أولًا: مقدمة
يأخذنا هذا السؤال بداية إلى الغوص في التداعيات والآثار التي ستترتب على الوضع السوري، على المستويات كافة، إذا بقيت الحال على ما هي عليه، وتأتي مشروعية السؤال من الوضع الكارثي الذي وصلت إليه الأمور، من الناحية الاقتصادية، حيث إن هناك تسارعًا نحو الانهيار، وهذا السؤال يفتح الباب لأسئلة عدة، على درجة عالية من الأهمية، تتعلق بالحلّ السياسي المنتظر وفقًا للقرارات الدولية ذات الصلة: هل من الممكن أن يحصل توافق ما بين الدول المتدخلة، ينهي الصراع ويطلق العملية السياسية المتعثرة؟ وهل سيكون هناك تغيير في المعادلات الناظمة للصراع، عند هذه العتبة التي وصل إليها، يُسهم في فتح آفاق جديدة أمام الحل السياسي؟
ثانيًا: مواقف الدول المتدخلة والمعنية بالملف السوري
1 – أميركا لاعب رئيس
لم يبدر من الإدارة الأميركية الجديدة، التي دخل رئيسها جو بايدن البيت الأبيض منذ أقلّ من شهرين، ما يشير إلى وجود أولوية للملفّ السوري، في مرحلتها الأولى على الأقل، ففي الخطابين اللذين ألقاهما بايدن، حتى الآن، وتطرّق فيهما إلى إستراتيجيته التي وصفها بـ “المؤقتة”، بدا أن تلك الإستراتيجية تقوم على ركيزتين (الديمقراطية والدبلوماسية) تعبّران بالدرجة الأولى عن الانقلاب على كلّ سياسات ترامب، وعن ترميم الصدوع والانقسامات التي طفت على سطح الحياة السياسية الداخلية الأميركية بتقدّم اليمين الشعبوي الأميركي، الذي كان آخر تمظهر له احتلال مبنى الكابيتول، الأمر الذي شكل صدمة وضربة قاسية للديمقراطية الأميركية، وقد حدد بايدن أولوياته، فضلًا عن معالجة مشكلات الاقتصاد الأميركي ومحاصرة وباء كورونا وتوترات البنية المجتمعية على المستوى الداخلي، بإعادة ترميم العلاقات مع الحلفاء على المستوى الخارجي، بخاصة بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي، والعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ ومواجهة المنافس الصيني الخطير بالوسائل المتعددة، بما يخدم المصالح الأميركية، ومواجهة السياسات الروسية، التي وصفها بـ “الخطيرة” على الأمن القومي الأميركي، وإعادة تقويم العلاقات مع الحلفاء الآخرين في الشرق الأوسط، على عكس ما كانت عليه توجهات سلفه ترامب، ودرة توجهاته العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وجلبها إلى طاولة التفاوض حوله وحول ملفها الصاروخي وسياساتها التوسعية التي زعزعت استقرار المنطقة.
إن الإستراتيجية الجديدة المعلنة تقوم ببندها الأول على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان على مستوى العالم، ومعاقبة الأنظمة المستبدة بما يتوافق والقيم الديمقراطية الأميركية، بمساعدة ما سمّاه “تحالف الدول الديمقراطية”، هذه الديمقراطية التي تجاهل رئيسها السابق ونائبه الرئيس الحالي أكبر مأساة إنسانية تعرّض لها الشعب السوري، كما تجاهل الجرائم التي ارتُكبت من قتل وتدمير وحصار وتجويع وتهجير على يد النظام وحلفائه، والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، مقابل أن ينجز الاتفاق النووي مع إيران، وتفكيك ترسانة النظام الكيمياوية. ويتعلّق بندها الثاني بالوسيلة، وقد حصرها بالدبلوماسية مع التشديد على ذلك، إلا إذا حصلت تطورات تشكل خطرًا على الأمن القومي الأميركي والمصالح الأميركية.
خلاصة القول أن الملفّ السوري ليس في أولوياتهم، وإذا ما ظهر بأي صيغة، فسيكون من خلال تداخله مع الملف الإيراني، لكن هذا الوضع المجحف بحق الشعب السوري المنكوب ليس من المفيد البناء عليه أو اعتباره سياسة نهائية للإدارة الجديدة، فمن المبكر الحكم على مسيرة التطورات من خلال المرحلة الأولى لهذه الإدارة، حتى لو سارت على نهج إدارة أوباما إلى حدٍ ما؛ حيث إن مواقع صنع القرار الأميركي، المتمثلة بالكونغرس بغرفتيه ومجمع الأبحاث وركائز الدولة العميقة، هي التي تلعب الدور الأساس في تحديد المواقف، عندما تستشعر ظهور ما لا يناسب المصالح الأميركية، على أهمية الدور الذي يلعبه ساكن البيت الأبيض وإدارته التنفيذية.
2 – لا تطوّر في الموقف الروسي
ما يزال الموقف الروسي مستمرًّا في نهجه، ومحاولاته الالتفاف على القرارات الدولية العديدة التي رسمت خارطة طريق للحل السياسي المنتظر، من خلال مسارات آستانا وسوتشي واللجنة الدستورية، متكئًا على تحالفاته الهشة مع الطرفين المتدخلين الإيراني والتركي، وكلها خطوط باءت بالفشل حتى الآن، لأن النظام لا يريدها، وهو يراهن على عامل الوقت الذي يجيده، وعلى اللعب على التناقضات الهامشية بين حلفائه، حيث يريد الروس تثبيت النظام مع إجراء تغييرات شكلية، لا تمسّ جوهر النظام وأدوات تحكمه في الدولة والمجتمع، والتقدّم بذلك إلى العالم على أن هذا هو الحل السياسي الذي توافق عليه السوريون، وما زال يواجه التعطيل الأميركي لكل توجهاته وتحركاته؛ فالأميركيون ليسوا في عجلة من أمرهم، ولهم رهاناتهم الخاصة على المستوى الإستراتيجي في ما يخص كل ملفات المنطقة المتداخلة والمترابطة، خاصة أن احتلالهم لمناطق شرق الفرات (مكمن الثروات السورية)، بمساعدة حليفهم “قوات سوريا الديمقراطية”، لا يكلفهم شيئًا يذكر.
صحيح أن الروس حصلوا على مصالح اقتصادية كبيرة حتى الآن من النظام، وهم الذين أوقفوه على رجليه بعد هوانه، وأعادوه إلى 60% من الجغرافيا السورية، وأغلبها كانت خارجة عن سيطرته، إلا أنهم بالمقابل خسروا الكثير، بالمعنى المادي والسياسي والأخلاقي، وهم يدركون تمام الإدراك أنهم في مأزق، وسوف يظلّون عاجزين عن تحويل إنجازاتهم العسكرية إلى إنجازات سياسية، إلا إذا سمحت لهم الولايات المتحدة والأطراف الغربية الأخرى بذلك، وهذا ما زال بعيدًا، لذلك تراهم مترددين تجاه كل الالتزامات، التي قطعوها لإسرائيل والولايات المتحدة، بعد مؤتمر القدس الأمني الذي عقد في 23 حزيران/ يونيو 2019، وضمّ مسؤولي الأمن في كل من الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، ومنها إلزام الإيرانيين بالانسحاب حتى ثمانين كيلومترًا من حدود الجولان، وتسهيل تنفيذ القرار الأممي 2254، وذلك لأنهم لم يحصلوا، حتى الآن، على مقابلٍ يبرر المغامرة بعلاقتهم مع إيران، بغض النظر عن تضارب مصالحهما الجزئي على الأراضي السورية، ولذلك هم مستمرون في تقطيع الوقت، والمساعدة في تثبيت النظام، ومساعدته في إنجاز الانتخابات القادمة، سواء أعترف الغرب بنتائجها أو لم يعترف، ولا يني يرمي ببالونات الاختبار وجس النبض لحلوله التي يتفتق عنها، وآخرها فكرة مجلس عسكري انتقالي يكون بديلًا عن هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة، كما وردت في جنيف1 لعام 2012 ، أو حكومة واسعة غير طائفية، كما ورد بالقرار 2254 لعام 2015، ثم عادوا ونفوا وجود خطط لهم أو مبادرات بهذا الخصوص، وبما أن الروس عاجزون أو غير راغبين في مساعدة حليفهم في وقف حالة التدهور الاقتصادي والمعيشي للسوريين، وهم يدركون خطورة ذلك على مستقبل النظام وعلى وجودهم في سورية؛ فقد قام وزير خارجيتهم، الأسبوع الثاني من الشهر الجاري آذار/ مارس، بجولة خليجية في محاولة لفك العزلة عن النظام، وتأمين مساعدات اقتصادية له، ومن غير المعروف مدى النجاح الذي أصابه.
3 – الموقف الإيراني
يبني القادة الإيرانيون على توجه الإدارة الأميركية الجديدة، برغبتها الجامحة في العودة إلى الاتفاق النووي، وتأكيدها على الخيار الدبلوماسي، وعلى تضامن الأوروبيين على درجة كبيرة مع مواقف طهران، ومعارضتهم قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق عام 2018، وعقوبات الضغط الأقصى على إيران، الأمر الذي أنهك الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، وعطل على الآخرين مصالحهم واستثماراتهم في إيران، هذا البناء يدفع الإيرانيين إلى التقدّم خطوة إضافية من سياسة حافة الهاوية في تصدير مواقفها، وهي تغطي على ذلك بتبادل الأدوار لمسؤوليها بالتأرجح، ما بين التعنت والإصرار على المواقف المعلنة، أو إرسال مزيد من الرسائل الاستفزازية المحسوبة، بواسطة أذرعها الميليشياوية المنتشرة في العراق واليمن، ضد المصالح الأميركية، وآخرها ضرب مصالح ومواقع أميركية بالقرب من مطار أربيل، شباط/ فبراير الماضي، ومن جانب آخر، ما زالت إيران تمارس ضبطًا عاليًا للنفس، تجاه الضربات الإسرائيلية لمواقع تمركز ميليشياتها على مساحة الجغرافيا السورية، ليس لأن قتلى الغارات ليسوا إيرانيون بالعموم، وهذا مهمّ عندهم، بل لكيلا تعطي إسرائيل حجّة لتغيير قواعد الاشتباك، وتوسعة نطاق الحرب التي لا تريدها إيران، فنهجها حرب الوكالات البعيدة عن أراضيها، وليس المواجهة المباشرة، لذلك تلجأ باستمرار إلى تغيير مواقع تمركزها، أو التمركز داخل مواقع القوات السورية وارتداء زيّها، وتمكين وجودها بتشكيل وتدريب وتسليح مزيد من الميليشيات من حملة الجنسية السورية، يقدّر عديدها بخمسة عشرة ألفًا في المنطقتين الشرقية والجنوبية على وجه الخصوص، تحسبًا لأوضاع مستقبلية قد تضطر فيها إلى مغادرة الأراضي السورية، فتكون هذه الميليشيات قنابل موقوته تشاغب بها على مستقبل استقرار الوضع السوري، إذا انطلقت عجلة الحل السياسي.
ردًا على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، خففت إيران من التزاماتها باتفاق مجموعة العمل المشتركة؛ فزادت من نسبة التخصيب حتى نسبة 20%، وقامت بتركيب مزيد من أجهزة الطرد المركزي. وفي اجتماع الوكالة الأخير، وكان هناك مشروع قرار إدانة ذو تأثير للخروقات الإيرانية، سارع الأوروبيون -بدعم أميركي- إلى تعليق مشروع الإدانة، وكانت طهران قد استبقته بإعلان استعدادها لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع مجموعةG5+1 حول الاتفاق، وقد صرّح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأن “الولايات المتحدة مستعدة لقبول دعوة الاتحاد الأوروبي، لبدء مسار دبلوماسي مع إيران في إطار مجموعة G5+1″، كما صرّح محسن رضائي (رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام) بالقول إن “طهران سوف تعود إلى المفاوضات، إذا قدّمت الولايات المتحدة والدول الغربية ضمانات برفع العقوبات عن إيران خلال عام”، وبغض النظر عن تصريحات التشدد الإيراني، لا يُستبعد أن تكون هناك مفاوضات سرية تجري بين إيران والولايات المتحدة، فقد حصل مثل هذا الشيء عام 2010، بين الطرفين، بتسهيل عماني، أفضى إلى توقيع الاتفاق عام 2015، ويرجح أن إيران مستعدة لتقديم تنازلات مهمة في الاتفاق النووي، مقابل رفع العقوبات، إذا استطاعت جرّ الولايات المتحدة لغض الطرف عن ملفيها الأثيرين: ملف الصواريخ وملف تدخلاتها وتوسعها في المنطقة.
4 – الموقف التركي
على الرغم من التدخل التركي في الصراع الدائر في سورية بشكل مباشر منذ العام 2016، ومن أن تركيا باتت تتحكّم، من بعد ثلاث عمليات عسكرية واسعة (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، في ما يزيد على ثلث الشريط الحدودي بين سورية وتركيا، بهدف خلق حاجز بشري، بينها وبين حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، فقد بات لتركيا وجود عسكري مهمّ على الأراضي السورية، ويتبعها -ضمن صيغ تحالفية- أكثر من مئة ألف مسلح من المعارضة السورية المتجمعة في ذلك الشريط، وتعلن تركيا أن لوجودها هدفين أساسيين في سورية: أوّلهما منع قيام أي صيغة لظهور كيان كردي يسعى له حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية، ذلك أنها تعدّ الحزب منظمة إرهابية، لكونه يتبع حزب العمال الكردستاني التركي، ويشكل مصدر خطر للأمن القومي التركي؛ وثانيهما أن تضمن لنفسها مقعدًا على طاولة التفاوض حول تطبيق الحل السياسي ومخرجاته، لتحقيق نفوذ تسعى إليه في محافظة حلب على وجه الخصوص، وبما أن مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي قد بات من الماضي، وصار جلّ ما يطمح به الحزب أن يساعده الأميركيون في أن يكون طرفًا داخليًا في الحل السياسي، وليس هناك من مؤشرات توحي بغير ذلك؛ فلن يكون الطرف التركي معرقلًا عنيدًا للحل السياسي في حال انطلاقه، وفي كل الأحوال، بغض النظر عن التوترات في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، يتوقع أن تصطف تركيا -في النهاية- إلى جانب الخيارات الأميركية.
5- الموقف الإسرائيلي
يبدو الموقف الإسرائيلي أكثر ارتباكًا في هذه المرحلة، بعد إعلان الإدارة الأميركية الجديدة استعدادها لبدء مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، بالتعاون مع مجموعة العمل المشتركة، ولم تخفِ إسرائيل معارضتها لهذه العودة، كذلك لم تُلق الإدارة بالًا للاعتراض الإسرائيلي؛ فإسرائيل تريد الدعم الأميركي والتعاون الروسي لخطتها، التي تستهدف إنهاء الوجود العسكري الإيراني ومنع تمركزه على الأراضي السورية، ولذلك تكثف استهدافاتها بضربات جوية متواترة ومؤلمة لهذا الوجود، مع تفهم روسي أو عدم ممانعة لما تقوم به، وتشير تقارير عديدة إلى وجود حالة انقسام في الرأي داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الحاكمة في إسرائيل، حول حرب استباقية واسعة لإنهاء الوجود الإيراني، وإرباك العودة الأميركية للاتفاق النووي، ما بين مؤيدين لمثل هذا الخيار ورافضين له نظرًا لتداعياته التي لا يمكن التكهن بنتائجها، ولا بمدى توسعها إلى أكثر من دولة، إذ قد يترتب على هذا الأمر عواقب وخيمة تؤثر في طبيعة التحالف الأميركي الإسرائيلي، إذا ما انفردت إسرائيل باتخاذ مثل هذا القرار، ويبدو أن تيار الرافضين لمثل هذا التوجه هو الأقوى داخل مركز القرار الإسرائيلي، ولذلك يُرجح أن تتابع إسرائيل ضرباتها النوعية بانتظار تغيير في المعطيات والتوجهات في واشنطن.
6 – لقاء الدوحة الثلاثي ومسارات روسيا المتوالدة
في نهاية جولته الخليجية، عقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيريه القطري والتركي مؤتمرهم الأول في العاصمة القطرية، بتاريخ 13 آذار/ مارس الجاري، بغية إطلاق مسار جديد للبحث عن حل للقضية السورية، وقد جاءت المبادرة الروسية للتغطية على فشل مساري آستانا وسوتشي وكذلك اللجنة الدستورية، في محاولة من الروس لإشراك العرب في الحلّ، وفك العزلة عن النظام، ودفع الدول الخليجية للمساعدة في وقف تدهور الاقتصاد السوي، على الأقلّ من الباب الإنساني، فالروس يعتقدون بأن مدخل التطبيع الدولي وإعادة تأهيل النظام وتسويق انتخاباته الوشيكة، لا بد من أن تبدأ من جامعة الدول العربية، ولذا استبعدت طهران عن مسار الدوحة، مراعاة للحساسيات الخليجية.
وقد برز خلال الاجتماع تباينٌ واضحٌ في مواقف الدول الثلاث، على الرغم من أن البيان الختامي المشترك حرص على إظهار الطابع التوافقي بين الدول الثلاث، ولم يُضف البيان جديدًا إلى البيانات الأخرى التي شارك فيها الروس، فهم لم يقدموا أي تنازل عن مواقفهم ورؤاهم السابقة للحلّ، وعليه لا يمكن البناء على مخرجات المؤتمر، فكل دولة عبّرت عن مواقفها المعروفة من الصراع في سورية. وعلى الرغم من الترحيب الذي قوبلت به عودة الدور العربي من بوابة الدوحة، على أمل التأثير في مسارات العملية السياسية السورية؛ فمن غير المتوقع أن يفتح مسار الدوحة بابًا للحل، ما دام الطرف الأميركي غير مهتم جديًا بالقضية السورية، ولم تدرج في سلّم أولوياته حتى الآن.
بناءً على الاستعراض السابق؛ يرجح ألّا يحظى الملف السوري بأي أولوية أو أهمية، ما عدا الجانب الإنساني وتطوراته المرتبطة مباشرة بمستقبل العلاقات الأميركية الإيرانية، والاتجاه الذي سوف تتخذه وطبيعة الاتفاق الذي قد يتم التوصل إليه، ولا يخفى أن الأوروبيين، في ذلك السياق، غيرُ متحمسين، ولا موافقين على أي تشدد أميركي تجاه إيران، ويصرّون على اعتماد الخيار الدبلوماسي خيارًا وحيدًا للتعامل معها، بغض النظر عن التخريب الذي نشرته وتنشره في المنطقة، من ضمن إستراتيجيتها التوسعية، فالعقوبات التي فرضها الطرف الأميركي على الضد من توجهاتهم، فهم لا يريدون خسارة نفوذهم التاريخي ومصالحهم الكبيرة في إيران، ويمكن الاستنتاج، بقدر لا بأس به من اليقينية، أن الملف السوري لن يشهد تطورات نوعية في المدى المنظور، إلا إذا حدث أحد الاحتمالات غير المتوقعة التالية، وغيّر في طبيعة التوجهات الدولية القائمة:
- أن يركب التعنت رأس القيادة الإيرانية، وأن تركن إلى استنتاجها الذي يقول بضعف الإدارة الأميركية الجديدة، وعجزها عن القيام بردود خطيرة، بحيث تستفيد من عامل الوقت في تطوير قدراتها العسكرية وإجبار الغرب على تخفيف شروطه للعودة للاتفاق النووي، وطيّ مطالباته بوقف تدخلاتها في المنطقة وإشاعة عدم الاستقرار، وغضّ الطرف عن ملفها الصاروخي، أو أن تتورط -عبر حرسها أو وكلائها من الميليشيات التي تمارس استفزازًا محسوبًا لتحسين أوراقها التفاوضية- في عملٍ قد يقلب المواقف تجاهها، وهذا احتمال حدوثه ضعيفٌ جدًا، فقد برهن الساسة الإيرانيون أنهم يجيدون لعبة التحرش التحذيري من جهة، وأنهم من جهة أخرى يراهنون على قدرتهم على تحمّل العقوبات المفروضة، بل تحمل مزيدٍ منها، لعدم اكتراثهم بوضع الشعب الإيراني المعاشي.
- أن تستطيع إسرائيل من ضمن خطة ما أو استدراج ما لإيران، بقيامها بعمل ضد إسرائيل أو مصالحها في البحار أو في الخارج، يتيح لها توسعة خياراتها العسكرية وإرباك الخطط الأميركية، وهذا أيضًا احتمال حدوثه ضعيفٌ جدًا، نظرًا لقدرات الولايات المتحدة الاستخباراتية والتقنية وتحليل المعطيات العالية.
- أن ينفجر الوضع في سورية أو في لبنان؛ فتضطر الإدارة والغرب إلى التدخل لوقفه، وقد يُحدث ذلك تغييرًا في المواقف من إيران وحلفائها كحزب الله اللبناني، لكن ليس هناك من مؤشرات على توقع احتمال من هذا القبيل. وهذا يعيدنا إلى السؤال الأساس حول بقاء الحال السورية على ما هي عليه، والتداعيات المحتملة على حياة السوريين وأوضاعهم.
ثالثًا: في تداعيات الوضع السوري المتوقعة
إنّ التدهور المريع في سعر الليرة السورية مع موجة الغلاء الكبيرة، أظهر عجز النظام عن وقف حالة التدهور المكشوفة، وكشف عدم اكتراثه بها وبعواقبها الوخيمة على الشعب السوري في مجالات الحياة كافة، وتعنته ورفضه الاعتراف بها أو بأسبابها، إذ رمى بالأزمة على كاهل الانهيار اللبناني وضياع ودائع سورية تقدّر بـ 20 مليار دولار وربما أكثر، من دون أن يوضح لمن تعود تلك الودائع، متجاهلًا ترابط الاقتصادين اللبناني وتداخلهما، وهو الأمر الذي فرضه نظامه منذ عهد الوصاية السورية على لبنان، الذي استمر مدة عقدين من الزمن، وما زال مستمرًا عبر حلفائه هناك حتى الآن، كذلك الإصرار على عدم تقديم الوعود ببذل ما يمكن من جهود وتدابير لحلول تخفف عن كاهل البشر، مع عجز حلفائه الروس والإيرانيين عن مدّ يد العون له على هذا الصعيد، بحكم ما تعانيه اقتصاداتهم من أعباء وعجز، إما بحكم العقوبات المفروضة عليهما وإما بحكم الإنفاق العسكري الهائل نتيجة تدخلاتهم الخارجية، وليس أدلّ على ذلك من تصريح السفير الروسي في دمشق، حديثًا، بأن بلاده لا تستطيع تقديم المساعدة المالية للحكومة السورية على هذا الصعيد، لأنها “تعاني آثار العقوبات الغربية المفروضة عليها”، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا يتعلق بالحالة التي سوف يصل إليها الوضع السوري، وانعكاسه على حياة السوريين ومعاشهم، وما سوف تستتبعه من تداعيات خطيرة على كل مناحي الحياة.
فعلى المستوى الاقتصادي؛ هناك عجز لا تخطئه العين يعانيه الاقتصاد السوري، بحكم طول مدة الصراع وما استنزفه من مقدرات، وما لحق من دمار في البنى التحتية، ودمار ونهب للمنشآت والمعامل الصناعية، وهروب رؤوس الأموال السورية باتجاه الخارج، خشية السطو عليها بآلاف الطرق غير الشرعية التي مارستها قوات النظام وحلفاؤه، على هذا الصعيد، وخسارته للمعابر الحدودية مع دول الجوار باستثناء لبنان، وشح واردات الخزينة والصرف الهائل على مجهود النظام الحربي، واضطراره إلى طباعة مزيد من الأوراق المالية التي أدت إلى زيادة الكتلة النقدية الموضوعة بالتداول عن طاقة الاقتصاد المعطل، وعجز المصرف المركزي عن دعم الليرة، لنفاد موجوداته من القطع الأجنبي التي كان يقدّر احتياطيها بأكثر من سبعة عشر مليار دولار، عشية انطلاقة الثورة، الأمر الذي رفع معدلات التضخم ما بين 50 و60 ضعفًا عما كان عليه حينذاك، في وقتٍ لم ترتفع فيه الدخول إلا بمقدار ضعف إلى ضعفين في أحسن الأحوال، الأمر الذي رمى بثقله على أسعار المواد والسلع بشكل يفوق طاقة الدخول بأضعاف، ويضاف إلى ذلك ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، فحسب تقرير للأمم المتحدة فإن 45% من العائلات السورية فقدت دخلًا واحدًا على الأقل، اعتبارًا من كانون الأول/ ديسمبر 2020، الأمر الذي زاد الوضع سوءًا ، وفي تقرير آخر صادر في حزيران/ يونيو 2020 عن الصليب الأحمر الدولي، ظهر أن 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر الدولي، البالغ 1.90$ في اليوم. ولعلّ أخطر ما في الأمر، على هذا الصعيد، الشح الكبير في المحروقات والطحين، وانعكاساته على حركة النقل وأجورها وعلى إمدادات الكهرباء التي لا يراها المواطن لأكثر من ثماني ساعات متقطعة في اليوم، في أحسن الأحوال في المدن الرئيسية، في حين أن الوضع أسوأ من ذلك بكثير في الأرياف والبلدات والمناطق المهمشة.
تنبئ كلّ المعطيات على الصعيد الاقتصادي، بغض النظر عن تصريحات التهوين أو القفز فوق حقائق الوضع الاقتصادي التي يطلقها مسؤولو النظام بين الحين والآخر، بأن الاقتصاد السوري يحث الخطى نحو الانهيار الشامل، وعجز الدولة حتى عن تأمين رواتب موظفيها، نظرًا لغياب إمكانات وقف عجلة التراجع، وهو ما سوف يدفع موضوعيًا إلى انتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة، وتهديد حياة البشر، وانتشار الأمراض الاجتماعية نتيجة الحاجة والفقر، الأمر الذي قد يدفع بمزيد من السوريين إلى اللجوء ومغادرة أوضاعهم البائسة، ويضيفون مزيدًا من المهجرين إلى الملايين من السوريين، الذين سبقوهم هربًا بأولادهم من وسائل الموت والحصار والتجويع، لكن الأخطر أن تنهار مؤسسات الدولة تدريجيًا، نتيجة التدهور العام، والانهيار البيئي الخطير، ودخول سورية تصنيف الدول الفاشلة، وانتشار الفوضى وظهور أنواع جديدة من الصراعات المدمرة، قد يصعب التنبؤ بمداها أو أطرافها.
رابعًا: استنتاجات
ليس هناك من مؤشرات على أن الملفّ السوري سيكون من أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، وإذا حدث شيء من ذلك، فإنه سيكون من خلال تطورات العلاقة الأميركية الإيرانية، شأنه شأن الملفات الأخرى التي تكون إيران طرفًا فاعلًا فيها من ضمن سياستها التوسعية. وبناء على ذلك؛ فإن استمرار الوضع على حاله، من الناحية السياسية، ومتابعة تدهوره على المستويات الأخرى، هو المرجح على المدى المنظور، وسوف يجري النظام انتخاباته الرئاسية منتصف العام، بمساعدة الروس والإيرانيين، غير عابئ بالمواقف الغربية، سواءٌ أعترفت بنتائجها أم لا، فهذا يوفر له رسالة يحتاج إليها تجاه حاضنته ومواليه، بأنه باق، وأن الزمن يسير لصالحه، وألا داعي للقلق، وعلى الرغم من التدهور المريع لأوضاع السوريين، فإن المراهنة على انتفاضة جوع في مناطق سيطرة النظام أمرٌ غير وارد، لعدم توفر العامل الذاتي لانتفاضة من هذا النوع، ما دامت الحالة العامة ثابتة، لكن من الممكن أن يضعف تمسك حاضنته ومواليه به، عما كانت عليه سابقًا، حيث إن رهاناتهم لم تثمر، وباتت خساراتهم كبيرة، ولن تُعوض، وصار واقعهم المعاشي والأمني أكثر سوءًا، وهذا قد يفيد في انطلاق موجة مراجعات، تقرّب بين الأطراف السورية المنقسمة. وبشكل عام، هناك أيام قاسية تنتظر السوريين، في المرحلة القادمة، إلا إذا وقعت تطورات غير متوقعة.