التداخلات بين دور الدين ووظيفة الدولة في شرقنا البائس مسألة تُعدّ من أكبر المعوقات التي لم نتفق على حلّ لها، وقد ساهم فيها فريقان: الأول علمانوي خلط بين علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدين بالحياة، فطالب بطلاق بائن مع الدين، والثاني إسلاموي جعل العلاقة بينهما كالعلاقة بين (توءم السيامي)، متى فرّقنا بينهما ماتا، فلم يعد يرى قيمة للدين إنْ لم يكن في السلطة حاكمًا. فالأول أراد أن يجرِّد الدين من علاقته بالحياة، والثاني أراد الدين متدخلًا في مفاصل الدولة كلها لأسلمتها.
إنّ التداخل في المفاهيم، والخلط بين وظيفة ودور كلّ من الدين والدولة، وعدم إدراك الحدود بينهما، يؤدي إلى خلل في إدراك مهمة كل منهما، عندئذ لا الدولة تقوم بوظيفتها، ولا الدين يؤدي دوره كعامل مساعد في النهضة والتنمية، فالتداخل بين الوظيفة والدور لكل منهما يعرقل عمل الطرفين.
هذا الخلط في إدراك دور الدين والدولة ووظيفة كل منهما، وعدم الاتفاق على ترسيم جاد للحدود بينهما، جعل المعركة “الدونكيشوتية” مستمرة بين الفريقين بلا نتيجة على مدار قرن كامل، ينظر فيها كل طرف “بمكارثية” للآخر، ويعمل على نتيجة صفرية معه، وهذا جعل الاستبداد يبطش بهما، ويتربع على رأس الدولة ليحكمها بفرعونية.
قبل الدخول في الفوارق الموضحة لدور كل منهما، لا بدّ من تعريف كل من الدين والدولة توضيحًا للفوارق بينهما، يقول (سيسرون) في كتابه (عن القوانين): الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله. ويقول (الأب شاتل) في كتابه (قانون الإنسانية): الدين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق. هو واجبات الإنسان نحو الله، وواجبـاته نحو الجماعة، وواجباتـه نحو نفسه. وإلى المعنى الشرعي الذي اختاره العلماء تنصرف كلمة (دين) إلا إذا جاءت قرينة تصرفها إلى معاني لغوية أخرى.
أما الدولة فلها تعريفات كثيرة، منها تعريف الفقيه الفرنسي (Bonnard) في كتابه (المفهوم القانوني للدولة): وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة في مواجهة شعب مستقر على إقليم محدد، وتباشر حقوق السيادة بإرادتها المنفردة، ومن طريق استخدامها القوة المادية التي تحتكرها.
من خلال التعريفين نجد أن الفرق دقيق بينهما، لكن الاستلاب التاريخي لمتخيل دولة الخلافة (الإمبراطورية)، واستخدامها للدين جعلنا نخلط بين دور ووظيفة كل منهما، فلم ندرك تغيُّر طبيعة الدولة بين عصرنا والعصر الذي كانت فيه تأخذ مشروعيتها من الدين.
ما الفرق بين الدين والدولة؟
حتى يحافظ الدين على طهارته وتعمل الدولة من دون اختلاف أو خصومة معه -لأن غاية الطرفين تحقيق الأمان والسلام للمجتمع- لا بدّ من إدراك الفرق بينهما.
الثقافة الدينية تهيمن على سلوك الفرد في مجتمعاتنا لتصبغه بصبغة عبادية، وهذا ممدوح، لكنه يصبح مذمومًا حينما يتدخل الدين في الدولة أو العكس، فالدولة اليوم مؤسسة محايدة تقوم على خدمة المجتمع بشتى انتماءاته الدينية والعرقية من دون تمييز، وتحاسب المخالف على سلوكه من دون أن يكون لها تدخل بانتمائه، وتسعى ليكون منسجمًا مع القوانين الناظمة للمجتمع.
الدين يهذب المتديّن بعملية ترغيب وترهيب ذاتية، لينتفع منه المجتمع والدولة موضوعيًا، وتبقى الدولة تقيّد المواطن موضوعيًا لينضبط مع حركة المجتمع المنتظمة بقوانين نافعة، ولا بدّ من منع تدخل رجال الدين بوظيفة الدولة، ومنع الدولة من استخدام الدين لتمرير سياستها، فالدين لله والدولة للجميع.
يقول الدكتور محمد شحرور في نهاية كتابه الدين والسلطة: الدين يتدخل في حياة الإنسان الشخصية، أما الدولة فلا تتدخل فيها، والدين لا يقيّد الحلال، أما الدولة فتنظم الحلال تقييدًا وإطلاقًا، والدين لا يمتلك أداة الإكراه، أما الدولة فتمتلكها، والدين يوجه الناس طوعًا لسعادة الدنيا والآخرة، أما الدولة فمهمتها المحافظة على سعادة وكرامة وأمن وحريات الناس في الدنيا فقط.
في الجانب الاقتصادي
الدين يرهِّب المتدين من ممارسة الغش والاحتكار، لكنه لا يمتلك قوة قهرية دنيوية على ذلك، ويترك المسألة لإيمانه وأخلاقه، ولكن يتوعده بعقوبة مؤجلة يوم القيامة. أما الدولة فلديها السلطة التشريعية والتنفيذية لمعاقبة من يغش أو يحتكر، وتحاكمه بحسب قوانينها. والدين لا يحدد الأسعار ولا يفرض حدًا معينًا للربح، وقد طلبوا كثيرًا من النبي أن يسعّر فرفض وترك المسألة لضمير المؤمن، أما الدولة فيحق لها بسبب قوتها القهرية تحديد الأسعار ومراقبتها وضبط الأسواق. لذلك نقول: إن الدين لم يضع نظامًا اقتصاديًا محددًا للمجتمع حتى يسير عليه، ولكنه وضع قيمًا أخلاقية تضبط حركة الاقتصاد لمنفعة المجتمع، أمَّا الدولة فيحق لها سنّ نظام اقتصادي يسير عليه المجتمع.
في الجانب الاجتماعي
الدين لا يُكره الشباب على الجندية، ولكنه يرغّب بها ويجعلها أمرًا اختياريًا، أما الدولة فيحق لها تجنيد الشباب وسنّ قوانين الخدمة العسكرية لأمن المجتمع وسلامته. وكذلك الدين يرغّب بالعلم، ويدعو للتعلم، ولكنه لا يعاقب غير المتعلم، أما الدولة فلها الحق بإجبار أولياء الأمور على جلب أولادهم للتعلم ومعاقبة من يخالف ذلك. كذلك الدين لا يحدد النسل، أما الدولة فيحق لها تنظيمه لا منعه، والدين يسمح بتعدد الزوجات بشروط محددة، أما الدولة فيحق لها منع التعدد لا تحريمه، للمصلحة العامة.
الجانب السياسي
لم يحدد لنا الدين نظامًا سياسيًا نلتزم به كالنُظم المعروفة، ولكنه يطالب الدولة بالعدل مع كل رعاياها من دون تفريق، ولم يحدد عمر الحاكم ولا مدة ولايته، أما الدولة فيحق لها وضع مادة في الدستور تحدد عمره ومدة ولايته. والحاكم في الدولة، وفق صلاحياته الدستورية، ونتيجة أزمة ما أو ظرف ما، يحق له إيقاف العمل بحكم شرعي من دون إلغائه أو إبطاله،وهذا ما فعله عمر في سهم المؤلفة قلوبهم، وفي قطع اليد عام الرمادة، وفي توزيع سواد العراق. وبدراسة الروايات والبحث فيها نلاحظ أن فعل عمر كان بوصفه زعيمًا سياسيًا وحاكمًا لا مشرّعًا، ولو كان مشرّعًا لما اعترض عليه الصحابة وخالفوه في قراره.
نقول مما تقدم: الدين يحرّم والدولة تمنع، الدين يعاقب في الآخرة والدولة تعاقب دنيويًا، الدين له عبادة تأخذ الأجر عليها من الله، أما الدولة فتريد عملًا تمنحك عليه الأجر، فالفارق بين تحريم الدين ومنع الدولة كبير، فتحريم الدين أبدي، ومنع الدولة ظرفيّ متغيّر. وبناء عليه، فالدولة كائن اعتباري دائم الصيرورة، وخضع عبر التاريخ لسيرورة جعلته بهذا الشكل الحداثي المتفق عليه، وعندما نخلط بين دور الدين ووظيفة الدولة فإننا نسيء للدين ونعرقل عمل الدولة.
ويبقى الدين يهذب المتديّن بعملية ترغيب وترهيب ذاتية، لينتفع منه المجتمع والدولة موضوعيًا، وتبقى الدولة تقيّد المواطن موضوعيًا لينضبط مع حركة المجتمع المنتظمة بقوانين نافعة، ولا بدّ من منع تدخل رجال الدين بوظيفة الدولة، ومنع الدولة من استخدام الدين لتمرير سياستها، فالدين لله والدولة للجميع.
ختامًا
علينا أن نعلم بأن قواعد الدين مرتبطة بعلة ثابتة وحكمة متغيرة، أما ظروف الحياة فمتغيرة، “وفي المقابلة بين الثابت والمتغير، يحدث التخالف، ونقصد بالتخالف أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، وما دام تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائمًا بتغير الثابت”، وهو ما نسميه بالاجتهاد لمصلحة المجتمع والدولة، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب، ولا يمكن أن ننحاز لتطبيق حكم ديني لا يلحظ تحقيق العدالة الاجتماعية، فالدين في خدمة الإنسان والعكس غير صحيح.
برأيي لو وصل الناس في مجتمعاتنا أو غالبيتهم لفهم العلاقة بين الدين و الدولة فهماً عقلانياً متوافقاً مع حركة السيرورة التاريخية الإنسانية و حركة القوانين الكونية و اللذان أي ( سيرورة التاريخ و القوانين الكونية ) في حالة حركة دائمة متغيرة متسعة باستمرار لتجاوزنا كل هذا الجدل و الخلط و الصراع الاجتماعي في مفهوم العلاقة بين الدين و الدولة ،
فليس هناك شيء ثابت باستمرار إنما الثابت الوحيد هو التغيير ، و التغيير لا يتم إلا بالحركة الدائمة و لا يستمر إلا من خلال الاتساع ..