ورقة قُدمت في إطار اللقاء الحواري الأول لـ صالون الكواكبي – مركز حرمون للدراسات المعاصرة – حول قضايا “الدين والدولة والسياسة” – إسطنبول في يومي 8 و9 تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
المحتويات
رابعًا: مفهوم المواطنة في التجارب الغربية
خامسًا: مفهوم المواطنة في التجارب العربية
سادسًا: مفهوم المواطنة في الدستور السوري
مقدمة
تعد المواطنة أحد المصطلحات الحديثة نسبيًا في عالم السياسة، على الرغم من وجود إرهاصات لها منذ أيام الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون وأرسطو عندما تحدّثا عن المواطن في أثينا، وقد بدأ التنظير لها منذ منتصف القرن الماضي تقريبا، كما أنها أصبحت إحدى الكلمات المفتاحية للعلوم السياسية والتاريخ في العقد الأخير من القرن ذاته. وتشكل المواطنة حاليًا موضوع الساعة بما تتضمن من تحديدات للعلاقة بين المواطن والدولة من خلال الواجبات والحقوق.
أوّلًا: تعريف المواطنة
مصطلح المواطنة citizenship علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، والمواطنة تدل ضمنًا على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات، وهي على وجه العموم تسبغ على المواطنة حقوقًا سياسيةً مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة”.
تعددت الرؤية حول مفهوم المواطنة فمنهم من رأى أنها المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد، ومنهم من رأى أنها خلق المواطن الصالح، وآخرون قالوا إن المواطنة هي رد يف للديمقراطية، ومنهم من رأى حقه المشروع في إدارة شؤون الدولة والمشاركة السياسية وحق تقرير المصير، و ما لا يختلف عليه اثنان أن المواطنة هي جملة من القيم المعيارية تمثل حق الإنسان في الحياة الآمنة الكريمة وفي العدالة والمساواة في الحقوق الاجتماعية لكل فرد في المجتمع، بصرف النظر عن جنسه أو دينه أو مذهبه، وكذا حقه في التعبير عن رأيه وانتخاب من يمثله على قمة السلطة السياسية في وطنه.
ورد في الموسوعة السياسية أن المواطنة هي “صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم الواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن”، وفي قاموس علم الاجتماع تم تعريف المواطنة: بأنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي “دولة” ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول “المواطن” الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق أنظمة الحكم القائمة، ومن منظور نفسي: فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية وحماية الذات من الأخطار المصيرية، وبذلك فالمواطنة تشير إلى العلاقة مع الأرض والبلد.
وبمعنى ما، فإن المواطنة تعطي الإنسان صفته الوطنية والإنسانية. لأن الانتماء إلى بلد ما في المنظومة العالمية هو في الوقت نفسه انتماءٌ إلى العالم، غير أن هذا البعد بمستوييه الوطني والإنساني بما يتضمنه من حقوق وطنية وإنسانية أمر منقوص الحضور قي البلاد العربية، وسيئ الحظ كثيرًا فيها، بسبب تغليب البلاد العربية للواجبات، على الحقوق كافّة.
كما أن الديمقراطية والمواطنة مفهومان لا يمكن الفصل بينهما. حيث أن الأول يضمن مشاركة المواطن ويعترف بحقوقه وواجباته، والثاني يعمل على تقوية الديمقراطية الاجتماعية التي تسمح للمواطنين (بغض النظر عن مستواهم المعيشي والثقافي… إلخ.) بالاندماج في المجال العمومي، باستمتاعهم بجميع الحقوق والحريات من دون تمييز. ويرى بعض المحلّلين أنه لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو عن المواطنة في أي بلد من دون تحقيق العلمانية كنمط سياسيّ للحكم.
ظل مفهوم المواطنة مفهومًا بدائيًّا حتى عصر التنوير، فقام رموز عصر التنوير “هوبز، ولوك، وروسو، ومونتسكيو، وغيرهم” بطرح مفهوم آخر يقوم على العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون الذي يتساوى عنده الجميع. ومن أجل منع استبداد الدولة وسـلطاتها؛ نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من جانب الدولة. فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين، وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
وبما أن قضية المواطنة تمثل محورًا رئيسًا في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة، فإن تحديد أبعادها وكيفية ممارستها ينبع من الطريقة التي يمنح بها هذا النظام أو ذاك حقوق المواطنة للجميع، ومدى وعي المواطنين وحرصهم على أداء هذه الحقوق والواجبات. كما أنّه لا يمكن الاعتماد على مبادئ عامة محددة لتحديد معنى المواطنة بشكل دقيق، فهو مفهوم تاريخي شامل يختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى مكان، ويتأثر بالنضج السياسي والرُقي الحضاري للدولة.
فمهما اختلفت المعاني حول مفهوم المواطنة يبقى هنالك مبدأ أساس لمعنى المواطنة وهو الانتماء، على الرغم من أنه هو الآخر يختلف في معناه من حيث الانتماء إلى الوطن، أو الانتماء إلى الموطن الذي يستقر فيه الإنسان، أو الانتماء إلى الأمة.
ثانيًا: المواطنة والمساواة
تقوم المواطنة على ركنين أساسيين هما: المساواة “حيث تعرف المواطنة في بعض الأحيان بأنها حالة من المساواة في الحقوق والواجبات” والمشاركة الفاعلة في الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
المساواة في علم الأخلاق هي المبدأ الذي يقرر أن الإنسان من حيث هو إنسان مساوٍ لأخيه الإنسان في الحق والكرامة. ولهذه المساواة نوعان: مساواة مدنية، ومساواة سياسية.
المساواة المدنية هي المبدأ الذي يوجب معاملة جميع الأفراد معاملة واحدة من حيث دعوتهم إلى القيام بالواجبات الملقاة على عواتقهم، ومن حيث تمتعهم بالحقوق المعترف لهم بها في القانون، دونما تفريق بينهم بحسب نسبهم وحسبهم أو ثروتهم أو طبقتهم.
وأما المساواة السياسية فهي المبدأ الذي يعترف لجميع الأفراد بحق الاشتراك في الحكم وبحق تسلم الوظائف العامة، بما فيها رئاسة الدولة، وفق الشروط التي يحددها القانون، والتي يفترض أن تكون خاضعة لمبدأ المنافسة أو المسابقة أو الانتخاب الحر، دونما تمييز بينهم حسب طبقتهم أو انتمائهم الإثني أو الديني أو المذهبي، حيث يكونون متساوين أمام القانون لا يختلفون إلا من حيث كفاءتهم واستحقاقهم أو جدارتهم. فإذا نصّ القانون على خلاف ذلك وجب على المواطنين مقاومته.
ليس الغرض من القول بالمساواة إنكار الاختلاف الطبيعي بين الأفراد، بل الغرض منه تحقيق العدالة الاجتماعية في جميع مناحي الحياة. المساواة هي التعبير العملي عن العدالة، فلولا الاختلاف والتفاوت لما كان الناس في حاجة إلى المساواة. وما تجدر ملاحظته هنا أن الاختلاف يمنع المساواة نظريًا وواقعيًا، مهما كان الاختلاف طفيفًا. ولما كان الأفراد إناثًا وذكورًا مختلفين اختلافات لا حصر لها كانت المساواة المدنية والسياسية، على نحو ما ذكرنا، مساواة في الحقوق والواجبات، لا في مقاديرها، ومساواة في المشاركة في الشؤون العامة وفي حياة الدولة، ولا سيما ما يتعلق منها بتسلم الوظائف العامة، سواء في السلطة التشريعية أم في القضاء أم في مؤسسات السلطة التنفيذية. المساواة في الحقوق والواجبات مؤسسة على المساواة في الماهية الإنسانية وفي المواطنة. ولذلك قيل: المواطن هو تجريد الفرد الطبيعي من جميع صفاته ومحمولاته وتحديداته الذاتية. والدولة هي تجريد المجتمع المدني من جميع صفاته وخصائصه.
التفريق بين المساواة المدنية والمساواة السياسية ضروري، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، ولا سيما حين نتحدث عن تساوي الجماعات في الحقوق والواجبات، فضلًا عن تساوي الأفراد. المساواة المدنية تتعلق بعضوية الأفراد والجماعات في المجتمع المدني. فجميع منظمات المجتمع المدني من جمعيات ونواد ونقابات وأحزاب ومؤسسات دينية متساوية في الحقوق والواجبات، وهذا متفق عليه، كما أظن. لكن ما يحتاج إلى نقاش هو تساوي الجماعات الإثنية والجماعات الدينية والمذهبية في الحقوق المدنية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، لأن المساواة في الحقوق مطلقة، لا تتعلق بالكمّ.
المبدأ الوطني والإنساني في هذا الموضوع يقضي بتساوي جميع الإثنيات والأديان والمذاهب في القيمة الإنسانية والروحية، وفي الحقوق المدنية والواجبات المدنية، بغض النظر عن عدد أفراد كل منها، لأن الكم لا يضيف شيئًا إلى ماهيَّةِ إثنيةٍ معينةٍ أو دين معين أو مذهب معين ولا ينقص منها شيئًا.
حقوق المواطنة: للمواطن حقوق مختلفة تتمثل في المجال المدني والمجال السياسي والمجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري وغيرها. لذا هناك من يرى أنّ حقوق الإنسان هي حقوق المواطنة وهناك من يميز بينها. وحقوق المواطنة تختلف من بلد إلى آخر بينما حقوق الإنسان حقوق عامة مستحقة داخل التراب الوطني وخارجه. وهناك حق اللغة أيضًا.
-والمواطنة تكون في مجتمع سياسي مؤسساتي يحترم الحقوق والواجبات في إطار القانون، الذي هو فوق أي اعتبار مهما كان. وبالتالي المواطنة لا تمارس في مجتمع غير مؤسساتي أو إثني أو شمولي. وممارسة المواطنة لها أساسيات ومداخل لابد منها أهمها الفكر المؤسساتي. ولا وجود لمواطنة حقيقية ضمن النظام الشمولي الاستبدادي -الأوتوقراطي- مهما حاول النظام أن يصبغ نفسه بصبغة ديمقراطية. فمفهوم المواطنة تبلور جنبًا إلى جنب مع مفهوم الدولة الدستورية ملكية كانت أم ديمقراطية. ومع غياب الدستور، تنتفي كل المقومات الحديثة للدولة بما فيها المواطنة.
-والمواطنة تقتضي مساواة الأفراد أمام القانون والدستور، بما يعني ممارسة المواطن حقوقه كاملة وأداء واجباته كاملة من دون ميز أو مضايقة أو إلغاء أو تهميش. والحقوق تضمن له حق المشاركة في المجتمع السياسي أو المدني كما تضمن له ممارسة حقوقه المتنوعة الأخرى. فالمواطنة إذًا تتعلق بالمساواة بين جميع المواطنين والفرص المتساوية لجميع المواطنين للمشاركة في الحياة السياسية والعامة، أي أن ركني المواطنة هما المساواة والمشاركة. وبذلك ففي دولة المواطنة جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو النوع أو اللون أو العرق أو الموقع الاجتماعي … إلخ.
– كما أن المواطنة لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا في إطار من الشفافية والديمقراطية، وضمن علاقة سليمة بين المواطن والدولة واضحة، بحكم وضوح القوانين وشفافيتها. ولا يمكن تفعيل مفهوم المواطنة إلّا تحت مظلة نظام سياسي دستوري ديمقراطي يشمل جميع شرائح المجتمع، قائم على حفظ حقوق الإنسان وصون كرامته والعمل على توفير متطلبات الحياة الكريمة له. ولا معنى للمواطنة من غير ممارسة فعلية لها على أرض الواقع، لأن الممارسة هي التي تعطيها القيمة التداولية في سوق المواطنة، حيث تصبح بدون ممارسة ترفًا فكريًّا لا فائدة منه.
ثالثًا: أهمية المواطنة
– تعدّ المواطنة فكرة اجتماعية وقانونية وسياسية ساهمت في تطور المجتمع الإنساني بشكل كبير بجانب الرقي بالدولة إلى المساواة والعدل والإنصاف، وإلى الديمقراطية والشفافية، وإلى الشراكة وضمان الحقوق والواجبات.
– كما تتطلب متانة النسيج الوطني التسليم بمفهوم المواطنة، مفهوم تتحقق فيه المساواة بين البشر، وينال فيه الفرد موقعه الاجتماعي ووظيفته عن طريق كفاءته وقدراته ونزاهته. فالواقع يؤكد أن ثمة علاقة في المضمون بين مفهومي المواطن والمواطنة. حيث لا يمكن أن تتحقق المواطنة، من دون مواطن يشعر شعورًا حقيقيًّا بحقوقه وواجباته في وطنه. فلا مواطنة من دون مواطن، ولا مواطن إلا بمشاركة حقيقية في شؤون الوطن على مختلف مستوياته.
– تضمن المساواة والعدل والإنصاف بين المواطنين أمام القانون وخدمات المؤسسات، وأمام الوظيفة العمومية والمناصب في الدولة، وأمام المشاركة في المسؤوليات على قدم ومساواة، وأمام توزيع الثروات العامة، وكذلك أمام الواجبات من دفع الضرائب والخدمة العسكرية والمحافظة على الوطن والدفاع عنه؛ فـالمواطنة هي الحق الفردي لجميع أبناء الوطن في تقرير مصير الوطن، والتمتع بكل خيراته.
ـ تعترف بالتنوع والتعدد العقدي والعرقي واللغوي والسياسي والثقافي والطائفي والاقتصادي والاجتماعي والاتجاه الأيديولوجيي.
في اختصار، المواطنة إطار يستوعب الجميع، فهو يحافظ على حقوق الأقلية والأكثرية في نطاق مفهوم المواطنة الجامعة، والمواطنة هي المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الصبغات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو العرقية أو الجنسية. فكل مواطن له جميع الحقوق وعليه جميع الواجبات، والمواطنة الحقيقية لا تتجاهل حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية في الوطن ولا تحدث تغييرًا في نسب مكوناتها، ولا تمارس تزييفًا للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق حقائقه الثابتة، حيث توفر البيئة الصحيحة والخصبة لتكوين ثقافة الوطن التي تتشكل من تفاعل ثقافات أبناء الوطن. وهي التعبير الطبيعي عن حالة التنوع والتعدد الموجودة في الوطن. ثقافة تؤكد حاجة كل منا إلى الآخر وأن ثقافة الفرد هي محصلة ثقافة كل أبناء الوطن، فهي ليست ثقافة فئوية أو طائفية أو جنسوية، إنما هي ثقافة وطن بكل تنوعاته وأطيافه وتعبيراته. كما أنه في المجتمع المدني يتجاوز أفراد المجتمع الاعتقاد الديني إلى مبدأ المواطنة، ويعترفون بمبدأ الاختلاف في العقيدة الدينية التي يجب ألّا تحول دون الانتساب إلى مواطنة مشتركة، لأن المواطنة توفر آلية العيش وسط التنوع والاختلاف، وتولد جانبي الواجبات والحقوق.
وهي تمكن المواطن من تدبير الشأن العام من خلال النظام الانتخابي ناخبًا ومنتخبًا للمؤسسات المنتخبة التي تعبر عن دولة القانون والمؤسسات، وتحدد منظومة القيم والتمثلات والسلوك الأساس لاكتساب المواطنة والتربية عليها، كما تحدّد الإطار الاجتماعي المرجعي لممارسة الحقوق والواجبات والعلاقات بين الأفراد والجماعات والدولة، وهي تضمن حقوق الإنسان في المجتمع والوطن والدولة؛ لكونها تنقل الحق الإنساني إلى حق للمواطنة عبر تشريعه وتقنينه. وتضمن استمرار المجتمع في الإطار السياسي الذي يعبر عنه وهو الدولة. فـالمواطنة أرقى من أن تكون مفهومًا، هي في الحقيقة مبدأ الدولة الحديثة ومرتكزها، بل عمودها الفقري في النشوء والاستمرارية في التكوين والبقاء، فهي قيمة أخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوك ممارس، قبل أن تكون معرفة وثقافة. وهنا تنتقل المواطنة من كونها توافقًا أو ترتيبًا سياسيًّا تعكسه نصوص قانونية، لتصبح المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات قيمة اجتماعية وأخلاقية وممارسة سلوكية، يعبر أداؤها من جانب المواطنين عن نضج ثقافي، ورقي حضاري، وإدراك سياسي إيجابي بّناء. وتؤدي إلى بناء نظام سياسي مدني تعددي متنوع في العرق والمؤسسات (الأسرة، العائلة، القبيلة، الحزب، النقابة) والثقافة والأيديولوجيا والدين، مرتفع عن تعدديته نحو تكاملها وتفاعلها من باب احترام المشاركة الشعبية للمواطنين وتبويئها صدارة السلطة على مؤسسات الدولة، لأنها هي المصدر للسلطة والممارسة السياسية عبر المؤسسات التمثيلية. وعليه فالمواطنة توفر مساحة للمواطن كي يعمل على تطوير نوعية الحياة في المجتمع. تتطور وتتقدم المجتمعات بجهد أبنائها جميعًا.
وبعد أن عرضنا الجوانب الفكرية والنظرية لمفهوم المواطنة وتاريخها لا بد من الإشارة إلى أنه من الخطأ تطبيق التجربة الغربية حرفيًا من دون مراعاة الخصوصية المحلية السياسية والاجتماعية والثقافية والأيديولوجية.
رابعًا: مفهوم المواطنة في التجارب الغربية
وتخبرنا التجارب الغربية أن المواطنة قد تم تفعيلها وفق ثلاثة أطر، وهي بالترتيب القانونية، السياسية، والاجتماعية، ويمكن استيضاح ذلك الترتيب عن طريق مطابقته مع تجربة السود في أمريكا، حيث أنهم حصلوا أولًا على المساواة أمام القانون بعد التعديل الثالث عشر للدستور، ثم بعد ذلك أصبح لهم الحق في المشاركة السياسية، بعدها خاضوا نضالات كبيرة امتدت إلى نحو القرن من أجل نيل الحقوق الاجتماعية. وهي التي عززها تنظير توماس مارشال، الذي قدم نموذجًا للمواطنة يضم ثلاثة أطر؛ المدنية، السياسية، الاجتماعية.
في فرنسا في 14 تموز/ يوليو 1789، اندلعت الثورة الفرنسية، نتيجة الاستبداد السياسي، والتفاوت الطبقي، والفساد الإداري والقضائي، واتخذت الثورة شعارًا لها: “الحرية، الإخاء، والمساواة”، ونتج عنها إلغاء الملكية المطلقة، وإقامة النظام الجمهوري، وفصل السلطات، وفصل الدين عن الدولة، وفي 26 آب/ أغسطس 1789 أصدرت الجمعية التأسيسية وثيقة حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، والتي تضم الحقوق الفردية للمواطن والجماعية للأمة الفرنسية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية في 1865، وبدعم من الرئيس إبراهام لينكولن بغرض إنهاء الحرب الأهلية الأمريكية، صوت الكونغرس على التعديل الثالث عشر والذي يقضي على العبودية في الولايات المتحدة، ويساوي بين الأمريكيين البيض والسود أمام القانون، أي المساواة القانونية.
شكل ذلك التطور في حقوق الإنسان ضميرًا إنسانيًّا ضد الجرائم والانتهاكات الإنسانية التي نتجت عن الحربين العالميتين، وظهرت الحاجة إلى إيجاد مرجعية عالمية لحقوق الإنسان، فكانت النتيجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، الذي نص في مادّته الثانيّة “لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، من دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أيّ تفرقة بين الرجال والنساء”.
خامسًا: مفهوم المواطنة في التجارب العربية
أشار الدكتور محمد عابد الجابري إلى غياب لفظة ” مواطنة ” عن المعاجم العربية القديمة مثل “لسان العرب” و”القاموس المحيط”، و”الصحاح”، و”تاج العروس” وغيرها.
وارتبط مفهوم المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي نظريا بالاعتقاد، وعمليا بعدة عوامل منها تكوين السلطة والجيش. وقد بقي المفهوم التاريخي للمواطنة بهذا المعنى تفاوتيًا سواء بين الأفراد الأحرار الذكور أم بين الأحرار والعبيد، المؤمنين وغير المؤمنين، النساء والرجال. إضافة إلى أشكال العصبية المتكونة حول الخلافة. وبهذا المعنى كان هذا المفهوم في واقع الأمر حصيلة اجتهادات دنيوية في ثوب ديني، وقد ارتبط في الذاكرة التاريخية بجملة حقوق وامتيازات.
وخلال عقود من الزمن كانت الجزائر مثلًا فرنسية، من دون أن يكون للجزائري صفة المواطن. وتمت الفرنسة بشكل طائفي وعنصري من جانب دولة علمانية (جرى إعطاء الجنسية لكل اليهود الجزائريين في 1889 في حين كان يطلب من الجزائري أن يعلن انسلاخه عن الإسلام ليحصل على الجنسية). لم تستطع التجربة السوفياتية أنسنة حقوق المواطنين ودمقرطتها.
ويقول المفكر الإسلامي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في هذا الإطار: تبقى قيم العدالة والمساواة والكرامة والتي حق إنساني أصيل يتصل بكون الإنسان إنسانًا ولا يتوقف على ديانته وعرقه –وهذا هو ما نفهمه من الإسلام العظيم- تبقى هذه القيم الركائز الأساسية التي ينهض عليها مفهوم المواطنة كما ينبغي أن يكون. ولا علاقة له بأغلبية أو أقلية، وفي غياب هذه الحقوق الأساسية فإن أي حديث حول المواطنة لا معنى له ولا قيمة. العدالة والمساواة والكرامة ليست شعارات في الفراغ فحسب.
سادسًا: مفهوم المواطنة في الدستور السوري
يسبغ القانون السوري صفة المواطن على كل من يحمل الجنسية السورية استنادا إلى المادة /3/ من المرسوم التشريعي 276/1969 التي تنص على أنه يعدّ مواطنًا عربيًّا سوريًّا حكمًا كل من ولد في القطر أو خارجه من أب عربي سوري، وبموجب هذه الصفة يمنح حامل الجنسية السورية جملة من الحقوق المدنية والسياسية.
“يكفل دستور الجمهورية العربية السورية لمواطنيه جملة من الحقوق المدنية والحريات الأساسية مثل التملك و الزواج و المساواة أمام القانون و حرية التنقل بالإضافة طبعا حرية الرأي و حرية التعبيرالتي تأتي في مقدمة هذه الحقوق، إذ ورد في المادة 38 من الدستور السوري (لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية و علنية بالقول و الكتابة و كافة وسائل التعبير الأخرى و يسهم في الرقابة و النقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني)، إذا الحرية حق مقدس لكل مواطن سوري والدولة تكفل هذه الحرية بدستورها الذي منح أيضا الحق للمواطنين في الاجتماع والتظاهر سلميًا في إطار مبادئ الدستور، كما تضمن الدستور في المادة 26 منه أن لكل مواطن الحق في الإسهام في الحياة السياسية من خلال منح المواطن السوري حق الانتخاب و حق أن ينتخب(الترشيح) سواء للرجل أم المرأة.
ولأن الدستور السوري أكد على فكرة السيادة للشعب، فقد سمح بإقامة تنظيمات نقابية ومهنية واجتماعية، وكذلك منظمات شعبية وجمعيات تعاونية تضم مجالس ومؤسسات منتخبة ديمقراطيا”
إلا أن مقولة مونتسكيو قبل قرنين ما تزال تناسبنا “ليس لأن الشعب يضع الحرية في وسط دستوره يعني أنه أصبح شعب حر بالفعل، لا بد أن يفلت من أسوأ أنواع العبودية: الجهل”، فالدستور السوري يكفل الكثير من أساسيات المواطنة، لكنه لم يكفل تطبيقها.
اني اتابعها في كل شيء