مقدمة
على الرغم من جريان العادة باتهام الفكر السلفي بخلق التطرف، وعلى الرغم من أن لهذا الاتهام نصيبًا من الحقيقة إلا أن الفكر الإطلاقي الذي يثوي في خطاب نفر من العلماء أدى دورًا –في رأينا- في تكريس فكر إطلاقي في العقل الجمعي للأكثرية في سورية، وساهم في دق الإسفين بين مكونات المجتمع؛ بسبب ما يلزم عن هذه السمة الإطلاقية من استعلاء مشفوع بمستندات لا تقبل النقاش لدى أصحابها على غيرهم.
والصلة الحية بالشيخ البوطي مع متابعة إنتاجه بشغف إبان التتلمذ عليه كانا كافيين لإدراك الأثر بالغ الخطر للافتراضات المضمرة والظاهرة في خطابه، وهي افتراضات امتلاك الحقيقة المطلقة بالاستناد إلى منطق برهاني فرضه أبو حامد الغزالي فرضًا على التراث الإسلامي الأصولي والكلامي وهو يجد جذره في المنطق الأرسطي البرهاني العقيم.
وعلاوة على ذلك فإن البوطي قدم خدمة لم يسبقه إليها غيره لنظام الاستبداد عندما أصل تأصيلًا شرعيًا بطش النظام بالمتمردين عليه، عندما سلب الأخيرين أي تسويغ لتمردهم وصنفهم في صنف المحاربين الذين يحق للنظام قتلهم وصلبهم وتقطيع ايديهم وأرجلهم من خلاف.
أولًا- الفكر الإطلاقي للبوطي وجذوره
بمتابعة لإنتاج البوطي ومحاضراته ودروسه يمكن من دون كبير عناء أن تلحظ جذرًا إطلاقيًا لا نشك أنه الأكثر ملاءمة للأنظمة المستبدة؛ لما يساهم به من خلق نموذج الفرد الرافض للآخر والمعتقد بامتلاكه الحقيقة المطلقة. ولكن هذا الجذر الإطلاقي الموروث من أبي حامد الغزالي الذي كان البوطي يقتفي خطاه ويحاول أن يكون مثاله العصري، وإن كان كشفه ممكنًا في عموم إنتاج البوطي، غير أنه في إنتاج البوطي الفكري أكثر وضوحًا منه في إنتاجه الفقهي، وهو عين الازدواج الذي عاناه أستاذه أبو حامد الغزالي الذي استند في إنتاجه الفلسفي إلى منطق برهاني أرسطي بينما لم يطبق هذا المنهج في إنتاجه الفقهي.
ولعل الصلة التي نريد كشف الغطاء عنها بين علاقة البوطي بالسلطة والفكر الإطلاقي الذي كان يتبناه تصبح أوضح إذا أخذنا في الحسبان أن البوطي شخص فتحت أمامه المنافذ الإعلامية بشكل لا سابق له وتمكن عبر سنوات طويلة من الدخول إلى كل بيت، وأصبح الناس ينتظرون دروسه في التلفاز فحث الشباب والكهول الخطى نحو مسجد دنكز ثم مسجد الإيمان لمتابعة دروسه، وهو ما يجعل تمكين الفكر الأحادي الإطلاقي من العقل والوجدان الجمعيين في سورية تمكينًا لا يعدم وسائله.
فعلى الرغم من الجبهة التي فتحها البوطي مع السلفيين الذين يفترض أنهم ممثلو التشدد ونواة التطرف، فإن الأساس الذي كان ينطلق منه وهو المنطق البرهاني الأرسطي الذي وصل إليه عن طريق أبي حامد الغزالي لا شك قد كان له نصيبه من القدرة على التغلغل في العقل الجمعي، ولا نجانب الصواب إن قلنا إنه كان عاملًا من عوامل زرع بذور الفكر المتطرف، وإن من دون قصد مباشر من المرسل ومن المتلقي كليهما.
ولتوضيح الصورة أكثر نقول:
إن أبا حامد الغزالي قد أسرف في تثمين المنطق البرهاني الأرسطي وعده السبيل الوحيد لتجنيب الذهن الخطأ في الفكر، وهو في تأسيسه لهذا الاتجاه قد وضع بذور الفكر الإطلاقي في التراث الإسلامي؛ لأنه لا يقيم وزنًا للآخر متلقي الخطاب ولا للسياق الذي يجمع بين المخاطِب والمخاطَب.
إن المنطقيات في نظر أبي حامد” معيار للنظر والاعتبار وميزان للبحث والافتكار، فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعاير بهذا المعيار فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار”[1].، ومن لم يتبع الطرق المنطقية ” لم يكن له ثقة بعلومه أصلًا”[2] [3]ولا تختص هذه الضرورة بالميدان العقلي وحده بل تعم الميدان الفقهي والنقلي أيضًا لأن “النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات في ترتيبه وشروطه وعياره بل في مآخذ المقدمات فقط” فحصول العلم أو تحصيله لا يتم إذًا إلا بهذه الطريق بل إن هذه الطريق تجعل العلم في أعلى درجات اليقين ورتبه”.[4]
ولا يتسع المقام لعرض تفاصيل المنطق البرهاني الذي عده الغزالي منهج الوصول الى الحقيقة الذي لا منهج سواه في العقليات وتساهل في عدم استخدامه في الفقهيات، ولكن خلاصة هذا المنطق توجز في هذا الشكل:[5]

وواضح من الرسم التوضيحي أن أبا حامد لا يلقي بالًا لمكونات المقام التدليلي، فهو لا يقيم وزنًا لاختلاف المستدلين والمستدل لهم، ولا لمتغيرات سياق التدليل، وهو ما ينطوي على عد المستدل والمستدل له عقلين مجردين من المشخص، وفرض قبول الدليل الذي ينشئه العقل المجرد في طرف المنشئ من قبل العقل المجرد الذي هو المتلقي إذا قام هذا الدليل على المبادئ الصورية في الاحتجاج التي هي عينها المبادئ التدليلية الأرسطية، وعلى المبادئ المادية في الاحتجاج التي تفضي فيها النتائج اليقينية فقط إلى نتائج يقينية.
وحتى الاستدلال الشرعي يصر أبو حامد على ضرورة إرجاع صورته إلى صورة منطقية أرسطية عن طريق تحويل حكم الأصل إلى مقدمة كبرى، فبدل القول إن النبيذ حرام قياسًا على الخمر يقال: النبيذ مسكر وكل مسكر حرام فالنبيذ حرام.[6]
وإن تساهل الغزالي في قبول الاستدلال الشرعي على الرغم من ظنيته لا يعني أنه يقبل أن تكون صورته موضع ظنيته، وإنما لا بد في نظره من أن ترد صورته إلى شكل من أشكال الاستدلال الأرسطية بمعنى أن العلاقة الاستدلالية لا بد أن تكون قطعية، وإنما تكمن ظنية الاستدلال الشرعية المتساهل فيها في ظنية مقدماته التي ليست من المقدمات القطعية المحددة عند أبي حامد بالأوليات في اليقين المطلق والاعتقادات الجازمة في اليقين النسبي.[7]
خطورة ما خلص إليه البوطي أنه لم يكن مسبوقًا، فحتى حليف النظام والأنظمة السابقة أحمد كفتارو الذي لم يخفِ موقفه الموالي للنظام في قمعه للخارجين عليه إبان أحداث الثمانينيات لم يصل به الأمر إلى إصدار فتوى شرعية تنص على أنها لا تقبل النقاش وأنها الوحيدة المتوافقة مع الأصول الشرعية في تجريم الخارجين على الحاكم.
وعليه فإن تشبث أبي حامد بالمبادئ الصورية والمادية الأرسطية في الاحتجاج لا فسحة في التساهل فيها في العقليات، ويمكن التسامح فيها في الشرعيات بشرط أن يكون مناط التسامح مقدماتها الظنية؛ لأنها أمور عملية ومبنى العمل في الأغلب على الظن.[8]
وإننا إذ عرضنا بتكثيف شديد برهانية أبي حامد وجذرها الأرسطي، وما كرسته من إلزام عقلي يقيني للأدلة بدعوى أن منشئها هو العقل المجرد ومتلقيها هو العقل المجرد في إهمال صريح للمقام التدليلي، فإنما قصدنا من هذا إلى توضيح نكوصية أبي حامد ومن يقتفي خطاه عن المنطق الحجاجي الذي يمثل المنطق المعاصر الذي كان له في التراث الإسلامي حضور لم يكتب له الانتشار كما تيسر لفكر أبي حامد.
والمنطق الحجاجي بمقارنته بالبرهاني إنما يمثل منطقًا طبيعيًا لا تجريديًا ويمكن للرسم الآتي أن يوضح الفرق بينه وبين الأول:[9]

وعلى الرغم من إنكار البوطي استخدامه المنطق الأرسطي في كتابه الشهير الذي وضعه في أصول العقيدة، وهي عقيدة أشعرية يكفي لعدم قطعيتها أن كثيرًا من مسائلها محل خلاف داخل الفكر الكلامي الإسلامي، ولكنك تلحظ بتحليل خطابه منهج أستاذه ثاويًا بين السطور تارة وصريحًا تارة أخرى تسري من أول الكتاب إلى آخره، ففي أول الكتاب يقول:
“ذلك لأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله وما كان للظن أن يصلح سبيلًا إلى العلم بحال، وإلا لأمكن لمقدمتين ظنيتين أن تأتيا بنتيجة يقينية وهو من أجلى صور المحالات”[10].
وهو عين المنطق البرهاني الذي لا يقبل إلا المقدمات اليقينية سبيلًا إلى النتائج اليقينية.
ويعطف على كلامه السابق، وهو بصدد الشروع في عرض المنهج العلمي لدى المسلمين الذي يتبناه بالقول:
“من هنا كان على كل باحث عن حقيقة أن يخط إليها منهجًا علميًا لا يشوبه الحدس أو الوهم وأن يلتزم هذا المنهج لا ينحرف عنه يمنة ولا يسرة.”[11]
في خلط واضح بين الحدسيات والوهميات والظنيات يأباه منطق أستاذه نفسه الذي وضع الظنيات في صنف المقدمات التي يرجح فيها الصدق على الكذب بينما وضع الوهميات في صنف المقدمات التي تفضي إلى الكذب المطلق.[12]
ثم تتكرر العبارات التي تؤدي المعنى نفسه في طول الكتاب وعرضه:
” وأنت ترى كيف يتمثل هذا الدافع في النهي عن تبني أي فكرة حتى الدين نفسه إلا عن طريق ما يثبته العقل الصافي من الدلائل اليقينية”.[13]
“ومن أجل هذا قرر علماء التوحيد أن من شرط صحة إيمان المؤمن أن يكون قائمًا على دعائم من اليقين العلمي المجرد”
“وقد خاض علماء الكلام في بحث هذه المسائل عن طريق العقل والفكر المجرد”.[14]
“أما المسلك الأول فيبدأ البحث في ظاهرة الوحي ]….[ وأما المسلك الثاني فيستعجل الطريق ويبحث في الأمر على هدي من الفكر المجرد والبراهين العقلية المحضة”.[15]
وهيمنة المنطق الصوري على منهج البوطي لا تُلحظ في كتاب يناقش العقيدة فحسب، وإنما يمكن ملاحظتها حتى في حديثه عن إعجاز القرآن ففي أحد دروسه الشهيرة تجد منطقًا صوريًا موغلًا لا يلقي بالًا إلا للعلاقة الاستدلالية بين المقدمات والنتائج من دون إقامة أي وزن للعلاقة بين المقدمات ونتائجها من جهة والواقع من جهة أخرى، ومثال هذا اجتراحه لمصطلح يدلل به على أن القرآن كلام إلهي هو مصطلح “جلال الربوبية” الذي ينطلق لتوضيحه وفرضه كوجه من وجوه الإعجاز من مقدمة كبرى هي استحالة تلبس العقاد أسلوب المازني، ومن مقدمة صغرى تقول إن تلبس الرجل أسلوب المرأة أكثر استحالة ما دام مستحيلًا بين رجلين، ويخلص إلى نتيجة فحواها استحالة من درجة أكبر أن يتلبس بشر صفات الإله ويقول مثلًا: “نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم”.[16]
وواضح أن الحديث متماسكة مقدمتاه مع نتيجته، ولكنه لا يصلح أبدًا أن ينظر إليه بجدية لدى البحث عن تماسكه مع الواقع.
ثانيًا- خدمة البوطي غير المسبوقة للنظام
في أوائل تسعينيات القرن الماضي أصدر البوطي كتابه الذي ألّب عليه كثيرين من الناشطين الإسلاميين، ومن زملائه الشرعيين وهو كتابه: “الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه وكيف نمارسه”.
وهو في بداية كتابه يعبر عن منطقه الأحادي الذي لا تفلح محاولات تجميله بدعوته إلى الحوار في تأكيده أن ثمة حقيقة مطلقة، وأنها لا تحتاج من أجل كشفها إلا إلى تحاور متحاورين مطّرحين أهواءهم ونوازعهم النفسية، وبالطبع فإنه ليس عسيرًا اكتشاف أن الحقيقة هي التي يطويها البوطي تحت جناحه، وأن ما يخالفها مشوب بالنوازع النفسية والرغبات الشخصية.[17]
وفي تتبع فصول الكتاب الذي يمهد فيه البوطي لحقيقته المطلقة تلك التي تصب بصورة تكاد تكون غير مسبوقة في خدمة نظام الاستبداد يستطرد فيه البوطي في تعريف دار الإسلام بحسب رأي الفقهاء، بعد أن يبسط رأيه السلبي في حركات الإسلام السياسي، ثم ينتقل إلى توضيح طرائق استقرار الحكم وفي جواز خلافة المتغلب، ومن ثم في توضيح موجبات كفر الحاكم التي لا يوجد لها أي أثر في الواقع السوري ولا في غيره من البلاد العربية ما خلا رأيًا يمكن عده اجتهاديًا في تكفير حاكم مصر الذي أبرم اتفاقية كامب ديفيد، وفي توضيح الفرق بين الجهاد والبغي والحرابة لكي يخلص بعد ذلك كله إلى الحكم بلا مواربة على الخارجين الإسلاميين على نظام الأسد الأب بأنهم محاربون تنطبق عليهم أحكام الحرابة التي تنص عليها الآية رقم 33 في سورة المائدة.[18]
وخطورة ما خلص إليه البوطي أنه لم يكن مسبوقًا، فحتى حليف النظام والأنظمة السابقة أحمد كفتارو الذي لم يخفِ موقفه الموالي للنظام في قمعه للخارجين عليه إبان أحداث الثمانينيات لم يصل به الأمر إلى إصدار فتوى شرعية تنص على أنها لا تقبل النقاش وأنها الوحيدة المتوافقة مع الأصول الشرعية في تجريم الخارجين على الحاكم.
ويستمر البوطي في أثناء كتابه في منح النظام مسوغات حتى في ما يقع به من أخطاء، فالنظام في التجاوزات التي يرتكبها منفعل لا فاعل، أما خصومه فهم المبادرون في العنف والمسؤولون عن بذر بذوره وعن ما يفضي إليه من تجاوزات ومحاذير.
فهو في معرض إبداء استغرابه من غفلة الحكام وخصومهم من حجم المؤامرة الغربية التي تحاك لزرع الفتنة في بلاد المسلمين يتساءل:
“أفلا يعقل أن يكون أي من الطرفين، الحكام أو الإسلاميون على بينة من هذا الأمر، ألا يعقل ألا يعلم أي من أفراد الطرفين أن الغرب يتخذ من هذا التشاكس أو التشابك أذل مطية يمضي بها إلى تحقيق أمانيه ومطامعه، وأن أطماعه لن تتحقق إلا بتفويت مصالح هذه الأمة وفي مقدمتها مصلحة الدين بكل ما يتبعها من فروع وآثار”. ثم يقول مجيبًا: “والجواب الذي نتوقع أن نسمعه من طرف القادة والحكام هو أن هذه الحقائق محل يقين منهم، ولكن لا خيار لهم في الأمر إذ إنهم في موقع الرد والدفاع، لا في موقع التحرش والهجوم، وقد سمعنا هذا الجواب فعلًا من كثير منهم”.[19]
وفي ثناء صريح على سياسة النظام المنسجمة مع خط الدعوة الإسلامية التي يمثل هو أبرز وجوهها لا يجد البوطي حرجًا في الاستشهاد بعبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية الذي أدهش الصحافيين الغربيين الذين تقف وراءهم قوى تريد زرع الفتنة بين الحكام وأهل الدعوة الإسلامية:
“وإني لأذكر بعض الصحافيين سألوا في العام الماضي نائب رئيس الجمهورية العربية السورية عبد الحليم خدام عن موقف الدولة من المسلمين (الأصوليين) الذين يتكاثرون وينشطون في القطر السوري فكان جوابه أن الأنشطة الإسلامية في سورية لا تشكل أي خطر على الدولة ونظامها، إذ إنها تسير في خط مواز للدولة ولا تتجه في خط تقاطعي معها، ولا شك أن هذه الإجابة فاجأت السائلين ومن وراءَهم بخيبة أمل مريرة بل ربما فاجأتهم بموقف لم يكونوا يتوقعونه”.[20]
والنتيجة الأساسية التي يخرج بها البوطي ويقدم بها ما أسميناه الخدمة الكبرى لنظام الاستبداد هي النتيجة التي يخلص إليها بعد تصنيفه الخارجين على النظام في أصناف ثلاثة: مجاهدين، وبغاة، ومحاربين.
الذين يعلنون التمرد المسلح على أنظمة الاستبداد كنظام الأسد أو النظام الجزائري لا يمكن أن يصنفوا في صنف المجاهدين؛ لأن الجهاد لا يكون جهادًا إلا في مواجهة معتدين من الكفار شرعوا في العداوة بالفعل أو بيتوا النية عبر مؤشرات واضحة، والحال أن البوطي يقر بإيمان رؤوس الأنظمة؛ لأنهم لم يعلنوا كفرًا بواحًا وهو المصطلح الأثير لدى البوطي الذي يشتقه من حديث نبوي.
وهم ليسوا بغاة؛ لأن البغي لا يكون كذلك ما لم يستند إلى رأي اجتهادي وجود شوكة وقيادة؛ ولأجل استناده هذا فإن التعامل مع البغاة يتسم بتساهل لا يوجد في التعامل مع المحاربين فهم لا يقتل أسيرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يطارد من يهرب منهم.
فلم يبق في القسمة إلا المحاربون، وهو الوصف الوحيد الذي ينطبق على من خرجوا على نظام الأسد الأب في الثمانينيات، وعلى من خرجوا على الحكم بعد أن سلبوا حقهم في الحكم الذي حصلوا عليه ديمقراطيًا في الجزائر.[21]
وهم لا يتمتعون بأي حق من حقوق البغاة السابقة، ومن حق الحاكم أن يواجه عنفهم بعنف لا شفقة فيه وقد وضحت الآية في سورة المائدة الحكم الشرعي الأصلي في حق هؤلاء:
“إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (المائدة، آية 33).
ولا يوضح البوطي في ما يصدره من رأي اجتهادي يعده حقيقة مطلقة حتى الخلاف المشهور بين العلماء حول هذه العقوبات المذكورة في الآية في ما إذا كانت على التخيير أم على التوزيع بحسب نوع الجريمة.
ولكن إغفاله هذا للخلاف المشهور بين العلماء ليس ذا شأن إذا ما قورن بإغفاله لما هو أعظم وهو عسف النظام وإجرامه الذي شهده السوريون إبان ما سمي بأيام الأحداث الذي لم يكتفِ فيه بقتل من حملوا في وجهه السلاح، وإنما دمر فوق رؤوس الآمنين بيوتهم، وسمح لعناصر جيشه وأمنه باغتصاب الفتيات في حماة، وألقى في غياهب معتقلاته الألوف ممن لا ذنب لهم في ما جرى ولا ناقة لهم فيه ولا جمل.
هذا إذا لم نذكر أن ثمة سندًا اجتهاديًا لهؤلاء يمكن أن يزحزحهم من صنف المحاربين إلى صنف البغاة متمثلًا في حادثة مشهورة كان بطلها صحافي سوري نشر في مجلة صادرة عن وزارة الدفاع السورية ما معناه أنه قد حان الوقت لوضع الله وكتبه وأنبيائه في المتحف، وهي حادثة استند إليها كثيرون من قادة الحركة الإسلامية المسلحة.[22]
ويغفل البوطي بصورة لا يمكن أن تكون مقصودة موقف إمام عظيم هو أبو حنيفة النعمان الذي أيد الثورات كلها التي قامت على حكام بني أمية؛ لأنه عد حكمهم غير شرعي مع أنهم لم يظهروا كفرًا بواحًا على حد التعبير الأثير للبوطي.[23]
خاتمة
لا يمكن تبرئة فكر البوطي الإطلاقي من تهمة المساهمة في صنع ظاهرة التطرف وإن بشكل غير مباشر ففتح المنافذ الإعلامية أمام هذا الرجل لكي يتسلط على عقول نسبة كبيرة من الناس بما ينطوي عليه خطابه من قطعانية وإطلاقية وما يثوي تحته من منهج يفترض أنه السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة لا بد أن يساهم في سد المنافذ أمام الاعتراف بالآخر والنكوص بالجمهور إلى الفكر القروسطي وفصلهم عن الواقع.
ثم إن علاقة العلماء بالسلطة قد أخذت مع البوطي منحى جديدًا يسوغ فيه عالم دين -مرموق له حضوره الكبير لدى شرائح كبيرة من السوريين- للسلطة جرائمها ويؤصل لها تأصيلًا شرعيًا ويقدم على أن الفصل في المسألة عنفها الإجرامي وشرعية استمرارها على الرغم مما أحدثته من تشويه في بنية الدولة والمجتمع، وما كرسته من فساد يكاد لا يسلم منه مفصل من مفاصل الدولة، وعلى الرغم من أن الحاجة الكامنة لدى كثير من السوريين للعيش بكرامة قد تحولت إلى حاجة وجودية وقلق وجودي.
في ظل هذا المشهد بالغ الكآبة يأتي البوطي لكي يقدم وفق عدته المعرفية التي تساق وفق منطق صاحبها الإطلاقي الاستبدادي على أنها العدة الوحيدة الصالحة لتقديم الإجابات وصوغ الأحكام الملائمة للواقع، ولكي يقول للسوريين وغيرهم: إن درك التخلف الذي أوصلتكم إليه الأنظمة وآلاف الشباب الذين قضوا في أقبيته الموبوءة أو ضاعت أجمل سنوات عمرهم فيها، ونسبة الواقعين تحت خط الفقر الهائلة التي يلعق أفرادها المر بسبب الفاقة، وانخفاض معدل الأعمار المتوقعة بسبب القلق الوجودي وبسبب ضعف الخدمات الصحية وبسبب التلوث وغيرها من الأسباب، وشبابكم الذين لا يجدون في وطنهم فرص بناء حياتهم فيقضون أعمارهم في الغربة، هذا كله لا يسوغ الثورة على الحاكم؛ لأنه لم ينطق بكلمة الكفر الصريح.
وهو استناد إلى الأحكام الشرعية شبيه بما سوّغ به البوطي ومن يدورون في فلكه خروجه على أبسط قواعد الأدب عندما تذكر زوجته المتوفاة وقال إنها كانت تساهره بأنوثة عارمة[24]، فالشرع لا يحرم حنينه إلى هذه الأنوثة الطاغية لزوجته ولا عبرة لما تقره الأصول المجتمعية وقواعد حفظ أخص الخصوصيات في منأى عن أعين الناس.
[1] أبو حامد الغزالي، معيار العلم في فن المنطق، سليمان دنيا (محققًا)، (القاهرة: دار المعارف، 1961)، ص. 59-60.
[2] أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، محمد سليمان الأشقر (محققًا)، (بيروت: مؤسسة الرسالة، دار إحياء التراث العربي، 1997)، ج1، ص. 10.
[3] معيار العلم، مرجع سابق، ص. 60.
[4] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1985)، ص. 48.
[5] حمو النقاري، المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013)، ص. 266.
[6] المرجع نفسه، ص. 255.
[7] المستصفى، مرجع سابق، ص. 38-40.
[8] معيار العلم، مرجع سابق، ص. 171.
[9] المنهجية الأصولية، ص. 268.
[10] محمد سعيد رمضان البوطي، كبرى اليقينيات الكونية، وجود الخالق ووظيفة المخلوق، ط8، ( دمشق: دار الفكر، 1997)، ص. 31
[11] المرجع نفسه.
[12] معيار العلم، ص. 193.
[13] كبرى اليقينيات، ص. 32.
[14] المرجع نفسه، ص. 39.
[15] المرجع نفسه، ص. 40.
[16] البوطي، محاضرة على اليوتيوب بعنوان: علوم القرآن الكريم، مظهر جلال الربوبية تم رفعها بتاريخ 16/9/2017
https://www.youtube.com/watch?v=VQyZ1zx2Gf4
[17] محمد سعيد رمضان البوطي، الجهاد في الإسلام: كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟، (دمشق: دار الفكر، 1993)، ص. 28.
[18] المرجع نفسه، ص. 65-167.
[19] المرجع نفسه، ص. 178.
[20] المرجع نفسه، ص. 190.
[21] المرجع نفسه، ص. 147-167.
[22] حوار أجراه الباحث مع أحد قادة الطليعة المقاتلة الذين أجروا مصالحة مع النظام عام 1990.
[23] انظر محمد أبو زهرة، أبو حنيفة، حياته، عصره، آراؤه الفقهية، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1947)، ص. 36-38.
[24] محمد سعيد رمضان البوطي، من الفكر والقلب، (بيروت: دار الفارابي، 1972)، ص. 255.
__________
المراجع
- أبو زهرة، محمد، أبو حنيفة، حياته، عصره، آراؤه الفقهية، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1947).
- البوطي، محمد سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام: كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ (دمشق: دار الفكر، 1993).
- البوطي، محمد سعيد رمضان، كبرى اليقينيات الكونية، وجود الخالق ووظيفة المخلوق، ط8، (دمشق: دار الفكر، 1997).
- البوطي، محمد سعيد رمضان، من الفكر والقلب، (بيروت: دار الفارابي، 1972).
- الغزالي أبو حامد، إلجام العوام عن علم الكلام، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1985).
- الغزالي، أبو حامد، المستصفى من علم الأصول، محمد سليمان الأشقر (محققًا)، (بيروت: مؤسسة الرسالة، دار إحياء التراث العربي، 1997).
- الغزالي، أبو حامد، معيار العلم في فن المنطق، سليمان دنيا (محققًا)، (القاهرة: دار المعارف، 1961).
- النقاري، حمو، المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني من خلال أبي حامد الغزالي وتقي الدين بن تيمية، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013).