مع كلّ حدث صارخ، تظهر إلى السطح نقاشات حقيقية حول الأولويات، حول المبادئ والقيم والقضايا والمصالح. حصل هذا أخيرًا بعد إعلانات قادة (حماس) اصطفافهم اللا مشروط خلف نظام ملالي طهران، واليوم يتجدد في قضيّة قتل المعارض الفلسطيني نزار بنات، على أيدي قوات الأمن التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وقبلها كانت ظواهر نضاليّة شابّة، مثل الشاعر تميم البرغوثي والمناضلة عهد التميمي، محلّ نقاش مستفيض. والحقيقة أنّ أغلب الساحات العربية شهدت مثل هذه النقاشات المفارقات، ففي مصر، كانت مسألة محاكمات قادة الإخوان المسلمين، وقتل الرئيس المصري الوحيد المنتخب ديمقراطيًا عبر تاريخ مصر الطويل، حاضرةً، وما زالت، وفي سورية، أخذت قضايا كثيرة مثل هذه الانقسامات، لعلّ من أبرزها تمييز كثير ممن يعتبرون أنفسهم في صفّ الثورة، بين الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين على يد عناصر “الجيش الوطني”، وتلك المرتكبة على يد عناصر جيش النظام، أو ميليشيات (قسد).
يتلخّص جوهر النقاش في المفاضلة بين المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي لا تقبل المفاضلة والمساومة بطبيعتها، مثل حقوق الإنسان ومبادئ العدالة والكرامة والحريات، وإن كانت قابلة للاستثمار السياسي بلا شك، وبين قضايا وطنيّة لها عراقتها وأصالتها ولا يمكن تجاوزها، لكنّها في الوقت نفسه حمّالة أوجه وقابلة للاستخدام السياسي والعقدي الأيديولوجي، مثل القضيّة الفلسطينية وثورات ربيع الشعوب العربية.
المفترض ألا يكون هناك تعارضٌ بين المبادئ والقيم الأخلاقيّة والقضايا العادلة. وعلى الرغم من الطابع النظري للأولى، مقابل الطابع العملي للثانية على الأغلب، فإن مجالات التقاطع لم تكن على الدوام واضحة في أذهان جميع المهتمين بهذا الشأن. إنّ القول بإطلاق المبادئ والقيم الأخلاقيّة ليس في محلّه دومًا، خاصّة أنّ ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، اليوم، لم يكن كذلك على الدوام؛ فمسائل مثل العبوديّة كانت قيمًا راسخة في مجتمعات البشر طوال قرون عديدة، بل كانت جزءًا من نمط الحياة والإنتاج، وحقوق مثليّي الجنس لم يُتّفق عليها، حتى الآن، في قلب أوروبا وفي أميركا التي تتصدّر قائمة الدول الليبرالية والديمقراطية والمنافحة عن حقوق الإنسان في العالم. كذلك فإن توصيف القضايا الوطنية بالنسبية ليس بالأمر الهيّن أو السهل، فالقضيّة الفلسطينية -وإن اختلفت زوايا النظر إليها بين الفلسطينيين أنفسهم- لا يمكن أن تكون بالنسبة إليهم محل نقاش، ولو كانت نسبية من منظور غيرهم.
ينظر أصحاب القضايا عادة إلى العالم، من خلال محورية قضيتهم بالنسبة إليهم، وهذا ضروري ومهم من جهة أولى، لأنه يجعل هذه القضيّة حاضرة في كلّ لحظة، ويبقيها على السطح دائمًا، لكنّه بالمقابل، من جهة ثانية، يورث نوعًا من النرجسية أو الذاتيّة الشديدة التي تُغفل وجود قضايا أخرى في الكون، قد لا تكون بذات الراهنية أو الأهمية عند الآخرين، كما هي عند أصحابها.
لنأخذ مواقف الغالبيّة الساحقة من السوريين على المقلبَين، فهم ينظرون إلى أحداث العالم كأنها انعكاس للموقف من قضيتهم. فالنظام اعتبر منذ اللحظة الأولى أنّ الثورة عليه مؤامرة كونيّة، والثائرون والمعارضون اعتبروا أنّ المؤامرة موجودة فعلًا، لكنّها ضدّ الشعب الثائر، وأنها في صفّ النظام لحمايته ومنع سقوطه. قليلون جدًا أولئك الذين كان لديهم -على صعيد الخطاب والممارسة بآن معًا- هذا التوازن في النظرة إلى الأمور والأحداث. وهؤلاء -على قلّتهم- لم يكن صوتهم مسموعًا إلا ما ندر، وإن تكلّموا وأسمعوا صوتهم، رمتهم سهام الشعبويين فأردتهم أرضًا.
تحديد الناس لقضاياهم، وكأنها محور الكون، يجعل الآخرين غير موجودين -بالنسبة إلى هؤلاء- إلا بالقدر الذي يتوافقون فيه مع هذا التحديد. كثيرٌ وكثيرٌ جدًا من الفلسطينيين ينظرون إلى أي قضية أو حدث، من خلال مقاربتهم الخاصّة هذه، التي تعتبر فلسطين والقضية الفلسطينية أولًا وثانيًا وثالثًا وحتى عاشرًا. ولا معاناة من نوعٍ خاصٍّ، للسوريين أو العراقيين أو اللبنانيين أو الجزائريين، خارج إطار معاناة الفلسطينيين، عليهم أن يوضحوا في كلّ مرّة أنّ قضية فلسطين مقدّمة على قضاياهم الوطنية، حتى ينالوا قسطًا من الاعتراف بها.
لا شكّ في أنّ القضية الفلسطينية هي القضية الأولى والمركزية للعرب، شعوبًا وأفرادًا، لكنها ليست كذلك، لأنه ليس لديهم قضاياهم الخاصّة المتعلقة بحياتهم ومعاشهم اليومي المباشر في بلدانهم، بل لارتباطها بشكل جوهري لا يقبل الانفصام بأسس وجود دولهم وأمّتهم وكيانهم، بوصفهم عربًا، لا بوصفهم سوريين أو عراقيين أو مصريين.
من هذا المنطلق، لا تعارض بين نضال السوريين من أجل الحرية والخلاص من الاستبداد، ومن أجل بناء دولة مواطنة تحترم حقوقهم وخياراتهم بالعيش الكريم، وبين اعتبار غالبيّتهم العظمى قضيّة فلسطين قضيّتهم المركزية الأولى. يفترض هذا بالمقابل أن ينظر الفلسطينيون إلى ثورة السوريين، كجزء من نضال وطني ضدّ الاستبداد، يصبّ في النهاية في مصلحة النضال القومي ضدّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. لكننا نجد أنّ هذا الأمر ليس بهذا الوضوح، لدى عددٍ لا يُستهان به من أبناء الشعبين الفلسطيني والسوري على السواء.
ما هو تفسيرنا لاصطفاف العدد الأكبر من الحركات الفلسطينية مع النظام السوري ومشاركتهم إياه، في المواقف السياسية، وفي حمل السلاح في وجه السوريين الثائرين عليه؟! وما هو تفسيرنا لاصطفاف الغالبية العظمى من التنظيمات اليسارية العربية ومنتسبيها لجهة النظام السوري؟ أليس من حق السوريين اختيار شكل دولتهم ونظام حكمهم، مثل غيرهم من البشر، أم أنّ رفع النظام شعارات الدفاع عن القضية الفلسطينية وحده كافٍ للوقوف خلفه بوجه الشعب الثائر!
ما هي وجاهة الأصوات السورية التي اعتبرت مقتل نزار بنات، بيد أدوات القمع والاستبداد السلطوي، شيئًا طبيعيًا، لمجرّد أنّه أعلن منذ البداية وقوفه ضدّ الثورة السورية وانحيازه إلى رواية نظام الأسد القمعي المنفلت من كلّ لجام؟ هل الدنيا والمواقف والأشياء لونان فقط، أم هناك إمكانية للتعدد والتنوّع؟ أليس من المنطقي أكثر، بل من المعقول والواجب، أن نميّز بين الموقف السياسي لنزار، وأن ندينه ونوضّح خَطله، وبين الموقف الأخلاقي من اعتقاله وتعذيبه وقتله خارج القانون وبغير وجه حق؟
منذ بداية الثورة السورية، وقفت غالبية التنظيمات الفلسطينية والكردية، في أوروبا وأميركا وكندا، على الحياد منها، ولم تشارك هذه القوى المنظّمة والمسلّحة بإرث كبير في هذه الدول الديمقراطية، بدعم السوريين الثائرين، وبمساندتهم وبإيصال صوتهم إلى الحكومات الغربية والرأي العام الغربي. لقد كان بمقدورهم تسيير تظاهرات أسبوعيّة، بعشرات الآلاف، في شوارع برلين وباريس واستوكهولم ولندن وروما ومونتريال ونيويورك وواشنطن…. لكنّ لوثة الاصطفافات والأولويات كانت حاضرة على الدوام. لا يقع اللوم عليهم وحدهم، بكل تأكيد، فالمعارضون والثوار السوريون لم يتمكنوا من استقطاب جميع أبناء سورية وبناتها لصفوف ثورتهم، فهل من عتبٍ على غير السوريين، إن لم يقبضوا على هذه اللحظة التاريخية المُفارقة؟
ثمّة مساحة مشتركة، بين القيم والأخلاق والسياسة، تكبر أو تصغر بحسب ما يريده لها أصحاب القضايا وأصحاب المصالح المختلفة. بدون نظرية وتنظير، لا يمكن أن يعمل الإنسان، وبدون عمل وإنتاج، لا يمكنه أن يحيا ويتطوّر، وبدون الموازنة بين النظرية والتطبيق العملي، لا يمكن للأخلاق أن تجد تجسيدًا في حياة البشر. وإلى أن نصل إلى التوازن، بين ما يجب أن يحصل وما يحصل فعلًا، علينا أن نتحمّل انكسارات المبادئ وهزيمة القيم وانتصار اللوثات.