* تم إنتاج هذه المادة ونشرها بالتعاون مع حملة #لنحقق_العدالة”

معاناة المعتقلين والمختفين في السجون السورية كبيرة، وتتناسب طردًا مع حجم مأساة السوريين، وحجم القمع والأذى الذي مورس عليهم، طوال خمسة عقود، وخصوصًا العقد الأخير منذ انطلاق الثورة، وجال ملفّ هؤلاء المعتقلين أروقة منظمات ومؤسسات كثيرة جدًا، دولية وعابرة للدول، دون أن يحقق -مع الأسف- أي تقدّم يُذكر، فالنظام مستمر في إنكار وجودهم أساسًا وفي المعاملة غير الإنسانية، لمن اضطر إلى الاعتراف بوجوده، وقصص النادرين الخارجين من هذه السجون شواهد صغيرة على أحداث مهولة تجري داخلها.

منذ نحو عام، بدأت معاناة المعتقلين تتضاعف، حتى الطبيعة عملت هذه المرّة ضدهم، وسلّط انتشار فيروس “كورونا” الضوء على قنبلة موقوتة داخل سجون النظام، في حال تفشي الوباء فيها، حيث يحشر النظام آلافًا مؤلفة من السجناء، في ظروف صحية غاية في السوء، وقد حشَر السجناء السياسيين والسجناء على خلفية مشاركتهم في الثورة، مع المدانين بقضايا إرهاب والسجناء المتهمين بقضايا جنائية، والكلّ لا يملك رفاهية العلاج من الأمراض المستعصية، أو الخطرة التي يصاب بها، ورفاهية التباعد الاجتماعي والتعقيم واللوازم الأساسية التي يمكن أن تمنع تفشي الوباء وانتقاله.

تطرّقت هيئات المعارضة السورية، والأمم المتحدة، والمنظمات الحقوقية الدولية، إلى هذا الملفّ، ونادت بإرسال لجان طبية ورقابية، لتفقد أوضاع المعتقلين السياسيين في سجون النظام السوري، وحذّرت من خطورة انتشار وباء “كورونا” في المعتقلات، وأعربت عن خشيتها على أرواحهم في ظل انهيار النظام الصحي في سورية، وأكّدت أن تسرّب الفيروس إلى تلك المعتقلات والزنازين المكتظة سيؤدي إلى كارثة رهيبة، وقالت إن “كورونا” جاء ليضاف إلى الجدران القذرة والرطبة لمراكز الاحتجاز، والضرب والاغتصاب والتجويع والمرض، وليحوّل حياة من يعيش في هذه السجون إلى خطر يومي.

من خلال الملاحظة، ظهرت ثلاث فرضيات على لسان السوريين وغيرهم من المهتمين بملف المعتقلين في سجون النظام؛ حيث قال البعض إن “كورونا” سيساعد النظام السوري في التخلص من السجناء، وسيقتلهم بالنيابة عنه، أو أن الجلاد سيستفيد من هذا الوباء بشكل متعمد للتخلص من المعتقلين. وفي حقيقة الأمر، لا تحتاج الأجهزة الأمنية الوحشية للنظام السوري إلى من يساعدها في القتل، ولا إلى من يحمل وزر قتل السجناء أو التنكيل بهم معها، فتاريخها يشهد بأنها أبعد ما تكون عن الإنسانية، وعن التعامل الإنساني مع السجناء والمعتقلين ومع تعاطيها مع القوانين الدولية المتعلقة بهذا الشأن، حتى إن كثيرًا من الأطباء المناصرين للنظام كانوا أنفسهم يقتلون السجناء.

وفي فرضية ثانية، قال البعض إن النظام السوري يمكن أن يتصرف لمواجهة هذه الوباء ومنع انتشاره في السجون، ليس خوفًا على السجناء من “كورونا”، وإنما على الأقل سيأخذ بعين الاعتبار السجانين والجلادين الموجودين في السجون إلى جانب المعتقلين، وهم على تماسّ يومي ومباشر معهم. وفي حقيقة الأمر، لا يهتم هذا النظام بمناصريه وجنوده والموالين له، ويستخدمهم برخص كأدوات لحمايته ويستنزفهم دون أي رأفة أو عطف أو اعتبارات إنسانية أيضًا.

أما الفرضية الثالثة، فقالت إن السجناء ربما يكونون بعيدين عن الإصابة بهذا الوباء، لأن سورية -كما يدّعي النظام- خالية من هذا المرض، وأن عدد الإصابات محصور جدًا، وفي مناطق ضيقة جدًا، وفق تصريحات رسمية سورية. وفي حقيقة الأمر، تبيّن أن هذا الكلام غير صحيح جملة وتفصيلًا، وأن الوباء -مع الأسف- منتشر بكثافة، وأنه أصاب ويصيب أعدادًا كبيرة كل يوم، وكل ما تُعلنه الحكومة السورية وهميّ ولا يمت إلى الحقيقة بصلة.

كل ما سبق من فرضيات لم تحلّ مشكلة المعتقلين في سجون النظام وأقبية احتجازه، ولن تُخفف من وطأة الحياة القاسية المهينة الكئيبة والخطيرة التي يعيشونها، ولن تسهم في تحريك شعرة في رأس نظام العنف في دمشق، ولن يُخفف رعب أهاليهم عليهم. وكذلك، كل ما قامت به هيئات المعارضة والمنظمات الدولية لم يكن إلا ظواهر صوتية، وفي الغالب الأعم، لن يتحول إلى ظواهر تنفيذية، ولن يُزحزح الجلاد في دمشق قيد أنملة عن سياسته وإستراتيجيته وعنفه تجاه المعتقلين، فلا هو يرى هذه المعارضة ولا تلك المنظمات، ولا يسمعها، ولا هو اهتم طوال عشر سنوات -ولن يهتم الآن- بأي اتهام يوجّه إليه أو وصمة عار يوصم بها أو صفة قبيحة يوصف بها.

من الصعب معرفة مدى انتشار فيروس “كورونا” في سورية؛ فالنظام السوري غير شفاف وذو سمعة سيئة في نقل الحقائق، فيما تُسيطر على أجزاء من سورية قوى وفصائل متناقضة ومتصارعة وغير منسجمة، وجميعها ليس لديها القدرات الإحصائية القادرة على رصد العدد، ولا الأنظمة الصحية التي يمكن أن تراقب الوضع الميداني الحقيقي لانتشار الوباء، كذلك من شبه المستحيل معرفة مدى انتشار هذا الوباء في السجون والمعتقلات السورية؛ فالنظام الحاكم في دمشق لا يعترف أساسًا بوجود قسم كبير جدًا من السجناء في سجونه، ولا يسمح لأي جهة رقابية أو بعثة تفتيشية بدخول أي معتقل أو أي سجن من سجونه الكثيرة.

تقول إحدى الإحصائيات غير الرسمية إن عدد الوفيـات والمصـابين بفيروس “كورونا” في سجن عـدرا، مثلًا، وصل إلى 1084 سـجينًا، منهم نحو 27 سيدة، فضلًا عن المئات بحالات صحية حرجة، وفق تسريب أمـني نشره موقع “سوشيال”، وهذه الأرقام نُشرت في شهر آذار/ مارس 2020، أي قبل نحو عشرة أشهر من الآن، ومن انتشار المرض عالميًا بشكل مخيف.

خلال خمسة عقود من حكم أسرة الأسد لسورية، قضت الإعدامات الجماعية على آلاف السوريين، بتهم سياسية، لها علاقة بتنظيمات أو تشكيلات وحركات سياسية معارضة، كما قضى آلاف السجناء في سجون النظام، تعذيبًا أو مرضًا أو قهرًا، وقضى آلاف آخرون بسبب الشيخوخة، بعد أن قضوا عشرات السنين في السجون.

لا يمكننا أن نتوقع من النظام السوري أن يهتم بصحة السجناء لديه، ولا يمكن أن نصدّق أنه سيؤمن لهم أدنى درجات الأمان أو الرعاية الصحية، أو أن يهتم لأمرهم، وإن ماتوا جميعًا، هم وجلادوهم، بسبب الوباء، ولا يمكن أن نُعوّل على أخلاقه في ضمان حياة عشرات آلاف السجناء، وبخاصة السياسيين، ممن يُعانون أكثر من غيرهم في سجونه، وربما في العالم، ويتعفنون في أقبيته من دون أن يسمع عنهم أحد.

وسط هذه الكارثة التي تُهدد حياة عشرات الآلاف (نحو 147 ألف شخص وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قيد الاعتقال التعسفي أو الاختفاء القسري، ونحو 250 ألفًا وفق “الهيئة السورية لفك الأسرى والمعتقلين”)، لا يجب الركون إلى الظواهر الصوتية، والتصريحات والبيانات والإدانات، ولا إلى شبكة المنظمات الدولية فقط، العاجزة عن فرض أي شيء على النظام السوري، وعن ممارسة ضغط حقيقي على نظام الأسد لإتاحة الوصول دون عوائق لفتح جميع السجون ومراكز الاحتجاز، أمام المنظمات الإنسانية والجهات الدولية المختصة وفرق الرعاية الصحية، ولتوفير البيئة الصحية داخل السجون، وتكثيف الضغوط لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لإنقاذ المعتقلين، وتأمين سلامتهم والإفراج عنهم، وفقًا لأحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان، واستنادًا إلى القرارات الدولية ذات الصلة، والتفكير في عقد مؤتمر دولي خاص بالمعتقلين في سورية، والضغط عبر قانون قيصر وغيره، والدفع نحو فتح تحقيق دولي لتقييم وضع المعتقلين، من حيث الإصابة بفيروس كورونا، لكيلا نرى مأساة في شبكة “المسالخ البشرية” التي لدى النظام، ولتفادي ترك مئات الآلاف من السوريين يذهبون ضحايا، قبل أن يستسلم النظام السوري للانتقال الديمقراطي.