانية.
سيصبح السوق قناة التعبير عن التدين الأكثر تمتعا بالشرعية، فهو أولًا يمنحه إطارًا غير مؤسسيّ، لا تكون المؤسسات السياسية والمؤسسات الدينية الرسمية هي المتحكمه فيه، ويوفر له الموارد المفاهيمية اللازمة القائم على ثقافة المؤسسة ثانيًا. وهنا يتم الانتقال من إقناع الجماهير بحقيقة مطلقة ومتعالية إلى تكييف العرض الديني مع التوقعات الحقيقية أو المحتملة لجمهور مستهدَف بدقة. ولأنه سيصل إلى جمهور غير مسلم فإن “العلمنة” حاضرة للسلع الثقافية التي تعبّر عن الهوية الإسلامية.
على المستوى الجماهيري، سيكون هناك تغلغل متزايد للمنتوجات الدينية في الحياة الاجتماعية، من خلال الثقافة الجماهيرية، مضافًا إليها توجه لتكوين تدين جديد، يميل إلى تخفيف حدة الدرس الديني السلفي. فلم يعد الأمر يتعلق بـ “إصلاح النفس” بل بالتكيّف مع مطالبها، وعرض منتج إسلامي يزيل إرباك المسلم وسط مستنقع الحاجات الاستهلاكية. وهكذا يتميز “إسلام السوق” بإستراتيجية انفتاح تتضمن إعادة موضعة الديني في فضاء السوق العالمي غير الديني.
إسلام السوق أيضًا، ودائمًا حسب هايني، سيسمح بما أطلق عليه “تشفير الهويّة الدينية”، حيث ستجري عملية إعادة لتعريف الهوية الإسلامية من خلال مفاهيم العلامة التجارية وليس من خلال المعايير الدينية، وفي الوقت نفسه تطوير التزامات دينية “ناعمة” ينتج عنها علاقة فضفاضة بمسألة الديني، بينما سيبدو البعد السياسي خطابيًا إلى درجة كبيرة.
يبني هايني، على كل حال، تصوّراته هنا بناء على المتغيرات التي ذكرت سابقًا، فيما يتعلق باللباس والأغنية والموسيقى والدعوة الجديدة كذلك الأمر.
في الفصل الثالث والذي جاء بعنوان: “إسلام السوق، حركة إصلاح للذوات الدينية”، يفرد هايني تصوره لنموذج “الفرد” المتدين من وجهة نظر “إسلام السوق”. فهو مسلم ورع ناجح، فعّال اقتصاديًا وغير منخرط سياسيًّا، يستثمر قيم الثروة والإنجاز ويطور مخيالًا دينيًّا يزيح الإدانة الأخلاقية عن مفهوم الربح. هذا التوجه يفسح المجال لما يمكن تسميته “حركة إصلاح للذات الدينيّة” داخل الإسلام السني. فالمتعهدون الدينيون يقدمون “تديّنًا منفتحًا” برجوازيًّا، عالميًّا نشطًا، يستهدف بث روح الراسمالية داخل الأمة لجعلها أكثر تنافسية بين الأمم، وذلك في مواجهة الجبرية والنزعة المحلية المرتبطة بالإسلام الشعبي.
من الناحية السوسيولوجية، برز “إسلام السوق” بالطبقات البرجوازية المتدينة الجديدة التي ظهرت في العالم الإسلامي خلال العقدين الأخيرين. “نمور الأناضول” في تركيا استفادوا من سياسات دعم الصادرات في الثمانينيات ليعيدوا الاعتبار إلى الإسلام والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مواجهة النخبة اللائكية العلمانية الأتاتوركية، المستمدة من نموذج العلمنة الفرنسية “تدخل الدولة في الفضاء العام لإقصاء الدين”، والتي كانت تتربع على رأس التكتلات الكبرى في إسطنبول وأنقرة. وانفتاحيون مصريون حققوا حالة من التراكم المالي المتقدم بفضل السياسات الاقتصادية لـ “أنور السادات”، وطبقة محلية من التجار الإندونيسيون استفادت من الإصلاحات الاقتصادية في الثمانينيات في عهد “سوهارتو”. وفي النهاية، في كل مكان، كان لا بدّ من وضع حد لفلسفة التقشف الاقتصادي المرتبطة بذهنية الإسلام التقليدي.
ينتج من ذلك فلسفة دينية حياتية أخلاقية بالضرورة، تدين الفقير وتمجد البرجوازي مالك الثروة في صيغة قريبة جدًّا من البروتساتنتية إن لم تكن تتماثل معها. وبسبب من كل ذلك، يتشكل “لاهوت نجاح إسلامي” يعكس ترسيمًا أيديولوجيًّا لحركة أسلمة برجوازية الطابع، ويدافع عن علاقات مريحة مع مفاهيم الثروة والنقود. ويتوزع هذا اللاهوت على مجموع الفاعلين المسؤولين عن تشجيع إسلام السوق، على رأس القائمة يقع دعاة عصريون وإسلاميون ناقمون. جرت موائمة مفاهيم الثروة والمال مع النص الديني وإرجاعه إلى روح الإسلام، كما في حالة البرجوازية التركية “العدالة والتنمية” كنموذج لإسلام سوق في مواجهة البرجوازية الأتاتوركية.
نشأ بالضرورة نموذج للفردانية الإسلامية البرجوازية غير متعارض مع نموذج التدين الجديد، يبتعد عن نموذج المسلم الاتّكالي في صيغته “الجبرية” ونشر “التدين النشط” كما يحلم به أنصار “إسلام السوق”، وهي صيغة أقرب إلى “الكالفينية” التي نظر إليها السوسيولوجي الألماني المعروف “ماكس فيبر” في علاقة تعاليمها بنشأة الرأسمالية من خلال تطوير تعاليم دينية تستوعب وتتوافق مع روح “المؤسسة” ووضع الدين في خدمة التنمية.
عند موضوع “التنمية” يبرز جيل الإصلاحيين الإسلاميين “الكويت والعراق وفلسطين” الذين تابعوا دراساتهم في الولايات المتحدة. فقد عادوا محملين بالفكر الإداري الأميركي في ظل واقع سياسي تشوبه الحرب “العراق والكويت” وقمع للتنظيمات الإسلامية “الأردن ومصر”.
جرى تحديث البعد الإداري لعمل التنظيمات مع جيل الإصلاحيين الجدد، مركزين في على قضايا التنمية والفرد والتحقيق الذاتي، ما أسّس لـ “تدين نشط” يقطع صلاته مع الاستسلام للحتميات وسط حقل اقتصادي سمح للبرجوازية المتدينة الجديدة أن تجد لها مساحة وشرعية في اقتصاد السوق، الذي كان مقتصرًا في بعض الدول على برجوازية علمانية صارمة. وتبدو حالة تركيا كأنموذج أكثر وضوحا في تبني الطبقة البرجوازية الجديدة المتدينة والمنتمية إلى التنظيمات الإسلامية نهج التنمية، حيث ظهرت بشكل خاص في تجربة “نمور الأناضول” وعجلة التنمية التي ازدهرت في عهد نجم الدين أرباكان، والرئيس الليبرالي “تورغوت أوزال”. حيث ترافق ذلك مع حركة تعليمية وتنوير إسلامي يزاوج بين قيم التنمية والسوق وتعاليم الإسلام.
الفصل الرابع والأخير كان بعنوان: “فاعلون لتحجيم الدولة”. وفيه يناقش هايني نشوء خطاب إسلامي مؤيد لفكرة “الحد الأدنى من الدولة”.
“نمط نضالي” جديد يمكن دعوته بالروح الجديدة للرأسمالية، فـ “صناعة الحياة” تمثل لقاء بين الدعوة وإدارة المشاريع، وهو هاجس بناء إسلام موجه نحو الفعل ويضع حدا للسلبية الواقعية أو المفترضة في العالم العربي. وامتدت هذه الروح الجديدة إلى دول إسلامية أخرى غير عربية “إندونيسيا”.
يتدعم “الإسلام بالمشاريع” بمخيال يتسم بالتفاوت بشكل يقترب من لاهوت الازدهار لدى البروتستانتية الأميركية الجديدة، وبالتغييرات البنيوية التي أنتجت طبقات برجوازية متدينة تحولت نحو التصدير. هذا النمط من الإسلام يسهم في تكوين طبقات اجتماعية وأنماط حياة خاصة، يندمجان في العولمة ويتمتع كل منهما باستقلالية نسبية تجاه الدولة الوطنية.
يؤسس الإسلام بالمشاريع “نيوليبرالية” تكرس حالة البرجزة من جهة وتوفر قاعدة أيديولوجية لا تأبه بالسياسة ولم تعد الدولة فيه هي التحدي الأساس. هذا التحول يسير على هدى النموذج الأميركي “وليس الأوروبي/الفرنسي كتجسيد وأنموذج” في الانتقال إلى علمانية تقبل بقيم الديمقراطية والليبرالية ما يمهد لفكرة الإسلام المدني، الذي سيقبل بفكرة “الفضاء السياسي” المتآلف متوافق مع قيم الفكر الجمهوري الأميركي.
وهنا يخلص هايني إلى أن “إسلام السوق” المتحول إلى فضائل السوق والشأن الخاص وإلى قضية الحد الأدنى من الدولة، يظهر بوصفه الشريك المثالي للأميركيين ليس فقط في سياساتهم الشرق أوسطية، ولكن أيضًا في صراع الحداثة التي تواجهها أميركا مع عصر الأنوار الأوروبية ومع منطق العلمانية والدولتية.
يرصد هايني في كتابه، الذي كان نتيجة عمل ونقاشات على مدى حوالي العشر سنوات، النمط الجديد في حالة (التدين) الإسلامي، والذي يرى، بعد عملية رصد ومتابعة منه، أنه بات يتحلق حول مفاهيم جديدة حصرها بـ(الفردانية والاستهلاك). وعلى هذا يكون “إسلام السوق” هو: “الربط بين أنماط جديدة من التدين والأسس الفلسفية للسوق كالنزعة الفردية والانفتاح وأولوية الشأن الخاص على العام والتخلّي عن السرديات الأيدولوجية الكبرى”.
وعلى الرغم من كل الجهد الذي قدمه هايني في تحليل مواقف الجيل الجديد من المتدينين، إلا أن وضع نموذج القيم البروتستانتية وروح نمط الحياة الأميركية كمثال يقترب منه “خطاب الحياة” الإسلامي الجديد، أو يبتعد، يجعل سؤالنا مشروعًا حول تأثيرات النسق الاجتماعي والسياسي الحاضن لشكل التدين السابق والجديد، بحسب ما يرى هايني.
لا يمكن الحديث عن “إسلام واحد” يجمع بين مصر والسعودية والعراق وتركيا وإندونيسيا في الوقت ذاته؛ فللتجربة المصرية فرادتها في علاقتها بالسلطة السياسية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأردن والسعودية مثلا، وهي تختلف بالطبع عن التجربة التركية الفريدة في نسق سياسي يسمح بممارسة الديمقراطية والانتخابات وبناء المشاريع الأيديولوجية المؤسسة على حوامل اقتصادية واجتماعية.
لا يعني التحليل العام لاتجاه التدين وربطه بالجانب السياسي، أنه هو التحليل المشروع والذي نحتاج إليه وسط التغيرات المحلية والدولية للبلدان الإسلامية، وهذا -تحديدًا- ما يجعل البحوث التي تتناول علاقة الدين الإسلامي بالحياتي واليومي من جانب الباحثين “من خارج النسق” تدور حول البنى السياسية والأيديولوجية فقط. وربما قراءة في التجربة التركية، كما حلل جزءًا منها الباحث نفسه، ستحيلنا إلى ما يمكن أن يدعمه مناخ التدين الخاص بالمجتمع التركي وعلاقته بالسياسة من عملية “لبرلة الدين” وعدم نجاح التجربة في نسق آخر. وهذا ما يؤكده ظهور الحركات الراديكالية في الخمس سنوات الأخيرة، والتي ضربت بكل تحليلات هايني عرض الحائط في علاقة الديني بالسياسي والأيديولوجي. وفي هذا تحديدًا لا يمكننا كباحثين النظر إلى “نسق إسلامي” موحد يجيز لنا تعميم اتجاهات التدين الجديدة لدى دولة إسلامية في الوطن العربي، ودولة إسلامية أخرى في آسيا أو إفريقيا.
وسط كل هذا، يبدو أن النموذج الأميركي في علاقة الدين بالتنمية ونمط الحياة الليبرالية، هو النمط الأكثر قابلية للتجسيد عنه في النموذج الأوروبي بالنسبة إلى الدين الإسلامي. وهو ما يمكن أن يؤسس لنظرية جديدة تنظم علاقة جديدة بين النسق الديني والأنساق الأخرى داخل المجتمع الإسلامي، في اتكاء سيبدو ضروريًا وملحًّا للتنظير السوسيولوجي في الدرجة الأولى، وهو ما غاب كثيرًا في تحليلات الباحث.