إن الملفات التي تمسّ في محتواها عمومَ الناس لا تحظى، بشكل طبيعي وتلقائي، بإجماعِ عموم الناس. هل هذا أمرٌ بديهي في كل قطاعات الحياة؟ يمكن أن يكون هذا السؤال نفسُه غيرَ مرضٍ لكثيرين ممن يدفعون الإحراج عن تفكيرهم، كما أن الجواب، بنعم أو بلا، بشكل قطعي، سيكون أيضًا غيرَ مرضٍ لعموم الناس. وفي الملف السوري الدامي والمتفجر والمتقلب والشائك، على الأقل، هناك اصطفافات قاتلة تكاد تكون أسوأ من الهويات القاتلة التي تحدّث عنها أمين معلوف. وهنا، لا مقاربة البتة للثنائية الصفرية: معارضة وموالاة؛ ففيها ما كتب العرّافون من الكره والتجني والبغض، ومن الرغبة في القتل أو الإيذاء أو الإقصاء. ولن يكون عرضي بتلك الجرأة الكافية لمواجهة مثل هذه الثنائية، بمحاولة التحليل. أما الجرأة الجزئية المتاحة لهذا العرض، في زمنٍ لا يعرف حدودًا في نشاطه السلبي، فهي تُحمل على النظر في ما سبق من توصيفات، توجد وتنمو وتتكاثر في طرف واحد من المعادلة. وفي حالتنا سيكون ذلك الطرف حتمًا هو الطرف المعارض.
فمنذ اليوم الأول من انطلاقة الثورة السورية، وقبل انتقالها إلى مرحلة المقتلة، اختلف المعارضون على جنس الملائكة. وصارت التفاصيل مبعثًا على الصراع، فما بال من يطرح قضايا أساسية وجوهرية؟! وبدأ الأمر من تحديد تاريخ الانطلاقة، وتوقف طويلًا مع اجتهادات تملأ القواميس حول اللجوء إلى استخدام السلاح؛ فمن قائلٍ بوجوبه، وفي مواجهته من يعارضون وجوده واللجوء إليه بشكل قاطع (ويعدّهم البعض من الطهرانيين)، وصولًا إلى من يسعى للمحافظة على المشهد السلمي المُبتغى لنجاح التعبير الاحتجاجي في الوصول إلى أهدافه، ولكنه بالمقابل يعي عسف السلطة ودرجة العنف الذي تمارسه وآلة القتل التي تُعملها، حيث لا يمكن، حتى في المدينة الفاضلة، أن يحافظ الناس على التزام السلمية، في ظل الموت الذي يهيمن يوميًا على وقع سقوط مئات الضحايا من المتظاهرين السلميين بدايةً، باعتراف أهل القمع أنفسهم.
ومن خلال الأخطاء الفادحة والأقل فداحة، سياسيًا وفكريًا، التي اعترت مسار الثورة منذ يومها الأول، ندر من تصدّى لها من أهلها، ولو بالتوثيق كما فعل بجرأة برهان غليون منفردًا في “عطب الذات”. بل إن أغلب من تصدر المشهد ما زال مقتنعًا بأنه لم يخطئ، وبأنه اخترع العجلة منذ اليوم الأول، وبأن عدم دورانها ليس عائدًا إلى أنه صنعها مربّعة، بل لعوامل خارجة عن إرادته أدت إلى تحول الدائرة إلى مربع! أخطاء لم يتمكن أهلوها من الاعتراف بها، ولكن من هم على المدرجات متفاعلون مع المشهد، حيث انقسموا بين متحمّس أعمى، وشتّام ليس بأصمّ. ولم يكن هناك من يُغلّب فكرة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فإما هو رجل المرحلة والحل والعقد، أو أنه خائن، لولا الحياء لوجب إعدامه!
وكذلك تخندق الناس في ما يتعلق بالمسائل الطائفية والإثنية، فلا حاجة إلى إعمال الحسّ الوطني أو إلى تحريض العقل وأدواته، أو إلى الوسطية أو النسبية أو الشك في المسلمات، أو إلى التشكيك بالسرديات التاريخية بمظلومياتها وبانتصاراتها! وكذلك، نظروا إلى العلاقة مع الخارجي، دولةً كان أم منظمة، فإمّا هو الحل الوحيد الذي يستحق بذل المستطاع من الذلّ الذاتي والجماعي للدفاع عنه وتبرير إقحامه، أو أنه من موبقات البشر، وإذا أصابتنا النوائب، فهو -أي الخارجي- وحدَه مصدرها! لا مكان للجغرافيا السياسية أو مصالح الدول أو للعلاقات الدولية أو للمشاعر الشخصية أو للطموحات المتناقضة، بين هذا الزعيم أو ذاك، فإما هم ملائكة أو شياطين.
حفلت السنوات التسع الماضية بمجلدات من المعادلات الصفرية التي لم يقبل أحد ممن اجترحها أن يتراجع عنها، ولو نسبيًا، أو يقبل بمساءلتها، أو حتى يقبل بالتشكيك في حتميتها، ولو في جزئية بسيطة منها. وها هو قانون قيصر يصطدم بهذه المعضلة السورية ذات المعادلات الصفرية. فبالنسبة إلى من عمل على إصداره، ومن آزرهم ممن آمن بنجاعته، فهو الترياق الشافي من الاستبداد، وهو الحلّ الذي سيفضي إلى الخروج من جهنم القتل والاعتقال والتهجير والتدمير، إلى جنة السلام والبناء والديمقراطية والكرامة التي لطالما سعى إليها السوريون أو جزء منهم. أما بالنسبة إلى من لم يقتنع به، وإلى من كان لديه موقف مسبق مما يأتينا من الخارج خصوصًا؛ فهو مصيبة المصائب، وستكون له آثار مدمّرة للمدنيين، وسيغتني من ورائه المستبدون، وإن إصداره هو إهانة للذكاء البشري، وإن من أصدره لا تهمه مصلحة الناس، كل الناس، بل هو يبحث عن مصالحه الذاتية الضيقة.
هل يمكن، والحال هذه، لمن لديه قراءة وسطية وموضوعية، أن يُقحم نفسه في النقاش العام، إن أراد ألا تصيبه التقييمات المقولبة التي تخرج من الأفواه، كما من الأقلام، حتى قبل أن تكتمل صياغتها في ذهن من يتبناها؟ هل من الممكن النظر إلى إيجابيات القانون واستعراض سلبياته؟ هل من الممكن اقتراح جلسات عصف ذهني بعيدًا عن الخندقة، تسعى من خلالها جميع أطراف المعادلة الصفرية إلى وضع بعض التغيير في المعادلة، وجعلها قابلة لعدد من الاحتمالات ليست كلها من طرف واحد؟ هل من الممكن مناقشة قانون قيصر من غير قياصرة؟!
المشكلة قديمة ومتجذرة ومستعصية يا صديقي.. وتكاد تكون من سماتنا الرئيسة وعلاماتنا الفارقة.
المسافة الزمنية التي تفصلنا عن وفاة عبد الناصر (نيِّف وأربعة عقود) لم تكن كافية ليغير سوري واحد رأيه بالرجل.. ونحن بين من يرفعه إلى مصاف الآلهة والمخلصين، وبين من يحط به إلى أسفل السافلين.. وليس ثمة من ينظر للرجل بموضوعية وحيادية، وليس ثمة من يغير رأيه، وكلنا يموت على موقفه..
قالها أبو فراس الحمداني منذ أكثر من ألف سنة: نحن قوم لا توسط بيننا…