عُقدَت، في 19 تموز/ يوليو، ثلاثة اجتماعات في طهران، ثنائية وثلاثية، ضمّت رؤساء الدول الراعية لمسار “آستانة”، روسيا وتركيا وإيران، التي ترتبط بعلاقات متشابكة، تقوم على أساس المصالح المشتركة من جهة، وعلى مصالح متنافسة من جهة ثانية.
وعلى الرغم من أن التصريحات المعلنة أكدت تخصيص قمة طهران لبحث الملفّ السوري، خاصة مع تصاعد الحديث عن العملية العسكرية التركية المرتقبة في الشمال السوري؛ فإن المحادثات الثنائية والثلاثية ذهبت إلى الاهتمام أكثر بملفات العلاقات الاقتصادية بين الدول الثلاثة، وركزت على تعزيز التبادل التجاري الثنائي، من دون أن تحقق نتائج ملموسة على صعيد القضية السورية، مع الإشارة إلى أن هناك دلالاتٍ لافتة تضمنتها تصريحات القادة بخصوص الملف السوري على هامش القمة.
أولًا: السياقات الخاصة بقمة طهران
انعقدت القمة في ظروف إقليمية ودولية متوترة وغير مستقرة، وجاءت بعد قمة جدّة للأمن والتنمية، التي جمعت الرئيس الأميركي جو بايدن بزعماء عرب، واكتسبت أهمية كبرى في ظل تصاعد الصدام بين الدول الغربية وروسيا على خلفية غزو جيشها لأوكرانيا.
ويتأتى السياق الخاص بالقمة الثلاثية من تناقض مصالح الدول الثلاثة في ملفات عديدة؛ فروسيا وإيران تدعمان نظام الأسد، عسكريًا وسياسيًا، وتشتركان في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي، سواء بسبب الملف النووي الإيراني أو الغزو الروسي لأوكرانيا، في حين أن تركيا عضو في التحالف الغربي “ناتو” الذي يواجه روسيا في الأزمة الأوكرانية، وهي أيضًا أبرز دول الجوار خصومة مع النظام وأظهرها دعمًا للمعارضة السورية.
وفي الوقت نفسه، تجمع روسيا وإيران مصلحة مشتركة في استثمار الكارثة السورية في صراعهما مع الغرب، سواء في سياق التنافس الإقليمي أو في قضية المفاوضات النووية بالنسبة إلى إيران، وفي سياق الحرب الأوكرانية بالنسبة إلى روسيا. وكلاهما يريد تحقيق مصالح خاصة بهما، وهو ما يفسر اتفاقهما في هذه القمة على المطالبة بخروج القوات الأميركية من مناطق شرقي الفرات.
أما بالنسبة إلى تركيا، فقد جاءت قمة طهران بالتزامن مع إعلان نيتها القيام بعملية عسكرية محدودة، في منطقتي تل رفعت ومنبج، بما يوسع نفوذها من جهة، ويقطع الطريق على مشروع الكيان الكردي في الشمال السوري، الذي تقوده الميليشيات الكردية (قسد)، لإبعاد خطرها من المناطق الحدودية وتهديدها للأمن القومي التركي، من جهة ثانية، وبالرغم من أن روسيا وإيران تعارضان العملية العسكرية التركية، فإنهما تجدان في ضغط أنقرة لتنفيذ الهجوم فائدةً تتمثل في دفع ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها مقاتلو ميليشيا “وحدات الحماية الكردية”، إلى اللجوء إلى النظام السوري وروسيا، لحمايتها من الهجوم التركي، أو لتخفيف آثاره على الأقل، إن حصل. وفي هذا السياق، برزت جهود طهران بالعمل على بلورة موقف موحد مع موسكو، لمحاصرة الدور التركي وما يحمله من تحدّيات لكلا الطرفين.
وبخصوص الملفّ السوري، تتمسك الدول الثلاثة بمسار آستانة، الذي أُطلق في العام 2017 بهدف التوصل إلى ترتيبات حل سياسي يتوافق مع مصالحها، من خلال فرض تهدئة الجبهات أولًا، تحت عنوان “خفض التصعيد”، وتمكين النظام من استعادة السيطرة لاحقًا على تلك المناطق، وهو ما أدى في الواقع إلى موجات من التهجير القسري رافقتها عمليات تغيير ديموغرافي، ويعكس استمرارُ تمسّك الدول الثلاثة بهذا المسار تفاهماتِها على مجمل المصالح المشتركة، لا على المسألة السورية فقط، وقد ترافق إعلان تمسكها بمسار آستانة مع تعطيل النظام السوري اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، بطلب روسي، وفي هذا السياق، حققت قمة طهران نتائج ملموسة على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الثلاث، وكانت هناك نتائج سياسية كذلك، ولكن ليس من بينها أي توافق في المسألة السورية.
ثانيًا: أهمّ أولويات أجندة القمة
طغت على أجندة القمّة كثيرٌ من الأولويات التي تختلف وتتمايز بحسب مصالح هذه الدول وانشغالاتها السياسية والاقتصادية والأمنية، وأبرز هذه الأولويات -وفق ما تضمنه البيان الختامي للقمة وتصريحات القادة على هامشها- ما يلي:
1 – التأكيد على الدور الريادي لمسار آستانة، في الحلّ السلمي والمستدام للأزمة السورية، وتشديد القادة على استحالة تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، ما دامت الولايات المتحدة تثير الفوضى، بدلًا من معالجة المشاكل، وتولي الأولوية لضمان مصالح إسرائيل، وهو ما يعكس رغبة روسيا وإيران في أن يكون مسار آستانة بديلًا لمسار جنيف، بالرغم من حاجتهما إلى غطاء الشرعية الأممية المستمد من مسار “جنيف”.
2- إصرار طهران على دعم النظام السوري، لاستعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، وتأكيد الحضور القوي للجيش السوري على هذه الحدود الدولية، والضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها، واتهامها بـ “نهب الثروات والموارد السورية”، وجاء حضور وزير خارجية النظام السوري فيصل مقداد إلى طهران في يوم القمة، لإبراز موقف النظام من شرعية وقانونية وجود روسيا وإيران في سورية، واعتبار أن الوجود التركي في سورية غير شرعي، وهو ما عبّر عنه رفض المقداد للهجوم التركي المحتمل، و”سياسات التتريك والتدخلات التركية في شؤون سورية”.
3- لم تتمكن تركيا من استثمار القمة، ووساطتها في ملفّ تسوية أزمة تصدير الحبوب الأوكرانية، للحصول على موافقة روسيا وإيران على العملية العسكرية التي تسعى أنقرة لإطلاقها في الشمال السوري لطرد قوات (قسد) من منطقتي تل رفعت ومنبج، على الرغم من تضمين بيانهم الختامي “تصميمهم على الوقوف في وجه المخططات الانفصالية الهادفة إلى تقويض سيادة سورية وسلامتها الإقليمية”، وتصريح كل من روسيا وإيران بأنهما تدركان مخاوف تركيا الأمنية.
وعلى الرغم من الموقف التركي السلبي من نظام الأسد، فإنّ أولويات تركيا تكمن في الحفاظ على أمنها القومي، ومنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، إضافة إلى حرصها على عودة قسم كبير من اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وكذلك فتح طريق تجارتها البرية مع دول الخليج عبر سورية. وهي مصالح قد تدفع تركيا إلى القبول باستعادة النظام سيطرته على منطقة شرق الفرات.
ثالثًا: مظاهر التنافس والتوافق بين أطراف القمة
حققت القمة توافقات سهلة، من خلال اللقاءات الثنائية على تعزيز العلاقات الاقتصادية ورفع وتيرة التبادل التجاري، في حين برز الخلاف بين الأطراف في الملف السوري.
وعلى الرغم من توافق إيران مع روسيا في ملفّ غزو أوكرانيا وتقاربهما، كنظامين يعانيان العزلة الغربية ويواجهان العقوبات، وعلى الرغم من سعيها لتعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الكرملين، بالتزامن مع بروز احتمال بلورة تكتل عربي – إسرائيلي بدعم أميركي في المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني؛ فإن طهران لا تزال ترتاب من بعض المواقف الروسية في الاتفاق النووي، ومن غضّ الطرف الروسي عن العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف مواقع قواتها وميليشياتها في سورية.
أما بالنسبة إلى روسيا، فإن في حضور بوتين القمة رسالةً للغرب، مفادها بأنّ روسيا حاضرة في الساحة الدولية، ويبقى القلق الروسي الأكبر من الغاز الإيراني الذي يشكل بديلًا سريعًا لغازها، وذلك على الرغم مما قيل عن مذكرة تفاهم وقعتها “غازبروم” الروسية في طهران، لاستثمارات في الغاز بقيمة 40 مليار دولار، ومن دعوة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى مبادرات اقتصادية جديدة لإقامة سلاسل توريد جديدة، مثل ممر “شمال – جنوب” الممتد من سان بطرسبورغ إلى المحيط الهندي، ومن الهند إلى “فلاديفوستوك” مرورًا بإيران. ومن جهة أخرى، تتعارض مصالح إيران وروسيا في بعض القضايا، مثل التنافس على بيع النفط للأسواق في الصين.
أما تركيا، الطرف الثالث في القمة، والعضو في حلف الناتو، والذي ينازعهما على النفوذ في سورية وفي جنوب القوقاز ووسط آسيا، فلا يمكن أن يكون شريكًا كاملًا لهما، وقد برز ذلك في الضغط عليه لوقف العملية العسكرية في شرق الفرات، وفي دعوته إلى التنسيق مع نظام الأسد لحماية حدوده، كما لا يمكن لهما التعويل على تموضع تركي جديد، يبعده عن حلفائه التقليديين في الغرب.
وعلى الرغم من توقيع الوزراء الأتراك على هامش القمة 8 اتفاقيات، و10 مذكرات تفاهم، مع نظرائهم الإيرانيين، من شأنها تعزيز العلاقات بين البلدين، ومن أهمّها تمديد اتفاقية تصدير الغاز الإيراني إلى تركيا لمدة 25 عامًا؛ فإن اختلاف طهران وأنقرة في الساحة السورية لا تحلّه الاتفاقات الاقتصادية، ففي الوقت الذي كان الرئيس التركي يدلي بتصريحاته من طهران، بشنّ عملية عسكرية في سورية، نظّمت ميليشيا “فيلق المدافعين عن حلب” المدعومة من إيران عرسًا جماعيًا، في بلدتي نبّل والزهراء الشيعيتين شمالي حلب، وقالت في صفحتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي: “هو رسالة لتركيا. إننا باقون في هذه الأرض وسندافع عنها، وها هنا نقيم الأفراح ونزف 260 عريسًا، ولا نكترث بتهديداتكم أبدًا”.
في ما يتعلق بالعلاقة الروسية مع تركيا، أفاد البيان الرئاسي الروسي بأنّ أبرز محاور اللقاء الثنائي هي “الجوانب الرئيسية للتعاون الروسي – التركي، والتقدّم المحرز في تنفيذ المشاريع الرائدة في المجال التجاري والاقتصادي، وآليات العمل المشترك في الوضع حول أوكرانيا”. ورأى الكرملين أنّ تسوية قضية تصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، وفقًا لمخرجات المفاوضات التي عُقدت أخيرًا في إسطنبول، بين الوفود العسكرية لروسيا وتركيا وأوكرانيا وممثلي الأمم المتحدة، تشكّل أحد العناصر الرئيسية لمواصلة التنسيق مع أنقرة. ومن المعروف أنّ تركيا لا تلتزم بالعقوبات الغربية على روسيا، وهي منفذ خارجي، تجاري ومالي، لموسكو ضد الحصار الغربي.
وهكذا، إذا ما دققنا في أهداف أردوغان في سورية، وأهداف خامنئي بمواجهة النظام العربي، وأهداف بوتين للتشويش على بايدن، فإننا سرعان ما نكتشف أنّ الأطراف الثلاثة اجتمعت لأغراض ومصالح عدة، بعضها متوافق، وبعضها الآخر يتسم بالتنافس أو بالتناقض؛ إذ تشكل سورية نقطة الخلاف الأساسي بين الدول الثلاث، ففي حين تعمل روسيا وإيران على استعادة النظام السيطرة على كامل الأرض السورية، وشرعنته دوليًا، تجد تركيا مصلحتها في ضمان أمن حدودها بتعزيز نفوذها في الشمال السوري، لإنهاء خطر قيام كيان كردي، وتأمين المنطقة الآمنة، لإعادة الآلاف من اللاجئين السوريين، واحتواء ضغط المعارضة التركية على هذا الصعيد، واسترضاء الشارع التركي قبيل الانتخابات المفصلية القادمة، وهذه الأهداف من غير الممكن تحقيقها في ظل وجود أميركي يعوق تنفيذ خططها على هذا الصعيد.
ولا أدلّ على التناقض بين الأطراف الثلاثة في القمة من عبارة “محاربة الإرهاب في سورية”، التي تضمنها البيان الختامي المتفق عليه، فالكل يستخدم سورية أرضًا لمحاربة الإرهاب، لكن كل طرف يحدد “الأطراف الإرهابية”، وفق مصالحه وهواجسه الأمنية؛ فروسيا -كما إيران- تعتبر كل من عارض نظام الأسد إرهابيًا، وتركيا يقلقها إرهاب الميليشيات الكردية ومشروعها، وهي طرف يحظى بدعم إيران وروسيا وأميركا بنسب متفاوتة، وكلٌّ حسب مصالحه، وفي حين يتحدث البيان عن العمل المشترك في “مكافحة الإرهاب”، يتابع كل طرف حربه ضد خصومه “الإرهابيين”، الذين يعدّهم شركاء آخرون في القمة الثلاثية أدواتٍ ضرورية لتحقيق مصالحه.
رابعًا: حول الآفاق المستقبلية لمسار آستانة
تشير معطيات خلافات الدول الثلاثة على الأرض السورية إلى أن بينها، من المشكلات والتعقيدات ولها من المصالح الذاتية، ما يجعل من وضع الأوراق السورية في عهدتها أقرب منه إلى تعزيز الصراع لا حلّه، فمن جانب، لا يمكن أن تقبل إيران بأي حل سياسي لا يكون الأسد في مركزه، فيما يمكن لروسيا أن تقبل بآلية تدريجية، تصل في نهايتها إلى الأهداف الإيرانية ذاتها. أما تركيا، فقد تحوّل هدفها اليوم إلى إيجاد تسوية سياسية تنهي التوتر على حدودها الجنوبية، وكحل آني سريع، فهي تسعى إلى شريط حدودي آمن شمال سورية، يكون مأوًى لنحو مليون سوري يقيمون حاليًا في تركيا، ويمكن أن تخفف عودتهم من حدة أزمة اللاجئين في السياق الانتخابي الشرس خلال العام المقبل.
ولا يبدو أن مثل هذه المواقف يمكن أن تُنتج حلًا قابلًا للحياة للمسألة السورية، وبالرغم من أن الملف السوري سيكون محور قمة موسكو لاجتماع مسار آستانة القادم الذي أعلن خلال قمة طهران؛ فلا يتوقع حدوث اختراق حقيقي يتضمّن حلًا أو خريطة حل عادل وناجز وقابل للحياة. ومع غياب أي رؤية دولية جادة، فإنّ ما فعلته قمة طهران أنها أكّدت “احتكار” المسألة السورية من جانب، وكررت أولوية المصالح المرتبطة بكل من دولها الثلاث، وإنّ إصرار روسيا وإيران على دعم نظام الأسد يعني أن لا جدوى ولا مستقبل لأيّ من الحلول، ولا سيما في ظلّ سلبية المجتمع الدولي وانشغاله بأولوياته التي لم تعد سورية جزءًا منها، كما ظهر واضحًا بعد جولة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط.
لقد انتهت قمة طهران بحصاد سياسي واقتصادي وفير، في ما يخص الدول الثلاث، إلا أنّ وفرة هذا الحصاد لا تشمل السوريين ولا قضيتهم في ما اتفق عليه أطراف آستانة الثلاثة، وهو أن تبقى هدنة وقف إطلاق النار قائمة (هاجمت روسيا ريف إدلب، وأوقعت قتلى وجرحى، وردت فصائل المعارضة بقصف مواقع عدة للنظام)، وبوجود الهدنة ينتفي وجود الحلول، ومن ثم لا بأس من ترحيل الخلافات حول القضية السورية إلى لقاءات قادمة، ذلك أن ما تريده روسيا وإيران هو التأكيد أنّ قمة طهران قد أنتجت ردًا مناسبًا على قمة جدة الخليجية الأميركية.
وهكذا، لا تمثّل القمة الثلاثية في طهران أي تحوّل يتعلق بتسوية دولية في إطار الإعداد للمسألة السورية. ولا شيء سيتحرك في هذا الملف، وفي ملفات أخرى ذات صلة، قبل أن تظهر النتائج الدولية للحرب في أوكرانيا، وما ستنتجه الحرب من موازين قوى، وقد يُحدّد حينذاك شكل التسوية في سورية ومضمونها.