المحتويات:

أولًا: مدخل

ثانيًا: ملفات مترابطة في تطوراتها وحلولها

ثالثًا: خاتمة

أولًا: مدخل

لم تكن العلاقة بين إيران وسورية وليدة تدخلها العسكري الواسع بُعيد انطلاق الثورة السورية، هي علاقة قديمة تطورت إلى علاقة إستراتيجية مع سقوط نظام الشاه وقيام جمهورية إيران الإسلامية، وكان اختبارها الأول والناجح وقوف سورية -سياسيًا على الأقل- إلى جانب إيران في حربها ضد العراق، التي استمرت ثماني سنوات، وكان تبرير النظام السوري لموقفه، آنذاك، أنه يريد أن يكون النافذة التي يجب ألا تغلق بين الأمتين العربية والإيرانية.

أرادت إيران من هذه العلاقة أن تكون سورية جسرًا وشريكًا في إيجاد موطئ قدم لها في جنوب لبنان، تمثل لاحقًا بـ “حزب الله” اللبناني، الذي أنشئ ودُرّب وهيمن على الساحة اللبنانية عبر عقدين من الزمن، بفضل الوجود السوري هناك، وممهدًا لسياسة الخميني بتصدير الثورة والتمدد بالمنطقة العربية شرق المتوسط، وأرادها النظام السوري حليفًا احتياطيًا، إذا تراجع دوره الوظيفي، ولذلك أطلق يد إيران ومراكزها الثقافية في إحداث بنية مجتمعية شيعية تفتقدها في سورية، على عكس العراق ولبنان، وقد كان إنجازها متواضعًا على هذا الصعيد، كما التزمت إيران بمساعدة سنوية لسورية تقدر بمليار دولار، على شكل إمدادات نفطية منذ العام 1980.

حرصت إيران على أن تكون أول المتدخلين لقمع ثورة الشعب السوري ضد نظامه الاستبدادي، وبدأ هذا التدخل دون ضجة أو إعلان، ليس فقط بواسطة بعض قطعاتها من الحرس الثوري، التي كانت موجودة على الأراضي السورية لدعم “حزب الله” وقت الضرورة، لكن أيضًا بنقل خبراتها في قمع التظاهرات في أزقة المدن الكبرى، عندما أجهضت الثورة الخضراء عام 2009 ، ثم صار ذلك التدخل علنيًا وكثيفًا، وذلك بإدخال “حزب الله” اللبناني بكامل قدراته العسكرية و40 ميليشيا عراقية وأفغانية وباكستانية وغيرها، مستفيدة من غض طرف أميركي، تماشيًا مع سياسة أوباما ومقولته الأثيرة والقاتلة: “لا حسمَ عسكريًا للصراع في سورية”، التي كلفت الشعب السوري معظم ضريبة الصراع، قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا.

في ربيع العام 2015، بدا أن إيران بكل ثقلها عاجزة عن هزيمة الثورة، وأن وضع النظام أضحى مقلقًا، فساهمت في استدراج التدخل العسكري الروسي الكثيف، منذ 30 أيلول/ سبتمبر2015، الذي تغيرت معه اتجاهات الصراع لغير مصلحة قوى المعارضة السورية، بفعل كثافة التدخل الدولي وتعقيدات الصراع وانسحاب بعض داعمي المعارضة.

مع انتخاب ترامب عام 2016، تغيّر اتجاه السياسة الأميركية، ليس فقط للتخلص من الاتفاق النووي الذي استمات أوباما لإبرامه مع إيران، وقدّم لها كثيرًا من الحوافز والإغراءات، ومنها غض الطرف عن تدخلها في سورية، إذ طالما وصفه ترامب بالاتفاق السيئ، بل ربما لأن الصراع في سورية وصل إلى نهاياته، وبدأت مرحلة ترتيبات إنهائه، فكل الأطراف أُنهكت، وكل طرف عاجز عن حسم الأمور بمفرده، بمستوى عجزه عن بناء ترتيبات مع الأطراف الأخرى، تسمح له بتثقيل موقفه وإنهاء الصراع أو تسويته بما يضمن مصالحه، وهذا واضح في موقف الروس الذين شقوا مسار أستانة وبعده سوتشي، لكن مأزقهم ازداد تعمقًا، وحدث الأمر ذاته، بدرجة أسوأ، في ما يتعلق بوضع الإيرانيين والأتراك، وهنا يبرز السؤال حول مدى قدرة إيران على الاحتفاظ بنفوذها أو ببعضه، بعد كل ما استثمرته في سورية في المال والسلاح والمقاتلين، وهو كبير!

ثانيًا: ملفات مترابطة في تطوراتها وحلولها

مع انطلاق ثورات الربيع العربي؛ وسّعت إيران، مستغلة التهاون الأميركي، رقعةَ تدخلاتها في جوارها الغربي على نحو يفوق قدرتها على الإيفاء بتبعات كل هذه الملفات وإدارتها، إضافة إلى تحكم ذراعها الأقوى “حزب الله” في الدولة اللبنانية، والتدخل الواسع في سورية، وفي اليمن، ثم تشديد قبضها على العراق وإدخاله في دوامة الفساد والعنف والفشل، الأمر الذي استثار مخاوف دول المنطقة واستنفارها، كما يمكن القول إنه من شبه المؤكد أن التدخل الإيراني لم يحصل من ضمن ترتيبات أميركية أو إسرائيلية مع الجانب الإيراني، لكن هذه الأطراف وجدت لها مصلحة وخدمة بهذا التدخل، فجرى غض الطرف عنه بداية، ولكن بدأت “إسرائيل” منذ العام 2015 تنفيذ ضربات جوية، كانت متباعدة في سنتيها الأوليين، بحجة ضرب الإمدادات المتجهة إلى “حزب الله” عبر الأراضي السورية، ثم أخذت بالتصاعد مستهدفة الوجود العسكري الإيراني على كامل الجغرافيا السورية، وطبعًا من ضمن موافقة أو تجاهل روسي، زادت حتى الآن على أكثر من مئتي ضربة خلال عامي 2017 و2018، ويعتقد أيضًا بأنها نفذت هجمات على أهداف إيرانية غرب العراق. مع ذلك يبقى الخطر الأكبر الذي تواجهه إيران هو المواجهة المحتدمة مع الولايات المتحدة، منذ أن انسحب ترامب من الاتفاق النووي ثم فرض، منذ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أقسى عقوبات اقتصادية تواجهها إيران، وربّما أقسى عقوبات تعرضت لها دولة أخرى، فماذا ستفعل إيران وقد أنهكت العقوبات اقتصادَها المأزوم أصلًا؟

يقينًا، إن إيران لا تريد الدخول في حرب مع الولايات المتحدة، وليس في قدرتها ذلك، لكنها تراهن على الوقت، فهذا العام عام انتخابات أميركية، كما تراهن على الانقسام في مراكز القرار الأميركي حيال الحرب ضدها، فالديمقراطيون يعارضون توجيه أي ضربة لإيران، ويحاولون تقييد يدي ترامب من خلال السطلة التشريعية بمجلسيها، كما أن هناك قسمًا من الجمهوريين غير متحمس لشن حرب على إيران، بدعوى الانتظار وإعطاء العقوبات الاقتصادية الفرصة لتعطي مفعولها، يضاف إلى ذلك انشغال الولايات المتحدة بوباء كورونا المستجد، وما تركه وسيتركه من تداعيات، يصعب تقديرها، على الاقتصاد والسياسة، لذلك فهي تعتمد إرسال رسائل المشاغلة، سواء لجهة إطلاق التهديدات بعرقلة الملاحة الدولية في الخليج العربي وخليج عمان، الذي ردت عليه الولايات المتحدة بتكثيف وجودها البحري هناك، حيث حاولت تشكيل تحالف دولي لضمان أمن الملاحة وإمدادات الطاقة في الخليج، لكنها لم تصب نجاحًا حتى الآن، لأن الأوروبيين غير متفقين مع السياسة الأميركية تجاه إيران لاختلاف المصالح والإستراتيجيات، أو تلك الاستفزازات التي تمارسها ميليشيات “الحشد الشعبي” الموالية لها في العراق، باستهداف الوجود الأميركي فيه من حين لآخر، وهي ستحاول إدارة المواجهة بواسطة أذرعها الخارجية الموجودة بقوة في أكثر من دولة، وبأبناء تلك الدول، ما دام ذلك متاحًا أمامها. وهناك ساحتان رئيستان تحتدم فيهما المواجهة الأميركية الإيرانية، هما العراق وسورية.

1 – الساحة العراقية

باتت الساحة العراقية، وامتدادها مياه الخليج، الساحة الأكثر سخونة في المواجهة الأميركية الإيرانية المتصاعدة، ويعود ذلك -من جهة- إلى سياسة ترامب تجاه إيران، التي فُرضت بموجبها عقوبات اقتصادية قاسية زادت صعوبات إيران وأزماتها الداخلية؛ ويعود -من جهة أخرى- إلى ارتفاع عقيرة المسؤولين الإيرانيين وأتباعهم من الكتل السياسية والميليشيات في العراق، من بعد أن أنهى التحالف الدولي “دولة داعش”، بالمطالبة برحيل القوات الأجنبية، والمقصود الأميركية، من العراق، على أمل أن تخلو لها الساحة العراقية كنفوذ خالص، وكأحد بوابات الالتفاف على العقوبات، لكن هذا التوجه اصطدم بالتظاهرات الواسعة في الوسط الشعبي الشيعي، في جنوب العراق ووسطه، التي تطالب بتغيير الطبقة السياسية الحاكمة، ووقف دوامة الفساد الذي أنهك الشعب العراقي، وبرفع اليد الإيرانية عن العراق، ولم تُجدِ كل محاولات الميليشيات، من قمع المتظاهرين وقتل العشرات من الناشطين في قيادة التظاهرات، وخطف آخرين وإخفائهم، في تحقيق تلك الغايات، وقد أسفرت الأحداث حتى الآن عن استقالة عادل عبد المهدي وحكومته، مطلع العام الجاري، ودخول العراق في دوامة تعطل العمل الحكومي، وفشلت -حتى الآن- محاولتا تشكيل حكومة (العلاوي والزرفي)، ومن غير المؤكد أن تنجح المحاولة الثالثة، التي كُلف بها مصطفى الكاظمي.

الحدث الأبرز الذي دلل على تصعيد المواجهة الإيرانية الأميركية كان محاولة ميليشيات “الحشد الشعبي”، بمشاركة أغلب قادتها، يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 2019، احتلال السفارة الأميركية الواقعة في المنطقة الخضراء في بغداد، وعجزت الحكومة عن التدخل لحمايتها، لكن هذه العملية الاستعراضية والخطيرة سرعان ما انتهت ربّما لتهديد أميركي جدي تتجنبه طهران، وبعد أيام من تلك الحادثة، في 3 كانون الثاني/ يناير2020، قامت الولايات المتحدة باغتيال كل من قاسم سليماني (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني) الذي يعدّ ذراع إيران الخارجية، وأبو مهدي المهندس (قائد هيئة الحشد الشعبي)، في ضربة موجعة تلقتها إيران، سيكون لها تداعياتها على مجمل الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وعلى الرغم من التهديد والوعيد برد قاس على الفعلة الأميركية، فقد جاء الرد الإيراني باهتًا، لكن جرت عمليات استهداف بالكاتيوشا، لقواعد عسكرية عراقية فيها قوات أميركية، من قبل كتائب “حزب الله” العراقي، ودفع ذلك البنتاغون إلى إعادة نشر قواته وحصرها في قواعد محدودة يمكن الدفاع عنها، كقاعدة عين الأسد في الأنبار وقاعدة كركوك، ونشر منظومة صواريخ باتريوت للتعامل مع أي هجمة صاروخية مستقبلًا.

لقد ظهرت بوضوح تداعيات اغتيال سليماني، من خلال الإرباك الذي يعتري سياسة إيران في العراق، وليس أدل على ذلك من عجزها عن فرض رئيس حكومة موالٍ لها في بغداد حتى الآن، على الرغم من زيارتين دالتين لمسؤولين إيرانيين لبغداد، أولاهما قام بها علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن الإيراني، في أوائل آذار/ مارس الماضي، وثانيتهما تلك التي قام بها اللواء إسماعيل قاآني، الذي عُيّن خلفًا لسليماني في 30 من الشهر نفسه، وكان قبلها مسؤولًا عن الملف الأفغاني في الحرس الثوري والميليشيات التابعة له هناك، ومن المعروف أن قاآني لا يمتلك الكاريزما والنفوذ اللذين كانا لسليماني، ولا الخبرة بالملف العراقي وتعقيداته، ومع أنه اجتمع بالمسؤولين الحكوميين وقادة الكتل الشيعية وقادة الميليشيات، بغاية توحيدها لمواجهة المرحلة الجديدة في المواجهة مع الولايات المتحدة، ونجح في دفع عدنان الزرفي إلى التخلي عن مهمة تشكيل الحكومة، فإن زيارته تلك عمومًا لم تصب النجاح الذي تريده إيران، حيث فشلت في فرض أحد المرشحَين اللذين كانت ترغب فيهم إيران (عبد الحسين عبطان وقاسم الأعرجي)، فاضطرت إيران إلى أن تقبل بتكليف مصطفى الكاظمي، الذي طالما اتهمته كتائب “حزب الله” العراقي بالتواطؤ في عملية اغتيال سليماني. وكانت ردات أفعال الميليشيات متباينة، إذ أصدرت ثمانية منها -وهي الأكثر مولاةً لإيران ضمن قوات الحشد الشعبي- بيانًا تستنكر فيه الوجود الأميركي في العراق، وتتهم الزرفي بالعمالة للولايات المتحدة، بينما لم توقّع كثيرٌ من الميليشيات على البيان، وهذا يشير إلى احتمال أن يكون الحرس الثوري وراءه، من ضمن إستراتيجية مستجدة تحاول التأقلم مع التطورات الأخيرة، ومنها قبول الكاظمي كمرشح وسط، وتحضير نواة صلبة للميليشيات التي تتبعها، يكون مركزها “حزب الله” العراقي، لمواجهة استحقاقات المرحلة القادمة، هذا الحزب الذي أصدر بيانًا، بعد مغادرة قاآني للعراق، أعلن فيه موقفه الحازم من “أي حكومة مفروضة”، وهذا يشكل دليلًا آخر على أن مهمة الكاظمي لن تكون سهلة، وقد لا تتكلل جهوده بالنجاح؛ حيث إن عليه التوفيق بين المصالح الأميركية والإيرانية، وإرضاء الكتل السياسية والميليشيات، وكذلك التجاوب مع مطالب ساحات التظاهر، وفي مقدمتها الكشف عن القوى التي تورطت في قتل المتظاهرين ومحاسبتها، وحصر السلاح بيد الدولة، وهذه الأخيرة ربما ستكون المهمة الأكثر صعوبةً، وهو الذي لا يملك في هذه المرحلة، على المستويات كافة، سوى الوعود والتطمينات الشفوية، التي قد لا تغني في ظل أزمة كورونا والتدهور الاقتصادي والاستقطاب السياسي الحاد.

2 – الساحة السورية

تبدو الساحة السورية أقلّ سخونة، في المواجهة الأميركية الإيرانية، وتتكفل “إسرائيل” بتوفير حرارة المواجهة اللازمة، لكن المواجهة على الساحة السورية، وهي الأكثر أهمية للسوريين وثورتهم في عامها العاشر، بعد كل ما فعلته إيران وتسببت به من مآسٍ، تكتسب معنًى مختلفًا، لأنها ستقصم ظهر المشروع الإيراني، وتقطع أوصاله، وتسهّل عملية التوصل إلى حل في سورية، فكلما نقص عدد المتدخلين الدوليين والإقليميين؛ بات الحل أقرب وأيسر.

تتركز المواجهة بشكل أساسي، في هذه المرحلة، في منطقة البوكمال – القائم، حيث تحاول إيران جاهدة تعزيز وجودها العسكري على جانبي الحدود العراقية السورية، بقوات من حرسها الثوري أو ميليشيات تتبعها عراقية أو سورية من أهل المنطقة، وبناء قاعدة مجتمعية شيعية تحمي بها هذا الوجود، بذريعة منع (داعش) من إعادة ترميم بنيتها والعودة للمنطقة، وذلك ضمانًا لتواصلها مع “حزب الله” وتأمين إمداده والميليشيات الأخرى بالسلاح والعتاد، ولإفشال الجهود الأميركية الساعية للتصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، في حين أن الولايات المتحدة الموجودة شمال شرق سورية، مع حليفتها “قوات الحماية الكردية”، تمنع تمدد إيران وغيرها شرق النهر، كما أنها تعزز وجودها في قاعدة التنف التي تقع على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية وتمتد على مساحة ألف كم2 تقريبًا، فضلًا على أنها أغلقت ممر الوليد، بين سورية والعراق، وتقوم برقابة مستمرة وفاعلة للمسافة الفاصلة بين التنف والبوكمال، وبإعداد هذه القاعدة ضمن إستراتيجيتها على مستوى أبعد من سورية، وبالمجمل؛ نجد أن الولايات المتحدة تهدف إلى تقويض الوجود الإيراني في سورية، ولذلك تتكرر الاستهدافات الجوية المؤلمة للميليشيات الإيرانية في تلك المنطقة.

وهناك مواجهة أخرى تخوضها إيران في سورية مع “إسرائيل” التي ما برحت توجه الضربات الجوية للوجود الإيراني على مساحة الجغرافيا السورية، وكان آخرها، في الأسبوعين الأخيرين، الهجوم على مطار الشعيرات، واستهداف تجمعات إيرانية شرق تدمر، ولا تخفي “إسرائيل” هدفها من هذه الاستهدافات، وروسيا متفهمة لها، لكن إيران التي لا تستطيع الرد على الغارات الإسرائيلية، لكونها لا تريد توسيع المواجهة، تراهن على تكثيف وجودها عبر الميليشيات المختلفة، علّه يصير حقيقة يقبلها الإسرائيليون والأميركيون، كأمر واقع عليهم التعايش معه على نمط “حزب الله” في لبنان، في حين أن المستوى الثالث من المواجهة، وهو ذو طابع دبلوماسي حتى الآن، هو مع شريكيها في مسار أستانة كأطراف ضامنة، وذلك بعد أن وقّع الطرفان الروسي والتركي، في 5 آذار/ مارس الماضي، اتفاقًا لوقف إطلاق النار في إدلب، استُبعدت عنه إيران، بل أن الطرفين رفضا حينذاك دعوة إيران لهما مع الطرف السوري للاجتماع في طهران، لبحث الصراع في منطقة التصعيد الرابعة، ولذلك تسعى إيران، عبر ميليشياتها المحتشدة على طول خطوط التماس، لإفشال ذلك الاتفاق، لكونها تشعر بأن نفوذها في سورية يواجه تهديدًا حقيقيًا، وقد دعا ذلك الأمر وزيرَ الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى زيارة دمشق، وتحذيرها من مغبة القيام بأي عمل عسكري.

 القلق الإيراني فسرته زيارة جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق، في 20 نيسان/ أبريل الماضي، حيث التقى خلالها رأس النظام ووزير خارجيته، وقد ذكر الناطق باسم الخارجية الإيرانية أن “أجندة الزيارة تتمحور حول العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية وآخر المستجدات السياسية والميدانية في سورية “. وكان ملاحظًا أن زيارة ظريف أعقبت اتصال ولي عهد الإمارات محمد بن زايد برأس النظام السوري، والإعراب عن تضامنه مع سورية في ظل أزمة كورونا، وفقًا لوكالة الأنباء السورية، ذلك الاتصال الذي خمّن مراقبون أن محمد بن زايد ساوم الأسد على دفعه خارج الحضن الإيراني، بينما ذهب آخرون إلى أنه طلب منه فتح جبهة إدلب، لإزعاج تركيا ردًا على تدخلها في ليبيا. وبغض النظر عن صحة أي من الطلبين، فإن الإمارات -عادة- هي حمالة رسائل، وليست صاحبة قرار، وربما تتعلق رسائلها بتوجهات دولية لحلّ ما في سورية. ومن جهة أخرى، عقد وزراء خارجية دول أستانة الثلاثة اجتماعًا افتراضيًا، رأسته إيران، في 22 نيسان/ أبريل الجاري، وقد أكد بيانه الختامي -بحسب الخارجية الإيرانية- أن “الوزراء الثلاثة اتفقوا على مواصلة المشاورات والتنسيق على أعلى مستوى بين الدول الثلاث، وأن عملية أستانة هي الطريقة الأكثر أهمية وفاعلية لحل الأزمة السورية”. ومن الواضح أن العمومية التي انطوى عليها البيان، عن توجهات الدول الثلاث، لم تعد متوافقة كما كانت، وأن الروس لا يريدون للتصرفات الإيرانية تخريب علاقتهم مع تركيا التي يراهنون عليها.

ثالثًا: خاتمة

يُكثر المسؤولون الإيرانيون، عسكريين ومدنيين، من تصريحاتهم وتحذيراتهم للجانب الأميركي من مغبة التطاول على الأمن القومي الإيراني، وكلّها تدخل من باب جسّ النبض ومعرفة حقيقة خططها من تكثيف حشودها في منطقة الخليج، وهل تدخل تلك الحشود من باب الحرب النفسية، أم يمكن لإدارة ترامب أن تتبع الضغط الاقتصادي والعقوبات، بضغط عسكري يعتقد أنه سوف يستهدف الميليشيات التي تتبع إيران في العراق وربما في سورية، وعندئذ، قد لا يمكن التحكم في ساحة الحرب ولا مداها، وهو الأمر الذي لا تريده إيران. كما يدخل تحرّش إيران بزوارقها (منتصف الشهر الفائت) بالبوارج الأميركية بالخليج، وإطلاقها قمرًا صناعيًا للأغراض العسكرية إلى مدار حول الكرة الأرضية حمله صاروخ باليستي إيراني، من باب جسّ النبض أيضًا، إضافة إلى أن إيران تحمل رسائل إلى جمهورها في الداخل أو حلفائها في المنطقة للقول: إن إيران ما زالت قوية وهي تطوّر أسلحتها، وليست في وارد الاستجابة للمطالب الأميركية والإسرائيلية. لكن إيران في قضية الصاروخ -على وجه التحديد- أعطت الولايات المتحدة حجةً لتأليب الأوروبيين عليهم؛ لأنها خرقت القرار الدولي رقم 1231 الخاص بالسلاح الصاروخي الإيراني. وبالمجمل يلاحظ أن المشروع التوسعي الإيراني في حالة تراجع مستمر، وأن أهدافها وطموحاتها في سورية تتقلص؛ ليس فقط لأن الولايات المتحدة و”إسرائيل” تعملان على ذلك، لكن -وهو الأهم- لأن شعوب الدول التي هيمنت عليها إيران قد ثارت ضد وجودها، وفي مقدمتها الحاضنة الشيعية في العراق ولبنان.