إن مسألة التعامل مع السنّة النبوية هي العقدة الأمّ مع كهنة الدين الموازي، حيث إننا لا نقبل من السنّة كل ما هو متعارض مع القرآن، كأحاديث قتال الناس والحثّ على الغزو والقطيعة مع الآخر مثالًا، وكذلك لا نقبل ما هو مختلف مع العقل، مثل زنى القردة وخيانة حوّاء وقصص المعراج ورضاع الكبير، على سبيل المثال لا الحصر، ولا نرى السنّة وحيًا، كما ادّعى الشافعي، ونرى أن تعريف علماء الأصول والمحدثين، بأن السنّة هي كل ما ثبت عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، ليس مُلزمًا لنا اليوم؟ لثبوت الكذب عليه والتدليس والإدراج! ويكفينا في ذلك ما ثبت عن البخاري نفسه؛ فعندما كتب الصحيح الجامع، قال: “لقد جمعت هذه الأحاديث من ستمئة ألف حديث مروية عن النبي، فاخترتُ منها الصحيح على شرطي (7295) حديثًا”. المكرر فيها (4000) فيبقى غير المكرر 3295. بمعنى أن نسبة المكذوب على رسول الله -بشرط البخاري- كانت 99,45 %.

إنما نعرّف السنّة بأنها فهم النبيّ للقرآن وتطبيقه لهذا الفهم. ولقد قدّمت السيدة عائشة أرقى تعريف لسنّته، عندما سئلت عنها فقالت: “كان خلقه القرآن”.

وإن الدليل الذي ذهب إليه الشافعي، بكون السنّة وحيًا ثانيًا، ليس صحيحًا؛ إذ لم يعتمد على دليل صحيح، إنما على برهان تأويلي لا يصحّ دليلًا؟ فقد جاء في كتاب الرسالة، في باب فرض طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها: “ذكَرَ اللهُ الكتاب وهو القرآن، وذكرَ الحكمة، فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمةُ سنّةُ رسول الله” ([1]). فهل يقبل عاقلٌ بهذا الاستدلال الذي لا يمتّ إلى قواعد البحث العلمي بأي صلة؟!

لقد وردتِ (الحكمة) في القرآن الكريم في مواضع عدَّة، ولم تختصَّ بالنَّبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم تردْ منسوبةً إليه دون غيره، بل نجدها منسوبة إلى عيسى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}. آل عمران:48؛ وكذلك إلى آل إبراهيم: {قَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} النِّساء:54. والأمر ذاته مع داود: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} البقرة:251، ولقمان: {لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} لقمان:12. وكل نبيّ ذُكر في القرآن ذُكرت الحكمة مقرونة بنبوته، فالنبيّ لا بد أن يكون حكيمًا، لتكتمل صفات الكمال البشري، ولهذا نالها نبيّنا، كما نالها قبله الرسل جميعًا: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} النِّساء 113.

والسنّة جلّها ظنّية، وأما القرآن فقطعيّ ولا نختلف فيه، ولكننا نختلف في تأويله، الله تعالى قد حفظ لنا دينه من خلال القرآن الكريم، أما الاعتقاد بأن الله عزّ وجل أنزل على رسوله وحيًا ثانيًا! فحفظ لنا الأول (القرآن)، ولم يحفظ الثاني (السنّة)، فهو دليلٌ على قصور في معرفة الله وتقصير في تدبّر القرآن. وكل من يقول إن السنّة جاءت لتبيّن القرآن وتفسره أو تكمِّله هو متمسك بالدين الموازي، لأنه يستدبر قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل:89. والقرآن الكريم فيه كل التفاصيل اللازمة لفهم هذا الدين، لكنه يحتاج إلى التدبر وبذل الجهد لفهمه، وقد فصَّله الله لمن يتدبره ويبذل الجهد في محاولة فهمه: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} يونس:24.

هذا لا يعني أن النبيّ لا سنّة له، وأننا ننكرها؟ فهذا الكلام جنون! ولكن قرأنة السنّة أدّت إلى هجر القرآن والإيمان بالدين الموازي المُنْتج بشريًا! حتى باتت ناسخة لأحكامه، كما قال “حذّاق الأئمة”!!! ([2]).

هنا سيعترض علينا معترضٌ بقوله: ولكن طاعة الرسول واجبة وهي من الدين، وقد أقرّها القرآن! ونقول إيضاحًا لهذه الإشكالية إن طاعة الرسول نوعان: طاعة أبدية وطاعة زمكانية؟ فالأبدية تتعلق في كيفية أداء العبادات والتحلّي بالخلق القويم، وهذه ثابتة غير متبدلة؛ وأما الزمكانية فهي المعاملات والعقود والمعاوضات والهيئات في اللبس والطعام التي وُضِعت في القرون الأولى، وارتقت به إنسانيًا عن أعراف وتقاليد الجاهلية، وهذه متبدلة ومتغيرة. ونضرب مثالًا في الطاعة: لو قلتُ لك أطعْ أستاذك في الجامعة. فأنت هنا مطالب بطاعته في المنهج العلمي وتطبيق المنهج القائم على أسس علمية، ولستَ مطالبًا بأن تطيع أستاذك بتقليده في لباسه وكلامه وطريقة حياته وحتى تسريحة شعره.

مما سبق نقول: طاعة الرسول دائمًا مقرونة بطاعة الله، هذا من حيث الأصل، لكن الله عزّ وجل منح النبي سلطة الأمر والنهي، لأنه كان زعيم مجتمع، ومؤسس دولة، أي تنظيم المباح وتقنينه، وهذا الأمرُ اليومَ حقٌّ لكل سلطة تشريعية في الدول كلها، ولكنه لم يمنحه حق التحليل والتحريم، لأنّ النبي ليس مشرعًا، الله وحده من يشرّع. وهذا واضح في حديث القضاء المشهور عند البخاري: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ).

ولقد كتب الكرابيسي المتوفى 570هـ كتابه (الفروق)، ليوضح أن هناك خلطًا في فهم سنّة رسول الله، ثم جاء القرافي المتوفى سنة 684 للهجرة، وكتب كتابه الشهير (أنوار البروق في أنواء الفروق) موضحًا تلك الفروق في سنة النبي الكريم ([3]).

وتدوين السنّة النبوية بدعة! النهي عنها ثابتٌ عند أهل العلم دون خلاف! بدليل قوله في صحيح مسلم: “لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه”. وأكد أبو سعيد الخدري هذا النهي، كما في رواية الترمذي: “استأذنا النبي في الكتابة، فلم يأذن لنا”. والرواية الأهم في ذلك: “خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله أتدرون! ما ضلّ الأممُ قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله” ([4]). لكنّ مشرّعي الدين الموازي، يضربون بكل هذه الأحاديث عرض الحائط، بذريعة حديث “اُكْتُبُوا لأَبِي شَاه” الموجود عند البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة! ولو صحّ هذا الحديث فهو واقعة حال -كما يقول علماء أصول الفقه- لا ينفع معها التعميم.

والتزم الصحابة، وبخاصة في عهد الشيخين، بـنهي النبي عن الكتابة والحديث، ويؤكد ذلك ما قاله أبو بكر في ذلك، عندما كان خليفة: “إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافًا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه” ([5]). وهذا عمر بن الخطاب يصدر أمرًا بذلك في عهده، إذ بعث للأمصار آمرًا: “من كان عنده شيء من الروايات فليمحه” ([6]). والملاحظ أن أبا بكر نهى عن الرواية، أما عمر فقد نهى عن الرواية والتدوين.

النبي الكريم أراد، بنهيه عن كتابة حديثه، أن تتأسس ثقافة المؤمنين على أساس قرآني لا تراثي بشري ظني قابل للخطأ، وكلمة قرآن من معانيها (قَرَنَ) أي ربط وقرن الأحداث الكونية بالأحداث الإنسانية، ومعرفة مراحل التطور البشري، حتى نفهم تطور التشريع الإلهي عبر العصور، ونفهم سنن الله في خلقه، لتبدأ الانطلاقة الحضارية الإنسانية للمجتمع. ولهذا حثّ الرسول المؤمنين به قائلًا: “بلّغوا عني ولو آية”. وهذا من أثبت الأحاديث في سُنته. وعندما رفض كتابة حديثه، لم يكن السبب كما قيل (حتى لا يختلط الحديث بالقرآن) فهذا تفسير طفولي! إنما لتتربى الشخصية الإسلامية على ثقافة وقيم وأحكام القرآن، ولم يفسّر القرآن، لأنه لو فسره لتحنّط القرآن على عصر معين، والقرآن لا يمكن حصر فهمه بعصر معين ولا جيل محدد، ولو كان ذلك صحيحًا لما بقي معنًى لقوله تعالى الذي خاطبنا به {أفلا يتدبّرون القرآن}. ومن يستدلّ بقرأنة السنّة يدّعي أنّ السنّة شارحة للقرآن! علمًا أن كل الأحاديث الثابتة عن النبي في تفسير القرآن أقلّ من (100) آية تقريبًا. فكيف تكون شارحة للقرآن؟!

ثم إن صحّة السند لا تكفي لإثباته، فقد زوّر بعض المحدثين حتى في السند، وقد أثبت ذلك السيوطي بأمثلة، حيث قال: “وكثيرًا ما يكون الحديثُ ضعيفًا أو واهيًا، والإسنادُ صحيحًا مركبًا عليه، فقد روى ابن عساكر في تاريخه من طريق علي بن فارس…. عن أنس مرفوعًا: (خلق الله الورد الأحمر من عرق جبريل ليلة المعراج، وخلق الورد الأبيض من عرقي، وخلق الورد الأصفر من عرق البراق). وهذا حديث موضوع، وضعه من لا علم له، وركّبه على هذا الإسناد الصحيح” ([7]).

هم انتحلوا على النبي زواج عائشة وهي صغيرة؟ ليحللوا للأمير وشيخ العشيرة والأثرياء اغتصاب القاصرات! وقد فعلوا. وهم انتحلوا على النبي اغتيال كعب الأشراف؟ ليسمحوا للخليفة اغتيال خصومه من المعارضة! وقد فعلوا. وهم انتحلوا على النبي حدّ الردة؟ ليتخلص الحاكم المستبد من خصومه المعارضين لسياسته! وقد فعلوا. وهم انتحلوا على النبي أحاديث الغزو؟ ليبرروا للخليفة استعمار واحتلال البلدان الأخرى، وقد كان. وهم انتحلوا على النبي حديث العرنيين؟ لكي يُمَثِّل الحاكم بخصومه، وقد فعلوا. وهم اخترعوا قضية النسخ؟ لينسخوا كل آيات الرحمة والتسامح والحرية؟ وتبقى آيات القتال والغزو الخادمة لسياسة الإمبراطورية التوسيعية والاقتصادية.

أخيرًا: إنّ التعامل مع السنّة النبوية بتلك الطريقة، للأسباب المذكورة أعلاه، صنع دينًا موازيًا للدِّين الحنيف، يشبهه بالشكل ويختلف معه بالمضمون، دينًا يخدم السلطة والاستبداد، ولا يخدم الإنسان الذي نزل من أجله النصّ! ولقد كررنا سابقًا ونكرّر الآن: إنّ الدِّين خادمٌ للإنسان، ولكن سدنة الدين الموازي يريدون الإنسان خادمًا لنصوصهم وللسلطان، وهذا متعارض مع الدين الحنيف.

ولذلك، لا بدّ من إعادة فهم وتحديث لمفهوم السنّة النبوية التي ثبتَ أنها خارج إطار العبادات والأخلاق، ولا تتناسب مع الحداثة، وتتعارض مع العصر والعقل، وتخالف النص القرآني ومقاصده العامة.


[1] ـ الشافعي. كتاب الرسالة. ص: ٧٨. 

[2] ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي في باب تبين الكتاب بالسنة وما جاء في ذلك.

[3] ـ راجع تفصيل هذه الفقرة في دراسة للكاتب بعنوان: منطقة الفراغ في الشريعة الإسلامية. https://bit.ly/2UivQxP

[4] ـ الروايات الثلاث ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه تقييد العلم. ص: 32.

[5] ـ الذهبي تذكرة الحفاظ. ص3 ج 1.

[6] ـ ابن سعد الطبقات ج1 ص:206.

[7] ـ جلال الدين السيوطي: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي: ج:2 ص:234.