أذكرُ أن عنوان مادتي هذه “قول على قول” مستوحًى من برنامج قديم، كنت أستمع إليه باستمرار من إذاعة لندن، منذ ستينيات القرن الماضي، واسمه “قول على قول”، وكان يُعدّه الأستاذ حسن الكرمي، وكان عبارة عن أجوبة على أسئلة المستمعين عن بيت من الشعر العربي، وكان السؤال: “مَن القائل؟ وفي أي مناسبة؟”. وقد وجدت العنوان مناسبًا للدخول في مساجلة مع مادة السيد حيّان جابر الذي نشر مادة في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، في موقع مركز حرمون، بعنوان “مساجلة حول الديمقراطية الاقتصادية“، وقد جاءت مساجلته تعقيبًا على مقالتي “الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية” التي نُشرت في الموقع نفسه.
أبدأ مساجلتي بالشكر لاهتمام السيد حيان جابر بموضوع مقالتي، إذ قلّما تثير موضوعات الاقتصاد وقضايا توزيع الدخل والثروة والعدالة الاجتماعية اهتمامَ الناس، حتى المثقفين السوريين، ثم أضيف أنه أحسن حين سمّى مقالته “مساجلة”، فلا شيء يُنضج الأفكار كالسجالات، وقد أثار نقاطًا إضافية في هذا الموضوع العريض الذي يصعب تغطيته بمادة أو ببضع مواد صغيرة؛ فمسألة الديمقراطية الاقتصادية وعدالة توزيع الدخول مسألة عريضة وواسعة، وفيها الكثير الكثير من الأسئلة، وقد طرحت مساجلته أفكارًا إضافيةً تصبح مناقشتها مكملة لما قلته حتى الآن. فمقالي هذا كان مجرد إثارة لموضوع عريض عملت عليه وكتبت حوله من قبل.
التجارب السابقة
نعم، لا يمكن بناء نظام اقتصادي اجتماعي جديد من فراع، بل لا بدّ أن يستفيد من تجارب سابقة، سواء أكانت فاشلة أم ناجحة، وتكتسب التجربة السوفيتية -بجانبيها الإيجابي والسلبي- أهمية كبيرة في صياغة تصورات نظرية لنظام اجتماعي بديل يتجاوز الرأسمالية، إذ لا يمكن صياغة أي فكر نظري من فراغ، فالنموذج السوفيتي الذي طُبق في بلدان أوروبا الشرقية، وقلّدته بلدان كثيرة في العالم الثالث، قدّم خبرة كبيرة في بناء نظام سياسي اقتصادي اجتماعي جديد بشكل عام، كما قدّم تجربة في إدارة قطاعاته ومؤسساته، ونظّم الجوانب المختلفة لحياة المجتمعات التي حكمها، ومنها الأدوار التي لعبها في الصراع العالمي، وقد أجبر قيام المعسكر السوفيتي الرأسماليةَ العالمية على تقديم تنازلات كبيرة لمجتمعاتها ولطبقاتها العاملة، خوفًا من إغراءات النموذج الاشتراكي، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وتستحق التجربة الصينية، وهي تجربة نظام سياسي “شيوعي” يبني اقتصادًا رأسماليًا متوحشًا، دراسةً متأنيةً، وكذلك تجربة الاقتصاد الاجتماعي في أوروبا الغربية أو تجربة اقتصاد السوق الاجتماعي الألماني، ويسمونها “الرأسمالية المنظمة”، أو تجربة الدول الإسكندنافية اليوم أو التجربة اليابانية أو بعض تجارب دول العالم الثالث. بل يمكن العودة لأفكار منظرين سابقين حول الاشتراكية التعاونية والاشتراكية الليبرالية والاشتراكية التوزيعية، دون أن تؤخذ أي منها كمرجع صحيح بقدر ما هو مصدر للمعرفة، وينطبق ذلك على النظرية الماركسية ذاتها إلى حد بعيد، لأن الواقع اليوم تغيّر كثيرًا.
حول دور الدولة
تنطلق فرضيتي من سيطرة الدولة على نحو شمولي، وفق النموذج السوفيتي أو ما شابهه، على الرغم من أن هذا النموذج قد حقق عدالة اجتماعية أفضل بكثير من النظام الرأسمالي، ولكن هذا كان على حساب حريات الناس وكراماتهم في المجتمعات التي حكمها، وعلى حساب القدرة الإنتاجية المادية والروحية للناس، وبالتالي فهو شكل فاشل في جوهره، وليس الأمر مجرد أخطاء في تطبيقه. ومن المفارق أن الماركسية قد دعت إلى اضمحلال الدولة على أن يحلّ محلها نوعٌ من الإدارة الذاتية المجتمعية، ولكن الذي حدث أن الدولة تغوّلت لتبتلع المجتمع وتبتلع الناس في النهاية. وقد كان لولادة هذا النموذج السوفيتي أسبابه التي يمكن تلخيصها بأنه نشأ في بلد ضعيف من حيث التطور الرأسمالي وضعيف بتقاليده الديمقراطية، وكان وحيدًا في محيط عدائي من دول رأسمالية قوية، ناصبته العداء وسعت لإنهائه عسكريًا بمشاركة جيوش من 15 دولة، فكان لا بد من سلطة مركزية تضع بيدها قدرات المجتمع كافة. ويذكرنا هذا العداء لثورة أكتوبر بمعاداة أوروبا العجوز للثورة الفرنسية، وخاصة مع سيطرة نابليون على فرنسا، وقد نهضت الأنظمة الملكية الإقطاعية في دول أوروبا العجوز، ضد نابليون الذي سعى لنشر أفكار الثورة الفرنسية خارج حدود فرنسا. وعلى الرغم من أن نابليون قد خسر الحرب في النهاية، فإن أفكار الثورة الفرنسية قد حددت قوالب المجتمعات الحديثة من مختلف الجوانب.
في الوقت ذاته، يدعو الليبراليون الجدد إلى تقليص دور الدولة إلى أضيق حدود، ومنح كل الأدوار للشركات الخاصة، لتوسيع أدوارها في التحكم في كل شيء، بحيث تصبح منظمات الأعمال هي من يقرر السياسة الداخلية، وتصبح المنظمات الدولية هي من يضع القواعد، ويصبح مؤتمر دافوس هو النادي العالمي الذي يحدد للسياسيين ما سيفعلونه، ويحدد للبرلمانات التشريعات التي يصدرونها. وكل هذا يرسّخ طغيان رأس المال وتدهور العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية أيضًا. وبالتالي؛ لا أتبنى مقولة “الدولة النحيلة”، وهذا يحتاج إلى تفصيل سأعرضه في مقالة قادمة، وعلى الرغم من أن الرأي يتجه اليوم نحو تبني مقولة “حيادية الدولة”، بدًلا من “دولة البروليتاريا”، فإن حيادية الدولة أمرٌ نسبي، فمع وجود رأسمال يهيمن على كل شيء، لا بد من أن يهيمن على الدولة أيضًا، ومع ذلك أتبنى مقولة “حيادية الدولة”، كنصّ قانوني في الدستور، ليكون حجة في وجه تسخير الدولة لمصالح رأس المال، وأعتقد أن قوة المجتمع المدني وقوة الأحزاب السياسية تعد شرطًا لازمًا لكبح نزعة الدولة نحو الاستبداد، ولكن أهم ما يساعد في كبح هذه النزعة هو نمو الديمقراطية الاقتصادية وتقليص فوارق الملكية وفوارق توزيع الدخل.
لا بد أن تلعب الدولة المركزية أو السلطات المحلية المنتخبة دورًا فعالًا في إدارة المجتمع، من مختلف جوانبه، بدءًا من الدفاع عن حدود الدولة وضمان السلم الأهلي والاستقرار، ووضع الإطار التشريعي والتنظيمي والمؤسسي، وأن تلعب دورًا تنمويًا مجتمعيًا واقتصاديًا “الدولة التنموية”، وأن تكون المالك للثروات الباطنية، وأن تخلق مناخًا صديقًا للاستثمار والبحث العلمي، وتسهم فيه وتُنفق عليه، وأن تستثمر في الاقتصاد، ليس في البنية التحتية وحسب بل في شركات صناعية وخدمية، وخاصة الاستثمارات الطليعية التي يُحجم عنها القطاع الخاص، وأن تخلق البيئة الصديقة والداعمة للعدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية عبر حزمة من سياسات إعادة توزيع الدخل، وحزمة من السياسية التجارية والمالية وتنظيم سوق العمل وغيرها، ولكن بعيدًا عن السياسة الشمولية الاستبدادية.
الملكية الفردية ودور القطاع الخاص
لم تدخل مقالتي في السجال حول الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (يسميها الأستاذ حيان جابر الملكية الفردية)، ولكنها احتوت المفاصل الرئيسة من الموقف منها، وهو أنها لا تستبعدها ولا تمنعها على الطريقة الاشتراكية، ولكنها تتبنى منافستها بالملكية الجماعية والمجتمعية في قلب المجتمع واقتصاد السوق. ولا تحتوي المقالة مساحة كافية لشرحٍ مفصَّلٍ وافٍ لهذه المسألة المفصلية والجوهرية، في مفهومنا للديمقراطية الاقتصادية، وكيف تتحقق في أرض الواقع، وهذا ما سأفعله في مقالة قادمة مع أمثلة ملموسة.
تبقى الديمقراطية السياسية والحريات العامة في التنظيم والتعبير، وتعميق الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة في قلب المجتمع وفي عقل أفراده، شرطًا لازمًا لنمو الديمقراطية الاقتصادية، أي إن تنمية الديمقراطية الاقتصادية أمرٌ غير ممكن بدون تحقق الديمقراطية السياسية.
حول دور القطاع الخاص في التنمية، أتفق مع مقولة دفع القطاع الخاص إلى أن يلعب دورًا رئيسًا في التنمية الاقتصادية والمجتمعية، وبالرغم من أن مفهوم “الدور الاجتماعي للشركات” قد بدأ ينمو، فإنه يبقى هامشيًا، إذ إنه محصور في بعض المشروعات الخدمية وتبرعات محدودة لنشاطات ثقافية وخيرية واجتماعية وخدمية، لا تشكّل أي جزء مهم من مجمل العملية الإنتاجية في أي مجتمع، وإن كانت تلعب دورًا أكبر في المجتمعات الغنية عبر تبرعات سخية أحيانًا، وقد جاء ليعوّض تراجع أدوار الدولة من جهة، وكي يحسّن من سمعة القطاع الخاص الذي ازداد توحشًا في العقود الخمسة الأخيرة، حيث كان هناك، بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، هجوم ليبرالي على شبكة الضمان الاجتماعي وضمانات سوق العمل، وتراجعت حقوق العاملين وتراجع التأمين الصحي، وظهرت موجة خصخصة واسعة للشركات المملوكة من الدولة ضمن برامج خفض التكلفة Cost Cut، بدأتها كبرى شركات العالم، وسرّحت كل منها عشرات آلاف العمال من أجل تعظيم الربح، وازداد التسرب من المؤسسات العلمية عندما طغى مبدأ الربح على كل مبدأ، وأصبح هو المسيرَ ليس للاقتصاد فحسب، بل لمختلف جوانب الحياة “تسليع كل شيء”.
يبقى العامل الأهم هو الملكية المشتركة والمجتمعية لوسائل الإنتاج. وثمة مجموعة من أشكال الملكية الجماعية والمشتركة والمجتمعية الصغيرة والكبيرة والكبيرة جدًا، في مختلف الميادين: أن تشكل نسبة كبيرة متنامية من ملكية الشركات والأرض ورأس المال، وأن تشكل حصة متزايدة من الناتج المحلي الإجمالي، وتشمل هذه القطاع الصغير في كافة الميادين، سواء كان عائليًا أو مملوكًا من بضعة أفراد، وجمعيات تعاونية استهلاكية، وجمعيات إنتاجية، وشركات تعاونية تحتاج إلى تنمية وانتشار، وشركات تملكها النقابات والبلديات، وشركات مساهمة غير احتكارية، إضافة إلى ملكية الدولة للثروات الباطنية ومساهماتها في استثمارات البنية التحتية واستثماراتها في الشركات الإنتاجية، سواء أكانت صناعة أم خدمات، وأيضًا أن يكون قطاع التعليم حكوميًا لا خاصًا، فالتعليم الجيد هو مفتاح للطرق الجيدة، ويجب ألا يخضع لمصالح الربح ، كذلك لا يجوز أن تكون مؤسسات الإعلام (التقليدي والحديث) ووسائل التواصل الاجتماعي، ملكية خاصة رأسمالية تخضع لعوامل الربح. ومثلها القطاع الصحي، وإن كان بنسبة أقل. وأضيف هنا فكرة أن يكون “الزبون شريكًا”، وهذه تستحق شرحًا وتوضيحًا في مقالة مستقلة، وخلاصتها أن يملك كل مودع في البنك أسهمًا في البنك تتناسب مع قيمة إيداعاته، وأن يكون له صوت، فالبنك يدير أموال المودع، وإفلاسه يعني فقدان أمواله، وكذلك أن يمتلك مشترك الهاتف الخليوي أسهمًا بالطريقة ذاتها، ومثلها المشترك في شركة الكهرباء وغيرها. ويمكن أن يكون الاشتراك جزءًا من العقد أو أن يكون اختياريًا… وهذه فكرة تحتاج إلى مناقشة وتحديد وتوضيح. وثمة تجارب على تمثيل العمال في الشركات الخاصة في مجالس إدارتها: “التجربة الألمانية مثلًا”.
تنافس على مختلف الصعد
أنطلق في مقولتي من فرضية استمرار اقتصاد السوق، ولا يوجد اقتصاد خارج السوق، مع تعدد أنظمة الأسواق وتنوع قواعد عملها. وفي الأنظمة الرأسمالية ثمة آلة توجيه هائلة لغسيل العقول، تبدأ من المدرسة فالجامعة فمؤسسات الإعلام والثقافة حتى الفنّ، تروّج لقواعد اقتصاد السوق الحر، وكأنها قوانين الطبيعة التي لا يمكن مخالفتها! وجوهرها فكرة “دعه يعمل دعه يمر”، وأعط للمستثمر كل شيء كي يخلق فرص العمل والدخل، حتى لو تم توزيع الدخل بدون عدالة، ولكن “سيحصل الجميع على قطعة من الكعكة”.
نعم، إن ضبط الليبرالية من أن تتوحش أمرٌ غير ممكن، ليس في العالم الثالث وحسب بل في العالم المتقدم أيضًا. ولكني أنطلق من أن بناء ديمقراطية اقتصادية أمرٌ يقترن ويرتبط بالديمقراطية السياسية. فإذا افتقدت الأنظمة العربية الديمقراطيةَ السياسية؛ فإنها ستفتقد الديمقراطية الاقتصادية، ثم إنني لا أفترض أن الأنظمة الديمقراطية الليبرالية الغربية وحريات التعبير والاحتجاج وحدها ستغيّر الواقع نحو ديمقراطية اقتصادية، ولكني أعتبر الديمقراطية السياسية شرطًا لخلق مناخ مناسب لنمو الديمقراطية الاقتصادية، التي ستؤدي إلى تقليص الفوارق في توزيع الثروة، ومن ثمّ إلى تقليص الفوارق في القدرات على التأثير، وبدون تقليص فروقات توزيع الثروة؛ ستبقى الديمقراطية السياسية وحدها غير كافية، وتسمى “ديمقراطية اليوم الواحد”.
بالمقابل، سيُسهم نموّ هذه الأشكال، من الملكية المشتركة والجمعية، في الوصول إلى نسبة كبيرة من الملكية والإنتاج والناتج والأرباح وأعداد العاملين فيها، وسينمو معها وعي المجتمع بهذه الأشكال، وسيزداد تبنّيه لها كلما ازدادت حصتها ودورها تدريجيًا. وسيشهد السوق والمجتمع تنافسًا بين الملكية الجماعية والمجتمعية لوسائل الإنتاج، التي تمثل مصالح معظم أفراد المجتمع، وبين الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج التي تمثل مصالح فئة صغيرة في المجتمع تتحكم في ثروات كبيرة. وستنمو بالمقابل مراكز الأبحاث والأكاديميات ووسائل الإعلام التي تتبنى هذه الأفكار عن العدالة الاجتماعية، وستنهض أحزاب تتبنى هذا النهج أيضًا وتعمل على تنميته وتقويته. وكل هذا يشترط بالطبع مناخًا ديمقراطيًا سياسيًا، يضمن حريات التعبير والتنظيم. وأفترض أن تقليص الفروقات في توزيع الثروة في المجتمع لا يحقق العدالة في توزيع الثروة وحسب، بل يجعل النظام الديمقراطي يعمل على نحو عادل أيضًا.
أممية الصراع وأممية المنافسة
ما أفترضه من قواعد وشروط لتحقيق ديمقراطية اقتصادية يشمل جميع البلدان في العالم؛ فاقتصاد السوق الرأسمالي يعمل في كل مكان، وفروقات الدخل والثروة متسعة وتتسع في كل مكان، بغض النظر عن مستوى الديمقراطية السياسية أو مستوى التطور العلمي والتكنولوجي والتقدم الاقتصادي بين البلدان، وبغض النظر عن الفروقات الموجودة في الأنظمة السياسية والاقتصادية.
صحيح أن الديمقراطية الاقتصادية المفترضة لا يمكن أن تتحقق على نحو مثالي في بلد واحد منعزل، ما لم تتحقق في بلدان عدة، وخاصة في بلدان ذات دور كبير على المستوى العالمي، إلا أن عصر العولمة وفتح بلدان العالم على بعضها يجعل مبدأ “الأواني المستطرقة” يعمل بها، أي تتسرب المياه من المستويات الأعلى إلى المستويات الأدنى، حتى تتساوى. وأنا أفترض أن قضية العدالة الاجتماعية قضية واحدة في العالم تجمع شعوبه، كما تجمع نزعة الاستغلال أغنياءَه للتوحد والتضامن ضد جميع الشعوب حتى شعوبهم. ماذا يعني أن يهرب رأس المال الأميركي والأوروبي من بلدانه إلى الصين والهند وإندونيسيا وغيرها، من أجل مزيد من الربح ويصدّر معه فرص العمل مسببًا مزيدًا من البطالة في بلدانها الأم؟! وماذا يعني أن تهرب رؤوس أموال البلدان النامية نحو البلدان المتقدمة لتُسهم في تنميتها وإفقار بلدانها؟ هل يعني هذا غير خيانة رأس المال لأوطانه؟! نعم ليس لرأس المال وطن، ووطنه حيث يحقق ربحًا أكبر، وليست الحروب وتأجيج النزعة القومية القاتلة إلا إحدى أدوات التنافس الدامية التي يموت فيها الناس العاديون، من أجل أرباح أكبر لأصحاب رأس المال.
قوة المجتمع ووعي الناس يصنعها مناخ من الحريات العامة
قوة المجتمع ووعي الناس بمصالحهم هي القوة الدافعة لتنمية الديمقراطية الاقتصادية. وستسهم هذه القوة في خلق مناخ منحاز إلى تنمية الملكية الجماعية والمجتمعية، وترجمة هذا المناخ في جملة من القوانين والتشريعات وبرامج التحفيز يعززها إعلامٌ يروج لها، وبحث أكاديمي يتبناها، ومناهج تعليم تُدخل مبادئها في العقول، وهو الأمر الذي تفعله الملكية الرأسمالية الكبيرة والاقتصاد القائم على الربح. وهذه أيضًا ستكون موضوع مقالة أخرى تحدد ذلك وتشرحه بوضوح مع أمثلة.
وتبقى الديمقراطية السياسية والحريات العامة في التنظيم والتعبير، وتعميق الثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والمواطنة في قلب المجتمع وفي عقل أفراده، شرطًا لازمًا لنمو الديمقراطية الاقتصادية، أي إن تنمية الديمقراطية الاقتصادية أمرٌ غير ممكن بدون تحقق الديمقراطية السياسية. ولن تقوم الديمقراطية الحقيقية بدون اقتران الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، لتصبح ديمقراطية شاملة.