تتناول الدراسة التي أعدّتها الباحثة والأكاديمية السورية د. رهف الدغلي، في الآونة الأخيرة؛ الموسومة بـ “ديناميكيات التعبئة في الفصائل المسلحة بين ثنائية الدوافع والحوافز: الجبهة الشامية أنموذجًا”، واحدًا من أهمّ المواضيع التي تبحث في المجال العسكري، والمواضيع المتعلقة بعملية التعبئة العسكرية وتأمين القوى البشرية من جانب، وتوظيف الظروف السياسية والاجتماعية التي تهدف إلى تعبئة تلك القوى، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الهدف المنشود، المتمثل بالسيطرة، ومن ثم تحقيق الأمن والاستقرار، وتحديد مدى إمكانية مشاركة تلك القوى في عمليات التنمية أو “إعادة الإعمار”، من عدمها، كما ورد في الدراسة، حيث تعتبر وسيلة مهمّة لبناء السلام، وتترافق بلا شك مع برامج دمج وتأهيل المجموعات المسلحة والمقاتلين، وتتزامن مع إعادة هيكلة وإصلاح مؤسستي الجيش والأمن، وفق أسس وطنية، خاصة أن هؤلاء المقاتلين لا ينتمون إلى منظومة حكومية معترف بها على المستوى الدولي تؤكد انتماءهم إليها.
وقبل الخوض في النواحي الإيجابية للدراسة، والجوانب التي من الممكن نقدها، لا بدّ من تبيان أن لمسألة “التعبئة العسكرية والتجنيد” مستويين في الدولة، ويمكن من خلال الإسقاط وجودهما في الجماعات المسلّحة من دون دولة: الأول عام، تلعب فيه أجهزة الدولة السياسية والاقتصادية والتربوية والإعلامية والمدنية والعسكرية دورًا كبيرًا، من خلال الحشد المادي والدعاية والترويج لسياساتها وتسخير الطاقات لتحقيق أهدافها، فعلى سبيل المثال، في سورية، يتم “وضع جميع موارد البلاد البشرية والمادية في خدمة المجهود الحربي، وفقًا لمقتضيات مصلحة البلاد”، بما فيها الملكية الفردية من سيارة أو عقار، وفق قانون التعبئة العامة في سورية الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم 104 لعام 2011[1]، وهو ما ليس موجودًا في دول أخرى، بالرغم من وجود قوانين التعبئة لديها، لكنه يشبه إلى حد كبير ما قامت به ألمانيا النازية، في إبان استعداداتها للحرب العالمية الثانية، من اهتمام بالتعبئة الشاملة للجيش والشعب، وإنشائها للمؤسسات العسكرية والمدنية التي كانت تعمل تحت إشراف غوبلز، وزير الدعاية الألمانية. والثاني خاص، يخضع له المقاتلون بعد التحاقهم بالوحدات العسكرية لجيش بلدهم، ويطلق عليه “عقيدة القتال” التي توجّه أداء مقاتلي الجيش والجماعات المسلحة دون الدولة، إلى صيانة مصالحها العامة، وتحدد المبادئ العامة للعقيدة القتالية، في جانبيها العملياتي والتعبوي (التكتيكي)، وبالتالي فهي التعبير العملي للفكر والأهداف السياسية للدولة في المجال العسكري، وللعقيدة العسكرية في هذا المقام مستويات متعددة ومصادر.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن للعمل العسكري جوانب ثلاثة:
الجانب التربوي: يتم من خلال برامج الإعداد النفسي والتربوي التي تهدف إلى تنمية قدرات المقاتلين، وتكوين اتجاهاتهم، ولهذا السبب تم توظيف المختصين في العلوم النفسية والاجتماعية في صفوف الجيوش الحديثة، للاستفادة من خبراتهم. وتدريس مقررات التربية العسكرية وعلم النفس العسكري والتاريخ العسكري في دورات إعداد القادة.
الجانب التدريبي: يبنى هذا الجانب على توفر الجانب السابق، من خلال إكساب المقاتل المعارف العسكرية العلمية والمهارات الميدانية التي من شأنها المحافظة على الجاهزية القتالية.
الجانب القتالي: هو الجانب الأساسي من العمل العسكري، ويتضمن الأعمال والتدابير الخاصة بالتحضير للمعركة، وأثناء خوضها، وفيه تظهر الصفات القتالية الضرورية للمقاتل، التي تكوّنت لديه خلال الممارسة التربوية – التدريبية.
استعرضنا في ما سبق أسس التعبئة والتجنيد، وجوانب العمل العسكري التي يتداخل بعضها مع أسس التعبئة، والمعمول بها في معظم الجيوش، ولو بنسب تتفاوت فيما بينها في عصرنا الحالي، كما تتقاطع وتتشابك مع بعض أساليب التعبئة التي تلجأ إليها الجماعات المسلّحة دون دولة.
مضمون الدراسة
يشمل مضمون هذه الدراسة القيمة التي تبحث في تبيان دوافع المقاتلين واستمرارهم في القتال في صفوف “الجبهة الشامية” جوانب متعددة، أبرزها الجانب السياسي والاجتماعي والإنساني – القيمي، والحوكمي والعسكري، على الرغم من درجته البدائية، من وجهة نظري.
وتعدّ نقطة الارتكاز في الجانب السياسي أن الاحتجاجات الأولى في العام 2011 نتجت عن الشعور بالإقصاء السياسي، وما تلاه من عنف ممنهج ضد السوريين من قبل النظام السوري، وما عزّز لاحقًا من استمرارية عدالة القضية التهجيرُ الممنهج إلى الشمال السوري، الذي بدوره عزز حالة التعبئة، والتداول السلمي للسلطة، بوصول خمسة قادة إلى رأس هرم القيادة فيها، والتعبير ممن يقبلون على الانتساب إلى الجبهة الشامية أن دافعهم وراء ذلك أنها “صاحبة قرار ثوري”، وقد عُبّر عن ذلك بوضوح في الأثر الضاغط للفاعل التركي، الذي بلغ ذروته في رفض الجبهة إرسال مقاتليها للقتال في جبهات خارجية، لعدم اتساق هذا الأمر مع المشروع الثوري، في تصورات المقاتلين. وتعدّ النقطة الأبرز في هذا الجانب الإشارة إلى ضرورة عدم تغييب دور المقاتلين، كي لا يتم اختزاله في أي قرار سياسي في مستقبل سورية.
في هذا السياق، من الممكن أن نرجّح أثر الحوافز التعليمية التي تقدّمها الجبهة الشامية لمقاتليها، ومساهمتها في الاختيار العقلاني للأفراد، وذلك الترجيح يعود إلى مؤشرين: الأول أن الجبهة الشامية ضمت في صفوفها في إحدى السنوات 150 خريجًا جامعيًا، وكان عدد الحاصلين على شهادة جامعية 1400 مقاتل، ووصل عدد حاملي شهادة التعليم الثانوي إلى 4000 مقاتل، وهنا دعت الباحثة إلى تسليط الضوء على هذا الجانب، في سياقات الفصائل الأخرى. ويتمثل المؤشر الثاني في حرص الدول عند بناء جيوشها الاحترافية على المواصفات النوعية “الفكرية والجسدية” للمنتسبين إليها، واشتراط حصول المتقدم على شهادة علمية تمكّنه من الالتحاق في صفوف الجيش، وتلجأ بعض الدول أيضًا إلى إخضاع المنتسبين لدورات محو الأمية والتثقيف، كما الحال في جيش النظام السوري، حيث يوفّر المستوى التعليمي القدرة على تكوين الإدراك والوعي الفكري الذي ينعكس بالتربية العقائدية، كما ينعكس في القدرة على التعامل مع السلاح، في ظل ما شهدته التقنية العسكرية من تطوّر تكنولوجي في المعدات والمركبات، ونظم الاتصالات التي تُعدّ بغرض الاستخدام في الحروب، وينطبق هذا الأمر إلى حد ما على المجموعات المسلحة دون الدولة.
ويشير الجانب الاجتماعي إلى الآلية التي تتخذها الجبهة الشامية في بنيتها الداخلية، ومراعاتها للانتماءات المناطقية لمقاتليها، التي من شأنها توظيف البعد الاجتماعي لضمان ولاء مقاتليها، خاصة أن المقاتلين هم مَن يقومون باختيار قائد منهم يمثلهم، ويوصل صوتهم إلى القيادة، إلا أن هذا الجانب لم يكن حادًا في الجبهة الشامية، بعد عمليات التهجير القسري الممنهج، واستمرّت في اختيار قادة المجموعات بحيث يكونون ممثلين للقاعدة، وهؤلاء القادة لولا تقبّلهم الاجتماعي من مرؤوسيهم لما تمكنّوا من الوصول إلى قيادة المجموعة، بتوافق بين القيادة المركزية والقاعدة، ولذلك ضمّت الجبهة في صفوفها كافة أبناء المناطق، من الشام وحمص وإدلب والدير، ويرد ذلك إلى دور العوامل التي وردت في الفقرة أعلاه، إضافة إلى تجاوز الفروقات الطبقية والاجتماعية، بين المنتسبين إلى الجبهة الشامية “قادة ومقاتلين”، التي كانت متجذرة في المجتمع السوري قبل الحرب. وعملت الجبهة على مستوى اجتماعي أدنى من المستوى السابق، من خلال استمرار طغيان تدخلها بعد توسّع سيطرتها، نتيجة لعمليتي غصن الزيتون ونبع السلام، على نفوذ الحكومة المؤقتة في إعزاز ومارع، في ما يتعلق بالخدمات التي تقدّمها المجالس المحلية، وتعيين القائمين عليها “موالين للجبهة”، نظرًا لانحدار قادة الشامية والشريحة العظمى من المقاتلين منهم، ويعود ذلك إلى حرص القيادة المركزية على المحافظة على الكتلة الصلبة والمؤسسة للفصيل، وتقديمها خدمات تعليمية على شكل منح مالية لكل من يرغب في إكمال تعليمه، وساعدت في تمويل إنشاء إحدى الجامعات في منطقة إعزاز.
وتمثل الجانب الإنساني – القيمي في الحفاظ على مبادئ وأخلاقيات الثورة، مقابل منحة مالية تراوح بين 500 إلى 1000 ليرة تركية، والاضطرار إلى تأمين عمل للمنتسبين إلى جانب عملهم في الجبهة الشامية، وعدم تدخل الجبهة بعمل المنظمات المدنية وأنشطتها المتعلقة بالمناصرة والخدمات المحلية، وربط استمرار عملهم بشرط سقوط النظام السوري و”الانتهاء من الظلم”، وما تمثله رمزية بقاء الانتماء لدى مقاتلي الجبهة للواء التوحيد، كحافز ودافع، نظرًا لما بات يشكله قائد لواء التوحيد “عبد القادر الصالح” من رمزية في العقل الجمعي للسوريين الذين التحقوا بالثورة.
ويعكس الجانب الحوكمي لدى الجبهة تسليمها معبر باب السلامة الذي تسيطر عليه، إلى الحكومة السورية المؤقتة برئاسة جواد أبو حطب، والانضمام إلى الجيش الوطني السوري التابع للحكومة نفسها، وسيطرتها غير المباشرة على الحوكمة في مناطقها، إلا أن الحوكمة تُقاس عند الحركات المتمردة بقدرتها على تنظيم الحياة المدنية، وعدم تدخل الجبهة الشامية في العمل المدني بشكل واضح ومباشر، وبناء على ذلك، فإن هذا الجانب يمكن أن يكون قد لعب دورًا غير مباشر في استمرار ولاء المقاتل لها، على الرغم من انحسار سيطرتها ومواردها، بحكم الفاعل الخارجي، من خلال الخدمات التي تقدّمها في الجانب الحوكمي في مناطق حاضنتها الاجتماعية ومركز ثقلها، ونظرًا لعدد المقاتلين الكبير للجبهة من تلك المناطق، فإن نسبة كبيرة من المقاتلين تربطهم صلات القرابة بالمستفيدين من برامج الحوكمة (منح تعليمية – وظائف في المجالس المدنية والمحلية التي تتبع للجبهة)، وبذلك، قد يلعب هذا الجانب بشكل غير مباشر في استمرار الولاء، بما يتناسب مع “المشروع الثوري” للجبهة.
ويُظهر الجانب العسكري استفادة الجماعات المسلحة من دون الدولة من تقاليد الجيوش التقليدية، من خلال إخضاع كل المقاتلين المنتمين إلى الجبهة لمعسكرات تدريبية، تتضمن برامج التدريب العسكري والبدني والمعنوي، وتلعب “بنائية الاستذكار” دورًا في تعزيز الولاء للفصيل، ويقابلها في الجيوش التقليدية ما يُسمى بـ “التدريب في ظروف مشابهة لظروف المعركة”، لتعزيز الروابط العلائقية بين المقاتلين، حيث تضمّن التدريب في الأكاديمية العسكرية الأميركية، في وست بوينت بنيويورك، برامج تنمية التعاون وتمتين العلاقات بين الأفراد المنتسبين إليها، من خلال تدريبات صيفية على نقل بطاريات المدافع وتسلق الجبال وتجاوز العوائق الصعبة، والعيش في الأدغال، وتعدّ هذه الأكاديمية هي الأولى بين الأكاديميات العسكرية الأميركية، لدورها الكبير في التاريخ الوطني الأميركي، وهو أمرٌ يشابه ما حافظت عليه الجبهة الشامية، من خلال الإبقاء على اسم الشهيد “عبد القادر الصالح” حاضرًا في بنيتها العسكرية، لما يحمله من رمز معنوي في العقل الجمعي السوري بشكل عام، وفي العقل الجمعي الخاص بأبناء المنطقة بشكل خاص.
وتلعب الثقة بالقائد ووطنيته والمرونة في اختياره، وهي أمور اتسمت بها إجراءات الجبهة الشامية، دورًا في استمرار الولاء، وتعدّ واحدًا من الجوانب التي تعتمدها الجيوش التقليدية في تنظيمها، حيث يتضمن مقياس الروح المعنوية الذي يطبّق في معظم الجيوش العالمية عدة مستويات، منها “مستوى الثقة بالقائد”، إضافة إلى مستوى التعاون والروح الرفاقية، ومستوى الثقة بالسلاح، ومستوى التأمين الإداري والمعيشي.
تتفاعل هذه الجوانب فيما بينها مشكّلة الدوافعَ وراء انجذاب المقاتل واستمرار تعبئته وولائه في صفوف الجبهة الشامية، وهي أمور توصلت إليها الباحثة من خلال المقابلات المعمّقة مع المقاتلين، وتأكيد معظمها، ودحض تأثير بعضها في موضوع الدراسة، بالاستناد إلى دراسات سابقة في هذا المجال، أو الاعتماد على نظريات علمية في التحليل، كنظريتي “هوية عدم اليقين”، و”الانصهار الجماعي للهوية”.
إسهامات الدراسة
تحيط الأجهزة العسكرية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وفي سورية بشكل خاص، جميع جوانب عملها، بالسرّية المطلقة، وتقدّم الدراسة مساهمة في التمهيد للتعامل مع جوانب عمل هاتين المؤسستين مستقبلًا، بما يماثل التعامل معها في الدول الأكثر انفتاحًا وشفافية، والسماح بتدفق المعلومات، واعتبارها معلومات لفرع من فروع العلوم الاجتماعية، لما لذلك من أثر إيجابي في التقدّم نحو الهدف، ويظهر ذلك في الدراسة، من خلال المعلومات التي كشفتها المقابلات المعمقة، والأسئلة الجديدة التي ولّدتها الدراسة، التي من شأنها الغوص بعمق أكثر في بنية فصائل المعارضة السورية، وإجراء الدراسات المقارنة، وإظهار دور العوامل الاجتماعية في بنيتها.
ويعكس إجماع المقاتلين على فكرة “الثائر” كصفة آنية فردية، بسبب العنف الممنهج الممارس ضد السوريين في مناطقهم المختلفة، وارتباط هويتهم ارتباطًا وثيقًا بشرط سقوط النظام السوري والانتهاء من الظلم العام الذي مورس على السوريين بشكل عشوائي من قبل النظام، إلى جانب العناصر الأخرى المتداخلة في بناء الهوية الوطنية المفقودة، مقاومةَ مفهوم “الهوية” للتشرذمات الناتجة بفعل الحرب والصراع، كظهور الهويات الفرعية العرقية والإثنية، وإمكانية إيجاد هوية وطنية للسوريين مستقبلًا، بناءً على التوافق الوطني، على عكس ما كان متبعًا من قبل النظام من خلال فرضه لهوية وطنية ذات لون بعثي صارم. وحوت المقابلات العديد من المؤشرات التي من شأنها تمكين الوصول إلى الهوية الوطنية الجامعة، منها رفض المقاتلين تطويع الخطاب الإسلاموي كمحفز للانخراط في القتال، وتقويم المقاتل لأهمية امتناع الجبهة إرسال مقاتليها للقتال في جبهات خارجية، وانسجام الإجابات عن سؤال “من هو العدو؟”، بين المقاتلين والقادة والإداريين، وحصرها ببشار الأسد، لأن العداوة ليست مع المغلوبين على أمرهم من مقاتلي جيش النظام.
في الختام، يمكن الإشارة إلى نقطتين: الأولى تتمثل في ميل الفرد، خلال استخدام أدوات البحث العلمي كالاستبانة أو المقابلة، كما في الدراسة التي بين يدينا، إلى تقديم صورة نموذجية عن شخصيته وأفكاره، ولا أستبعد أن يكون ذلك قد حصل خلال المقابلات التي أجريت مع المقاتلين أو القادة، أما الثانية فكان من الضروري عرض مخطط بياني لأعداد المقاتلين في الجبهة الشامية منذ تاريخ تأسيسها، والوقوف على زيادة أعداد المقاتلين في صفوفها، بما يتوافق مع التطورات السياسية والعسكرية في كل فترة زمنية، وتأثر تلك الأعداد بالجوانب التي تمثّل دوافع استمرار القتال في صفوف الجبهة من عدمه.
[1] قانون التعبئة العامة في سوريا – نادي المحامي السوري – 8/12/2019 – الرابط