لماذا لا يقوم وفد رسمي من قادات المعارضة السورية، بكل أطيافها، بزيارة كييف عاصمة أوكرانيا، ويعلنون تأييد السوريين لحقوق الشعب الأوكراني بمواجهة الغطرسة والعدوان الروسي؟
يبدو السؤال غريبًا من الوهلة الأولى، خاصة أنه يستدعي أسئلة سريعة: ومن قال إنّ قادات هيئات المعارضة السورية يمثلون السوريين؟ وما الفائدة من زيارة كييف؟ ألا تكفينا مآسينا؟
الجواب هو أننا مضطرون إلى أن نقبل، كما قبلنا سابقًا بفعل الأمر الواقع، بأن هيئات المعارضة السورية تمثل رسميًا قطاعًا واسعًا من السوريين. لكن الأهم، من باب اللعبة السياسية، أن يزورا كييف ويعلنوا تأييدهم للشعب الأوكراني، وهذه خطوة ضرورية ومهمة لأسباب عدة:
أولًا، الشعب الأوكراني يستحق الدعم والتضامن، وهو يعاني الأمرّين ما بين غطرسة السياسة الروسية التي جربت أن تثبت وجودها كقوة عالمية، بعد أن تدخلت في سورية عسكريًا دعمًا لنظام الأسد، وبين تخبط وضعف الموقف الغربي. بعبارة أخرى: الموقف نفسه الذي واجهه السوريون أمام سياسات صراع الدول الكبرى.
فالأوكرانيون الذين قدّم لهم قادات روسيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، عام 1994 في مؤتمر بودابست، تعهدات حاسمة بالحفاظ على استقلال وسيادة الدولة الأوكرانية التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي عام 1991، مقابل أن تسلّم كييف ما لديها من مخزون الاتحاد السوفييتي من الأسلحة النووية، إلى روسيا الاتحادية، والذي كان تقريبًا ثلث مخزون السلاح النووي السوفييتي. وقد صدق الأوكرانيون تلك التعهدات، وسلّموا فعلًا ما لديهم من أسلحة استراتيجية سوفيتية إلى روسيا الاتحادية.
لكن السنين مرت وأوكرانيا عانت الأسوأ، ما بين فساد حكوماتها وتدخلات الحكومة الروسية بهدف فرض سيطرتها على أوكرانيا، وبين وعود وكلام مزخرف من قبل قادات الاتحاد الأوروبي والولايات الأميركية، إلى أن تفجرت الأزمة في نهاية عام 2013، مع هروب رئيس أوكرانيا السابق فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا كلاجئ سياسي؛ فكان الرد الروسي باحتلال جزيرة القرم، ودعم التمرد في أقاليم شرق أوكرانيا على حدود روسيا.
ثانيًا، قد يبدو ظاهريًا أن الاعتداء الروسي على أوكرانيا هو عمل قوة من قبل بوتين. لكن واقع الحال يقول إنه بالمحصلة ليس أكثر من حركة اليائس الأخيرة.
لقد كانت خسارة ترامب لانتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة أكبر خيبة أمل لبوتين، خلال السنوات الماضية؛ وتحولت خيبة الأمل هذه إلى إحباط كبير لدى الحكومة الروسية، بعد أن ثبت لديهم أن سياسة بايدن تجاه روسيا تعتمد على تجميد الملفات المُتأزمة ما بين الولايات المتحدة الأميركية وبين روسيا، من باب أن أولويات الإدارة الأميركية لا تتضمن ضرورة حلحلة هذه الملفات، لا في أوروبا الشرقية ولا في سورية والشرق الأوسط؛ وأيضًا لأن الولايات المتحدة لا تخسر الكثير من هذا التجميد، مقابل الخسارات الكبيرة لروسيا على المستوى الاقتصادي والسياسي، نتيجة العقوبات الغربية الاقتصادية. أضف إلى ذلك خسارة بوتين لشعبيته المتراجعة باستمرار، مع ضغط الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، فضلًا عن أن بايدن شخصيًا له مواقف سلبية معروفة تجاه بوتين منذ أن كان نائبًا لأوباما[i].
لذلك، بعد حوالي عشرة شهور من الانتظار، قرّر بوتين أن يقوم بضربته الأخيرة، ليجبر الإدارة الأميركية والقيادات الأوروبية على الجلوس معه للتفاوض حول كل ملفات التأزم بين الطرفين، والخروج من حالة التنافر السياسي والعقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، خاصة أن وباء كورونا لم يترك له خيارات كثيرة أمام ضغط الأزمات الاقتصادية المتصاعدة.
كانت البداية بعملية جس نبض لردة الفعل الأوروبية والأميركية، من خلال استيراد حوالي 5000 لاجئ من سورية والعراق ووسط آسيا، إلى بيلاروسيا، حين قام نظام لوكاشينكو، دكتاتور بيلاروسيا وحليف بوتين الأقرب، بتوجهيهم لعبور الحدود البيلاروسية مع بولندا لدخول الاتحاد الأوروبي[ii]؛ وقد اتضح خلال تلك الأزمة لبوتين أن الظرف مناسب لضربته الجديدة. فكان أن حرك حوالي مئة ألف جندي جاهزين لاجتياح واسع إلى حدود أوكرانيا، من دون أن يكون هناك أي سبب مباشر واضح؛ فظاهر الأحداث كلها يقول بأن لا تغيّر دراماتيكيًا كبيرًا في 2021 يختلف عن مجريات الأزمة الروسية الأوكرانية المستمرة منذ 2014 إلى الآن، ويستدعي هذا التحرك الروسي الضخم.
بالنسبة إلى بوتين، إن الضغط من خلال التهديد باجتياح عسكري واسع لأوكرانيا، وتنفيذ هذا الاجتياح، سيؤدي إلى إجبار الغرب على الجلوس مع روسيا على طاولة المفاوضات، للخروج من عنق زجاجة العقوبات الاقتصادية الغربية، إضافة إلى أن هذا التوتر العسكري الكبير سيؤدي إلى زيادة أسعار الغاز الطبيعي والنفط، وهما المصدر الأكبر للاقتصاد الروسي، فضلًا عن إعادة رفع شعبية بوتين في الداخل الروسي. أي أن أوكرانيا يجب أن تدفع ثمن الصراعات الدولية الكبرى على حساب شعبها وأرضها، بما لا ناقة لهم به ولا جمل. ولعل هذا يذكرنا بما يحدث في سورية، حيث مررت حكومات عديدة رسائلها لبعضها البعض، باستخدام الأرض والدم السوريين.
لكن يبقى السؤال الآخر: هل إعلان الدعم السوري لحقوق الشعب الأوكراني سيُغضب القيادة الروسية ويرتد ذلك سلبًا على السوريين؟ الجواب المُختصر هو لا. لم تقدّم روسيا أي فائدة للسوريين، مقابل دعمها المفتوح لنظام الأسد الذي أحرق الأرض السورية منذ اندلاع الثورة إلى الآن، بل اقتصر دورها على تقديم الصدمات الكهربائية لإنعاش النظام الذي كاد ينهار مرات، ومنذ 2015 تعهدت بإعادة تجبير كسوره، مع النظام الإيراني، وترميم كل خساراته.
إن لعبة السياسة والمناورة توجب أن تتخذ الجهات التي تُعتبر ممثلة للسوريين المعارضين لنظام الأسد موقفًا حازمًا ومزعجًا للسياسة الروسية. ولا خوف من أن يُغضب ذلك روسيا التي قد تسحب يدها مما سمّي مسارات التفاوض تحت رعاية روسيا. فهذه المفاوضات -بكل الأحوال- تراوح مكانها منذ أن دخل بوتين بجيشه إلى سورية، وما زالت الحال من سيئ لأسوء، ولا يملك حاليًا أن يفعل أكثر مما يفعله الآن في سورية. ومن الواضح أن من أسباب إحباط بوتين من سياسة بايدن أن الإدارة الأميركية تتابع سياستها المراقبة عن بعد في سورية، وترفض تقديم أي دعم حقيقي للسيناريوهات الروسية، مكتفية بعدم معارضتها؛ وقد أدرك الكرملين -بعد 6 سنوات من التدخل العسكري في سورية- أن لا حلَّ ممكنًا في سورية من دون دعم أميركي وغربي مباشر وقوي.
الآن، بعد تصاعد الأزمة الأوكرانية الروسية، ردّت الإدارة الأميركية بإعادة موقفها في سورية إلى التصلب وتفعيل خطوطها الحمراء أمام روسيا، ولن يتجاوز مجال حركة الكرملين في سورية حدوده المتفق عليها منذ 2015 مع الأميركيين والأتراك أيضًا.
أخيرًا، بالرغم من كل ما يُقال عن عدم وجود أخلاق في السياسة، فإن السوريين بالذات يعرفون مدى مرارة هذا المبدأ وثمنه الباهظ. إن الموقف الأخلاقي والقانوني والإنساني يقتضي مننا -السوريين- أن نعلن تأييدنا ودعمنا المعنوي للشعب الأوكراني، لأننا أكثر من يعلم بفداحة الثمن الذي تدفعه الشعوب أمام تغول الصراع الدولي، وأمام آلة حرب الكرملين التي لا تعرف سوى سياسة الأرض المحروقة، منذ أزمة الشيشان إلى الآن.
إن زيارة وفد معارضين سوريين إلى كييف ستعطي زخمًا ودعمًا للحق السوري والأوكراني، وسترفع معنويات السوريين، فضلًا عن رفع معنويات الأوكرانيين، فدلالة زيارة ممثلين للشعب السوري الذي ارتبطت مأساته بالتدخل الروسي ستكون من أهم أشكال الدعم الشعبي التي نالها الأوكرانيون.
غالبية الشعوب تقف متحسبة ومتضامنة مع الشعب الأوكراني حاليًا، وغالبية السياسيين حول العالم يرون في ما يهدد به بوتين اعتداءً على دولة مستقلة ذات سيادة، وإنْ أظهرت بعض هذه الحكومات الحياد أو التأييد لسياسة بوتين، حيث إن عدائية السياسة الروسية وعدم قانونيتها واضحان للعيان.
من ناحية ثانية، ستعود هذه الزيارة بنقطة قوة لأي وفد من المعارضة يحاور الروس؛ فإظهار الدعم، من قبل شعب عانى الأمرين مثل الشعب السوري، للشعب الأوكراني ولاستقلال أوكرانيا، سيعطي هذا الوفد على الأقل كرامة التفاوض القوي نسبيًا، والأهم أنه سيعيد بعض الدفق المعنوي للسوريين والأوكرانيين الذين ما زالوا يمثلون صندوق بريد في نظر صناع السياسات والقرارات الدولية.
يخطئ كثيرًا من يظن أن أوكرانيا بعيدة عن سورية، كما أخطأ من ظنّ أن حدود بيلاروسيا مع بولندا بعيدة جدًا عن سورية، وكما أخطأ من ظن أن الصين وكوريا الشمالية في عالم آخر منفصل عن سورية والشرق الأوسط. والخطأ الأكبر يبقى في إهمال الحامل الأخلاقي لحركات الشعوب أمام ادعاءات البراغماتية السياسية، وأكثر من يعرف ذلك هم السوريون.
[1] دراسة – القيصرية الروسية هل تعود للتمدد؟ طبول الحرب على حدود أوكرانيا – 16/01/2022
[11] قضية – اللاجئون كسلاح تدمير شامل – حرمون – 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021
https://bit.ly/3oUj3gD
.