مما لا شكّ فيه أن الغرب يشهد تقدّمًا حضاريًا، قد نتفق أو نختلف حول بعض مفاصله، ولكنه يبقى تقدّمًا علميًا وتكنولوجيًا وإنسانيًا واضحًا، وإذا كان لفلاسفة التنوير دور كبير في ذلك، فإن الدور الأكبر للمجتمع الغربي الذي تقبَّل نقد هؤلاء الفلاسفة، دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، ليكون النقد أحد أهم أسباب النهضة الغربية.
ولم يكن عندهم شيء ممنوع عن النقد، من اللاهوت إلى السلطة السياسية حتى النظام الاجتماعي، لكن نقدهم كان متزامنًا مع عمليتي الهدم والبناء، هدم للأفكار القديمة التي كانت سببًا للاحتراب والاختلاف، وبناء لأفكار حداثية في الدين والاجتماع والاقتصاد والسياسية، ليثمر النقد أخيرًا، بتحقيق الفردوس الأرضي الذي طمحوا إليه، ولولا السماح بالنقد، لما وصلوا إلى هذا الفردوس الذي يحْلم أبناء الشرق البائس بالوصول إليه عبر قوارب الموت.
لماذا النقد ممنوع عندنا؟
نحن بحاجة ماسّة إلى نقد واقعنا وتاريخنا، لنتلمس من خلال النقد مواقع الخلل التي تأسست عليها ثقافاتنا، وأنتجت سلوكات خاطئة فنعالجها، ونتحسس مواطن الداء فنداويها. ولا بد من أن يكون انتقادنا بطريقة علمية، فاليوم بات هناك علم الاستبانة والاستقراء، وهو من أرقى العلوم الاجتماعية، وما إن تحدث ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، حتى يتدخل هذا العلم، لاستبانة آراء المواطنين والخبراء وأهل الشأن، ومعالجتها بعد سماع نقدهم للظاهرة.
لكنّ مجتمعاتنا، بذريعة العُرف والعيب، سكتت عن انحرافات وأخطاء ولم تنقدها حتى استفحلت، فأصبحت معوقات حقيقية للنهضة والتطور، فاستفحلت عللنا، لتصبح داءً عضالًا، بسبب ثقافة “دع الخلق للخالق”، و”اللهم إني أسألك نفسي”.
ضرورة التمييز بين المصطلحات النقدية!
من مشكلاتنا في فهم هدف النقد، أننا لا نميز بين مصطلحات متشابكة كـ (التثبيط، التربص، النقد)، أما التثبيط فهو محاولة زرع اليأس والإحباط في أنفس أصحاب الهمم والإرادة، وهذا سلوك مذموم وليس نقدًا. وأما التربّص فهو سلوك الحاقدين والحاسدين الباحثين عن الثغرات والعثرات لدى أصحاب الأفكار والأعمال، لتقبيح هذه الفكرة أو ذاك العمل، متربصين بالمجتهدين حقدًا وحسدًا. لكن النقد شيء آخر، فهو علميًا مراقبة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسلوك السلطات ومحاولة تقييمها وتقويمها، وهذا أمرٌ إيجابي، يُسهم في تدارك الأخطاء مبكرًا ويؤسس لتنمية حقيقية.
مناهج النقد ومدارسه؟
تعددت مناهج النقد ومدارسه، فكان فلاسفة اليونان، كأرسطو وأفلاطون والرواقيين، أول من نقد الأفكار الدينية والسياسية والاجتماعية السائدة، وتطورت مدارس النقد مع نهاية القرن التاسع عشر، لتصل إلى نقد الكتاب المقدس، من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، مثل التعصب الديني ومعاملة المرأة وعقوبة الإعدام والتساهل في قضية العبودية، وكان أشهر رواد هذا التيار النقدي “فريدريك نيتشه”. ثم جاءت حديثًا مدرستا “كوبنهاجن” و”شفيلد” لدراسات العهد القديم، اللتان نقدتا الكتاب المقدس كمصدر تاريخي لا يكمن الوثوق به، لأنه غير مدعوم بالأدلة الأثرية.
ويمكن اعتبار الفيلسوف “رينيه ديكارت” أستاذ النقد الأشهر، الذي عمل على نقد المعرفة والتمرد على المسلّمات، باعتبارها قابلة للتغيير بحسب التطور العلمي، وقد تأثر بمنهجه فلاسفة ومفكرون كثر، مثل “سبينوزا” و”جون لوك” و”إسحاق نيوتن” وغيرهم.
ثم جاءت مدرسة النقد الخاص ذات العلاقة بالأعراف والتقاليد الاجتماعية والقوانين، المهتمة كثيرًا بالنصّ أدبيًا، التي أصبحت اليوم علمًا قائمًا بذاته، لها مدراس ومناهج متعددة، فالمنهج البُنيَويّ الذي عُرف مطلع القرن المنصرم، أسسه اللُّغوي “دو سوسور”، الذي فرّق بين الكلام الذي يُعدّ جهدًا فرديًّا، واللغة التي تعدُّ مرجعًا له، وجاءت مدرسة “الشكلانيّين” الرُّوسية المهتمة بنقد البنية الداخلية للنص. وهناك مدرسة النَّقْد الجديد، المهتمة بالأسلوب النقدي بعيدًا عن العوامل الأخرى.
وكذلك المدرسة الأسلوبيّة الذي اعتمد مؤسُسها “شارل بالي”، على المظهر اللُّغوي للأسلوب، من خلال الجانب العاطفيّ، واختيار المصطلحات التي تُشير إلى شخصية الكاتب وتخصصه. وهناك المنهج النقدي “السيميولوجي” أو العلامة اللُّغوية، وهو منهج يعتمد خصوصيات العلامة اللُّغوية، أو الرموز، ودلالاتها الاجتماعيّة، ومن النقد الأدبي، تأسست مناهج نقد الفكر الديني، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي.
النقد إسلاميًا
لعلّ القرآن الكريم أوّل كتابٍ يتحدّث عن النقد عربيًا، ويفرد له آيات وسورًا من خلال نقد تجارب وسلوك الأمم السالفة، حيث بيَّن لنا في نقده العلل والأخطاء التي كانت سببًا في انهيارهم، حتى لا نقع فيها؛ إذ نقَد قوم عاد وثمود وهود وصالح ونوح ولوط وغيرها، حتى قيل إن ثلث القرآن كان نقدًا للتاريخ، وكان لا يكتفي بالنقد! إنما يُذَيِّل نقده قائلًا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} يوسف:111
وانتقل القرآن في نقده من الأقوام إلى الشخصية الدينية، حيث ركز كثيرًا في آياته على الشخصية الإسرائيلية، وقام بنقدها نفسيًا وإيمانيًا وسلوكيًا، وحذرنا من أن نقع في ما وقع به الإسرائيليون الأوائل، ولكن هيهات هيهات! حتى قال الشيخ محمد الغزالي، في كتابه الأخير (اليهود المعتدون ودولتهم إسرائيل): “إني لأعجب من أمتنا، فبنو إسرائيل استفادوا من نقد القرآن لهم، وتداركوا أخطاءهم، ونحن وقعنا في ما وقع به الإسرائيليون الأوائل”.
ولقد قَبِلَ رسول الله نقد واعتراض امرأة، كما في حادثة خولة بنت ثعلبة الشهيرة! التي بقيت تجادل الرسول في قضية تخص النساء بمسألة الظهار! حتى نزل الوحي موافقًا لنقدها واعتراضها، وحمل القرآن سورة باسمها (سورة المُجَادِلة)، ولم يغضب رسول الله من نقد أصحابه في قضايا عسكرية وقضائية ودنيوية، ولم يترفع عن النصيحة.
وهذا أبو بكر الصديق يقدّم برنامجه في الحكم، ويقول للناس: “قوّموني”. أي انقدوني. فطالب بنقد سياسته وتصويبها. وكذلك عمر بن الخطاب الذي حذا حذوه، عندما وجهوا إليه نقدًا، فشجعهم عليه قائلًا: “لا خير فيكم إنْ لم تقولوها، ولا خير بي إنْ لم أسمعها”. ولم يخجل من نقد امرأة عجوز فقال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر”. وكان علي بن أبي طالب أول زعيم دولة يجعل نفسه ومكانته مباحة للنقد، إذ قَدّم بيانًا في ذمته المالية، وقال للناس: “أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي هذا، فإنْ خرجت بغيرهن، فأنا خائن”.
وتمّ نقد رواية الحديث النبوي مبكرًا، في العصر الأول، وكان على رأس نقاد الحديث ورواته السيدة عائشة وعمر بن الخطاب، ثم تطور منهج نقد الحديث النبوي، ليصبح علمًا قائمًا بذاته، وأصبح هناك نقّاد لسند الحديث وآخرون لمَتْنِه، وبقيت مدرسة الاعتزال قديمًا هي الأشهر في مجال النقد، واليوم المدرسة التنويرية تقوم بتلك المهمة بجد ونشاط.
ونتيجة تحالف سدنة الدين الموازي مع حكام الاستبداد؛ مُنع النقد. ولم يُسمَح به! فالحاكم عندهم أدرى من العامة بشؤون الحكم! واعتبروا النقد تطاولًا على مقام الزعامة، لينتقلوا من منع نقد الحكام إلى منع نقد مشايخه، وجاؤوا ببدعتهم القائلة: “لحوم العلماء مسمومة”!! فأفتوا باستباحة دماء من ينقد، كغيلان الدمشقي وابن المقفع، وكفَّروا الطوفي وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وأمثالهم!
واليوم، نحن نعيش أخطر مراحل مراحلنا التاريخية وأكثرها مأساوية، ومع ذلك هناك من يطالبنا بأن نغمد أقلامنا، ونغلق أفواهنا، عملًا بالمقولة الشهيرة (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) حتى فشلنا في المعركة، وسُرق ربيعنا العربي، وضاعت دماء الألوف وأُعيد إنتاج الاستبداد، وبوركت الثورات المضادة.
الأمم تنهض بالنقد!
الأنظمة المستبدة والأيديولوجيات المنغلقة والتكتلات المتعصبة كلّها فشلت تاريخيًا، لأنها منعت النقد، وأباحت المديح والمداهنة والنفاق. ففي سورية، مثلًا، هناك مادتان في قانون العقوبات (المادة 286 و287) الشهيرة باسم (توهين نفسية الأمة) تمنعان نقد السلطات الحاكمة، وتنص على اعتقال من ينقدها! وبهذه الذريعة تم اعتقال آلاف الناشطين والمعارضين لنقدهم أداء السلطات الحاكمة.
أما الغرب فبالنقد نهض وتقدّم، ولم يعتبره خيانة أو توهينًا لنفسية الأمة، فعندما زار الفيلسوف الفرنسي فولتير إنكلترا، ولاحظ تطورها والتسامح الديني فيها، نقد ثقافة مجتمعه الفرنسي الطائفية واحتراب الكاثوليك مع البروتستانت، فكتب كتابه “رسائل إنجليزية” الذي تحوّل فيما بعد إلى “رسائل فلسفية”، وكان فيه شديد النقد لثقافة وعقلية الفرنسيين، حتى يتعلموا من تجارب الشعوب الأخرى، ولم يُتهم بالعمالة ولا بجلد الذات، إنما نظروا إلى نقده كدعوة لتتطور فرنسا وتبدأ نهضتها، وتَهْجُرَ ثقافة الطائفية وسلوك احتراب الهويات، لذا ما يزال الفرنسيون ينظرون إليه على أنه أحد أعلام النهضة الفرنسية. فهو لم يساير العقل الجمعي الطائفي، ولا داهن العقلية المتخلفة المتقاتلة، وهذا دور المثقف الذي يجب أن ينقد نقدًا بناءً، من أجل نهضة المجتمع، ولا يمارس بيع الوهم مداهنًا المجتمع في أخطائه.
مما تقدّم، يجب نقد العمل الثوري وأسلوبه، ونقد من تقدم صفوفه، ونقد الأنظمة الحاكمة، ونقد الفكر الديني، والعادات والتقليد، نقد الإسلام السياسي الذي سطا على الربيع العربي فأفشله، نقد المشروعات الثورية الفاشلة، نقد التوريث السياسي والديني والاجتماعي، ونقد العقلية الطائفية والمذهبية، نقد كل شيء بالحُجة والبرهان وتقديم البديل النافع. ورحم الله الفيلسوف ابن رشد، إذ قال: “إنْ كنت تعتقد أن كلّ ما تؤمن به فوق مستوى النقد، فاعلم أن إيمانك دون مستوى الفكر، فالفكر قائم على قداسة المنطق وليس منطق القداسة”.
وختامًا، أسأل: هل النقد ممنوع؟! إنْ كان ممنوعًا، فسأبقى أمارس هذه الممنوعات بمتعة. وإن كان مسموحًا (وهذا اعتقادي) فسأبقى أتقرب به إلى الله تعالى.
إلى غد أفضل تفتح فيه أبواب النقد علنا نخرج من هذا النفق الذي يحول بيننا وبين نهضة منشودة.
إن نمط المناهج التعليمية التلقينية في مجتمعاتنا عامةً كرس روح التسليم والقبول دون حوار أونقاش والذي هو حجر الأساس لذهن منفتح يمارس النقد البناء،
ولا شك أن أي حراك حضاري يبنى على النقد وكل ثورة لاتبدأ بالقلم والفكر ولا تقبل النقد لايعوّل عليها سواء كانت حول مفاهيم دينية أو اجتماعية أو أنظمة حاكمة،
فكيف يمكننا مواكبة العصر الراهن ونحن نعيش بمفاهيم القرون الغابرة؟!!
ثم مما لاشك فيه أن ديننا الإسلامي مبني على النقد فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحفيز للمراجعة والإصلاح وهو موجه نحو أولي الأمر وأصحاب القرار ، لكن سدنة الدين المستأجر أو الموازي جعلوا انتقاد الحاكم معصية فصار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجهاً عبر جلاوزة الحكام ضد عامة الشعب….
وهكذا بات النقد ممنوعاً بل جعلوه محرماً وأذكر مقولة مفادها أن كل حال يدوم زمنين لايعوّل عليه…
نسبشر بكم خيراً
كأحد أعلام التنوير العقلاني الحر الذي يمثل أهم آليات التطور وسلاحه القلم والنقد البنّاء…