عندما تنظر إلى مجتمعاتنا، في سقوطها الحضاري الذي وصلت إليه اليوم، من خلال قول القرآن: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}؛ فإنك تلحظ خللًا بين الخطاب والمخاطب. حيث هناك تراجع حضاري كبير لهذه المجتمعات، وعجز واضح في معايشة الحداثة ومعاشرة المعاصرة وإدارة الأزمة؛ فقراءة التاريخ بتدبّر تقول: إن المجتمعات ترتقي حضاريًا بامتلاكها شروط النهضة، فمَنْ يمتلك الشروط ينهض، ومن يفقدها ينحط، ولا يدخل الإيمان والكفر في هذه المعادلة، بدليل واقعنا.
هناك مجتمعات وثنية (بمنطِقِنا) كالصين والهند واليابان وكوريا، حققت أعلى معدلات التنمية عالميًا، ومجتمعات غربية غير متدينة شعائريًا تتصدر أعلى سلّم الحضارة والتقدم، وهذا ما يدفعنا إلى إعادة قراءة النص الديني قراءة غير عِضِينية ولا ظاهرية ولا مقيّدة بالمعرفة التراثية، من خلال ثالوث مهمّ، هو العقل والنص والواقع، وبمنظار إنساني. وإذا فعلنا ذلك فسنجد أن هناك تفسيرًا آخر يؤكد صدقية النص، يذهب عكس ما ذهب إليه المفسرون القدامى، فمثلًا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، من خلال القراءة التي نعتمدها بثالوثها، نجد أن الصالحين ليسوا العباد الشعائريين، إنما كل من يقدّم خيرًا للإنسانية جمعاء، ولذلك يرث الأرضَ اليوم الغربُ، بسبب تقدمه العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، فهؤلاء هم الصالحون لعمارتها، هذا قانون الله وسنته، فالآخرة دار ثواب وعقاب، لمن آمن أو كفر! أما الدنيا فهناك سُنن تحكمها، لا تخرق لمجتمع مسلم، تخلّف عن امتلاك شروط الحضارة في كل شيء! ولذلك جاء قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
نحن نهلك، اليوم، لأننا لا نمتلك الحد الأدنى للإصلاح، أما هم فقد امتلكوا كلّ شروط النهضة، بمعناها غير الشعائري، وهذا يدعونا إلى تدبّر الآية (لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ) فهؤلاء لديهم خلل إيماني -كما نظن- ولكنهم ما داموا مصلحين مبدعين عادلين فيما بينهم، لن يهلكهم الله سبحانه.
هل كفرْنا بالقرآن؟
إذا كان الإلحاد كفرًا بالله، فإن هناك كفرًا أكبر منه، يتمثل بالإعراض عن منهج الله وعدم تدبّره، والعمل به! {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}. والذكْر هنا ليس تلاوة القرآن الكريم أو حفظه أو التغني به، إنما هو المنهج الرباني المتعلق بالقوانين الاجتماعية التي إنْ عملت بها المجتمعات تقدمت، وإن أعرضت عنها تخلفت وتأخرت، ولذلك فإن الغرب عمل بالمنهج وبدقة، فنال رغد العيش والكرامة الإنسانية، وحاز التطور والتحضر في المجالات كلها، أما نحن فأعرضنا عنه، ولم نحاول اكتشافه، فكانت النتيجة التخلف المستمر منذ قرابة ألف عام.
إن مسألة التطور والتحضر غير متعلقة بالإيمان والكفر، إنما متعلقة بقوانين الفيزياء والاجتماع، فإنْ أبصرها مجتمع ما، وعقلها، أنتج ما يسعد البشرية، وأدخل مجتمعَه حلبة التحضر الإنساني، وهذا ما فعله الغرب، عندما أدرك دور العقل وأهميته في لحظ المنهج واكتشاف قوانينه. ولهذا، يمكن أن يكون هناك مجتمع مسلم، وليس فيه مسلمون، والعكس صحيح، وقد لخّصت جملة الإمام محمد عبده ذلك، بعد عودته من منفاه، حينما سُئل عن فرنسا، فقال: “وجدتُ فيها إسلامًا ولم أجد مسلمين، وفي مصر وجدتُ مسلمين ولم أجد إسلامًا”.
نحن ندعي أننا خير أمة، لكننا لم نقدّم شيئًا للحضارة الإنسانية منذ مئات السنين، بل كنا وما نزال عالة على الإنسانية، وفي العقدين الأخيرين تحوّلنا من عالة إلى خطر على الإنسانية، وشكّلنا قلقًا وأزمة للمجتمع الدولي، بعد أن انتشرت الأصولية وتحوّلت إلى سلوك وحشي تَبْرَأ منه رسالات السماء والعقلاء جميعًا، خصوصًا بعد ابتداع الأصولية فكرة التفجير والعنف والإرهاب، وتتويجها بالعمليات الانتحارية.
التخلّف المقدس
نحن مجتمعات متخلفة بشكل مخيف، ليس لأننا نعترف بهذا التخلف، إنما لأننا نقدّسه، ونعدّ هذا التخلف قدرًا إلهيًا وابتلاءً ليميز الله سبحانه بيننا. وتخلفنا شمولي على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد، وهذا التخلف المقدّس أخرجنا نهائيًا من حلبة الحضارة والنهضة التي فيها أمم ومجتمعات باتت ترتقي، إنسانيًا وعلميًا وتكنولوجيًا، على حين بقينا نحن خارج الحلبة مستهلكين، ونردد بجهلنا المقدس، ونحن نستهلك هذا التقدم العلمي: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقرنين).
أصبحنا غير قادرين على التقاط اللحظة النهضوية التي تعيد شرقنا البائس إلى محور الحضارة الإنسانية، ولو بدرجاتها الأدنى، بل إن فرصة الربيع العربي التي قدّمتها لنا لحظةُ احتجاج إنسانية لم نستفد منها، حولناها، لأسباب ذاتية ثم موضوعية، من خطوة انطلاقة إنسانية تُدخلنا حلبة الحضارة، إلى مأساة إنسانية، بسبب اعتقادنا أن العنف حلّ يعيد الأمور إلى نصابها، ولم ندرك الفارق بين الغضب العاقل والانفعال الغاضب، إن وضع اللوم على الموضوعي (الخارج) في فشلنا وتخلفنا وهزائمنا، ليس إلا ثقافة من ثقافتنا السلبية التخديرية لتصدير أزمتنا وعدم الاعتراف بها ذاتيًا.
اللحظات الأولى لكفرنا بالقرآن بدأت حينما أخذنا نحتفي ونمجّد حفظة القرآن الكريم، في حين لو أن مسلمًا ما تدبر القرآن ووجد فيه ما لم يجده الأولون، نشهر تخلّفنا المقدس، ونبدأ حملات التكفير والتفسيق والزندقة، لأننا نريد تحنيط الفهم القرآني، وأن يبقى حكرًا على القرون الأولى فقط، وهذه الاحتفاليات بحفظة القرآن هي الجهل المقدّس بعينه، ومحاولة لتبرير فشل العقل المسلم عن الإبداع، علمًا أن الله في قرآنه كلّه لم يطالبنا بحفظ القرآن! إنما طالبنا بتدبّره، وتذكر كتب التاريخ أن قلة قليلة من جيل الرسالة حفظت القرآن، والأكثر تدبروه، إلا أننا ضربنا بعرض الحائط الأمر الإلهي وكفرنا بالقرآن لما قال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.
وعندما تتبع كلمة (حفظ) في القرآن الكريم، ستجد أن لها معنًى مختلفًا عمّا رسخه الفقهاء والمحدثون في أذهان عامة المسلمين، إذ إن مصطلح (حفظ) في القرآن الكريم يعني الحراسة والصيانة! وليس استظهار آيات القرآن عن ظهر قلب، وبتتبع هذه المفردة، يتضح معناها كما بيّنا: {إنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}.
وكل حديثٍ عن الإيمان، ما لم يحقق للمجتمع هذه المتطلبات المعاصرة والعاجلة، هو حديث مغشوش، ولذا يجب أن نسارع في مراجعات حقيقية لمفاهيم تديننا، ونوظفها لخدمة الإنسانية، حتى لا نكون كفرة بالقرآن.
لماذا كفرنا بالقرآن؟
لقد كفرنا به عندما حوّلنا معنى الترتيل، إلى غناء وتمايل ونحن نقرأ القرآن، فالترتيل في المعنى القرآني هو التنظيم، ووضع الآيات كوحدة موضوعية لفهمها، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}، وليس تناول الآيات عضينيًا، لذلك نقول: رتل سيارات ورتل جنود، أي اصطفوا خلف بعضهم بانتظام، وفي المعجم رتل الكلام أي تناسق وانتظم، ولا توجد رواية واحدة تقول بأن رسول الله تغنّى بالقرآن!
وكفرنا به عندما جعلنا آياته للتغني والطرب، تشدوا بها الأصوات الجميلة، فقدسنا عبد الباسط والسديس والعجمي، وكفَّرنا وزندقنا الشحرور والنيهوم ونصر حامد أبوزيد وغيرهم، لأنهم خرجوا من الصندوق، وألقوا فيه حجرًا كبيرًا حرّك ماءه الآسن، ورتلوه كوحدات موضوعية، ولم يذهبوا إلى المعنى الغنائي لرتل.
القرآن يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}، وعندما نخالفه، بحديث منسوب إلى النبي (منْ بدَّلَ دينه فاقتلوه) نكون كافرين بالقرآن. والقرآن بيَّن أنّ مهمة الرسول محددة: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}. وعندما نضرب بهذه الآية عرض الحائط لحديث يخالفها تمامًا (وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي) فهذا كفر بالقرآن. وحينما يحذرنا القرآن من موالاة المستبد قائلاً: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، فنخالفه استرضاء للاستبداد (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أليس هذا كفرًا بالقرآن؟ والقرآن يوضح منهج الدعوة: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وعندما يكون شعارنا مع الآخر (الإسلام أو الجزية أو القتل) نكون قد كفرنا بالقرآن.
القرآن يؤكد أن الرسول رحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، فنخالفها لقول (أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهذا كفر بالقرآن. وعندما يأمرنا بالوصية، ويكرر الأمر تسع مرات في القرآن منها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ}، ونتركها كلها لحديث آحاد (لا وصية لوارث)، فهذا كفر بالقرآن.
ختامًا: إن قانون حركة التاريخ وسنن الله في خلقه لا تتبدل، ولا تحابي مجتمعًا على آخر، ولكل عصر شروطه وأزماته ومشكلاته، إن مشكلة مجتمعاتنا اليوم مختلفة عن مشكلات مجتمعات السلف، مشكلاتنا تتمثل بالاستبداد، كيف نتخلص منه، علمانيًا كان أم دينيًا، وللمجتمع كل الحق باختيار شكل وطريقة حكمه، كما أنه يتوق للحرية أكثر من توقه للتدين، والعدالة الاجتماعية حلُمه الذي يستحق التحقيقَ، وثقافة المجتمع المدني ومؤسساته تقلّص دائرة الاستبداد، ومنهج البحث العلمي هو السبيل لبدء نهضة جديدة، وطرائق التربية السابقة، الدينية والمدرسية والحزبية والبيتية كلها فاشلة، ونحتاج إلى منهج تربية حديث.
وكل حديثٍ عن الإيمان، ما لم يحقق للمجتمع هذه المتطلبات المعاصرة والعاجلة، هو حديث مغشوش، ولذا يجب أن نسارع في مراجعات حقيقية لمفاهيم تديننا، ونوظفها لخدمة الإنسانية، حتى لا نكون كفرة بالقرآن.
أحسنت رائع جدا
شكرا أستاذ أحمد
مقالة سيئة تبين سبب و مدى جهل ما يسمى ب النخب التي تنتخب نفسها.
مقال جميل لكن يجب تبديل كلمه كفر ب مخالفه تعاليم القرأن وطبعا منها الكثير الكثير حتى وصل بنا الحال ال ما نحن عليه