بعد عقود من الشعور بالرفاهية النسبية والخلود للاطمئنان الاقتصادي والتندر بنجاح التجارة الحرة والسماء المفتوحة؛ أصيب العالم المتقدّم بصفعة وبائية أخرجته من بحيرة الاسترخاء النسبي إلى صحراء التساؤل حول نجاعة مساره ومآلاته.
إنها كارثة إنسانية تعبر من خلالها البشرية، تتمثّل أولًا بوباء كورونا، الذي اكتسح ولم يزل كلّ الكرة الأرضية، بنسب إصابات متفاوتة لأسباب متشابكة، وثانيًا بنتائج إدارة ذلك الوباء، في كل دولة على حدة، التي يمكن أن تشكل الطرف الآخر من اللوحة القاتمة المرسومة أمام الإنسان لعشرات من السنين المقبلة. وفي هذه الحالة، سأتوقف عند مسألة التعليم والكيفية التي تم استنباطها لكي يستمر، ولكيلا يحصل انقطاع أو تسرّب من المسار التعليمي بكل مراحله. وعلى الرغم من أن الفوارق هائلة بين دول الشمال ودول الجنوب، من حيث الأوضاع الاقتصادية عمومًا، ومستوى الدخل خصوصًا، فإن هناك بعض المحاكاة في بعض جوانب إدارة الأزمة الكارثية على الأقل.
في مجتمعات الشمال، وجد القائمون على الحقل التعليمي في وسائل التواصل والاتصال الحديثة ضالَّتهم، فعمدوا إلى متابعة إعطاء الدروس عبر الشبكة العنكبوتية، طالبين من التلاميذ والطلبة التواصل اليومي مع مواقع بعينها، مع الاعتماد على مساعدة الأهل المحبّذة، إن لزم وإن أمكن. وبدا أن المسؤولين كانوا على ثقة كاملة بنجاح هذا الأسلوب، معللين درجة ثقتهم بالدمقرطة التي حصلت في الفضاء الإلكتروني، وأتاحت لجميع الشرائح المجتمعية ممارسته دون تحمّل التكاليف الباهظة. هذه القناعة المتسرّعة اصطدمت بواقع مختلف، إذا لم يكن مختلفًا بالكامل، فهو على الأقل غير مشجّع جزئيًا على إعلان انتصار التجربة. ومن خلال مسألة التعليم فحسب، استطاعت هذه المجتمعات أن تكتشف في جنباتها ما أرادت نخبُها طويلًا نفيَ وجوده، لأسباب عملياتية أو أيديولوجية، وهو الفقر. فالفقر ليس حكرًا على المجتمعات المتخلفة، أو المُخلّفة، مهما أراد الليبراليون الجدد إقناع أنفسهم به وتحميل مسؤولية الفقر لضحاياه.
عدد كبير من التلاميذ والطلبة انقطعوا عن المسار التعليمي، على الرغم من أنهم امتلكوا الأجهزة وتوصلوا إلى الارتباط بالشبكة، لأن التعليم عن بعد ليس كالعمل عن بعد، فهو طقسٌ يحتاج إلى مقومات عدة يجب توفرها إضافة إلى الوسيلة، فدور الأهل لا يُستهان به بالمتابعة والمساعدة، وأغلب العائلات متواضعة الدخل، لا يعمل معيلوها عن بعد، بل هم العاملون الأساسيون الذين بقوا في ساحة الوغى، حينما انعزل متوسطو الدخل وعالوه في بيوتهم تحسّبًا؛ فمنهم عامل التوصيلات وعامل النظافة والممرضة وعاملة الفرن… إلخ. هؤلاء سيتركون فلذات أكبادهم أمام شاشات صمّاء أو أنها ستذخر بأفلام العنف وألعاب الفيديو. وإن استطاعوا أن يمكثوا لبرهة مع أولادهم في المنزل، فلربما أيضًا لن يمنحهم تعليمهم فرصة متابعة متساوية لأولادهم، كما يمنح التعليم المتقدم أترابهم من الطبقات الأخرى.
الدراسة عن بُعد أثناء الحجر، وإن أتاحتها وسائل التواصل والتقنيات المتطورة والمتوفرة بأسعار تكاد تبدو للبعض زهيدةً، تساهم في تعميق الهوة بين ناشئة المجتمع، ويتبدى التمييز الطبقي فورًا من خلال عزوف نسبة مئوية لا بأس بها، من طلبة وتلامذة الضواحي الفقيرة أو الهامشية، عن الاستمرار والمتابعة في التعلّم عن بعد. كما يلعب عامل آخر، اقتصادي هو أيضًا، دورًا أساسًا في التمييز، حيث يغلب التكدّس السكاني في المتر المربع لدى الفئات الفقيرة او المتوسطة، مما يجعل من عملية العمل أو الدراسة أو المتابعة لأي نشاط عن بعد، والتي يتغنى بنجاحها المستفيدون، مهمةً شبه مستحيلة لمن لا تتوفر لديه الظروف الملائمة. كما لا يجب إغفال عامل تكوين الأهل وثقافتهم وتعليمهم وأصولهم، في متابعة عملية التعليم عن بعد، فمن الصعب للغاية أن يقوم الأهل المهاجرون الجدد من غير المتقنين للغة الوطنية بمتابعة أولادهم والقيام بدور المعلّم المنزلي.
وعلى الرغم من أن الكارثة الصحية كشفت عن تناقضات طبقية، ما زال التوقف عندها يتم بصورة خجولة لأن الوعي بفداحتها يمكن أن يُحبط الصورة الوردية للمشروع الليبرالي المتقدم، يمكن القول إن آثارها الهائلة في المجتمعات المتقدمة لا يمكن أن تُقارن بما هي عليه الحال في المجتمعات المتخلفة، أو المُخلّفة. ومن خلال عملية متابعة بسيطة تترافق مع حسابات أولية لمستوى الدخل والتجهيز في هذه المجتمعات؛ يمكن التنبؤ بمآلات كارثية، إن هي تعرضت لنفس الكثافة الجرثومية التي يتعرض لها، ولربما لأول مرة متجاوزًا، العالم المتقدم. فحتى الساعة، على الرغم من وصول الوباء إلى بعض الدول الفقيرة، ما زالت أعداد الإصابات قليلةً نسبيًا، وهي على ارتفاع مستمر ومقلق، خصوصًا في أميركا اللاتينية.
الدول ذات الاقتصادات الهشّة لن تعمد حكوماتها إلى إطلاق برامج اقتصادية تُضخ فيها مليارات الدولارات، كما هي عليه الحال في أوروبا أو في الولايات المتحدة، أو حتى في الصين. كما لن تقوم مؤسسات الدولة بتأمين العطالة الجزئية بدفع رواتب ملايين العاطلين عن العمل كما في فرنسا وفي ألمانيا خصوصًا. وأغلب هذه الدول تفتقد مؤسسات رعاية صحية وشيخوخة وبطالة على مستوى فعّال تُساعد مَن توقف عملهم في التكيّف.
الفجوة هائلة، إذًا، بين الغني والفقير، في كل بلاد العالم، الغني منه والمتوسط والفقير. وهي فجوة ستزداد عمقًا ووعورة مع استمرار المعاناة القائمة حاليًا من هذا الوباء المجهول والبشع. لن يقف أي عائق في وجه تحوّلها إلى صدامات اجتماعية وحركات مطالبية وثورات عنفية وحروب ضروس، إن لن تستجب الآليات الطارئة لعلاج جزئي أو كلي لأهم آثارها وفي أقرب وقت.
بعدئذٍ، سيتحتّم على الفكر الإنساني أن يستخدم أدواته المتوفرة وأدبياته المتراكمة لاستخلاص الدروس والعبر من نتائج هذه الكارثة البشرية سعيًا لتقديم البدائل. ولو أن البعض سيقول مبتسمًا إن البشرية سبق أن تعرّضت لامتحانات مشابهة، وربّما أقسى، وتجاوزتها في إطار صيرورة تاريخية تفرض عدم الاسترشاد بالتجارب المؤلمة والاستمرار في اتباع النهج السلبي. لكننا نبقى محكومون بالأمل.