كي نخرج من صراع ثنائية الإصلاح “الثقافي أم السياسي”، التي تحدثنا عنها في دراستنا السابقة “هل يبدأ الإصلاح ثقافيًا أم سياسيًا؟“([1])؛ لا بدّ للإصلاح -حتى يتحقق- أن يعمل جاهدًا على تحقيق مقدماته، وهي مقدمات ثقافية إلى حد بعيد. فالإصلاح، حتى ينجح ويتغلغل في زوايا المجتمع كلها، لينتج حينئذ إصلاحًا سياسيًا بشكل آلي، ويكون ذا شكل مؤسساتي، لا بدّ من أن يمتلك منهجًا إصلاحيًا لكل مفصل من مفاصل المجتمع.
إن معارفنا الثقافية والفكرية القديمة لم تعد صالحة لتطور المجتمع ولا لبناء دولة حديثة؛ وعلينا أن ننتهي منها لفشلها في إدخالنا رَكبَ الحضارة، وأن نبحث عن معارف جديدة تتناسب مع العصر الذي نعيشه، من دون أن نتخلى عن خصوصيتنا. وهنا نشير إلى مجموعة وصايا تتناسب مع المعاصرة، وتجعل عملية النهضة والتنمية ممكنة.
الوصية الأولى: برنامج تربوي حداثي
لقد ثبت -بما لا يدع مجالًا للشك- فشلُ مناهجنا وطرائقنا التربوية كلها التي كانت معتمدة قبل الربيع العربي، المنزلية منها والمدرسية والحزبية والمسجدية! كلّها فشلت في تخريج جيل مؤمن بالإبداع والتغيير، يعمل من أجل النهضة والتنمية، فمناهجنا كلها قائمة على التلقين والتقليد، ودائمًا تُساكن التاريخ في مقارباتها، متنافرة مع المعاصرة والحداثة، لذا لا نستغرب نتيجة هذا الفشل أن يتجه بعض أبنائنا نحو التطرف والإرهاب بسهولة، لكوننا لم نزرع فيهم مضادات العنف والتطرف، ولذا نحتاج اليوم إلى منهج تربوي حداثي قائم على أسس علمية حداثية لمجالات التربية التي ذكرناها آنفًا.
الوصية الثانية: ترويض ثقافة الطائفية والقبلية
تعاني مجتمعاتنا حالة طائفية، وصلت إلى حدِّ التقاتل الدموي، وما حدث في سورية والعراق واليمن وليبيا دليلٌ على ما ندّعي، وإن حلم القضاء على الانتماء الطائفي بات شبه مستحيل، لذا نحتاج كثيرًا، في ظل الانحياز الطائفي والهوياتي، إلى ترويض الثقافة الطائفية، ولا يمكن أن نصل إلى ذلك، إلا من خلال إيجاد مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل على إحلال ثقافة التشاركية المواطنية، بدلًا من الانحياز الأعمى إلى الثقافة الطائفية، ويتم ذلك بتجذير ثقافة المجتمع المدني، وجعلها ملاذًا يجتمع عليها المواطنون كلهم، بكل انتماءاتهم الطائفية، من خلال برامج علمية إنسانية مواطِنية مدروسة بعناية، فترويض الطائفية إنسانيًا يؤدي آليًا إلى ترويض العنف وكسر حدّيته وإنهاء احتراباته. وهذا يدعونا كذلك إلى تحديث المفاهيم القبلية والعشائرية، إذ تحاول الأنظمة المستبدة دائمًا استغلال العشائر والقبائل، لتحولها إلى ما يشبه الحزب الموالي المتحكم في المنتمين إليه، لتنفيذ سياسات الاستبداد، وهذه خطيئة كبرى، فالعشيرة والقبيلة وسيلة للتراحم والتآخي، وليست وسيلة سياسية، ولا تصلح لذلك.
الوصية الثالثة: التنمية بدءًا بالإنسان
لقد انتهى عصر الأيديولوجيات، ونعيش اليوم عصر التكنولوجيا، وقد استطاع شباب التكنولوجيا هزيمة جيل الأيديولوجيا بالضربة القاضية، وما فشل النخب العربية في الربيع العربي إلا دليل على ذلك، وعليه فإن الأحزاب الناشئة في عهد الإصلاح يجب أن تقدم برامجها على أساس تنموي حضاري حداثي مبتعدة عن الأدلجة، وتعمل في برامجها على الاستثمار بالإنسان لا بالأيديولوجيات، فالتنمية الحقيقية تبدأ بالإنسان، فهو الثروة الإستراتيجية غير الناضبة، وكلّ استثمار لا يجعل الإنسان محور استثماره هو استثمار فاشل، وكذا فعل الأنبياء عليهم السلام، إذ استثمروا، وقد أورقت مشاريعهم الإيمانية الإصلاحية، لأنها اعتمدت على الإنسان وكانت من أجله. إن الصناعات الثقيلة الحقيقية ليست صناعة الحديد والصلب وما شابهها، إنما هي صناعة الإنسان الواعي والمتسلح بالمعرفة والمتصالح مع المعاصرة.
يقول الدكتور المهدي المنجرة: عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا بأن لن يستطيع أحدٌ تسلقه لشدة علوه. ولكن! خلال المئة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة، لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه! بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة، ثم يدخلون من الباب. لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس! فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء.
الوصية الرابعة: تأسيس مدارس علمية في النقد الذاتي
النقد الذاتي يختلف كثيرًا عن جلد الذات، ومجتمعاتنا عمومًا، والإسلامويون خصوصًا، لا تقبل النقد الذاتي، فبالنقد البنَّاء والحقيقي تُبنى المجتمعات، والنقد أحد السبل المهمة لمعرفة عللنا وخطايانا الذاتية، حتى نتوقف عن تصدير أزماتنا للخارج، بذريعة نظرية المؤامرة. فمعرفة العامل الذاتي أمرٌ مهمٌّ جدًا، حتى لا يُسمح للموضوعي (الخارج) بالتغلغل فينا وإعادة استغبائنا.
الوصية الخامسة: النظرة إلى الغرب
في عصر الانحطاط العربي، إبان الحكم العثماني، كان رواد النهضة يحثون المجتمع على الاستفادة من التجربة الأوروبية في النهضة، فكانت كتب رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم، لكن لما جاء الإسلامي السياسي في ثلاثينات القرن المنصرم قلب الصورة، وبدأ يشيطن الغرب. وعليه فيجب أن تكون نظرتنا إلى الغرب من ثلاث زوايا: الأولى الإنسان الغربي وهو أخ لنا في الإنسانية؛ والثانية العِلم الغربي ونحن بحاجة ماسة إليه؛ والثالثة السياسة الغربية وهذا ما نختلف فيه معهم.
الوصية السادسة: الاتفاق على تعريف المصطلحات؟
من أكثر الخلافات بين النخب والأحزاب السورية عدم التفاهم على تعريف متفق عليه للمصطلحات التي ستؤسس عليها سورية المستقبل، فالعلمانية والديمقراطية والدولة المدنية والمواطنة وعلاقة الدين بالدولة، كلها مصطلحات يُعَرِّفها ويفهمها كلّ طرفٍ بحسب أيديولوجيته. ولكي نحسم الخلاف، نحتاج إلى أن تتفق هذه الكتل السياسية على حكماء لينجزوا “كرّاسًا”، تُعرَّف فيه كل المصطلحات الإشكالية، فإذا اختلفنا على مصطلح؛ عدنا إلى الكرَّاس لحسم المفهوم فيه.
الوصية السابعة: اللاهوت السوري
إن الله سبحانه وتعالى يريد التوحيد للسماء والتعددية لأهل الأرض، فالتعددية سبيل كي يرى كل طرف ما لا يراه الآخرون، ليتكاملوا ويتعايشوا بسلام، وهنا لا بد من إحياء تيار النقاط البيضاء الموجود يقينًا عند كل مكوِّن سوري، فيؤسس مجموعها اللاهوت السوري، علّنا نخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه خلال هذه العشرية السوداء، ولا بد من حكماء يعملون من خلال النقاط البيضاء ليؤسسوا لاهوتًا سوريًا ينقذ هؤلاء الضعفاء والمساكين مما حاق بهم، ويحقق لهذا الشعب المظلوم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، من خلال دولة المواطنة التي تنظر إلى أبنائها كلهم بمساواة وعدالة.
ختامًا: إن الوعي الحقيقي يبدأ حينما نجعل التدين شأنًا فرديًا، والقيم الإنسانية شأنًا وثقافة عامة، ومن أخطر علل عصر الحداثة غيابُ البعد الإنساني في السياسة والاجتماع والاقتصاد، والأهم غيابه في التدين، ولا بد من إحياء المذهب الإنساني، وخصوصًا في الأنفس المتدينة، فعودة المقصد الإنساني في التدين يؤدي إلى إنهاء صراع الهويات والاحتراب الطائفي والعقائدي والمذهبي. وإنّ الانتقال من حالة التخلف والانحطاط الذي نعيشه في المجالات كلّها يطلب منا أولًا تحرير الإنسان من الاستبداد السياسي والاجتماعي، ومن قيود الأعراف والتقاليد المكبلة لطاقاته وإبداعاته، وهذا يستدعي تحرير العقل من نير التقليد، ومساكنة التاريخ والثورة على الموروث المساهم بكل ذلك، ومن هنا يبدأ الإصلاح الحقيقي، وبهذه الخطوات يمكن أن ندخل النسق الحضاري، وربما نستعيد إنسانيتنا ومكانتنا في المجتمع الإنساني.
[1] ـ www.harmoon.org/reports/هل-يبدأ-الإصلاح-ثقافيًا-أم-سياسيًا؟/
رائع جدا ما تفضلت به أستاذ أحمد هذه هي الحلول و لتحقيقها نحتاج إلى أول خطوة
كيف و ما هي أول خطوة و الشعب بالداخل أو لاجئ بدول الجوار أو مغترب مازال يتخبط بين مؤيد و معارض و رمادي
مازال ينظر لسورية أرض و وطن و لا ينظر لها كمواطن
مازلنا ننظر لمصالحنا و طوائفنا و عقائدنا كحل وحيد لسورية
أعتقد نحن بحاجة لأن نتفق على حل داخلي و هذا الحل الداخلي بظل هذه الظروف يجب أن يكون قوي و يده ضاربة ليوقف هذه الاحتلالات و الانتهاكات لسورية
تحياتي و تقديري لكل جهودك و بحثك و دراساتك النيرة الوطنية الفكرية الحرة و الأهم الإنسانية
شكرا لك على جهودك المميزه في نشر ثقافة تملك ادوات واقعية و تنظر الى المستقبل بالاستفادة من التجارب الانسانية ..
تمييز ممتاز …