يسعدني أن أسهم في قراءة محددات المصالحة التاريخية بين العلمانيين والإسلاميين، بصفتي مواطنًا يؤمن بضرورة تضافر جهد أبناء سورية جميعهم، بأطيافهم الفكرية والسياسية ومكوناتهم الاجتماعية المختلفة، بهدف بناء دولتنا الحديثة لمواطنيها جميعهم، وبهم جميعهم أيضًا.

في الواقع تثير الإشكالية جملة تساؤلات: هل ثمة ضرورة لعلاقةٍ ما بين الدين والدولة؟ وإذا كان الجواب نعم، فكيف تكون؟ وما تجلياتها ومحدداتها وحدودها وإيجابياتها وسلبياتها؟ وأي سلطة ستنشأ في حال هيمنة الإسلاميين؟ ومن ثمّ فأيّ ديمقراطية؟ وما مدى قدرتهم على احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ورغبتهم في ذلك؟ وما الذي يريده العلمانيون على صعيد ماهية الدولة والمواطنة السورية وطبيعة الحكم؟

وعلى الرغم من أنني من أنصار الدولة العلمانية القائمة على أسس الديمقراطية الحديثة،‏ ‏ومبادئها في الحرية والعدل واحترام حقوق الإنسان‏ والمواطنة،‏ فإن واقع وجود التيار الإسلامي السياسي‏‏ في سورية يفرض عليَّ، انطلاقًا من انخراطي في شجون الشأن السوري العام منذ ما يزيد على أربعين سنة، ضرورة دراسة هذا الواقع والاهتمام بتطوراته الإيجابية والسلبية والإسهام في ترشيدها.

إنّ التحدي الكبير الذي يواجهه الإسلاميون السوريون يتجسد في موقفهم من المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أي معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي. بما تقتضيه هذه المساواة من أن تكون مرجعيتهم الإسلامية حاضنة حضارية تتسع صنوف الاختلاف السياسي والديني جميعها داخل الوطن السوري. وعليه، فكيف سيجسدون المرجعية الإسلامية عملياً؟ وما منزلة الإسلام في دستور سورية المستقبل؟ وما موقع الشريعة الإسلامية في التشريع السوري القادم؟ هل هي أحد مصادر التشريع أم المصدر الرئيس؟ وكيف يمكن للإسلام السياسي السوري التكيّف الشامل مع ما أحدثته الثورة من تغيّرات في الثقافة السياسية السورية، أم إنه يريد تكييف أهداف الثورة مع أهدافه؟

ولعل التحديات والأسئلة كثيرة، وتتعلّق كلها بمفهوم مدنية الدولة، وديمقراطية الحكم، والموقف من مفهوم المواطنة، ومنظومة الحقوق والحريات للجميع من دون تمييز. أما التحدي الأبرز أمام العلمانيين السوريين فهو الاعتراف بأنّ الحال الإسلامية السورية هي جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا يمكن تجاهل وجودها أو التلويح بخطرها من جانب بعضهم. على أنّ خطأ التعاطي مع الإسلاميين بصفتهم ينتمون إلى تيارات دينية، وأيديولوجية جامدة من دون النظر إليها بوصفها حركات اجتماعية وقوى سياسية تؤثر وتتأثر بما يدور حولها، يحرمنا من إمكان البحث عن فرص التوافق من أجل بناء سورية المستقبل.

ومن أجل تعزيز فرص المصالحة التاريخية يجدر بالحال الإسلامية السورية مغادرة الالتباس في موقفها من: الحقوق المتساوية للمواطنين، والديمقراطية، والتعددية، والتداول السلمي للسلطة، والدولة الدينية، وممارسة العنف للوصول إلى السلطة. كما يبدو أنّ التزامها ((العهد والميثاق))، الذي أصدرته جماعة الإخوان في آذار 2012 (تعدّ الشعب مصدر السلطات، كما تعدّ الدولة العصرية وقيمها ومؤسساتها مرجعًا ومصدرًا وأنموذجًا)، يؤسس علاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكوّنات المجتمع السوري، بأطيافه الدينية والمذهبية والعرقية كلها، وتياراته الفكرية والسياسية.

ويدور الأمر حول ما إذا كان في الإمكان طرح مفهوم للمواطنة يُبنى على أساس المصالحة بين مجتمع مؤمن ودولة لا دينية. فهل يمكن بناء نوع من ((العلمانية المؤمنة)) في سورية المستقبل، ولكن بغطاء عقلي نقدي، يتيح مناخ النقد وحرية المعتقد والتفكير والرأي الحر للجميع؟

وفي هذا السياق، لا بد أن نعترف بأنّ بلادنا تضم تعددًا وتنوعًا دينيًا ومذهبيًا يمثّل صورة حضارية مشرقة للتنوع والتفاعل والعيش المشترك، والعلاقة بين الوطن ومكوّناته يمكن أن تكون علاقة توافق وتكامل، حين تكون الحدود واضحة بين المساحة المشتركة والمساحات الخاصة، ويمكن أن تكون علاقة صراع، حين تريد المكوّنات توسيع مساحتها الخاصة على حساب المساحة المشتركة أو حين تريد سلطة سورية ما -بعد التغيير- توسيع المساحة الوطنية المشتركة على حساب خصوصيات المكوّنات.

 

المحددات:

  • المساواة بين المواطنين، بغض النظر عن أي معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي.
  • التكيّف الشامل مع ما أحدثته الثورة من تغيّرات في الثقافة السياسية السورية.
  • النأي بالمسألة الدينية عن صراعات الشرعية السياسية والتجاذبات الأيديولوجية، وتحويلها إلى سياج معياري ضامن للقيم المدينية المشتركة (الديانة المدنية بلغة روسو).
  • المصالحة بين مجتمع مؤمن ودولة لا دينية، أي دولة تحترم الدين، وتصون الحريات الكاملة لرعاياها المؤمنين لممارسة شعائرهم الدينية، المتعددة والمختلفة والمتباينة، من دون أن تتخلى عن مدينيتها.
  • عدم التشجيع على الاستقطاب الأيديولوجي وتقسيم المجتمع على أساسه، وإنما الاشتغال بأدوات الفعل السياسي (بلورة برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية).
  • الدولة ذات وظيفة سياسية بحتة، ورهاناتها متعلقة بمصالح الشعب السوري، وعلاقتها مع أطياف المجتمع علاقة تعاقدية. من مقتضياتها أن تكون على مسافة واحدة من المكونات السورية في إطار مفهوم ((المواطنة))، ومن مقتضيات ذلك أن تقف حيادية تجاه الدين.
  • دستور الدولة يفسر طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة وهو المرجعية الوحيدة التي يعود إليها الطرفان عند الاختلاف، فليس ثمة فرق في القانون والواجبات والحقوق، بين الأفراد بسبب لونهم أو إثنيتهم أو دينهم، فجميعهم مواطنون.
  • يطرح التوزع بين منطقي العلمانيين والإسلاميين أكثر من سؤال منهجي ومعرفي بخصوص تأصيل مفهوم العلمانية وتوطينه في المجال السياسي السوري، بل إنّ الاجتهاد الأكبر يعود إلى الإسلاميين، برفع اللبس عن مفهوم مفصلي في تكوّن مجال سياسي مؤثث على التعددية، وحق الاختلاف، والتنافس، والتكافؤ في الفرص، وما إلى ذلك مما هو مندرج ضمن سقف الدولة المدنية.
  • قيم الثورة السورية تمثل مرجعية سياسية للقوى التي تريد القطع مع الماضي جميعها، وإدخال البلاد نهائياً في مرحلة ديمقراطية.
  • العمل بمنطق وفاقي والبحث عن أوسع ائتلاف ممكن للانتقال بسورية من حال الدمار الحالي إلى أفق ديمقراطي أرحب.

إنّ الديمقراطية لا تستقيم في ظل قيادات تعيش حال تنافس غير منضبط يمكن أن ينقلب في أي وقت إلى فوضى، بمثل ما هي حال ساحة المكوّنات السياسية السورية اليوم التي تغرق في بحر من الخلافات على الرغم مما تدّعيه أطرافها جميعها من وحدة الأهداف، وتؤكده حول وجود خلافات محدودة في أساليبها، لكن الغريب أنها لا تجد ما يكفي من مشتركات تدفعها إلى اعتماد الحوار في علاقاتها، والإقرار المتبادل بحق كل منها في تقديم قراءة مختلفة حول ما تطرحه الثورة السورية من قضايا ومسائل ومشكلات، لأنّ وجوده ضروري لتشكيل فضاء الحرية المفتوح.

وفي هذا السياق، ثمة احتمالان ينضجان في واقعنا الراهن: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، خاصة بين العلمانيين والإسلاميين، تتيح انتقالًا آمنًا إلى نظام ديمقراطي بديل، نقبله جميعًا لأنه من اختيارنا، واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا من أزمتنا الراهنة إلى حال مفتوحة على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما بديلان تاريخيان للواقع السوري الحالي، يمثل أولهما فرصة، وثانيهما كارثة. ولكي يرجح احتمال الفرصة، فلنعمل من أجل توحيد جهود المواطنات والمواطنين كلهم، من أجل بناء مجتمع الحرية والكرامة في سورية المستقبل.

 

غازي عينتاب في 3/2/2017