مع اقتراب موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في شهر آذار/ مارس المقبل، ووجود قائمة طويلة من العسكريين المتأهبين لخوض غمار الانتخابات القادمة، يتطلع الحرس الثوري الإيراني إلى السيطرة على رأس السلطة التنفيذية في إيران، وذلك بعد أن أحكمت هذه القوة العسكرية والأمنية الكبرى سيطرتها على العديد من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية في إيران، من الثقافة والفن إلى الاقتصاد والنفط وصناعاته، ومن مقاعد البرلمان حتى مقاعد الحكومة ووزاراتها، ومن قيادة عمليات القمع للاحتجاجات الداخلية إلى تصدير العنف والإرهاب ورسم السياسات الخارجية.
وعلى الرغم من أن وصول أحد المرشحين العسكريين المحسوبين على الحرس الثوري الإيراني إلى رأس السلطة التنفيذية يواجه عددًا من العثرات، أهمّها خيبات الأمل الكبرى وحالات الفشل المتكررة للمرشحين العسكريين في الدورات الرئاسية السابقة، وتغيّر الظروف الدولية مع قدوم إدارة الرئيس بايدن وانفتاح الاحتمالات حول عقد اتفاق نووي جديد مقابل التخلي عن سياسة الضغط الأميركية القصوى؛ فإن قدوم رئيس عسكري في إيران يبقى احتمالًا يطرح نفسه بقوة على الطاولة، وسيكون له العديد من التداعيات والانعكاسات، على المستويين الداخلي والإقليمي.
أولًا: العسكر في مواجهة الملالي والمتشددين
إن حضور العسكر وهيمنتهم على السلطة التنفيذية في إيران سيعني إضعاف شبكة رجال الدين والأحزاب الأصولية المتشددة بشكل عام، مع احتمالية أكبر لاستمرار الأيديولوجية الحاكمة نفسها على المدى القريب. وعلى الرغم من أن رجال الدين والأحزاب الأصولية نجحوا في الوصول إلى كرسي الرئاسة مرات عدة، فإنهم يبدون اليوم عاجزين عن البدء باستثمار انتخابي ضخم وواسع النطاق لدعم مرشح قوي، وهذا يعني تراجعهم أمام المرشح العسكري الذي يفرض نفسه بقوة على الساحة السياسية.
وفي الوقت الذي يعاني فيه الجناح الإصلاحي في إيران تداعيات خطيرة تهدد مستقبله السياسي، تبدو الظروف السياسية مواتية لصعود رئيس متشدد، لكن فشل الأحزاب المتشددة، ومنها جبهة الثبات (بايداري) وحزب (مؤتلفة) وغيرها، في تنظيم جبهة منظمة وتقديم برنامج سياسي، سيكون له العديد من التداعيات السياسية داخل الجناح الأصولي نفسه وعلى المشهد السياسي الإيراني بشكل عام.
باختصار: إذا وصل رئيس عسكري إلى إيران؛ فعلينا أن نتوقع حدوث حالة من التحدي والتغيير في المواقف السياسية والفكرية والأيديولوجية للحرس الثوري الإيراني مع طبقة الملالي الحاكمة.
ثانيًا: إيران.. من دكتاتورية دينية إلى دكتاتورية عسكرية
من المهم أن ندرك أن وصول العسكر إلى سدة الحكم في إيران، سيكون له العديد من التداعيات المهمة على المستوى الداخلي الإيراني، أحدها احتمالية تحول النظام الحاكم في طهران من دكتاتورية دينية يحكمها الملالي وتستخدم العسكر لفرض هيمنتها، إلى دكتاتورية عسكرية بالكامل.
هذه التحليلات ليست بلا دليل، في ظل وجود شخصية مسنة ومريضة في منصب المرشد الإيراني الأعلى، وعدم وجود أي خليفة يتمتع بذلك القدر من الهيمنة والقوة على المشهد السياسي الداخلي في إيران. لذلك فإن تسلق العسكر سدّة الحكم في إيران، في الدورة الانتخابية الرئاسية القادمة، لن يقف عند هذا الحد، بل سيتعداه ليصل إلى منصب المرشد الإيراني الأعلى، وسيفتح ذلك الأمر البابَ واسعًا أمام سيناريوهات عدة، أهمها التقسيم التدريجي للسلطة الحالية بين المؤسسات المهيمنة الأخرى في مرحلة ما بعد خامنئي.
في خضم ذلك، ستؤدي وفاة خامنئي المفاجأة إلى تقسيم السلطة بين أقطاب مختلفة تتوزع بين الحرس الثوري والبرلمان والرئاسة وبقية الأجهزة البيروقراطية الأخرى، لكن الحصّة الأكبر ستكون للحرس الثوري الذي أصبح اليوم قادته العسكريون يجلسون في أهم المناصب السياسية في إيران.
باختصار: لا توجد أي ضمانات بألا يتدخل الرئيس العسكري القادم في عملية انتخاب مرشد إيراني جديد، ومن المحتمل أن يتخلى هؤلاء العسكر المتعطشون للسلطة والنفوذ والمال عن ولائهم المطلق لأيديولوجيتهم الثورية، ومبدأ ولاية الفقيه، التي سيتحول مرشدها الجديد، تدريجيًا، من صفة المتبوع إلى صفة التابع على المدى الطويل.
ثالثًا: المجلس العسكري الذي سيحكم إيران
إن صعود رئيس عسكري على رأس السلطة التنفيذية في إيران لن يزيد من الانشقاقات والاختلافات والصراعات داخل المعسكرين الأصولي والإصلاحي فحسب، بل سيشعل أيضًا فتيل الصراعات والتنافس داخل تيارات القوات المسلحة، التي سيكون لصعود أحدها على حساب الآخر تأثيرات على مستقبل التيار نفسه. وعلى الرغم من وجود قائمة طويلة من العسكريين الذي تركوا قواعدهم العسكرية مرتدين البدلة الرسمية، لخوض غمار السياسة الإيرانية، فإن هناك اليوم قائمة أطول من قادة الحرس الثوري، ممّن لا يتدخلون بشكل رسمي ودائم في السياسة الداخلية، ويبقى أن نرى إلى أي مدًى سيتغير هذا الترتيب، في حال فوز مرشح عسكري. وإضافة إلى ذلك، من المهم أن نرى إلى أي مدى سيبقى التيار العسكري (الأكثر راديكالية والأشد وفاءً للمرشد الإيراني) منضبطًا، في حال صعود مرشح عسكري.
في خضم ذلك، تحدث هذه التطورات في وضعٍ يفتقر فيه الحرس الثوري الإيراني إلى شخصية قيادية جذابة تمتع بالدعم الشعبي، لذلك من المحتمل ألا تكون السلطة في يد قائد عسكري واحد، ولكن سيتم تقسيمها ضمن ما يشبه المجلس العسكري، الذي سيفرض واقع نظام الحكم الدكتاتوري العسكري، ويدير انتقال السلطة في السنوات القادمة، بعد أن أحكم قبضته على كل مناحي الحياة في إيران.
رابعًا: الحرس الثوري الإيراني دولة تبلع الدولة
لطالما وصف المحللون المهتمون بالشأن الإيراني “الحرسَ الثوري” بأنه “دولة داخل الدولة”، لكن صعود رئيس عسكري اليوم سيغير هذا المشهد بالكامل، لتبتلع بذلك دولة الحرس الثوري الإيراني كلّ مظاهر الدولة الإيرانية بالتدريج. وإن تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة من قادة الحرس الثوري سيعني توسع نفوذ الحرس الثوري في مجالات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والأمن.
على المستوى الداخلي، سيعني ذلك عسكرة الحياة السياسية الإيرانية، في ظل وجود قادة عسكريين يتحكمون في المفاصل السياسية والاقتصادية والأمنية الحساسة والمهمة للبلاد. وفي الوقت ذاته، سنشهد توسعًا في نفوذ الحرس الثوري الإيراني في المجال الاقتصادي، وحصوله على عدد أكبر من الاستثمارات الاقتصادية بشكل حصري. وإضافة لذلك، سيتعزز النفوذ الأمني للحرس الثوري الإيراني الذي أصبح يهيمن على مفاصل جهازَي استخبارات مهمّين داخل إيران: منظمة استخبارات الحرس الثوري التابعة له بالأصل، ووزارة المخابرات الإيرانية التي سيديرها أحد القادة العسكريين مع قدوم رئيس عسكري. وإن ازدياد النفوذ الأمني للحرس الثوري الإيراني يعني سيطرته على القضايا السياسية التي لطالما تدخّل بها وقمعها عبر نفوذه الأمني والاستخباراتي سابقًا، ومن ثم توطيد حكم العسكر داخل إيران بشكل دائم.
من ناحية أخرى، سيكون لصعود العسكر تداعيات على السياسة الخارجية، التي لطالما كانت ملعبًا أساسيًا للحرس الثوري الإيراني، يستخدم فيها “فيلق القدس” وقائده السابق قاسم سليماني أداةً لتعيين هذه السياسات، خاصة في سورية والعراق ولبنان واليمن. ومع قدوم رئيس عسكري، سيكون مجال نفوذ الحرس الثوري الإيراني في السياسة الخارجية أوسع بكثير، ومن الممكن أن يتحول الحرس الثوري الإيراني في معظمه إلى ذراع خارجية ضاربة، في ظل فشل قاآني (القائد الجديد لفيلق القدس) في إدارة الملفات الخارجية والحفاظ على النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة، وسيفتح ذلك الأمر البابَ واسعًا أمام تغييرات جذرية في بنية فيلق القدس الإيراني وقيادته على الأغلب.
خاتمة:
يدافع اليوم قادة الحرس الثوري الإيراني بشدة عن نظرية المرشح الرئاسي العسكري، مستشهدين بفشل الحكومات الإيرانية المتعاقبة وعدم قدرتها على التأثير والفاعلية، من دون أن يخفوا رغبتهم في الحصول على حصة من كيكة السلطة التي يقولون أنهم حُرموا منها بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية.لكن إذا نظرنا إلى العقود الأربعة الماضية، فإننا نجد أن الحرس الثوري الإيراني يتبع نهجًا وسياسة ثابتة متروية لبسط هيمنته ونفوذه التدريجي على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في إيران، وما جلوس أحد القادة العسكريين التابعين للحرس الثوري الإيراني على كرسيّ الرئاسة إلا استكمال وتتويج لهذا النهج والتوجه السلطوي للعسكر، بالرغم من مروره بعدد من العثرات والمطبات، خلال مسيرته السابقة.
إن نظرة إلى مخالفة قادة الحرس الثوري الإيراني لوصية خميني الصريحة، بعدم خوض العسكر في غمار السياسة، لا تنفي احتمال خروج هؤلاء العسكر المتعطشين للسلطة والمال عن مبادئهم الأيديولوجية وولائهم المطلق لولاية الفقيه، التي يمكن أن يحوّلوها من صفة المتبوع إلى صفة التابع، في إطار مشروع منهجي لعسكرة الحياة السياسة في إيران، على غرار عددٍ من الدكتاتوريات العسكرية الأخرى في منطقتنا.