أطلقت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا “(1) برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية في عام 2012، بهدف خلق منصة حوار للخبراء السوريين من أجل إنتاج أجندة وطنية، حول بدائل السياسات والخيارات، خلال المرحلة الانتقالية في سورية، المتعلقة بأكثر التحديات إلحاحًا في مجالات الاقتصاد والاجتماع والحوكمة. وكذلك إيجاد شبكة من الشراكات بين الأطراف المعنية في سورية وشركاء إقليميين ودوليين من أجل تسهيل إرساء أسس المرحلة. كما يهدف البرنامج أيضًا إلى تعزيز قدرات المعنيين، من جميع أطياف المجتمع السوري، للمساهمة بفعالية في هذه المرحلة.

 

ومن التقارير المهمة التي أصدرها البرنامج في أوائل عام 2016 التقرير الخاص ببناء الشرعية والإصلاح السياسي “الحوكمة السياسية”، والذي يعكس آراء الخبراء الذين عملوا على كتابته ضمن إطار البرنامج، ولا يعبر عن رأي “الإسكوا”. وتضمن ثمانية محاور: الرؤية، منطق الإطار القطاعي، السياسات/التوصيات، الإطار الزمني، الجهات الفاعلة، مركبات التمكين، التحديات، الملحق (الخيارات الدستورية).

 

ويشمل إطار الحوكمة السياسية نظامًا معقدًا من شبكات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ويتطلب التحول وإصلاح النظام بحثًا شاملًا وعميقًا في أداء الدولة ودورها في إدارة البلاد. ويعدّ التقرير أنّ المرحلة الانتقالية حاسمة لتأسيس ثقافة المحاسبة العامة والحوار المجتمعي.

 

تقوم رؤية التقرير على “تسوية سياسية تضمن انتقالًا شاملًا وعملية توافقية لإصلاح هيكلية الحوكمة وإعادة تأهيل المؤسسات السياسية”(2). والهدف العام لإطار “الحوكمة السياسية” هو: “تطوير آليات فعالة للمحافظة على عملية السلام ودعمها […] وتقليل فرص العودة إلى الصراع”، والهدف هو “استعادة ثقة المواطن بالدولة ” ما يتطلب التوافقية بين كل الأطراف السورية لإنشاء “قواعد جديدة للعبة” بدلًا من المنافسة على قضايا خلافية، وصولًا إلى “عقد اجتماعي جديد”.

 

بالنسبة إلى الإعلان الدستوري/الدستور المؤقت، الذي يوجه الإطار القانوني والسياسي في المرحلة الانتقالية، يؤسس “سلطة انتقالية ويمكِّنها”، ويؤسس “للمساواة بين المواطنين أمام القانون، بغض النظر عن الجنس، أو الإثنية، أو العرق، أو المعتقدات الدينية. وأن يضمن حرية الرأي، والتجمع، والانتماء السياسي […] وأن يضمن تمفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية”(3). كما ينبغي أن “يلغي المحاكم والقوانين الاستثنائية التي تنتهك حق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون”(4). ومن نتائج هذا الإعلان “إنشاء الجمعية التأسيسية ومجلس القضاء الأعلى، ومنح الحقوق المدنية والسياسية”(5).

 

أما الجمعية التأسيسية، التي ستتولى السلطات التشريعية في المرحلة الانتقالية “ينبغي أن يتم تعيين أعضائها من خلال عملية توافق سياسي بدلًا من انتخابات وطنية “(6). ويجب تمكينها من القيام بـ:

1–  تولي السلطة التشريعية. و2 صياغة دستور دائم (في موعد لا يتجاوز 24 شهرًا، بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى)”، وكذلك “الإشراف على إنشاء الأحزاب السياسية والاتحادات والغرف والنقابات والجمعيات المهنية [..] وتنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي، وإصدار التشريعات المناسبة لهذا الشأن، وتقدم جدولًا زمنيًا لإجراء انتخابات وطنية في موعد لا يتجاوز الـ 24 شهرًا بعد صدور الدستور الدائم، إلا أنه من الممكن إجراء انتخابات محلية (7).

 

والعنصر المهم في الإصلاح المؤسساتي هو “المبادئ التوجيهية لإدارة الانتخابات” (تسجيل المرشحين، إنشاء الصناديق، توزيع الصناديق، تسجيل الناخبين، إنشاء بيانات الاعتمادات، توزيع الاعتمادات، إدارة الاعتمادات، التصويت، الفرز، التدقيق، إعادة العدّ)، ومن أجل ذلك ينبغي على الجمعية التأسيسية “تأسيس هيئة الانتخاب السورية لإدارة العملية “(8).

 

ومن أجل استعادة ثقة المواطن في الدولة، خلال المرحلة الانتقالية، ينبغي “إصلاح مؤسسات القطاعين القضائي والأمني بطرائق تعزز سيادة القانون، وتعطي الأولوية لحقوق الإنسان “.

وتعدّ سياسات الإصلاح القضائي ذات أولوية، في إطار الإصلاح المؤسساتي وفقًا لمعايير الحكم الرشيد، من خلال تشكيل مجلس القضاء الأعلى الذي يترأس العملية، وتندرج في ثلاث فئات:

  • السياسات الإصلاحية للنظام القضائي بحد ذاته.
  • سياسات تمكين الرقابة القضائية على السلطة التنفيذية.
  • سياسات تمكين الرقابة القضائية على السلطة التشريعية (9).

 

والحد الأقصى للإصلاح القضائي يجب ألّا يتجاوز السنتين، وذلك من أجل: مراجعة الوضع الحالي للقطاع القضائي وتقييمه، وإلغاء القوانين التي تقوِّض المساواة بين المواطنين أمام القانون وحرية التعبير والتجمع والانتماء السياسي، وتمكين مجلس القضاء الأعلى -الذي يتألف من قضاة مستقلين– من الإشراف على عملية العدالة الانتقالية، وتطوير آليات الرقابة القضائية على السلطة التشريعية من خلال إنشاء محكمة دستورية مستقلة تكون أحكامها مستقلة، والمساهمة في وضع آليات وجدول زمني لصياغة الدستور الدائم وتقديمة لاستفتاء وطني(10). ويتوقع البرنامج أن يوفر النظام القضائي آليات فعالة وعادلة لتسوية المنازعات، واستعادة ثقة المواطن في القضاء.

 

أما إصلاح القطاع الأمني فيهدف إلى الوصول لحوكمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه استعادة الدولة المحتكرة للحق المشروع باستخدام القوة، والضامنة لهذه الحقوق. ويجب أن يتم هذا الإصلاح بطرق تجعل مؤسسات القطاع الأمني “مسؤولة أمام السلطات المدنية، من هيئات رقابة مستقلة ومجتمع مدني”(11). ومن أجل ضمان إصلاح القطاع الأمني، خلال سنتين في الحد الأقصى، يجب “التزام الأجهزة الأمنية بالقانون الدولي والمحلي والدستور الانتقالي.. والتأكد من أنّ المجتمع المدني لديه القدرة على مراقبة المؤسسة الأمنية وتوفير المعلومات، ووضع نهج شامل لإدارة موارد القطاع الأمني، ووضع السياسات لتدريب أفراد قوى الأمن بشكل كافٍ، وبطريقة تعزز ثقافة المساءلة وحقوق الإنسان واحترام المبادئ الديمقراطية” (12). والتحدي الأبرز في هذا القطاع هو أن تكون خدماته قابلة للتطبيق والمساءلة وفي متناول الجميع، لتوفير الأمن للأفراد ولكل المكونات الاجتماعية.

 

ويحذر البرنامج من أنّ إنجاز الإصلاح الشامل، خاصة في القطاعين القضائي والأمني، هو أمر غير واقعي خلال المرحلة الانتقالية، مما يفترض إصلاحًا تدريجيًا “يلتزم بالقيم العابرة لقطاعات برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية، ولاسيما احترام النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان وتجنب الممارسات الإقصائية”(13).

 

أما بالنسبة إلى الدستور الدائم فيجب تحريك آليات صوغه في المرحلة الانتقالية، من خلال المجلس التأسيسي بالتعاون مع المجلس الأعلى للقضاء. ويجب أن تكون الصياغة ” بطيئة، وتشاورية، وتشمل المدخلات جميع قطاعات المجتمع السوري [..] وسيكون الهدف النهائي هو الموافقة، من خلال استفتاء وطني، في نهاية المرحلة الانتقالية” (14).

 

ويقترح التقرير إحداث المجلس الوطني للإعلام للإشراف على عملية تطوير وسائل الإعلام، ووضع قانون لتحديد قواعد السلوك الإعلامي لحمايته من خطاب الكراهية وسوء الاستخدام، وذلك خلال السنة الأولى من المرحلة الانتقالية. ومن المهم إخراجه من صلاحية السلطة التنفيذية، ووضعه تحت سلطة الجمعية التأسيسية. ويؤكد البرنامج على ضمان استقلالية المجتمع المدني، لممارسة الرقابة والإشراف على المؤسسات الحكومية، وكذلك المساهمة في وضع معايير وأهداف لإصلاح مؤسسات الحوكمة.

 

ويستدرك التقرير أنّ المساءلة والشفافية لا يمكن تركهما على عاتق وسائل الإعلام والمجتمع المدني فقط، بل لا بدّ من تشكيل لجنة وطنية لتنفيذ إطار الإصلاح، تضم: لجنة الحقوق لمراقبة حقوق الإنسان، ولجنة الإصلاح لمتابعة تنفيذ التسوية السياسية، والعملية الشاملة لإصلاح الحوكمة السياسية، ولجنة التدقيق لمراقبة الفساد والتشجيع على المساءلة في الإدارة الاقتصادية للدولة. ويتوقع التقرير أن تساهم اللجنة في زيادة الشرعية لعملية الإصلاح، من خلال السماح للمزيد من التدقيق العام. (15)

 

على أنّ عملية الحوكمة السياسية هي عنصر أساسي من عناصر السيادة الوطنية، يقودها السوريون، لتحديد الأهداف والسياسات والاستراتيجيات وتصميم البرنامج وأساليب التنفيذ. أما المؤسسات الإقليمية والدولية فدورها يكمن في الاستشارات الفنية، وتحليل المعلومات، وتمويل العمليات الرئيسية (16). ولأنّ الإصلاحات في ميدان واحد قد تقوِّض أو تتعارض مع تغييرات أخرى، فإنّ البرنامج عدّ الحوكمة السياسية عملية متكاملة – جنبًا إلى جنب – مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية (17).

 

ويصل التقرير إلى أنّ عملية الإصلاح المؤسسي في سورية يجب أن تضمن تشغيل مؤسسات الدولة، التي تم إصلاحها، وكذلك الجهات الفاعلة غير الحكومية، وفقًا لمبادئ الحكم الرشيد، وبالتالي تكون قادرة على دعم عملية التحول الديمقراطي، من أجل تسهيل إشراك ومشاركة جميع السوريين في تنمية بلدهم (18).

 

وأخيرًا يبُرز التقرير أهم التحديات التي يمكن أن تواجه عملية الإصلاح (19):

أولها، الجهات الفاعلة السياسية، بعد التسوية السياسية، لا تشارك الأولويات ذاتها لإصلاح الحوكمة. وثانيها، عدم ثقة المجتمع في عملية الحكم السياسي والتشكيك بوجود الفساد والصفقات السرية. وثالثها، خدمات قطاع الأمن قابلة للتطبيق والمساءلة وفي متناول الجميع، لتوفير الأمن للأفراد والمجتمعات. ورابعها، مقاومة التغيير الشاملة. وكذلك التدابير المضادة لهذه التحديات، من خلال:

  • العمل مع الجهات الفاعلة السياسية كي تتصل مع بعضها وتنسق فيما بينها بشكل كافٍ حول القضايا الرئيسية، وإدراج فئات المجتمع والقوى الضاغطة في الحوار.
  • ضمان شفافية العمليات، وتمكين استقلالية المراقبة، ونشر ما يتعلق بوتيرة الإصلاح بشكل دوري.
  • وضع آليات للتنسيق والإعلان عن إصلاح قطاع الأمن على جميع المستويات.
  • ضمان مشاركة المجتمع المدني في العملية، من أجل ضمان دعم أفضل لها.

ومما يجدر ذكره أنّ خبراء سوريين ومؤسسات دولية أخرى اهتمت باليوم التالي في سورية، وقدمت خرائط طريق للمرحلة الانتقالية لما بعد مرحلة سلطة آل الأسد.

وعلى الرغم من أنّ التقرير تناول أهم قضايا المرحلة الانتقالية على ضوء “الحوكمة السياسية” (الدستور الموقت، الجمعية التأسيسية، المبادئ التوجيهية لإدارة الانتخابات، الإصلاح القضائي، إصلاح القطاع الأمني، الدستور الدائم، المجلس الوطني للإعلام، لجنة وطنية لتنفيذ إطار الإصلاح، أهم التحديات التي يمكن أن تواجه عملية الإصلاح)، إلا أنه تكتنفه بعض الثغرات التي يمكن أن نحددها كما يلي:

  • لم يتناول مسألة ” العدالة الانتقالية”، على ضوء تجارب التحول الديمقراطي في الدول الأخرى.
  • لم يتناول – بشكل واضح – كيفيات تشكيل “هيئة مستقلة للانتخابات”، إذ لا يكفي الحديث عن “المبادئ التوجيهية لإدارة الانتخابات”.
  • استخدام مصطلح “هيئات المجتمع المدني غير النظامية “!.
  • عند الحديث عن التحديات، استخدم التقرير مصطلح “المجتمعات” ليدلل على “مكوّنات” الشعب السوري.
  • لم يتناول التقرير ضرورة بناء جيش وطني، ينزع السلاح من كل الجماعات المسلحة وإعادة دمج عناصرها في المجتمع السوري.

ومن المؤكد أنه لا يمكن فرض هذه الخارطة على السوريين، لكنها قابلة للاسترشاد بها في مرحلة ما بعد سقوط سلطة آل الأسد، لما تنطوي عليه من رؤية سياسية ودستورية وأمنية واقتصادية، لتكون في يد الحكومة الانتقالية فور تشكيلها.

 

ومن المؤكد أيضًا أنّ معدِّي التقرير يدركون أنّ سورية اليوم تبدو، بعد خمس سنوات ونيف على الثورة المطالبة بالحرية والكرامة، ملغّمة بجميع عوامل الانفجار الداخلي، وعصيّة على التوحد الوطني ضمن دولة مركزية، مما يتطلب البحث عن صيغ أكثر جدوى لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة في ظل الجمهورية الثالثة المقبلة، بالدعوة الصريحة لإقامة نظام لامركزي يكفل الوحدة الوطنية الطوعية لجميع مكوّنات الشعب السوري.

 

الهوامش

1- أنشأت الأمم المتحدة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ” الإسكوا ” في 9 آب/ أغسطس 1973 لتحفيز النشاط الاقتصادي في البلدان الأعضاء، وتعزيز التعاون فيما بينها، وتشجيع التنمية، وإطلاع العالم على ظروف بلدان المنطقة واحتياجاتها، وتوفّر إطارًا لصوغ السياسات ومواءمتها، ومنبرًا للالتقاء والتنسيق، وبيتًا للخبرة والمعرفة، ومرصدًا للمعلومات.

2– اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ” الإسكوا “، برنامج ” الأجندة الوطنية لمستقبل سورية”.

3– محور الحوكمة، بناء الشرعية والإصلاح السياسي ” الحوكمة السياسية ” 2016، ص 3.

4– اللجنة الاقتصادية، ص 4

5– اللجنة الاقتصادية، ص 4

6- اللجنة الاقتصادية، ص 9

7- اللجنة الاقتصادية، ص 4

8- اللجنة الاقتصادية، ص 7

9- اللجنة الاقتصادية، ص 12

10- اللجنة الاقتصادية، ص 5

11- اللجنة الاقتصادية، ص 7

12- اللجنة الاقتصادية، ص 5

13– اللجنة الاقتصادية، ص 8

14- اللجنة الاقتصادية، ص 5

15- اللجنة الاقتصادية، ص 5

16- اللجنة الاقتصادية، ص 6

17- اللجنة الاقتصادية، ص 6

18- اللجنة الاقتصادية، ص 6

19- اللجنة الاقتصادية، ص 11

20- اللجنة الاقتصادية، ص 13