مقدّمة

يكثر الحديث عن العلمانيّة في سياق الحديث عن الحاضر والمستقبل في سورية، وعلى الرغم من أنّه ثمّة لغطٌ كبير حول هذا المفهوم، فقد كان من بين أكثر المواضيع سخونة واستثمارًا، خاصّة خلال النقاشات الفكرية والطروحات السياسية التي جرت منذ انطلاقة الثورة السورية.

لقد أُثقل مفهوم العلمانية بأوزان لا قدرة له على احتمالها، فكان الربط بين العلمانية والإلحاد، أحد أدوات الحرب المنهجية التي شنّتها تيارات الإسلام السياسي -ذات المنبت المديني في أغلبها- على الأنظمة الدكتاتورية العسكرية -ذات المنبت الريفي بالأصل- من خلال وصف هذه الأنظمة بالعلمانية، في محاولة لاستمالة الشارع المحافظ دينيًا بالأساس لجهتها أو لصفّها ضمن مسارات الصراع على السلطة والحكم. كذلك كانت العلمانية أحد شعارات أنظمة الحكم المرفوعة في وجه التيارات الدينية، وقد استخدمتها وظيفيًا لاكتساب ولاء مجموعات مغايرة دينيًا من مجتمعاتها وتعاطفها من جهة، ومن أجل تحقيق شيء من القبول الدولي أو الشرعية الخارجية، بوصفها أقرب إلى الفهم الغربي من جهة ثانية.

لم يبدأ النقاش حول العلمانية مع ثورات الربيع العربي، بل بدأ مبكرًا مع ما سُمّي في وقتها عصر التنوير العربي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فالحضارة العربيّة الإسلامية التي تقوقعت على ذاتها ضمن المفهوم العثماني والممارسة التقليدية للسياسة بوصفها قرار الخليفة –شبه المعصوم– فوجئت بالمعنى الحضاري وصُدمت به عند مجابهتها النموذج الغربي الحديث القادم على إيقاع المدافع والصحافة والعلم بآنٍ معًا، ما وضعها في موقع دفاعي ذي خلفيّة استنكارية رافضة لكلّ ما هو جديد، بوصفه استعمارًا أو من مظاهر الاستعمار.

من هنا بالذات، بدأت حركة مقاومة التحديث، بوصفه منتجًا غربيًا قادمًا على أسنّة الرماح لهدم العقيدة واستباحة الكينونة الأصيلة للشرق، المتجسّدة في العروبة والإسلام في نظر الأغلبيّة العددية لأهل المنطقة على الأقل. أدّى هذا إلى عمليات نفي جدلي للأفكار، من خلال التمسّك بالتراث بكلّيته بوصفه جامعًا للهويّة المشرقية، فكان الدين عاملًا حاسمًا في مواجهة هذا المتحوّل الغريب القادم من عالمٍ مناقضٍ وخصمٍ على مدار مئات السنين من التنافس لإثبات الوجود. ومن هنا وُضعت العلمانية في مواجهة الدين ضمن إطار مناورة ثقافية لا واعية، لكنّها فاعلة وناجعة من حيث النتيجة. فكان أن جرت شيطنة العلمانية بسبب ربطها بمضادّات الوجود الحضاري لمجموعة السكان المحلّيين ذوي الخلفية الإسلاميّة في أغلبهم.

هذه الخلفيّة التاريخية بالذات، هي ما يجعل من طرح مبدأ العلمانية للنقاش أمرًا أكثر من ضرورة ملحّة، فهو واقع معيشٌ لا يمكن تجاوزه، وله تأثيرٌ كبير سواء بُحِثَ أم لا، وبالتالي فإنّ غضّ الطرف عن المشكلة لا يعني حلّها، بل على العكس سيؤدي إلى تعقيدها وتفاقمها.

ملخّص تنفيذي

ستناقش هذه الورقة مجموعة الأسئلة المتعلّقة بالعلمانية من خلال محوري النقاش المطروحين في هذا الخصوص.

المحور العام يتضمّن الأسئلة الآتية:

ما هي العلمانية؟ وهل ثمة تعريف جامع مانع لها؟ وما هي أنواعها وأنماطها؟ وهل يقتصر الأمر على النمطين المعروفين؟ العلمانية الصلبة التي لا تكتفي بالحيادية تجاه الأديان، بل تسعى إلى التضييق عليها في المجال العام، ونموذجها الأبرز هو العلمانية الفرنسية (اللائكية)، والعلمانية اللينة التي تكتفي بالحيادية وفصل المجالين، لكن تترك للناس مطلق حريتهم في الفضاء العام، أم ثمة أنواع وتلوينات عدة ضمن النمط الواحد؟ وهل تتغير أنماط العلمانية بتغير الأزمان؟ وبتعبير آخر هل يمكننا الحديث عن علمانيات تختلف باختلاف المكان والزمان؟

وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك على ما تُظهره نماذج العلمانية في العالم، فهل يمكن اجتراح علمانيات خاصة تتلاءم مع خصوصيات المجتمعات وظروفها الموضوعية، ولا تصطدم بموروثاتها الثقافية والدينية؟

ما نطاق الحيادية المنشودة؟ هل يتوقف الأمر على فصل الدين عن الدولة، أم لا بد من الفصل بين مؤسسات الدولة وكل أنواع العقائد والإيديولوجيات أيا كانت؟

المحور الخاص بسورية يتضمّن الأسئلة الآتية:

هل نحتاج في سورية الجديدة إلى العلمانية، ولماذا؟ وما أهمية ذلك لخروج سورية من محنتها أولًا، وانتقالها إلى مرحلة الدولة الديمقراطية الحديثة ثانيًا؟ وهل يمكن تجاوز مخلفات هذه المأساة المهولة من دون طمأنة مختلف الجماعات السورية؛ أنها ستكون على قدم المساواة مع الجميع، في الدستور والقانون، وأمام مؤسسات الدولة؟ وأنه لا امتيازات من أي نوع لجماعة على باقي الجماعات

هل يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية ومواطنة متساوية من دون علمانية تضع الدولة، بدستورها وقوانينها ومؤسساتها، على الحياد من جميع الأديان والمعتقدات؟ أم يمكن الاستغناء عن العلمانية من الأساس، والاكتفاء بالحديث عن الديمقراطية والحريات والحقوق والمواطنة المتساوية؟

بمعنى آخر، ألا تستوفى متطلبات العلمانية، إذا كانت مبادئ الديمقراطية، ومبادئ المواطنة المتساوية، وحقوق الإنسان، وحرياته مصونة، ومحترمة؟ ألا يجعل ذلك من الدولة حيادية بشكل طبيعي من دون الاضطرار إلى الخوض في هذا الموضوع الإشكالي؟

وإذا كان لا بد من العلمانية، فهل يمكن اجتراح نموذج خاص بنا على ما ذ كر أعلاه، يستطيع التلاؤم مع بيئتنا وثقافتنا وأنماط التدين السائدة لدينا؟ وما هي العقبات التي تعترض ذلك، وكيف يمكن تذليلها؟ هل يمكن النص على حيادية الدولة صراحة في الدستور، وهل يمكن إبعاد النص الديني عن الدستور والقوانين، باستثناء الأحوال الشخصية طبعا؟

وكيف يمكن تغيير قناعات بعض السوريين بأن العلمانية ليست الإلحاد؟ وليست ضد الدين بالأساس، وأن الدولة العلمانية تحترم جميع الأديان والمعتقدات وتحميها وتوفر لها الحرية والاستقلالية، وأنه ليس ثمة من يزعج الكنيسة ويتدخل في شؤونها في معقل أعتى العلمانيات، فرنسا.

وكيف يمكن تغيير قناعات بعض السوريين بأن لا علاقة بين العلمانية والاستبداد، وأن نظام الأسد ادّعى العلمانية لتجميل صورته أمام العالم، وأنه كان أبعد ما يكون عن العلمانية، وعن الحيادية، فتدخل بشؤون الدين تدخلًا سافرًا، وسخّر مؤسساته لخدمة مصالحه، وفرض الأيديولوجيا البعثية على المجتمع، وميز بين السوريين بناء على انتماءاتهم الطائفية والقومية وغيرها.

وكيف يمكن إقناع بعض السوريين أنه ليس من مصلحتهم، ولا من مصلحة دينهم أن يُربط بالدولة؟ وأن من شأن ذلك جعل الدين وسيلة وأداة بيد الحكام للسيطرة والتحكم في المجتمع، وأن من مصلحة الدين أن ينأى بنفسه عن مشكلات الحكم والسياسة، ويهتم بقضاياه الأخلاقية والإيمانية التي هي جوهر الدين بالأساس؟

أهميّة البحث

تكمن أهمّية طرح موضوع العلمانية، من خلال الآثار الكبيرة المترتّبة على اعتماد المبدأ من عدمه في مستقبل الحياة في سورية عمومًا. ليس بالإمكان الحديث في الزمن الراهن عن ديمقراطية حقيقية ولا عن ليبرالية جذرية ولا عن منظومة متقدّمة لحقوق الإنسان، من دون حياد دستوري وفعلي للدولة تجاه الأديان، ومن دون إقصاء المؤسسات الدينية عن الحكم، وإنهاء أيّ إمكانيّة لاستخدام الدين في السياسة.

من هنا كان لا بدّ من مقاربة العلمانية ضمن محوريها المحددين أعلاه، بما يساهم في تسليط الضوء على المفهوم ذاته من جهة أولى، وبما يُظهر تجلياته وآثاره في الحياة عمومًا في سورية الجديدة مستقبلًا.

المحور الأوّل

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة:

“إنّ مصطلح (علمانية)، شأنه شأن مفهوم (علمانية)، مبهمٌ ومختلطٌ وخلافيٌ لأقصى درجة، ولو كان الأمر بيدنا لاستغنينا تمامًا عنه واستخدمنا بعض المصطلحات الأخرى وخصوصًا مصطلح (نزع القداسة) أو (الواحديّة المادية). نظرًا لأنها مصطلحات أكثر شمولًا وأكثر عمقًا ودقّة من لفظ (العلمانية)، كما أنها مصطلحات جديدة غير محمّلة بأعباء أو خلافات أيديولوجية وعقائدية حادّة كما هو الحال مع لفظ (العلمانية).”[1]

يقودنا تتّبع مصطلح العلمانية إلى المفردة اليونانية سيكولوم (Saeculum) التي تعني العالم مقابل الكنيسة، وقد “استُخدم مصطلح سيكيولار (Saecular) لأوّل مرّة مع نهاية حرب الثلاثين عامًا (1648) عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية، أي (الدولة العلمانية) الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثيرٌ من المؤرخين بداية لمولد الظاهرة العلمانية في الغرب. وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة، ولا يتّسم بأيّ نوعٍ من أنواع الشمول، إذ تمّت الإشارة إلى (علمنة) ممتلكات الكنيسة وحسب، بمعنى (نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية) أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة.”[2]

والحقيقة أنّ أوّل استخدام لمصطلح العلمانية جاء من الأوساط الدينية، فقد كان يُطلق على العاملين في الشأن الدنيوي من رجال الكنيسة غير المنقطعين للتعبّد في الأديرة والرهبانيات، أي على أولئك العاملين في شؤون الدنيا لا في شؤون الدين. ثم أصبح يُطلق على كلّ ما هو دنيوي غير ديني من الفنون والعلوم والآداب، ثم في مجال التعليم بات يُطلق للتعبير عن المناهج غير الدينية في المدارس الممولة من الحكومات. وفي مجال السياسة استُخدم للتعبير عن مصادرة الدولة أموال الكنيسة ووضعها تحت إدارة مدنية لا دينية. لقد تطوّر المصطلح في سياق الصراع بين الكنيسة والإقطاع، أو بين الدولة الناشئة والنظام الكهنوتي القديم الذي كان يحاول تأبيد سيطرته على شؤون الحكم بوصفه المرجعية العليا في المجتمعات البشرية. بينما كانت الدولة التحقق الفعلي لعمليّة التطور البشري من المجتمعات التراحمية إلى المجتمعات التعاقدية، وهذا يفترض بناء روابط مختلفة، كما يفترض أشكالًا جديدة من التنظيم المتمثّل في الدساتير والقوانين المستندة إلى الحاجات الواقعية لا إلى الافتراضات الماورائية.

 بشكل أو بآخر يشير المصطلح إلى مفهوم الانتماء إلى “العالم الآني المرئي تمييزًا له عن الانتماء إلى العالم الأزلي والروحي، الآتي غير المرئي.”[3] لأنّ العلمنة -كما سيتبيّن معنا لاحقًا- هي صيرورة تاريخية موضوعية، خارجة عن إرادة البشر بطريقة أو بأخرى.

يميّز الدكتور عبد الوهاب المسيري بين نوعين من العلمانية، الجزئية والشاملة، فيعرفهما كما يأتي:

“العلمانية الجزئية: رؤية جزئية للواقع (براغماتية – إجرائية) لا تتعامل مع أبعاده الكلّية والنهائية (المعرفية)، ومن ثمّ لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربّما الاقتصاد، وهو ما يعبّر عنه بعبارة فصل الدين عن الدولة. ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة. كما أنها لا تنكر بالضرورة وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية، أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقيا. ولذا لا تتفرّع عنها منظومات معرفيّة أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، فهي قد تراه إنسانًا طبيعيًا / ماديًا في بعض جوانب حياته (رقعة الحياة العامّة) وحسب، ولكنها تلزم الصمت في ما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. وفي ما يتصل بثنائية الوجود الإنساني ومقدرة الإنسان على التجاوز، لا تسقط العلمانية الجزئية في الواحديّة الطبيعية / المادية، بل تترك للإنسان حيّزه الإنسانيّ للتحرك فيه (إن شاء).

العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلّي ونهائيّ)، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقيا) بكل مجالات الحياة. وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في المرجعية الكامنة والواحديّة المادية التي ترى أنّ مركز الكون كامنٌ فيه، غير مفارق أو متجاوز له (فالعلمانية وحدة وجود مادية)، وأنّ العالم بأسره مكوّنٌ أساسًا من مادة واحدة، لا قداسة فيها ولا تحوي أيّ أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرّد، أو المطلقات، أو الثوابت. هذه المادّة –حسب هذه الرؤية – تشكّل كلًا من الإنسان والطبيعة، فهي رؤية واحديّة طبيعية ماديّة.

وتتفرّع عن هذه الرؤية منظومات معرفية، كما تتفرّع عنها رؤية أخلاقية، وأخرى تاريخية، ورؤية للإنسان. والعلمانية الشاملة بهذا المعنى، ليست فصل الدين، أو الكهنوت، أو هذه القيمة، أو تلك عن الدولة أو ما يسمى (الحياة العامة)، وإنما تعني فصل كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس) عن العالم، أي عن كل من الإنسان (في حياته العامّة والخاصّة) والطبيعة ونزع القداسة عنهما، بحيث يصبح العالم مادّة نسبية لا قداسة لها، يوظفها الإنسان الأقوى لصالحه.”[4]

ويعرّف عادل ضاهر العلمانيّة بأنها: “موقفٌ شاملٌ ومتماسكٌ من طبيعة الدين وطبيعة العقل وطبيعة القيم وطبيعة السياسة”.[5] ويشرح السياق التاريخي الذي ظهر فيه مفهوم العلمانية في بلادنا العربية فيقول: “إنّ الفهم السائد للعلمانية عندنا هو الفهم الذي يعرّف العلمانية بأغراضها المعروفة والمعهودة وليس بالأسس الأخيرة التي تقوم أو ينبغي أن تقوم عليها العلمانية. بصورة أكثر تحديدًا، إنّه يعرّف العلمانية بالغرض أو الأغراض التي قامت الحركات العلمانية في الغرب لتحقيقها. من أهمّ هذه الأغراض، كما هو معروف لدى أيّ متتبع لنشأة الحركات العلمانية في الغرب، التخلّص من هيمنة الكنيسة على شؤون السياسة وتحرير السلطة السياسية من أي تأثير مباشر أو غير مباشر من قبل السلطة الدينية المتمثلة بسلطة الإكليروس.”[6]

العلمانية عند عبد الوهاب المسيري رؤية للعالم تتّخذ موقفًا عقديًّا في النهاية، ويخلص المسيري إلى مساواة العلمانية بالإمبريالية العالمية التي غزت العالم وحوّلته إلى مادّة استعمارية يستغلها الغرب لمصلحته، هنا نجد موقفًا منحازًا منذ البداية، فالمسيري يعدّ العلمانية منتجًا بشريًا واعيًا ومُدركًا له غايات محددة. غالبًا ما يعبّر المسيري عن هذا الموقف من خلال تركيزه على مفهومات التشيّؤ واللذة والاستهلاك النمطي واستبعاد المطلقات الميتافيزيقية. والعلمانية عند عادل ضاهر فلسفة وموقف من العالم، يهدف من حيث النتيجة إلى تحديد المعرفة أو المعارف المطلوبة لغرض تنظيم المجتمع. أي إنّ التصوّر الواضح عن العلمانية عند كليهما، أنها مُنتج بشري مقصود بإرادة واعية. ونحن نرى أنّ العلمانية صيرورة تاريخية ملازمة للتطوّر البشري، فهي عمليّة مستمرّة ومتواصلة لفهم الطبيعة والحياة وفق قوانينها لا وفق قوانين الدين، هي بشكل أو بآخر، انزياح القداسة عن مجالات الحياة واحدًا تلو الآخر، تبعًا لتطوّر الفهم البشري لهذه الحياة، وفقًا قوانينها الذاتية التي تعمل من خلالها، لا من خلال تأثير قوى غيبيّة من العالم الماورائي توجهها وتتحكم بها.

يشرح المفكر العربي عزمي بشارة العلمانية بقوله:

“العلمانية كفكر هي وصف لما هو نتاج صيرورة تاريخية، وموقف موجب له في الوقت عينه. إنها نتاج علمنة الفكر، بإقصاء الفكر الديني من مجال بعد آخر يحتلّه العلم. وهي نتاج علمنة المجتمع والدولة بتراجع الأهميّة الاجتماعية للدين. وأعيد إنتاجها من خلال التوازنات بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة، وبين الحيّز العام والحيّز الخاص، وبين القانون العام والقرار الخاص في الشأن الديني. إنّ العلمانية في منظور الوعي والثقافة هي مرحلة في تطوّر الوعي يُفسر بموجبها موضوع التفكير أكان في الطبيعة أم في المجتمع من ذاته وبقوانينه، لا بقوى روحية خارجة عنه. وهي مرحلة في تطوّر المجتمع والدولة يتقلّص فيها الوزن الاجتماعي للدين، ويتحوّل فيها القرار الديني إلى قرار إيماني حرّ، حتى لو احتفظ الدين بتأثيرٍ في المجال العمومي.”[7]

ويضيف الدكتور عزمي شارحًا العلمانية (Secularism) كأيديولوجيا بقوله:

“هي موقف فكري أو مجموعة مواقف معرفية ومعتقدية ناشئة تاريخيًا. وفي تسلسل زمني (ليس المقصود تعاقبًا زمنيًا) تبدأ تنويعات تيارات هذه الإيديولوجيا بالتطابق مع عملية العلمنة والتنظير لها، كعملية مرافقة لعملية التطوّر والتقدّم، وكمفهومٍ معياري (لا تحليلي فحسب)، لكن من دون أخذ موقف سلبي من الدين، مرورًا باعتبار العلمنة فصل الدين عن الدولة، وانتهاءً باتخاذ موقف مناهض لأي تأثير للمؤسسة الدينية أو حتى للدين، ومعارض بشكل خاص لتأثيره في الحيّز العام. وقد تصل تنوّعات العلمانية إلى حدّ التديّن العلماني (التديّن الدنيوي البديل) في مقابل نزع الشرعية عن أي نشاط ديني في الحيّز العام. وفي حالات كثير تطورت الأيديولوجيا العلمانية تاريخيًا من موقف سلبي من الدين إلى موقف غير سلبي يتلخص بالدعوة إلى موقف محايد للدولة تجاه العقائد.”[8]

أما الدكتور عزيز العظمة فيشرح بعض جوانب العلمانية بالقول:

“تستند العلمانية إلى النظرة العلمية بدل الدينية الخرافية إلى شؤون الكون والطبيعة على العموم، وتُؤثر الكلام في الفلك على الكلام القرآني حول التكوير، والكلام في الجغرافيا الطبيعية على الكلام حول جبل قاف، والأخذ بالاعتبار العقلي بدل الاعتبار الإيماني والخرافي لأمور كالمعراج والطوفان وانقلاب العصي أفاعٍ، والمشي على الماء، وإحياء الموتى، وشق البحر، وانفلاق الكواكب، والنجوم.

كما أنها تؤكد على ضرورة إعمال العقل في الضرورات الآيلة عن تحوّل المجتمع، وتقديم العقل على النقل في أمور التشريع والتنظيم السياسي والاجتماعي، وإيثار الحرية والضمير الواعي العاقل في اختيار النساء الحجاب أو رفضه، والتشديد على التجديد والترقي في أمور التاريخ بدلًا من الركون إلى الموروث الكُتُبي وإعادة إحياء الماضي المتقادم الزائل.”[9]

ونحن نقدّم تعريفنا الخاص بالعلمانية على الشكل الآتي:

العلمانية هي صيرورة تاريخية للتطوّر البشري، نَحَتْ باستمرار باتجاه فهم الإنسان للكون والطبيعة والمجتمع والنفس البشرية وفق قوانينها الخاصّة، مستبعدة مع الزمن منظومة التفكير الغيبي المستندة إلى قوانين ما ورائية في فهم هذه القضايا وتفسيرها وتطويرها، ووصلت في المجالات السياسية والاجتماعية إلى اعتماد القوانين الوضعية لتنظيم شؤون المجتمع وحياة الأفراد وعلاقات البشر، فاصلة بين السياسة والدين بوصفها مؤسسات مختلفة المرجعية، مانعة تدخّل أيّ منها في شؤون الأخرى ضمن الأطر الدستورية التي تحدد قيم العقد الاجتماعي المعيّن، محافظة في الوقت ذاته على حياد الدولة تجاه جميع الأديان من دون تبنّي أيّ منها دينًا رسميًا، موفّرة للأفراد حريّة الاعتقاد وممارسة العبادات وإقامة الشعائر والطقوس الخاصة بهم.

من هنا نجد أنّ العلمانية لا تحظى بتعريف شامل جامع مانع، بل تتعدد تعريفاتها وفق زاوية النظر إليها، ووفق المواقف التي يتّخذها الناسُ منها. النظر إلى العلمانية وكأنها مُنتجٌ بشري واعٍ، أي كأنها أيديولوجية، يعني اتخاذ موقف معياري قيمي منها. والنظر إلى العلمانية وكأنها صيرورة تاريخية، أي بوصفها تطورًا موضوعيًا للفهم البشري للعالم، يعني التعامل معها من دون موقف مسبق منحازٍ أو مناهض.

يوضّح هذا التفريق بكثير من الجلاء إمكانية تحديد أنماط العلمانية، كما يمكن من خلاله التمييز بين أنواع العلمانية وتطبيقاتها الواقعية في التاريخ البشري، فلم تأخذ العلمانية مسيرة خطيّة واحدة، بل كان هناك على الدوام فهمٌ مختلف لها بين مجتمع وآخر، وبين لحظة تاريخية وأخرى.

من هنا يجب النظر إلى العلمانيّة في فرنسا ضمن سياق الصراع بين الملكية المطلقة -التي كانت تعمل بدءًا من عصر لويس الرابع عشر على توطيد أركان الدولة الوطنية- والكنيسة التي –بسبب نظرتها الكونية– كانت تحاول تأكيد ذاتها مرجعية عليا فوق سلطة الأباطرة والملوك والأمراء الإقطاعيين. لقد كانت العلمنة إحدى أدوات الدولة للسيطرة على الكنيسة وتوطينها، أي إلغاء الازدواجيّة في ولاء الرعيّة بين الملك في باريس الممثل للسلطة السياسية، والبابا في روما الممثل للسلطة الدينية.

إنّ العلمنة صيرورة تاريخية، ومن التبسيط بمكان قصرها على مسألة فصل المؤسسات الدينية عن الدولة أو السياسة والحكم، أو إعلان حياد الدولة تجاه حريّة الأفراد أو المجموعات السكانية بالشأن الديني والمعتقد. صحيح أنّ العلمنة بدأت بشكلها المعروف في أوروبا منذ ثلاثة قرون تقريبًا عندما أخذت هذه الحصيلة النهائية للصيرورة التاريخية، إلا أنّها عملية شاملة لم تخلُ منها المجتمعات البشرية كافّة. لقد كانت العلمنة مساوقة لمسيرة التطوّر البشري، فكلّما خرج فرع من فروع الحياة كالفن والأدب والموسيقى والعلم عن أطر الفهم بموجب القوانين الدينية ذات المرجعية الغيبية، كلما كانت تتقدّم العلمنة في المجتمعات المختلفة. وقد كانت أوجهها الظاهرة بجلاء في أوروبا بسبب الدور المركزي والقوي للكنيسة هناك. كلّما ازدادت قوّة الدولة، وكلّما تطوّر العلم وازادت العقلنة، وكلّما ازداد التخصص الوظيفي وتوزيع العمل في المجتمعات البشرية، كلّما اتسعت العلمنة ووُطّدت أركانها.

وفي عالمنا العربي تمّ استُخدمت العلمانية من قبل مجموعات سياسية ذات خلفيات اجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة ضمن سياق صراعها على السلطة، وأدّى هذا إلى اتّخاذ مواقف أيديولوجية من العلمانية ذاتها. فكانت لدى العسكر أداة لكسر احتكار الإسلاميين العلاقة مع المجتمع، وكانت لدى الإسلاميين أداة لشيطنة العسكر باعتبار أيديولوجيتهم إلحاديّة مضادّة للدين والتديّن. ولتبيان خطأ هذا الربط بين العلمانية والإلحاد، نقتبس من الدكتور عزمي بشارة ما يوضّح الفرق بين العلمانية والإلحاد ويميّز بينهما:

“العلمانية ظاهرة تاريخية حديثة، ليس لها علاقة مباشرة بالموقف الإلحادي، فهذا الثاني موجودٌ تاريخيًا قبل العلمانية بكثير. ولا تقوم العلمانية على الإلحاد تاريخيًا، ولم تتطوّر منه. فهما ظاهرتان مختلفتان لا تنتميان إلى تقليد فكري واحد، ولم تتطورا في المسار التاريخي نفسه. وربما من المفيد أن نستدعي الانتباه مرّة أخرى إلى أنّ الإلحاد سابق على العلمانية تاريخيًا… الإلحاد قديم قدم اللاهوت.”[10]

ونحن نرى أنّ العلمانية مرهونة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل بلد أو مجتمع أو دولة على حدة، فلا تطابُقَ بين العلمانية الفرنسية والعلمانية الألمانية، على الرغم من أنّ البلدين جاران جغرافيًا ومتقاربان من حيث البنية الاقتصادية. إنّ الظروف التاريخية التي أنتجت حركة الإصلاح الديني مع مارتن لوثر، تجعل من البنى الثقافية الألمانية مختلفة اختلافًا كبيرًا عن الثقافة الفرنسية التي أنجبت الثورة ومبادئها وقيمها. وهكذا، يمكن القول ببساطة إنّ لكل مجتمع علمانيته الخاصّة التي تتوافق مع ظروفه، وعندما يرادُ بالعلمانيّة كسر هذا المجتمع بإحداث القطيعة مع تاريخه وماضيه، كما فعل أتاتورك، تكون النتائج غير محسوبة بشكل كامل ونهائي. إنّ فرض العلمانية قسرًا ومن فوق بموجب قرار سياسي للحاكم الفرد، كما حصل في تونس مع الحبيب بورقيبه، قد يفتح مجالات واسعة لردّة الفعل المجتمعية من خلال اللجوء إلى التقيّة الفكرية والسياسية، فالمجتمع التونسي على سبيل المثال يضمّ شرائح مجتمعية تماهت مع العلمانية إلى أقصى حدودها، كما يضمّ مجموعات مجتمعية أنتجت مجموعاتٍ وأفرادًا يحملون أفكارًا متطرّفة، أوصلتهم إلى الانتماء إلى تنظيمات إرهابيّة عابرة للدول والحدود، مثل تنظيمي داعش والنصرة المتفرعين عن تنظيم القاعدة.

لم تكن العلمانية ضدّ الدين إلا في بعض المراحل من تاريخها في فرنسا والمكسيك والدول الشيوعية السابقة، وهذا راجع بالتأكيد إلى الظروف التاريخية التي مرّت بها تلك البلدان آنذاك.

“ليست العلمانية شعارًا سياسيًا إلا في ما ندر، وهي في الواقع الغالب مساوقة ضمنية لحركة المجتمع والفكر في عصر الحداثة، تلك الحركة التي نَحَّتْ عن أرباب الوظائف الدينية، وبالتالي عن المرجعية الدينية، موقع المحور من قطاعات التشريع والتعليم والقضاء والثقافة، وآلت بهم إلى مواقع عبادية في المصاف الأول، ولو بقيت لهم هوامش حركة اجتماعية وثقافية ليست بالقليلة.

حصل ذلك في أرجاء أساسية من أوروبا على امتداد قرنين أو ثلاثة، وحصل في بلادنا العربية بوتيرة بالغة السرعة، ومن الأمثلة على ذلك التحولات في دار الخلافة وفي مصر والشام في العهد السلجوقي التي طالت بنى الدولة والاقتصاد والثقافة (ومنها الثقافة الأدبية)، حصل هذا لدينا عندما استبدلنا الفقهاء وقضاة الشرع بالمحامين والقضاة المدنيين، والشيوخ بالأساتذة، والمدارس الشرعية والكتاتيب بالمكاتب الرشدية ثم المدارس والجامعات. وعندما اعتمدنا أسسًا لمعارفنا العقليّة العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلًا من الركون إلى المعرفة بالجنّ والعفاريت والزقوم، ويأجوج ومأجوج، وموقع جبل قاف والتداوي بالرقي والطلاسم والأسماء الحسنى. ابتدأ هذا التحول العلماني عندما قمنا بتقنين القوانين وعندما أقمنا نظمًا قضائية تتناسب وحياة العصر وسنن الرقيّ، بإلغاء أحكام الردّة في الدول العثمانية في العام 1858، وقبول شهادة الذمي في السنة نفسها، واعتبار المسلم غير العثماني بحكم الأجنبي، وإلغاء الجزية، وتجنيد الأقباط في الجيش المصري ابتداءً من عام 1856. ونضيف إلى هذه التحولات نصّ القوانين العثمانية في القرن الماضي على أنه لا عقوبة دون نص (وفي هذا لجمٌ للتعزير السلطاني)، وأنّه لا رجم في الزنى، ولا قطع في السرقة، وإقرار شخصيّة العقوبة.”[11]

لا شكّ في أنّ تسارع وتيرة العلمنة، أو بتعبير آخر نزع السحر عن المجتمع والحياة والنظرة إليهما، قد تأثر بشكل كبير بتطوّر مفهوم الدولة وبتعزيز قدراتها، كجهاز وظيفي قادر على إدارة شؤون الأفراد والجماعات التعاقدية بشكل متزايد. لقد اتسع دور الدولة بعد الانتقال من المجتمعات التراحمية القائمة على العلاقات الوشائجية التي تسمّى بالألمانية (Gemeinschaft)، إلى المجتمعات التعاقدية القائمة على مبدأ الحرية الفردية المستندة إلى قدرة الفرد على بيع قوة عمله التي تسمّى بالألمانية (Gesellschafts). لقد حلّت الدولة محلّ التنظيمات الدينية في تأمين الإطار الجامع للأفراد والجماعات، ما اقتضى إعادة تشكيل العلاقات بين هؤلاء أنفسهم وبينهم وبين الدولة على أسس جديدة، فكانت القوانين المستندة إلى خلاصات التقدّم البشري من علوم وثقافة وفنون وفلسفة، لا إلى الموروثات القديمة من التفسيرات الغيبية اللاهوتية للعالم. من هنا كانت العلمنة صيرورة بغضّ النظر عن إدراكها أو وعيها من قبل البشر، فهي عمليّة تحوّل موضوعي لا يد للبشر فيها، إلا بالقدر الذي يرسمون فيه حياتهم ويطورون فيه نظرتهم إلى الكون، والطبيعة، والمجتمع، وذواتهم المتحررة أكثر فأكثر من تأثير القوى الماورائية.

وعلى صعيد السياسة، يمكننا القول إنّ اختيار نموذج العلمانية رهن بكل مجتمع وظروفه، كما إنّ تحديد مدى علاقة الدولة ومؤسساتها بالدين ومؤسساته، أو تحديد مدى حيادية الدولة تجاه الأديان والعقائد، ومدى فصل الدولة عنها، يخضع للظروف الخاصّة بكل مجتمع على حدة، ويتعلّق بالمستوى الحضاري لهذا الشعب، وخصوصياته، وما يميّزه عن غيره من الشعوب، كما يتعلق بمجمل موروثه وثقافته، وبآفاق تطوره المستقبلي.

“من أجل تجنّب الوصول إلى تحوّل العلمانية إلى علمانوية تواجه مجتمعًا متدينًا، ومن أجل تحقيق حالة لا يلتقي فيها التحرر من الإكراه الديني إكراهًا علمانيًا، لا بدّ من دراسة الأوضاع الاجتماعية، وتحديد ماذا ينتج عند شعب من الشعوب في مرحلة تاريخية معينة حين تُدرس العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع السياسي من زاوية نظرٍ تلتقي فيها الإرادة للدفاع عن حرية المعتقد مع منع الإكراه في الدين. كيف يمكن مثلًا أن تلتقي المساواة بين الأفراد، وانبثاق شرعية الحكم من إرادة الشعب مع عدم الإملاء في الشأن الديني في الظروف السياسية الاجتماعية السائدة المحددة، وبالاستفادة أيضًا من التجارب الخاصّة والعالمية بهذا الخصوص؟

هكذا يحدد شعبٌ من الشعوب مصطلحه في العلمانية السياسية كإدراك أيديولوجي فكري للحاجة إلى حياد الدولة في الشأن الديني، وعدم الإكراه في الدين في ظروفه المعطاة. هذا النوع من البحث جهدٌ مفيدٌ أكثر من الخلاف على معاني الكلمات التي تطوّرت وتبدّلت عبر التاريخ. العلمانية في استخدام أيّ من الكلمتين، بكسر العين أو بفتحها، في وصف موقفٍ من علاقة الدين بالدولة تعني في الحد الأدنى تحييد الدولة في شأن القرار الديني أو المذهبي، وتعني في الحد الأقصى تصوّرًا أيديولوجيًا لخصخصة القرار في الشأن الديني، أي إخراج الدين من الحيّز العام، والتحكم به، أو فرض الرقابة عليه لهذا الغرض. أما العلمانية كنظرة إلى العالم فلها معنى في حقلٍ من حقول النشاط البشري كتفكيرٍ وتقويمٍ في هذا المجال المعيّن بموجب قوانينه التي يستنبطها العقل والتجربة الإنسانية، أو بموجب مجاله المعرفي الذي يميّزه. فلا يُخلط بين المجال المعرفي للأسطورة والمجال المعرفي للعلم، ويُستغنى عن إدخال المقدّس، أو الأسطورة، أو توريطهما، أو الاستعانة بتفسير روحي، أو إلهي من خارج هذا المجال من أجل تفسيره وفهمه وفهم قوانينه. وكلتاهما، العلمانية السياسية والفكرية، صيرورة، ونتاج صيرورة مرّت بها أنماط الوعي ومجالات المعرفة المختلفة، كما مرّ بها المجتمع. وفيها كلها تجري عمليات تمفصل وتمايز لمجالات النشاط الإنساني والمعرفة بعضها من بعض، ومن المقدّس.”[12]

بهذا الشرح المقتضب، وبهذه الاستشهادات المحدودة والمختلفة عن بعضها، من مفكرين عرب حول فهمهم للعلمانية، ننهي المحور الأول، مع قناعتنا بأنّ الكتابة فيه لا تتسع لها مجلدات ومجلدات.

المحور الثاني

لا شكّ لدينا -انطلاقًا من المقدّمات التي سقناها في المحور الأول- في أننا في حاجة ماسّة إلى العلمانية في سورية. وهنا نستخدم المصطلح الذي استخدمه الدكتور عبد الوهاب المسيري ليلخّص النتيجة التطبيقية المباشرة للصيرورة العلمانية، أي العلمانية الجزئية، بما تعنيه من إبعاد للمؤسسات الدينية عن السياسة، وتأكيد حيادية الدولة –بوصفها جهازًا جامعًا لجميع الأطر المجتمعية، وحاملًا للأدوات التشريعية والتنفيذية والقضائية – تجاه جميع الأديان، مع احترامها جميعًا وتأمين سُبُلِ ممارسة معتنقيها لطقوسهم، واحترام معتقداتهم، وحمايتها.

إنّ من شأن ذلك أن يُبعد المجتمع السوري –المتعدد والمتنوّع دينيًا وطائفيًا وقوميًا وعرقيًا– عن أيّ اهتزازات عمودية قد تودي به إلى التشرذم والانقسام. فالعلمانية، بالمعنى المحدد أعلاه، تعني عدم فرض رؤية دين ما لنظام الحكم على أتباع بقية الأديان، ولا فرض تفسيرٍ ما لدين محدد -لهذا النظام- على أتباع الطوائف المختلفة ضمن هذا الدين. فليس الإسلام ولا المسيحية معطى واحدًا جاهزًا متّفقًا عليه لدى جميع المسلمين ولدى جميع المسيحيين، وإلا فلماذا لدينا هذا العدد الكبير من المذاهب والطوائف، وهذا الحجم الهائل من التفاسير والشروح والاجتهادات لكل نقطة ولكل مبحث ولكل جوهر من هذين الدينين السماويين؟

إنّ الابتعاد عن توظيف الدين في السياسة، والإحجام عن وصف الدولة بأوصاف دينية، أو إلحاقها بدين ما، يعني جعلها –كما يجب أن تكون– لجميع أفرادها، أي لجميع مواطنيها المنتمين لجنسيتها. أمّا القول بغير ذلك، فإنّه سيورث الدولة قصورًا في التعبير عن جميع المواطنين، وسيؤدي بها إلى تمثيل جزء من رعاياها، الذين سيتمتعون لوحدهم عندها بصفة المواطنين، بينما بقيّة الأفراد سيكونون رعايا من الدرجة الثانية أو الثالثة بحسب تصنيفهم.

هذا ما نراه في رؤية تيارات الإسلام السياسي للدولة، حيث ترى هذه التيارات الدين مرجعية نهائية للدولة الإسلامية المنشودة، وهذا يتناقض مع ما تطرحه العلمانية من حيادية الدولة تجاه الأديان، ويسير على عكس خطاها التي تهدف إلى بناء دولة لجميع مواطنيها لا لفئة واحدة منهم فقط. “فالإسلام في فكر حركة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في باكستان وحركة الخميني في إيران (يؤخذُ) كما يقول راشد الغنوشي، على أنه كلّ مترابط، كلّ جزئية فيه ترتبط بغيرها، فالعقيدة والشريعة والعبادة كلّ متكامل ومن ثمّ لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة، والدين والدولة. هذا ما ينطبق، لا شك، على حسن البنّا الذي أصرّ على أنّ (… الإسلام عبادة وقيادة ودين، ودولة، وروحانية، وعمل. لا ينفك واحد عن الآخر).”[13]

“إنّ يوسف القرضاوي، وهو واحدٌ من كبار المنظرين للصحوة الإسلامية، يذهب إلى ما تذهب إليه جماعة الجهاد بخصوص كون العلاقة بين الإسلام والدولة والسياسة أمرٌ تفرضه نصوصٌ دينية معيّنة وأنّ سعي المسلم لإقامة دولة إسلامية ما هو إلا تنفيذٌ لأمر إلهي. إنّ هذا ما يفسّر اعتقاده أنّ الدعوة إلى العلمانية هي مروق من الإسلام: إنها دعوة يُفترض فيها، كما هو مضمرٌ من كلامه، أن تكون مخالفة لنصّ ديني قطعي من القرآن والسنّة.”[14]

ونحن نعتقد أنّ هذه المرجعية الدينية لا تصلح لبناء دولة المواطنة الحديثة، فلم تعد الدول تتعامل وفق منطق العصور الوسطى الذي تلا حرب الثلاثين عامًا في أوروبا، حيث سادت مقولة (الناس على دين ملوكهم) التي عنت في وقتها أحقية أنظمة الحكم في الممالك أو الإمارات، أن تجبر رعاياها على اتباع المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي. ومعلوم للجميع كيف أدّى هذا المبدأ إلى مجازر بحق أتباع هذه المذاهب تنفيذًا لسياسات توطين الكنيسة بعد تدجينها، وإلحاقها بالسلطة السياسية تحت حكم الملوك والأمراء. لا يوجد الآن مجتمع بشريٌ مؤلفٌ من أتباع دين واحد بشكل كامل، وإن وجد، فيبقى استثناءً، ولا يقاس على الاستثناء، بل على الأصل. والأصل أن تراعي منظومة الدولة جميع مواطنيها، فالعصر الآن عصر المواطنين الأحرار لا عصر الرعايا.

من هذا المنطلق نرى أنّ الدعوة إلى دولة دينية في العصر الراهن، أو تبنّي الدولة دينًا ما بوصفه دينها، ووصف أحكامه الشرعية مرجعية عليا لبناء العقد الاجتماعي بين مواطني الدولة، واعتمادها أساسًا لسنّ القوانين والتشريعات، ستكون دعوة إلى تمزيق الأمّة التي تسعى هذه الدولة لحمايتها وصونها. فكيف للأمر أن يستقيم في حال دولة مثل سورية، فيها كثير من الأديان والمذاهب والطوائف، وأي دين أو أي مذهب أو طائفة سنعتمد؟

تقوم الدولة الحديثة على مبدأ المفاضلة بين المواطنين على أسس الكفاءة في مجالات محددة، مثل شغل الوظائف العامّة، لكنها تعتمد مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، ومبدأ العدل في توزيع الثروات، ومبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين. وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت الدولة حيادية تجاه معتقدات مواطنيها وأديانهم، وإلا عُدّت دولة للبعض منهم فقط، لا لجميعهم. وهذا هو جوهر العلمانية بالمعنى الذي نتبنّاه.

لقد عانت سورية منذ نشأتها الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، حالة تأرجح قلقٍ في مستوى الهويّة الوطنية الجامعة، فلم يكن بالإمكان –ولأسباب كثيرة لا مجال للدخول فيها الآن– بناء الهويّة السورية الخالصة والمستقلّة عن أيّ لواحق أو صفات أخرى. فمن يستطيع الآن أنّ يعرّف عن نفسه بوصفه سوريًا فقط، من دون أن يضيف إلى هذا التعريف، أو من دون أن يستدعي هذا التعريف من الآخرين، السؤال عن القوميّة، أو الدين، أو الطائفة، أو المذهب، أو المنطقة الجغرافية حتى؟ وقد زاد الطينَ بلّةً، استخدامُ الأطراف السورية المختلفة –خلال صراعها وتنافسها على السلطة– الدين لمحاولة كسب النقاط أو الجولات، ولو كان ذلك على حساب الهوية السورية ذاتها. وبعد الثورة، رأينا بأمّ العين كيف أُدلجت الشعارات، وكيف اصطفّت مجموعات كثيرة وتمترست خلف خنادق واهية من المعتقدات ما دون الوطنية أو ما فوقها.

إنّ قبول أغلب جمهور الثورة –على سبيل المثال- رفع علم الاستقلال لاعتبارات كثيرة، أهمّها التمايز عن النظام، جعل من المعتاد أن ترفع التنظيمات المختلفة من دينية، أو قومية، أو مذهبية، أو طائفية أعلامها الخاصّة. لقد كان هذا مؤشرًا واضحًا على مدى الانقسام السوري في مستوى الهوية الوطنية والانتماء. يتّضح هنا زيف تشدّق النظام السوري بعلمانيته وعلمانية الدولة التي رفعها شعارًا منذ انقلاب البعث 1963. لقد كان هذا النظام أول من استدعى العصبيات الدينية والطائفية والقومية والإثنية للدفاع عن وجوده الذي اهتزّ مع أول صرخة مطالبة بالكرامة والحرية.

إنّ تحديد المسؤوليات لا يعني بحالٍ من الأحوال القبول بالتجاوزات، بل يعني توصيفها بالحد الممكن لمعالجة أسبابها، وبناء أسس منع تكرارها. من هنا وجب التمسّك بالعلمانية الحقيقية عند بناء سورية الجديدة، لأنها أحد المخارج الضرورية لسورية من أزمتها الدامية الراهنة. إنّ اعتبار المواطنين متساويين وفق الدستور وأمام القانون، يفترض عدم التمييز بينهم على أساس الدين، أو العرق، أو القومية، أو المذهب، أو الطائفة، والتمييز واقع لا محالة إذا لم يتضمّن الدستور فصل الدين عن السياسة والحكم.

يجب أن يصل جميع السوريين، أفرادًا وجماعاتٍ، إلى قناعة تامّة بكيان دولتهم السورية الجديدة، وبعدم الحاجة إلى امتيازات خاصّة لفئات محددة، أو لحمائيّة معيّنة لجهات أو مكونات بذاتها. فالمواطنة المتساوية هي أساس بناء هذه الدولة، وعند تحققها فعليًا، وليس فقط عند مجرّد النص عليها، نكون أمام حالة جديدة يمكن البناء عليها مستقبلًا. ولكي يتحقق ذلك كلّه، لا بدّ من العلمانية بالمفهوم الذي عبّرنا عنه أعلاه.

لا يمكن –في العصر الراهن– تصوّر الديمقراطية والليبرالية في أيّ دولة من دون العلمانية. فالديمقراطية في مفهومها المتداخل مع الليبرالية التي تعني في ما تعنيه، ثقافة التنوّع والمشاركة وقبول الاختلاف، وتتضمّن آليات الضبط المجتمعي القائم على سيادة القانون، وفي المركز منها احترام كرامة البشر وحماية حقوقهم وصيانة حرياتهم، وبخاصة في مجالات الاعتقاد والرأي والفكر والاجتماع وتأسيس الأحزاب والجمعيات، وتشمل العدالة في توزيع الثروات، وتكافؤ الفرص، وبشكل عام احترام حقوق الإنسان التي تتمثل في المجال السياسي بالتداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات، هذه الديمقراطية الليبرالية لا يمكن أن توجد من دون العلمانية.

لا يمكن من دون حياد الدولة تجاه الأديان أن نحصل على حقوق متساوية لجميع مواطني الدولة، فتبنّي الدولة أيّ دين، أو إقصاء الدولة أيّ دين، يعني خرق مبادئ العدل والمساواة والمواطنة الكاملة. كذلك اعتماد مجموعة القيم الخاصّة بدين معيّن مرجعية للقوانين في الدولة، يعني بالضرورة إقصاء القيم الخاصّة بدين آخر. بينما يشكل اللجوء إلى القيم الإنسانية المشتركة مخرجًا واقعيًا وحقيقيًا من هذه الإشكالية اللامتناهية.

وحتى ضمن أطر الأحوال الشخصية، تقتضي مبادئ حقوق الإنسان احترام معتقدات اللادينيين من المحسوبين نظريًا على دين معيّن. فلا يعني أن يولد المرءُ مسلمًا، أو مسيحيًا، أو يهوديًا، أو بوذيًا أن يبقى كذلك كلّ حياته، وهذا يفترض أن يكون لديه الحق في اختيار دينه عندما يكون قادرًا قانونًا على الاختيار، وأن يكون من حقه اختيار أن يكون مؤمنًا أو غير مؤمن، أو حتى محايدًا، وهو ما يطلق على من لا يعرفون أنفسهم إن كانوا مؤمنين أم لا، أي ممن يسمون باللاأدرييّن. يفترض هذا أن تتوفر -ضمن النظام القانوني للدولة– إمكانية عدم الخضوع هؤلاء لنظام أحوالٍ شخصية مستمدّ من دين أو شريعة دينية ما، بل من قانون وضعي يراعي مبدأهم هذا.

كذلك يُفترضُ أن يكون من حق المرء اختيار معتقداته وممارسة طقوس دينه بحرية كاملة، فلا يجد حرجًا في أداء صلواته في الأماكن المخصصة لها، ولا في ارتداء الزيّ الذي يراه مناسبًا كالحجاب، ولا في خلعه أيضًا. فمنع ارتداء الحجاب في بعض الدول العلمانية مثل فرنسا، بحجّة منع الرموز الدينية في أماكن العمل أو في الدوائر الرسمية، يماثل الإكراه على ارتدائه في بعض الدول التي تطلق على نفسها أوصافًا دينية، مثل إيران.

ليس من العدل ولا من المساواة القول والتعميم بأنّ المسلمات في فرنسا – وهنّ من مجتمع مهاجر حديثٍ نسبيًا لم تُتح له فرصة المرور بجميع مراحل التطور التاريخي للمجتمع الفرنسي – يجب أن يتفهّمن قانون منع إظهار الرموز الدينية. فما هو طبيعي -نظرًا لتطوّره ضمن تاريخ طويل تعاقبت عليه الأجيال وتشرّبته بالممارسة والفطرة الاجتماعية- بالنسبة إلى المرأة الفرنسية، ليس طبيعيًا بالنسبة إلى المرأة المسلمة الفرنسية من أصول مغاربية أو جزائرية –نظرًا إلى حداثة قدوم مجتمعها المهاجر إلى البيئة الفرنسية – ولا إلى المرأة السورية التي قدمت منذ أعوام لا تزيد على العقد مثلًا.

إنّ التطرّف ليس حكرًا على أتباع الأديان، فكثيرٌ من وقائع التاريخ تشير بأنّ اللادينيين أو الملحدين قد ارتكبوا فظاعات يندى لها جبين البشرية، ولنا في روسيا والصين أمثلة واضحة. كذلك كانت العلمانية المتشددة تجاه الدين في تركيا، حيث منعت الدين الإسلامي من التمظهر في الفضاء المجتمعي العام مدة طويلة من الزمن، على الرغم من أنّ الأغلبية العظمى من المواطنين الأتراك مسلمون. كذلك كانت العلمانية الفرنسية في عقب الثورة، حيث اضطهدت الدولة الرهبان الذين رفضوا أداء قسمِ الولاء.

“تضمّن الدستور الملكي للكهنوت إلغاء العشور من دون تفويض من الدولة، وتحرير الرهبان من نذور بتوليتهم، وتحويل رجال الدين إلى موظفي دولة بمرتبات، وانتخاب الأساقفة من ناخبي المديريات، والكهنة من المجالس المحلية… وهذا يعني انتخاب رجال الدين من علمانيين، وقد يكون من بروتستانتيين أو ملحدين. واعتبرت الكنيسة هذا الأمر إثمًا عظيمًا.

اعترف البند الأول من دستور عام 1791 بحرية العقيدة والرأي والدين. لكنّ الدولة اضطهدت الكهنة الذين رفضوا القسم لنظام كهنوتي لا يمكنهم ضميريًا الموافقة عليه. ولاحقًا استدارت هذه الديمقراطية نفسها ضدّ الليبراليين والوسطيين من الثوريين، مثل مؤيدي الملكية الدستورية والجيرونديين، وحتى ضد أوساط من اليعاقبة أنفسهم.

انشقّت الكنيسة في فرنسا بعد الدستور المدني للكهنوت، لأن آلاف الكهنة رفضوا قسم الولاء له (Pretres insermentes)، ومن رفض تحوّل إلى شخص مطارد، وهام على وجهه مهددًا بالجوع والسجن.”[15]

لا تمنع العلمانية الاستبداد، فرأينا الستالينية والهتلرية النازية في دول علمانية. ولا تعني الديمقراطية احترام حقوق الإنسان، فالتمييز العنصري كان عصب الحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة حتى ستينيات القرن الماضي، وما تزال بعض مظاهره سائدة حتى الآن، ومثالها ما جرى مع جورج فلويد قبل عامين، ومع كثير من أقرانه الأميركيين من أصول أفريقية. كذلك لا تكون الليبرالية وحدها حصنًا من التسلّط والدكتاتورية، فكثير من الحقوق الشخصية كانت متاحة في ظل حكم فرانكو وبينوشيه.

تحتاج سورية إلى منظومة متكاملة من الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، تضعها على سكّة الحداثة والتقدّم التي سارت عليها كثيرٌ من الأمم قبلها، ولا يُفترض بنا أن نخترع العجلة ولا أن نكتشف النار من جديد.

لا شكّ في أنّه ليس من الضرورة بمكان النصّ على علمانية الدولة بذكر هذه المفردة بالذات في دستور سورية الجديد، لكن يجب تأكيد ضرورة ذكر مفردات العلمانية بالكامل. ونحن نرى أنّ ذلك أكثر مدعاة إلى الطمأنينة والثبات، فشرح مفردات العلمانية ومفعولاتها في الدستور، من دون التقيّد بذكر لفظها، سيغلق باب الاجتهاد في تعريفها وشرحها وتفسيرها، ومن ثم سيسمح بالتقيّد بما اتفق عليه واضعو الدستور بروحه وجوهره ومنطقه وشكله أيضًا، من دون أن يكون أمام التيارات السياسية أو الأحزاب إمكانية التلاعب بهذه النصوص قي حال إغفال ذلك من مواد الدستور.

نحن بحاجة إلى بناء منظومة خاصّة بنا، تحافظ على خصوصيات المجتمع السوري متعدد القوميات والأديان والطوائف والأعراق، ولا تخرج في الوقت ذاته عن القواعد الأساسية للعلمانية والديمقراطية والليبرالية. وكما الضرورة تقدّر بقدرها، كذلك الخصوصية لا تلغي أسس القواعد العامّة التي تسري على جميع المجتمعات البشرية.

هناك إمكانية لاجتراح علمانية مناسبة لأنماط التديّن المختلفة في سورية، ولا حاجة لنا إلى شرح التأثيرات الكبيرة لاحتكاك السوريين بالمجتمعات الخليجية بعد الفورة النفطية سبعينيات القرن الماضي. كما إننا لا نعرف بعد مدى تأثير الاغتراب السوري والتهجير الجماعي الحاصل بعد الثورة، ولا ندرك حتى الآن مفعولات اختلاط السوريين بكثافة بالمجتمعات التركية والأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية. كذلك ليس بإمكاننا الآن قياس التحولات الاجتماعية الحاصلة على بنية المجتمع السوري داخل سورية، ولا معرفة نتائج تعرّضه للأزمات الوجودية التي غيّرت بنيته جذريًا. فهل نستطيع القول بثقة الآن بأنّ المجتمع السوري الخاضع لسلطات الأمر الواقع في مناطق شمال شرق سورية، هو ذاته المجتمع الخاضع لسلطات الأمر الواقع شمال غربها، أو هو ذاته الواقع تحت سيطرة النظام؟ بالتأكيد مرّت هذه الفئات المجتمعية بظروف متشابهة بالعموم، من حيث الحرب وظروفها، لكن لكل منطقة خصوصيات لم تشهدها غيرها من المناطق.

إنّ تغيير قناعات السوريين حول العلمانية والدين والديمقراطية والليبرالية جارٍ بطبيعة الحال، فالأزمات تخلق من داخلها بذور التغيير وآلياتها مع مرور الوقت. وهذا الحوار المعمّق الجاري على الساحة السورية أكبر دليل على ذلك.

إنّ توسيع دوائر المشاركة في الحوار السوري حول كثير من المفهومات الضرورية لمستقبل سورية، مثل العلمانية والديمقراطية والليبرالية وغيرها، كفيل بأن يساهم في تغيير النظرة المكرّسة عنها في أذهان الناس. كمثال على ذلك، يمكننا أن نورد تفاعل أطياف واسعة من السوريات والسوريين مع تصريحات الشيخ أسامة الرفاعي بشأن منظمات المجتمع المدني مؤخرًا، وكذلك النقاش الكبير الذي خاضته مجموعات مختلفة منهم، حول المجلس الإسلامي السوري ومواقفه المختلفة في الشأن السوري. هذا كلّه جزء من الصيرورة التاريخية، وجزء من التشكّل السوري الجديد، حتى ولو لم تظهر ملامحه بوضوح حتى الآن.

لقد أتاحت الثورة للسوريات والسوريين اختبار ادعاءات العلمانية التي تشدّق بها نظام الأسد ومورّثه من قبل، خلال خمسين عامًا. من لم يستطع قبل الثورة إدراك استغلال النظام للأديان جميعها لتثبيت أركانه وتعزيز سيطرته، ومن لم يتمكن من كشف نسيج التداخل الحقيقي بين أركان السلطة السياسية الدكتاتورية وأركان المؤسسات الدينية الملحقة به، تمكّن خلال السنوات العشر الماضية من إدراكها على حقيقتها. كذلك أتيح لهم، أو لكثير منهم، التمييز بين الخطاب الديني الإيماني الحقيقي والخطاب الديني الزائف، سواء أكان مصدره شيوخ النظام أم شيوخ التنظيمات الجهادية على اختلاف تنويعاتها وتصنيفاتها.

لقد كانت معاهد تحفيظ القرآن الكريم التي ابتدعها حافظ الأسد، والبعثات الحزبية الداخلية لدراسة الشريعة الإسلامية، والاحتفالات والمناسبات الدينية المتكررة، وسيلة وأداة بيد السلطة الحاكمة، لإحكام القبضة على المجتمع في مسار مخالف للشعارات المطروحة، وعلى رأسها علمانية الدولة. لقد تبيّن لكثير من السوريين والسوريات خلال هذه الثورة، كيف كانت المؤسسة الدينية (الإسلامية والمسيحية) أداة طيّعة بيد نظام الحكم، وكيف كانت أحد أركان هذا النظام الرئيسة التي قام عليها وأسعفته من عاصفة الثورة. لم يكن من الممكن تحييد فئات كبيرة من المجتمع السوري، ومن أتباع جميع الأديان، من دون دور فاعل للمؤسسات الدينية الرسمية ذات الحضور الطاغي في المجتمع.

لا شكّ لدينا في أنّ المحنة السورية الرهيبة ستغيّر كثيرًا من الواقع أولًا ومن القناعات ثانيًا. إنّ استقراء تجارب الشعوب المختلفة، يقودنا إلى الثقة بأنّ التغيير قادم. والأمثلة على النجاح في بناء دول وطنية ترعى حقوق أفرادها كثيرة جدًا، وهناك دول مرّت بما هو أخطر من الحالة السورية، فرواندا التي قتل أهلها من بعضهم مليون إنسان خلال ثلاثة أشهر، باتت الآن في مصاف الدول الأكثر تطورًا في القارة الأفريقية. فقط علينا أن ندرك أنّ الدين -الذي يشكّل بحقّ قيمة كبرى في مجتمعاتنا الشرقية – هو عامل مساعد على بناء الدولة والأمّة، بشرط أن نعرف كيف نحترمه ونوظفه في حياتنا الاجتماعية، لخدمتنا وخلاص أرواحنا وسعادتنا، لا لخدمة نظام حكم أو فئة متسلطة أو مجموعة من البشر. هذا يجعل من مصلحتنا أولًا، ومن مصلحة الأديان ثانيًا، ومن مصلحة الدولة والأمّة ثالثًا، أن يُفصل بين مؤسسات الحكم والإدارة والسياسة، ومؤسسات الأديان المختلفة.

إنّ مجال الإيمان واضح وبيّن، وهو مختلف تمامًا عن مجالات العلم والثقافة والفنون، وكذلك عن مجالات السياسة والحكم بطبيعة الحال. لكلّ من هذه المجالات قوانينها التي تنظمها وتسيّرها وتجعل منها ذاتها لا غيرها. وأيّ تداخل بين هذه المجالات لا بدّ أن يورث الاضطراب. هذا ما يجعلنا نطرح بثقة كبيرة مسألة علمانية الدولة السورية المنشودة، وضرورة حيادها تجاه الأديان جميعًا، مع تأكيد احترامها لهذه الأديان، ولمعتنقيها، وحمايتهم، وتمكينهم من ممارسة عباداتهم وطقوسهم على أكمل وجه، من دون مفاضلة بينهم أو تمييز.


[1] د. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، ص 50، الطبعة الأولى 2002، دار الشروق، القاهرة

[2] د. عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، ص 54

[3] د. عبد الوهاب المسيري ، المرجع السابق ، ص 57

[4] د. عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، ص 220 ،221

[5] عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، ص 6، الطبعة الثالثة عام 2015، دار الساقي

[6] عادل ضاهر، المرجع السابق، ص 38

[7] الدكتور عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، ص 92

[8] الدكتور عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، ص 97

[9] الدكتور عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر، الطبعة الأولى عام 2000، دار الفكر بدمشق، ص 156

[10] الدكتور عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، ص 86

[11] الدكتور عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر، الطبعة الأولى عام 2000، دار الفكر بدمشق، ص 164،165

[12] الدكتور عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، ص94 – 95

[13] عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، الطبعة الثالثة، دار الساقي، ص 10

[14] عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، الطبعة الثالثة، دار الساقي، ص11

[15] الدكتور عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الثاني، ص 135