في الوقت الذي شعر فيه السوريون بأن المجتمع الدولي قد خذلهم، ولا سيّما بعد انسداد سُبل اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، باعتبار أن سورية غير موقعة على ميثاق روما الذي أنشأ هذه المحكمة، وأيضًا بفعل الفيتو الروسي الصيني الذي يقف بالمرصاد لأي محاولة، في مجلس الأمن الدولي، لتنظيم محاكمة دولية بشأن سورية؛ جاءت التحقيقات في أوروبا بالجرائم المرتكبة في سورية لتبعث أملًا متجددًا بأن اتخاذ بعض الإجراءات القضائية لا يزال ممكنًا لتحقيق العدالة لضحايا الجرائم الذين ليس لديهم مكان آخر يلجؤون إليه، حاليًا، سوى هذه الولاية القضائية العالمية التي أتاحت للسوريين إمكانية ملاحقة ومحاسبة من أجرم بحقهم، وجاء انطلاق أول محاكمة لعناصر سابقة في المخابرات السورية، في مدينة “كوبلنز” الألمانية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من بينها التعذيب والاعتداء الجنسي والاغتصاب، ليعزز آمال السوريين، وخاصة الضحايا وذويهم، بأن هناك خطوة مهمة قد فُتحت أمامهم على طريق تحقيق العدالة، كما جاء توقيف الشرطة الألمانية للطبيب السوري علاء موسى، المتهم بتعذيب المعتقلين في المشافي العسكرية، ليؤكد أن مسار العدالة لن يتوقف، بل سيمتد ليشمل كل المجرمين الضالعين بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.
وعلى الرغم من ترحيب مختلف المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان بمحاكمة “كوبلنز”، والصدى الإيجابي الذي تركته هذه المحاكمة، لدى معظم السوريين الذين وجدوا فيها خطوة مهمة وتاريخية على طريق النضال لتحقيق العدالة لمئات الآلاف من السوريين الذين احتُجزوا وعُذّبوا وقُتلوا، بصورة غير مشروعة، في سجون ومراكز احتجاز النظام السوري والميليشيات المسلحة، أقول على الرغم من كل ذلك لم ير بعض السوريين في هذه المحاكمة إلا خدمة لنظام الأسد، لا لشيء سوى أن المحكمة تحاكم منشقين عن نظام الأسد. وكأن التغيير والانتقال من ضفة إلى أخرى يمنحان الجاني صك براءة عن الجرائم التي ارتكبها! وإذا قبلنا بهذا المنطق الأعوج؛ فإننا نعطي المبرر أيضًا لأي جهة بأن تحمي مجرميها، للأسد أن يحمي مجرميه الذين وقفوا معه، وللميليشيات المسلحة أن تحمي هي الأخرى مجرميها الذين قاتلوا معها.. علمًا أن الجرائم المنسوبة إلى المتهمين هي من النوع الذي لا يسقط بالتقادم ولا يشمله أي عفو، والقضاء المختص وحده هو من يقرر أهذا المتهم مجرم أم لا، والضحايا وحدهم من يملكون حق مسامحة المجرمين.
ويهمنا التأكيد هنا -كمحامين متطوعين- أن أساس عملنا يقوم على مساعدة الضحايا، وتمكينهم من ولوج القضاء، لاستيفاء حقوقهم وملاحقة المجرمين لأي طرف انتموا، ولا يحق لأي كان، مهما حدث، أن يطلب من الضحايا عدم محاكمة رسلان أو غيره أو التنازل عن حقوقهم. بينما يستسهل البعض فعل ذلك، دون أي إحساس بمعاناة الضحايا، فبأيّ حق نطلب ممن تعرّض للتعذيب، أو قُتل أخوه أو ابنه تحت التعذيب، أن يتنازل عن حقه؟ أيُعقل أن نطلب ممن اغتُصبتْ ابنته أو أخته أو زوجته العفو عن المجرم؟!
منذ أيام، بدأنا نسمع أصواتًا لم تكتف بالتشكيك والطعن بشهادة بعض الضحايا وحسب، بل وصل بهم التشكيك إلى حد النفي الجازم أن تكون المخابرات السورية قد مارست الاغتصاب بحق المعتقلين عام 2011، وكأن هذا الشاهد المطعون بشهادته قد ذهب بعزيمة رسمية إلى مقار المخابرات السورية للتنزه فيها، والاستماع إلى محاضرات عن حقوق الانسان تُلقى في زنازينها!
تساءل كثير من السوريين عن الهدف الأساسي من هذه الحملة، وسألوا: هل هذا التشكيك يخدم العدالة حقًا؟ أم أن الهدف من إثارة هذه الشكوك هو إشغال الناس وإغراقهم في تفاصيل تنسيهم جوهر قضيتهم الأساسية؟
صحيح أن هذا التشويش على المحاكمة الجارية الآن في “كوبلنز” قد يخلق بلبلة، ويترك تأثيرًا سلبيًا لدى المتلقي، إلا أن ما يحدث في داخل قاعة المحكمة لن يتأثر بكل هذا التشويش، فالأدلة كثيرة ومؤكدة، وعدد الشهود كبير أيضًا، وحجم الجرائم المرتكبة كبير جدًا، ولا يمكن تغطيتها أبدًا، وقريبًا جدًا سيُصدم المشككون بأن شكوكهم ستذروها شهادات الشهود الذين ينتظرون دورهم للإدلاء بأقوالهم التي ستؤكد أن المخابرات السورية مارست الاغتصاب في عام 2011 وما تلاه من أعوام.
أخيرًا، لا يسعني إلا أن أؤكد القول إن هذه المحاكمة التي تجري اليوم في مدينة “كوبلنز” الألمانية ليست نهاية المطاف، وهي ليست كل شيء، بل هي خطوة أولى، ولكنها خطوة مهمة وأساسية على طريق تحقيق العدالة لجميع السوريين بدون استثناء، باعتبارها أول محاكمة في العالم لمسؤولين سابقين في جهاز المخابرات التابعة لنظام الأسد، متهَمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهي فرصة مهمة يجب أن نستثمرها جيدًا في معركتنا القانونية الطويلة لتحقيق العدالة، وهي فرصة كي نساعد هذه المحاكمة في أن تشكل رسالة تحذير قوية، لكل الذين يرتكبون جرائم بحق السوريات والسوريين، بأن لا أحد فوق القانون، وأنهم لن يكونوا بعد اليوم في مأمن من الملاحقة والمحاسبة، وأن هذه المحاكمة ستكون محطة أساسية في مكافحة الإفلات من العقاب في انتهاكات حقوق الإنسان البالغة الخطورة، ليس في سورية وحسب، بل في العالم كله، وهي فرصة لنا كي نوضح للعالم، بالشهود والأدلة، المنهجَ الجهنمي الذي يسلكه النظام الأمني في سورية، وجرائمه التي ارتكبها بحق الشعب السوري.
إننا -السوريات والسوريين- معنيون جدًا بإنجاح المسار القضائي الجاري الآن، في أوروبا، لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب وضد الإنسانية في سورية، ولا سيّما محاكمة “كوبلنز” التي تتجاوز في أهميتها ودلالتها مجرد محاكمة عنصرين سابقين من المخابرات السورية، لتشمل نظام القمع الأسدي بأكمله الذي تخيلتُ -طوال الجلسة التي حضرتها- أنه هو الذي كان جالسًا في مكان المتهمين. وإننا معنيون أيضًا بإنجاح هذا المسار القضائي، لقطع الطريق أمام من تسبب في مأساتنا، والحيلولة دون أن يكون له دور في إعادة بناء سورية، ولاستعادة كرامتنا التي سُلبت منّا على مدى سنوات طويلة.