في البداية، علينا الاعتراف بأن الصراع الإسلامي العلماني هو صراع نخبوي تتأثر به الجموع. وفي معظم الحالات هنالك عدم وضوح في المفاهيم، تستغله النخب السياسية في صراعاتها على السلطة. الصراع الفعلي هو بين القوى الشمولية التي تريد فرض رؤية واحدة محددة على الجميع، والقوى الديمقراطية التحررية التي همّها فتح مجال الحريات أمام التجليات السياسية والفكرية والمجتمعية المختلفة.

يقف العلمانيون ضد مقولة إن “الإسلام هو الحل”، لكن هناك كثيرين لا يعترفون بأن الإسلام ليس المشكلة أيضًا. وبالطريقة نفسها يقول كثيرون إن “العلمانية هي الحل”، وقليلون فقط يعترفون بأن العلمانية هي جزء من الحل، وبأن هنالك جزئيات أخرى مطلوبة أهمّها الديمقراطية. فالعلمانية من دون ديمقراطية ستعود إلى إنجاز دولة شمولية، لا تختلف إلا في جزئيات قليلة عن الدول الشمولية الدينية. فكيف نبني دولة ديمقراطية، تعمق فيها العلمانية الحريات، ولا تكون أداة لقمعها؟

منذ بناء الدولة، تشهد سورية صراعًا، بين قوى الإسلام السياسي والقوى العلمانية، حول دور الدين في الدولة، حيث ترى القوى الإسلامية أن الهدف النهائي للدولة هو تطبيق الشرع الإسلامي، وتختلف قوة هذا الطرح ومطالب سرعة تطبيقه بين التيارات المختلفة، بينما ترى القوى العلمانية أن الهدف هو دولة لا علاقة لها بدين أي مجموعة فيها، وتختلف قوة هذا الطرح ومطالب سرعة تطبيقه أيضًا بين التيارات المختلفة. تأريخ هذه الصراعات ليس موضوع هذه الورقة، لذلك لن نخوض في السرديات.

اليوم، نشهد التخندقات نفسها، وفي كثير من الأحيان يصوّر الخلاف وكأنه صراع بين “الإيمان والكفر”، على الرغم من أن لا علاقة للعلمانية بالحالة الإيمانية أو انعدامها. سبب هذا التصوّر الخاطئ هو محاولة البعض تشويه الفكر العلماني، واستغلال الدين في حالة الحشد السياسية، وخوف غير المؤمنين من إعلان موقفهم خشية ردة فعل الشارع المؤمن، وقيامهم بالتخفي تحت المسمى العلماني. هذا على الرغم من أن العلمانية لا توصف بأنها حالة شخصية، وإنما هي منظومة عمل سياسية، كما هي الديمقراطية، وتوصيف شخص بأنه ديمقراطي أو علماني يعني فعليًا أنه شخص يؤمن بديمقراطية الدولة أو علمانيتها، بعيدًا من القناعات الشخصية الدينية.

التوصيف الأعم لنظرة العلمانيين، نحو علاقة الدولة بالدين، يعبّر عنه بشعار “فصل الدولة عن الدين”، هذا الشعار -بحسب التفسيرات المختلفة- يمكن أن يعني شكلًا واحدًا من هذه الأشكال أو يجمع بعضها:

  • فصل الدين عن المجتمع: هذا التفسير يتجاوز الشعار الذي يتحدث تحديدًا عن الدولة، لكن كثيرًا من القوى التي تحارب العلمانية تروّج لهذا التفسير، ويشاركهم في هذا بعض العلمانيين الذين يرون أن الإيمان بحد ذاته هو سبب تخلف الشعوب.
  • إنهاء أي وجود للدين في الدولة: هذا التفسير أقرب للعلمانية الفرنسية، ويمنع تأثير الدين في الدولة، كما يمنع المظاهر الدينية في مؤسسات الدولة، كارتداء الحجاب والصليب والصلاة.
  • إنهاء تدخل الدين في السياسة: ويعني فعليًا عدم استخدام الشعارات الدينية لتحقيق أهداف سياسية، كالحشد في الجوامع والكنائس، وصف الأعداء السياسيين بالكفرة، الحشد العاطفي الديني مع مرشح ما ضد غيره.
  • إنهاء تدخل الدولة في الدين: بمعنى أن أنظمة المؤسسات الدينية يجب أن تنبع من قواعد المتدينين، من دون أن تتلقى أي دعم أو عداء من الدولة، وأن لا تستغل الدولة مشاعر الناس الدينية للحشد من أجل سياساتها.
  • حيادية الدولة تجاه الدين: تفسير يحاول تجاوز الإشكالات المطروحة في التفسيرات السابقة، وهذا النموذج الذي أدعمه في هذه الورقة، وسأستفيض في شرحه.

ماذا نعني بحيادية الدولة؟

من المفيد وضع محددات معينة لما نعنيه بحيادية الدولة، ولهذا أقترح هذه المحددات:

  • ليس للدولة دين محدد، وهي لا تمثل مجموعة ما على حساب مجموعات أخرى، وإنما هي تمثل كل الشعب من دون أي تمييز.
  • لا تُوزع المناصب بناءً على انتماءات أو محاصصات دينية.
  • الانتماء إلى مجموعة دينية ما هو اختيار فردي، لا انتماء وراثي، وبهذا تدعم الدولة حرية الفرد وحرية المجموعات الدينية واللادينية أيضًا بالدعوة لأفكارها.
  • تدعم الدولة الحريات، ومن ضمنها حرية الانتماء الديني وممارسة الشعائر، على نحو لا يتعارض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
  • ليست هنالك قوانين تمييزية على أساس الدين، هذا لا يمنع وجود قوانين أحوال شخصية منفصلة لكل مجموعة دينية. سأقوم بطرح قضية الأحوال الشخصية في بند منفصل، حيث هنالك إشكالات متعددة تنتج عن علاقة قوانين الأحوال الشخصية بحرية اختيار العقيدة وبالشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
  • ليس دور الدولة فرض قيم مجموعة دينية ما على أي مجموعة أخرى.
  • دور القانون هو حماية الإنسان، لا تنظيم حياته، بمعنى أن التنظيم يجب أن يكون محصورًا على حماية الإنسان من تجاوزات غيره من الناس. تنظيم الزواج -على سبيل المثال- يجب أن يكون محصورًا بمنع العنف بين الأزواج، وحماية حقوقهم وحماية الأطفال، وليس تحديد طبيعة العلاقات من منظور ديني أو اجتماعي بمعنى ما تريده الأغلبية.

ضمن هذه المحددات، نستطيع أن نتجاوز فكرة فصل الدين عن المجتمع، وإزالة أي عداء بين الدولة والدين، حيث إن الدولة قد تضطر أحيانًا إلى أن تحمي الأفراد من تسلط المؤسسات الدينية على حياتهم. كما أن ضمان الحريات الدينية يعني ضمان حرية الإيمان أو عدم الإيمان، من دون احتلال المجال العام المشترك بين الجميع. بهذا المعنى يمكن للمتدين ارتداء رموزه الدينية والقيام بشعائره، من دون وضع رموزه في مكان العمل. مثلًا، يمكن للمرأة ارتداء حجابها في المدارس العامة، من دون وضع الآيات القرآنية على حائط الصف، كما يمكن للموظف أن يضع صليبًا على صدره، من دون وضع الصليب على باب المؤسسة العامة، يحق لمن يريد الصلاة الحصول على مكان مخصص للعبادات في أماكن العمل، من دون إظهار مكان العمل وكأنه مخصص لانتماء ديني معين، على حساب الأديان الأخرى.

يتفهم هذا الطرح أيضًا أن القيم الدينية ستبقى مؤثرة في الوعي الجمعي، وستؤثر بدورها في السياسة، ويبقى على الناس تقدير الفائدة التي يحصلون عليها من هذا التأثير. لذلك لا تطرح حيادية الدولة فكرة إبعاد المؤسسات والأحزاب الدينية عن العمل السياسي، وإنما تضبطه بعدم تجاوز الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فلا تدعو لقتل المخالف، أو منع المواطن من ممارسة حرياته، وإن اختلفت مع تفسيرات وضوابط بعض المجموعات الدينية، وأهم من ذلك ضرورة قبول الديمقراطية وحيادية الدولة كأداة وهدف للعمل السياسي، أي ألا تصبح الديمقراطية أداة للاستخدام لمرة واحدة للوصول إلى الحكم، ومن ثم يتم إلغاؤها.

الأحوال الشخصية للطوائف وإشكالات تتطلب الحل:

من منطلق ضمان الحريات الفردية والجماعية، يفضل السماح بحرية اتّباع قوانين أحوال شخصية تتبع للمجموعة الدينية التي يرغب فيها المواطن، أو اتّباع قوانين الأحوال الشخصية المدنية للدولة، ويترك الخيار للأفراد في هذا الشأن. لكن هذا الأمر يطرح إشكالات لها علاقة بتناقض كثير من هذه القوانين مع الشرعة العالمية لحقوق الإنسان وحرية اختيار الانتماء الديني، وتتطلب عملًا كثيرًا للتوفيق بينها. بعض الأمثلة على الإشكالات:

  • العمر المسموح به بالزواج، قد يتفاوت العمر من دين إلى آخر، ويُعدّ تزويج صغار العمر اعتداءً على حقوق الطفل. وينصح بتوحيد السنّ لكامل الدولة، على نحو يتطابق مع القوانين والمعاهدات الدولية المعنية بحقوق الطفل.
  • تزويج المرأة من قبل ولي أمرها لدى البعض. يقترح منح المرأة الحق بتزويج نفسها.
  • تعدد الزوجات لدى المسلمين. وهو مسألة أكثر تعقيدًا، وبحاجة إلى عمل أوسع للتأكد من إمكانية أو عدم إمكانية ملاءمة التعدد، مع حماية حقوق المرأة وحرياتها.
  • منع الطلاق في بعض المذاهب المسيحية. قد يكون من الأفضل السماح بالطلاق عن طريق آليات الأحوال الشخصية المدنية.
  • قوانين الإرث وعدم مساواتها دومًا بين الذكر والأنثى. يجب أخذ المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت عبر الزمن والقيام بالمساواة.
  • وجود انتماءات مختلفة لدى الزوجين، أو بين الأهل والأطفال، وخاصة عندما يقوم أحدهم بتغيير انتمائه، في أثناء العلاقة، فأيّ قانون يطبّق حينئذ؟ إنها قضية معقدة وبحاجة إلى نقاشات واسعة.

هنالك بعض الاقتراحات بتطبيق قانون واحد، ولكن بالسماح بالقيام بالإجراءات عبر المؤسسة الدينية. يمكن أن يكون هذا حلًا، أو التعاون بين الدولة والمؤسسات الدينية للحفاظ على قوانين الأحوال الشخصية مع تطويرها لتتلاءم مع حقوق الإنسان، لحل الإشكالات القائمة.

الخلاصة:

الدولة الحيادية هي دولة تحترم الحريات أولًا، ولذلك فلا يجب أن يكون لها مواقف مسبقة من المجموعات الدينية، بل إن عليها العمل على احترام الحريات الدينية، والعمل على التوفيق بينها وبين الحريات الأخرى. هذا الطريق لن يكون سهلًا، وسيلقى مقاومة من بعض القوى الدينية التي تحارب التغيير، أو ترغب في سيطرة مجموعتها الدينية على الدولة وفرض رؤيتها عبر مؤسساتها، كما أنه سيلقى مقاومة من بعض القوى العلمانية التي ترى الدّينَ أساسَ التخلف، وترى في كل مجموعة دينية مشروعًا للسيطرة على الدولة والمجتمع.

إن نجاح هذه الرؤية، ليس بالضرورة بنصِّها ولكن بروحها، قد يكون -برأيي- الضامن الأفضل لبناء مستقبل حر للجميع، ينقل الصراعات البينية من المستوى العنفي إلى المستوى الفكري والسياسي.

__________

(*) بحث مقدم إلى ندوة “تجارب سورية الدستورية” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.