هناك عدة روايات إيرانية حول الربيع العربي، لكن جميع هذه الروايات تلتقي في نقطة جوهرية واحدة، وهي أحقية إيران بقيادة العالم الإسلامي والمنطقة والتدخل في أي مكان تراه مناسبًا تحقيقًا لمصالحها. ولا يخفى على العارف، في الشأن الإيراني، أن الإيرانيين ينظرون، بشكل عام، نظرةً دونيةً إلى جيرانهم من العرب والترك والبلوش، مقابل نظرة احترام وتقدير وإعجاب للغرب.
رحبت إيران بحماس شديد بالثورات العربية التي بدأت في تونس ومصر، وامتدت إلى اليمن والبحرين وليبيا؛ لأن “المستبدين المعتمدين على أميركا والغرب يتساقطون واحدًا تلو الآخر” ورأت فيها امتدادًا للثورة الإيرانية، وأنها استلهمت مفاهيمها ومعانيها من تلك الثورة، وأن تبعية هذه الأنظمة للغرب وعلاقاتها بإسرائيل كانت السبب الرئيس في الثورة، وأطلقت عليها اسم “الصحوة الإسلامية”.
خرج المرشد الإيراني عقب سقوط مبارك مهنئًا العالم الإسلامي بسقوطه، وألقى خطبة بالعربية أثنى فيها على الثورات وخاصة الثورة المصرية، وتحدث عن التشابه بينها وبين الثورة الإيرانية داعيًا الثوار للاقتداء بنهج الثورة الإيرانية.
مقابل الحماس الشديد للثورات في دول الربيع العربي، تلكأت إيران في إعلان موقفها من الثورة السورية، ففي الشهور الستة الأولى من عمر الثورة مارست تعتيمًا إعلاميًا على مجريات الأحداث في سورية ونادرًا ما كان يتم التطرق إلى الشأن السوري في الإعلام الإيراني.
في المرحلة الأولى من عمر الثورة كان هناك تأييد منقطع النظير للثورة السورية في المجتمع الإيراني، خصوصًا في المدن. تنوعت أطياف هؤلاء المؤيدين للثورة بين المثقفين والمتعلمين الذين يعلمون أن النظام السوري دكتاتوري بعثي إقصائي فاسد، وبين فئة كبيرة من الناقمين على نظام بلادهم داخل إيران باعتبار أن إسقاط النظام السوري سيؤثر على حليفه الإيراني وأن نجاح الثورة السورية سيسهل انتقالها إلى إيران ويسقط بالتالي حكم الملالي هناك. ورأت هذه الشرائح فيها امتدادًا للثورات العربية، كما حظيت الثورة وما تزال بتأييد واسع بين الأقليات الدينية والعرقية كالسنة الأكراد والبلوج والعرب.
كانت نسبة كبيرة من الإيرانيين مؤيدة للثورة وتحذر في الوقت نفسه من أسلمتها وإسناد زمام الأمور لرجال الدين، بحكم التجربة الإيرانية في ذلك، حيث شاركت مختلف شرائح المجتمع بالثورة عام 1979 لكن رجال الدين اختطفوها وتسلموا السلطة وأقصوا رفاق الأمس. وحين تولى معاذ الخطيب رئاسة الائتلاف في عام 2012 استاء كثير منهم من هذا الاختيار، ورأوا فيه نذير شؤم على الثورة.
وعلى الرغم من اتهام النظام الإيراني، بعد ذلك، للولايات المتحدة وإسرائيل بالوقوف وراء الانتفاضة السورية، إلا أنه كان يدرك الحاجة الماسة للإصلاح في سورية ويعرف طبيعة النظام لذلك كانت التصريحات الرسمية تشير إلى:
- ضرورة تطبيق بعض الإصلاحات
- وأن إيران تدعم أي مبادرة للحوار بين جميع الأطراف السورية،
- وضرورة حصول الشعب السوري على حقوقه المشروعة،
- واعتبار أن الحل الأمني لن يؤدي إلى نتيجة
- ومطالبة السلطات بوقف استخدام العنف ضد المتظاهرين
- وانتهاج الحوار لحل الأزمة في البلاد وأن بإمكان دول المنطقة المساهمة في حل الخلافات بين الشعب السوري وحكومته، على حد تعبير أحمدي نجاد الذي أكد في حوار مع التلفزيون البرتغالي في أيلول/ سبتمبر 2011 أن الحل العسكري ليس هو الحل الصحيح مشيرًا إلى أن الحرية والعدالة واحترام الآخر من حق كل الشعوب، وأن على جميع الحكومات الاعتراف بتلك الحقوق وتسوية المشاكل من خلال الحوار.
الحرب الناعمة
تعرف الحرب الناعمة بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلًا عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة دون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للوسائل العسكرية والصلبة، وهذا ما حصل مع الاتحاد السوفياتي حيث تم تقويضه من الداخل.
للحرب الناعمة أهمية قد تفوق الحرب الصلبة، وتقوم على استغلال مطالب الناس وترفع شعارات محببة للطرف المستهدف كالديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام والحرية والاستقرار.
يدرك الساسة الإيرانيون أهمية هذا النوع من الحرب التي بدؤوها منذ قيام الثورة الإيرانية، ويرون أن تطبيقها يحتاج إلى الكثير من الموارد والطاقات البشرية والتخطيط والتحليل السياسي لتوجيه الأحداث، إضافة إلى مراكز دراسات وأجهزة توفر المعلومات والمعطيات، وإمكانات تكنولوجية وإعلامية ضخمة ومهارات وخبرات ونفس طويل وغرف عمليات تنسق الجهود بين العناصر المختلفة.
وفي هذا الإطار عملت إيران على:
- تقديم رسائل وأفكار وشعارات سياسية وإعلامية ودبلوماسية.
- بناء علاقات وتوفير أفراد يقومون بتسويق الأفكار والتحليلات السياسية.
- تجهيز قنوات إعلامية وتواصلية.
- بناء علاقات مع كوادر إعلامية ومنظمات وشبكات إنترنت ونخب وقوى ومؤسسات عامة وقوى مجتمع مدني.
- تشكيل غرفة عمليات موحدة تنسق الأنشطة وتوزع الأدوار والشعارات وفقا لمخطط دقيق.
يعرف النظام الإيراني أن تمرير الرسائل بطريقة غير مباشرة أهم من الظهور المباشر الذي قد يسبب حساسية للشعوب.
لذلك ليس من المستغرب حرص إيران على تكوين أذرع إعلامية لها في أي بلد تستهدفه؛ حيث تلعب هذه الأذرع دورًا كبيرًا في تسويق الرؤية الإيرانية وتشكيل حاضنة شعبية لإيران.
كان النظام الإيراني يدرك حجم التأييد للثورة السورية داخل إيران ويعرف أن المؤيدين للثورة السورية ينتظرون سقوط النظام السوري، وانتقال الثورة إلى بلادهم، لذلك بدأ بحربه الناعمة مبكرًا، فحاول تدريجيًا شيطنة الثورة لإقناع مواطنيه أولًا بضرورة التمسك به وعدم التفكير في الثورة ضده.
مع نهاية العام 2011 ونجاح النظام السوري بعسكرة الثورة، وجد النظام الإيراني الذرائع المناسبة للإعلان شيئًا فشيئًا عن تأييده للنظام السوري واعتبار الثورة مؤامرة خارجية تنفذها أياد داخلية وتهدف إلى النيل من دولة محورية في محور المقاومة، وتم التركيز على ما يلي:
- الهدف الرئيس للمخطط الأميركي في سورية هو توجيه ضربة لمحور المقاومة بسبب دفاع النظام السوري عن المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
- لا تملك الاحتجاجات في سورية شرعية الثورات العربية الأخرى.
- تدعم إيران أي إصلاح لتحسين الأوضاع وتعارض التدخل الأميركي والغربي والإقليمي في الشأن الداخلي السوري.
- الحكومة السورية تبسط السيطرة على البلاد ولن يكون مصير بشار مشابهًا لمصير بن علي ومبارك.
- اتهام الثورة بالفتنة والعمالة والمؤامرة والارتباط بالخارج وهي نفس الاتهامات التي كانت قد وجهتها للثورة الخضراء فيها عام 2009 عقب الانتخابات الرئاسية.
في البداية كان النظام يذكر الإيرانيين بأنهم لا ينبغي أن ينسوا الموقف المميز لحافظ الأسد إبان الحرب العراقية الإيرانية؛ حيث وافق على إرسال أول شحنة سلاح لإيران من مطار دمشق الدولي بعد أن فرغت المخازن الإيرانية منه نتيجة الحظر الاقتصادي وحظر الأسلحة المفروض على إيران وأن على إيران وفاء هذا الدين وتقديم الدعم للأسد الابن.
وفي ذلك الوقت اعتبر الخامنئي ما يحدث في سورية حربًا بالوكالة ضد محور المقاومة ولمصلحة الكيان الصهيوني ورأى أن الحل في سورية يتلخص بالنقاط التالية:
- دعم الشعب السوري (والمقصود النظام) ومعارضة التدخل الخارجي.
- الإصلاحات يجب أن تنبع من الداخل ولا تفرض من الخارج.
- وقف إرسال السلاح للمجموعات المسلحة.
إذن تعتبر إيران سورية رأس الحربة في محور المقاومة وحليفًا استراتيجيًا لها في المنطقة. تعترف بضرورة الإصلاح في سورية، لكنها ترى أن الوضع فيها مختلف عن باقي الدول العربية التي شهدت ثورات باعتبارها دولة مقاومة وتؤكد أن بعض العوامل الخارجية تسعى لاستغلال المطالبات الشعبية وتحريكها بما يتناسب ورغبة الكيان الصهيوني بالتخلص من النظام السوري باعتباره نظامًا مقاومًا.
وتفترض الرواية الإيرانية أن رحيل النظام السوري سيجلب نظامًا على علاقة طيبة بإسرائيل.
المستشارون
حتى العام 2013 كانت إيران تخفي دعمها العسكري لنظام الأسد، فعندما قام عناصر من الجيش السوري الحر بالقبض على عدد من الإيرانيين، يعتقد بأنهم ينتمون للحرس الثوري في صيف العام 2012، زعمت إيران أن تلك العناصر غير تابعة لقوات الحرس، وأن مهمتهم ليس لها علاقة بقوات الأسد ونفت دعمها له.
شهد العام 2013 تحولًا كبيرًا في الموقف الإيراني تجاه الأحداث في سورية، وبدأ دعمها للأسد يظهر للعلن، وإن حاولت إخفاء حدود هذا الدعم وأهدافه؛ فقد أعلن محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني أن قوات “فيلق القدس” موجودة في سورية، لكنه أشار إلى أن هذا لا يعني أن بلاده تلعب دورًا عسكريًا فيها، مؤكدًا أن مهمته محصورة بتقديم الاستشارات للنظام السوري في مجال الأمن والمساعدات الاقتصادية. بعد تلك التصريحات، خرج المتحدث باسم الخارجية الإيرانية لوسائل الإعلام لينفي وجود أي دور عسكري لبلاده في سورية.
كانت إيران تريد من خلال تلك التصريحات أن ترسل للغرب رسالة مفادها أنها موجودة في سورية وأنه لا يمكن حل الأزمة السورية من دونها، وأن أي تجاهل للدور الإيراني فيها سيؤدي إلى فشل تلك المبادرات.
إذن ابتدعت إيران مصطلح المستشارين لتنفي بداية تدخلها العسكري في سورية وأن مهمة هؤلاء تتلخص في تقديم المشورة للحكومة السورية. لكن هذه الرواية ما لبثت أن تراجعت تدريجيًا بعد الإعلان عن مقتل قادة كبار في الحرس الثوري في مناطق مختلفة من سورية.
المدافعون عن الحرم
بدأ استخدام هذا المصطلح في وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية في نيسان/ أبريل 2013 بعد المزاعم بنبش جبهة النصرة قبر الصحابي حجر بن عدي في مدينة عدرا وتهديدها المزعوم بهدم حرم السيدة زينب. ومنذ ذلك الحين ظهرت مجموعات تدعي الدفاع عن الحرم لإعطاء شرعية شيعية للتدخل الإيراني في سورية. وما تزال حتى الآن تطلق هذا المصطلح على مقاتليها ومقاتلي الميليشيات التابعة لها في سورية.
انتقلت الرواية الإيرانية في هذه المرحلة لتبرير التدخل في سورية، وركزت على العنوان التالي:
- استهداف المقامات المقدسة وضرورة حمايتها.
بدأ الدعم العسكري من خلال ما سمي بـ “مستشارين عسكريين” ثم اتسع لتشارك فيه قوات من الحرس الثوري ولاحقًا ميليشيات شيعية تتبع الحرس الثوري.
وبعد أن كانت إيران تعلن أن الهدف من تدخلها هو حماية الأماكن الشيعية المقدسة في سورية، أكدت فيما بعد أن السبب الرئيس للتدخل هو الحفاظ على المصالح الإيرانية.
في شباط/ فبراير 2013 وصف رئيس مركز عمار للفكر الاستراتيجي (مهدي طائب) سورية بالمحافظة الإيرانية رقم 35، وأنها محافظة استراتيجية مهمة، وأن أهميتها تفوق محافظة خوزستان الإيرانية الغنية بالنفط؛ لأنه يمكن استرجاع خوزستان إذا فقدتها بلاده بينما لا يمكنها استعادة دمشق إذا ضاعت من أيديها وربما تخسر طهران أيضًا.
في نيسان/ أبريل 2014، قال العميد حسين همداني: “إن مصالح الثورة الإسلامية في سورية هي التي تجعل إيران تقاتل هناك” ووصفها بالدفاع المقدس، وزعم أن هناك 42 فرقة و128 كتيبة مكونة من 70 ألف شاب من العلويين والسنة والشيعة تشكل قوات التعبئة التي تتولى مهمة المحافظة على أمن المدن والقرى السورية، وأن هناك 130 ألف عنصر من قوات التعبئة الإيرانية ينتظرون السماح لهم بالذهاب إلى سورية.
وورد نقلًا عن همداني أن قرار التدخل العسكري في سورية، جاء بطلب من حسن نصر الله الذي أخبر همداني بأنه ينبغي التركيز على الجانب العسكري والأمني وإخراج بشار والنظام السوري من هذا المستنقع، مضيفًا “بعد ذلك ننظفهم ونلبسهم ونطعمهم، ونعطيهم دروسًا في العقيدة والعبادة، أما الاستراتيجية الآن فهي سحبهم من هذا المستنقع”.
يجمع المسؤولون الإيرانيون أنه لولا الدعم الإيراني المباشر للأسد، لتنحى عن السلطة في العام 2013 كحد أقصى. ويؤكد همداني أن النظام كان على وشك السقوط في ذاك العام قائلًا: “في آذار 2013، أحكم الإرهابيون الطوق على بشار وصاروا قريبين من القصر الجمهوري. قمنا بنقل العائلات إلى مكان آمن، وصار بشار يبحث عن بلد يلجأ إليه. وعندها قدمت له اقتراحًا وافق عليه ونفذه: افتح مخازن السلاح وسلح عامة الشعب. لقد أنقذ هذا الاقتراح النظام من السقوط”.
في أيار 2014 قال محمد إسكندري قائد قوات الحرس في منطقة ملاير: إن قتالهم في سورية هو قتال ضد أميركا على التراب السوري.
في كانون الأول من العام نفسه، قال رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، في مراسم تشييع الجنرال حميد تقوي: “لقد ضحى تقوي بدمه حتى لا نقدم دماءنا في طهران، ولو لم يقدم أمثال تقوي دمهم في سامراء، كان سيتوجب علينا تقديم دمائنا في المدن الإيرانية”.
في شباط/ فبراير 2016 وصف خامنئي القتال الدائر في سورية بأنه “حرب الإسلام على الكفر”، مشيرًا إلى أن باب الشهادة قد فتح من جديد بعد إغلاقه عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، مؤكدًا أنه “إذا لم يذهب الشباب للقتال في سورية ويقاتلوا هناك، فإن العدو سيهاجم إيران ويستهدف مدينة كرمانشاه وغيرها من المناطق الحدودية”.
وفي آذار/ مارس من العام نفسه، أعلن منسق القوات البرية في الجيش الإيراني انضمام قوات برية خاصة من بعض الألوية الإيرانية للقتال في سورية.
يقدر محللون غربيون عدد القوات الإيرانية المقاتلة في سورية بـ 16 ألف مقاتل، فضلًا عن سيطرتها على 60 ألف شيعي من ميليشيات متعددة الجنسيات، إضافة إلى حزب الله.
وعلى الرغم من تأكيد إيران أن عدد قتلاها في سورية لا يتجاوز 1500، إلا أن المؤكد أن العدد أكبر من ذلك بكثير.
في العام الماضي نُقل عن خامنئي قوله: إن سورية مريضة ولا تعرف أنها مريضة وينبغي إجبارها على تعاطي الدواء.
وفي العام الماضي أيضًا، زعم قاسم سليماني أن تدخل إيران في سورية حال دون تأسيس (داعش) والمجموعات التكفيرية دولة لهم في سورية، ووأد الفتنة المذهبية التي كانت ستحصل لو استلم أولئك الحكم، وفجروا الأضرحة، ولحلت فظائع كبيرة بالعالم الإسلامي.
ورأى أن هدف المؤامرة تفتيت جبهة المقاومة بإسقاط النظام السوري، وقيام حرب مذهبية وإشغال النظام الإيراني بمشاكله لئلا يتوجه إلى إسرائيل. مشيرًا إلى محاولات السعودية إبعاد النظام السوري عن إيران حتى ما قبل الثورة.
وزعم أن العالم أصبح يدرك اليوم ضرورة بقاء النظام السوري في السلطة لمحاربة الجماعات الإرهابية، وأن السنة العراقيين الذين كانوا يشككون بالتدخل الإيراني يعترفون أنه لولا دفاع إيران عن النظام العراقي لاستولت (داعش) على المنطقة بأكملها.
ونفى تهمة الطائفية عن النظام السوري منتقدًا عدم منح حقوق كاملة للمواطنين الشيعة في دول الخليج، زاعمًا أن السنة والمسيحيين والدروز السوريين يمسكون ب 98 في المئة من المناصب وكل الفئات ممثلة في النظام، وأن الأقلية العلوية التي تشكل 25 في المئة من السوريين لا تتولى أكثر من 10 في المئة من المناصب. وادعى أن 98 في المئة من الجيش السوري بما فيهم وزير الدفاع والضباط القادة وحتى الرتب الدنيا من السنة.
بعد التدخل العسكري الروسي، بدأت إيران بتغطية أخبار قتلاها في سورية، وكان معظم هؤلاء من الأفغان المقيمين في إيران الذين تقدم لهم السلطات إغراءات وحوافز كبيرة للقتال في سورية تحت لواء كتائب “فاطميون”. وفي لقائه مع عائلات القتلى الأفغان أكد خامنئي أن: “لهذه العائلات دينًا في عنق الإيرانيين، فقد قتل أبناؤهم دفاعًا عن حريم آل البيت في سورية والعراق، وواجهوا أعداء إيران في الخارج، ومن دون هذه المواجهة كان يمكن لهؤلاء الأعداء الدخول إلى إيران، وإن لم يقفوا بوجههم في سورية والعراق فإن إيران كانت ستضطر لمحاربتهم في كرمانشاه وهمدان وبقية المدن. هؤلاء الشهداء قدموا أرواحهم دفاعًا عن إيران والإيرانيين والثورة الإسلامية”.
ولا يغيب الجانب العقائدي عن الموضوع، حيث يعتقد المتشددون الإيرانيون أن الإمام المهدي سيظهر في هذه المنطقة، وأن مهمتهم التحضير لظهوره، وأن الحرس الثوري من أدوات بناء الأرضية للظهور، وأن سورية ميدان أساسي في مسار الظهور، وأن الاحتلال الأميركي للعراق جاء لمواجهة المهدوية.
المكونات الرئيسية للرواية الإيرانية
بعد ظهور (داعش) في المشهد وسيطرتها على مساحات واسعة من سورية والعراق، وجدت إيران الفرصة الذهبية لزيادة التدخل وتقديم نفسها للعالم محاربًا للإرهاب، وتركزت روايتها في هذه المرحلة على ما يلي:
- التركيز على (داعش): تركز الرواية الإيرانية على (داعش) وأفعاله لتبرير تدخلها في سورية، وتزعم أن (داعش) هو العدو الرئيس للأسد العلماني المتمدن، ولا تتحدث عن أن المعارك بين النظام والتنظيم محدودة للغاية وأن (داعش) كان حتى وقت قريب في منأى عن قصف قوات النظام.
ولا تركز وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية داخل إيران، وإلى حد بعيد وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية خارجها، سوى على جرائم (داعش) والمجموعات المتشددة وتعمل على تضخيمها وتفرد لها مساحات واسعة من التحليل والنقاش. وتفسح كثيرًا من المجال لعرض جرائم (داعش) الوحشية التي تُصوّر بكاميرات محترفة، وتُبث كتكتيك حربي لصناعة الرعب.
- التركيز على التدخل الخارجي: من خلال التأكيد أن ما يحدث في سورية هو مؤامرة خارجية تستهدف نظام الأسد، بسبب مواقفه المعادية لإسرائيل، وتركز على علاقات المعارضة بأميركا والغرب، ولا ترى في التدخل الإيراني والروسي تدخلًا خارجيًا بل هو تدخل مشروع؛ لأنه جاء بطلب من الحكومة الشرعية السورية، وتضفي عليه طابعًا إنسانيًا وتشيطن تدخل القوى الأخرى.
- مكافحة الإرهاب: يلقى هذا الشروع استحسانًا في الأوساط الإيرانية؛ بحكم أنه يبرر التدخل في الدول الأخرى وأن المقصود بالجماعات الإرهابية عمومًا هو الجماعات السنية ولا يتطرق للميليشيات الشيعية المنضبطة. أصبحت إيران تستخدم اللغة نفسها التي يستخدمها العالم في شأن الإرهاب، وعلى الرغم من معارضة إيران لأميركا وللتحالف الدولي لمحاربة (داعش) إلا أنها تتعاون معه لإحكام السيطرة على العراق وسورية.
تمكن النظام الإيراني من إقناع مواطنيه بأن التكفيريين على مقربة من حدود إيران، وأن الأمن القومي الإيراني مهدد، ولا بد من مواجهة التكفيريين في سورية والعراق منعًا لوصولهم إلى إيران. وأقنعهم أن ما يجري في سورية والعراق سيغير وجه المنطقة، ويجب أن يكون لإيران دور في ذلك.
الحقائق المغيبة في الروايات الإيرانية
- لا تتحدث الرواية الإيرانية عن سنتين من المجازر التي ارتكبها النظام وميليشياته بحق المدنيين قبل ظهور (داعش)، ولا تتطرق إلى الشهور الست الأولى من المظاهرات السلمية التي خلت من مظاهر العنف على الرغم من محاولة النظام جرّها إليه منذ الأشهر الأولى.
- لا تتحدث عن القتال المستمر بين (داعش) والمعارضة السورية المسلحة وأن تقدم التنظيم جاء على حساب المعارضة وليس النظام.
- لا تذكر أن عدد المدنيين الذين قتلوا على يد (داعش) لا يساوي 2 في المئة مما ارتكبته قوات النظام السوري وميليشياته.
- لا تتكلم عن عدد الضحايا المدنيين الذين قتلتهم قوات النظام والذي يبلغ أضعاف كافة ضحايا المجموعات الأخرى المتورطة في الحرب.
- لا تتطرق إلى الحصار الذي تفرضه قوات النظام والمليشيات المقاتلة معه على عشرات الألوف من السوريين ومنع وصول الغذاء والدواء.
- لا تذكر شيئًا عن التعذيب في سجون الأسد، ولا عن الخطف والاغتصاب والابتزاز، ولا يرد فيها ذكر للبراميل المتفجرة ولا إشارة من قريب أو بعيد لاستخدام الأسد للأسلحة المحرمة دوليًا، ولا تتعرض لسياسة التهجير الديموغرافي الذي ينتهجه النظام وحلفاؤه.
- تغيب عنها تمامًا كافة الجرائم المرتكبة على يد النظام وميليشياته.
- لا تشير إطلاقا للغارات المنظمة والممنهجة على المشافي والمراكز الطبية من قبل مقاتلات الأسد وروسيا.
- لا تتحدث عن انشقاق ضباط، بعضهم من ذوي الرتب العليا من الجيش السوري، وتشكيلهم الجيش السوري الحر للحفاظ على مناطقهم، ولا تشير إلى مسؤولين في الحكومة قرروا التخلي عن النظام والالتحاق بركب الثورة، وإن هي اضطرت إلى الإشارة إلى ذلك، فالتبرير جاهز بأن هؤلاء خونة تسلموا أموالًا من السعودية وقطر وتركيا وإسرائيل للقيام بذلك.
- تركز على احتمالية وصول المساعدات الإنسانية التي ترسلها بعض الدول إلى يد المجموعات المسلحة المتطرفة.
- يغيب الناشطون في المجال الطبي، الإعلامي، المدني وناشطو حقوق الإنسان السوريون والمجالس المحلية التي شكلت لإدارة المناطق المحررة عن عيون الإعلام الإيراني ولا أثر لهم في التحليلات والأخبار الفارسية.
- لا تتناول مئات تقارير المصادر المستقلة، كمنظمة العفو الدولية، مرصد حقوق الإنسان، الهيئة العليا لحقوق الإنسان التابعة للأم المتحدة، الصليب الأحمر الدولي، منظمة أطباء بلا حدود وعشرات مراكز الأبحاث ومراكز رصد الحروب التي تدين الأسد وإن أجبرت للإشارة إلى بعضها تعمل على تشويهها والتشكيك بمحتواها وبالقائمين عليها.
- تخفي عن الشعب الإيراني حقيقة أن صورة بلادهم وسمعتها قد أصبحت في الحضيض بين العرب والمسلمين، وأن العداء لها ربما يتجاوز العداء لإسرائيل.
- ولا يدرك المواطن الإيراني السبب في تعاطف المواطنين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام مع المجموعات الإسلامية بما فيها المتطرفة أحيانا ويلقب كل هؤلاء بالسلفيين والتكفيريين.
- ولا يعلم أن الثوار رفعوا شعار “الله سورية حرية وبس” مقابل شعار البعث “الله سورية بشار وبس” وتخفي الرواية الرسمية الشعارات التي أطلقها أتباع النظام مثل “لا إله إلا بشار”.
لم تؤثر هذه الرواية بالمواطن البسيط فقط، بل وصل تأثيرها إلى طبقة النخبة، حيث ترى هؤلاء يخوضون في حلقة مفرغة من الأخبار والتحليلات الكاذبة ويصدقون رواياتهم.
اقتنعت غالبية الشعب الإيراني بالرواية الرسمية للأحداث في سورية ومن أسباب هذه القناعة:
- عزلة الإيرانيين بسبب عدم معرفتهم لغات أجنبية تمكنهم من الاطلاع على مجريات الأحداث من قنوات غير ناطقة بالفارسية. بالتأكيد هناك كثير من القنوات التي تبث بالفارسية من خارج إيران وتحديدا من أميركا وبريطانيا، لكن أكثر هذه القنوات تبنت رواية شبيهة إلى حد بعيد بالرواية الرسمية للنظام الإيراني والسوري.
- العداء الثقافي للأجانب بشكل عام.
- عدم الثقة نسبيًا بوسائل الإعلام الأجنبية.
- تأثر طيف واسع منهم بالأحكام العرقية والدينية المسبقة.
نتيجة هذه الحرب الإعلامية المركزة التي حشدت لها أفضل الطاقات، ووظفت فيها أفضل الخبرات، وأنفقت عليها كثيرًا من الأموال، نجحت إيران، إلى حد كبير، في حربها الناعمة وتمكنت إلى حد بعيد من تسويق روايتها للأحداث؛ ونتيجة لذلك تراجع التأييد الشعبي الإيراني للثورة السورية تدريجيًا منذ العام 2012، ومع ذلك بقيت أصوات خافتة رفضت الرواية الرسمية للأحداث السورية، وطالبت الحكومة بمراجعة مواقفها من سورية، وحذرتها من الوقوف في وجه إرادة الشعوب، وأكدت أن إصرار النظام السوري على إطلاق مسمى الفتنة على الاحتجاجات هو في الحقيقة تمهيد لفتنة كبرى تؤذن بتدخل أجنبي في سوري.
وانتقدت بعض الأصوات الجنرال سليماني والتدخل العسكري في سورية، ورأت أن إيران والحرس الثوري من ضمن المشاركين بارتكاب جرائم حرب هناك، ودعت النظام إلى الخروج من سورية، وعدم دعم بشار الأسد، وترك الأمر الشعب السوري ليقرر مصيره بنفسه.
لكن هذه الأصوات بقيت ضعيفة، وانتصر النظام الإيراني داخليًا في حرب الروايات في سورية، وتمكن من تقديم روايته عن هذه الحرب لمواطنيه، ومن أسباب نجاحه في ذلك:
- خبرته في الرقابة على المعلومات والمنافذ الإعلامية.
- توفر شبكة واسعة من ضباط الحرب الناعمة والجيوش الإلكترونية.
- اللعب بمهارة على وتر المشاعر الدينية والعرقية والتوجهات القومية.
حاليًا يهاجم المجتمع الإيراني بقوة وكراهية أولئك الذين يرفعون أصواتهم برواية مختلفة.
في أيلول/ سبتمبر 2013 حين أطلق هاشمي رفسنجاني، في أثناء خطاب له في إحدى المدن، على بشار صفة المجرم الذي يضرب شعبه بالكيماوي ويعرضهم للتعذيب والقتل، هوجم بشدة بحيث اضطر إلى إنكار تصريحاته على الرغم من أنها موثقة بالكاميرات.
بحسب أحد استطلاعات الرأي يبرئ الإيرانيون بشار من مسؤولية الأزمة، ويعتقد 77 في المئة منهم أنه لم يتسبب بالأزمة إطلاقا، كما يؤيد نحو 70 في المئة منهم إرسال قوات عسكرية لدعم الأسد.
ويحظى قاسم سليماني بشعبية كبيرة بين الإيرانيين، ويوصف بالبطل، ويُشبّه اليوم بالشخصيات الأسطورية، ويتنافس المثقفون والفنانون في تمجيده ومدحه؛ فهو بالنسبة للمتدينين المدافع الأول عن المراقد الشيعية ومصالح الشيعة والمقاوم الشرس لإسرائيل، ويرى فيه أصحاب التوجه القومي وغير المؤمنين بالجمهورية الإسلامية المقاتل في جبهات يغلب عليه التطرف، ويمنع وصول خطره إلى إيران.
خارجيًا: لا شك أن هذه الرواية أصبحت ضعيفة جدًا، عند غالبية العرب والمسلمين، إلا أنها ما تزال تخدع طيفًا واسعًا من أبناء المنطقة، وما يزال قطاع من هؤلاء مقتنعًا بالرواية الإيرانية المقاومة لإسرائيل وأميركا والمدافعة عن فلسطين والشعب السوري والعراقي. ونجحت في تسويق روايتها عالميًا بأنها دولة معتدلة تحارب التطرف والإرهاب المتمثل في (داعش)، وأنها جزء من الاستقرار في المنطقة وليست سببًا رئيسًا في أزماتها.
صحيح أن صورتها قد تشوهت، عند غالبية العرب والمسلمين، فبحسب إحدى الإحصائيات رأى 82 في المئة من العرب أن صورة إيران أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل الربيع العربي. ورأى 78 في المئة من العرب أن مواقفها من الثورات العربية كانت سلبية، إلا أنها خلقت شرخًا كبيرًا في المجتمعات العربية، وأصبحت تحظى بشعبية أكبر بين أولئك الذين يرون في أنفسهم شيعة قبل كل شيء، حيث تحاول أن تظهر بمظهر المدافع الوحيد عن الشيعة ضد أعدائهم.
يبدو أنها اضطرت للابتعاد عن سياسة الوحدة الإسلامية التي أطلقها الخميني ولم تعد تحلم بقيادة العالم الإسلامي بل يكفيها حمل لواء زعامة الشيعة في العالم، ومن هنا أطلق عليها بعض المعارضين مسمى “جاعش” أي الجمهورية الإسلامية لعموم الشيعة.
ترى إيران أن من حقها مناصرة الشيعة في الدول العربية وتطالب بحقوقهم وتعترض على اضطهادهم، لكنها تستاء كثيرًا من المطالبات بمنح مواطنيها السنة مزيدًا من الحقوق وتعدّ ذلك تدخلًا سافرًا في شؤونها الداخلية.
وهي تستغل التوتر والاختلاف المذهبي وتوظفه في خدمتها.
صار لإيران الشيعية أعداء كثر، لكنها كسبت أصدقاء أشداء أيضًا. يستغل الحرس الثوري اللاجئين الأفغان والشيعة البسطاء في أفغانستان والباكستان والعراق و… ويرسلهم كي يقاتلوا إلى جانب الأسد؛ كي لا تتعرض القوات الإيرانية لضربات مباشرة ولا يظهر أثر إيران بشكل كبير.
منذ اللحظة الأولى كان الحفاظ على بشار الأسد هدفًا رئيسًا لإيران باعتباره حليفًا استراتيجيًا في المنطقة. تحولت فيما بعد إلى منافسة القوى الكبرى في سورية، وتحاول الآن تأمين مصالحها هناك.
أدركت إيران، بعد دعمها اللامحدود للأسد، أن سقوطه يعني فقدها أحدَ أهم أوراقها الاستراتيجية في المنطقة، ولا سيما أنها قطعت كل السبل لإمكانية قبول المعارضة بها، وبالتالي من المستحيل إقامة أي نظام جديد في سورية علاقات مع النظام الإيراني بمستوى العلاقات القائمة في ظل نظام الأسد.
كان الإيرانيون يرون أن الحرب ستكون قصيرة، وأن الثوار ضعاف، وأنهم سيتخلصون منهم بسرعة حيث أكد مدير الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات السياسية والدولية في وزارة الخارجية الإيرانية أن بلاده أخطأت وتورطت في سورية، وأن كانت تعتقد بأنها ستحقق أهدافها خلال فترة قصيرة.
في الوقت الحالي هناك أصوات داخل النظام بدأت تشير إلى خطأ الاستراتيجية الإيرانية في سورية.
لا بد أن إيران ستدرك أنها أخطأت في سورية لكن بعد فوات الأوان. بعد أكثر من 25 عامًا على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، اعترف كثيرٌ من السياسيين الإيرانيين أن بلادهم أخطأت بإطالة أمد الحرب وأنهم يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية بخلق ذرائع لصدام بشن حرب عليهم.
نجحت إيران بتسويق روايتها على الداخل الإيراني، لكن هذا النجاح مؤقت ومرحلي فضلًا عن أنها أخفقت إخفاقًا ذريعًا عند الشارع العربي؛ فتغيرت صورتها في أذهان المواطنين العرب ولم تعد تلك الدولة المدافعة عن المستضعفين، وتسببت بصراع مذهبي لا تُعلم عقباه. لا ينبغي أن ننسى أن هذا الحضور الإيراني الواسع في المنطقة يأتي نتيجة للفراغ والفوضى في الدول العربية، وما كان له أن يحصل لولا غياب مشروع عربي فاعل لمواجهتها.
*باحث في مركز الدراسات الإيرانية في أنقرة- محاضرة ألقاها يوم 12/05/2017 في ندوة نظمها فرع مركز حرمون للدراسات المعاصرة في غازي عنتاب التركية، بعنوان”مستقبل الشرق الأوسط في ظلا الاوضاع الراهنة”.