كنتُ قد عايشت، أواخر الثمانينيات، المرحلة الأخيرة من تصدّع المجتمع السوفياتي المحكوم بنظام شمولي تام، بما في ذلك حالة إنسانه البائسة، كحطام إنسان، وكيف كان يعاني حالة فصامية، بسبب الهوّة بين ما يُقال في وسائل الإعلام وما يعايشه المرء في الواقع. وللتعمّق في معرفة التفاصيل، عملتُ، بعد أن أنهيتُ فترة دراستي التخصصية، مدة ثلاثة أشهر كعتّالٍ أقود عربة محمّلة بلفّات القماش، لأوزعها على عاملات التفصيل في معمل نسيج يعمل فيه الآلاف، من أجل التعرُّف على العلاقات الاجتماعية في سياق العملية الإنتاجية، والتفاعل بين السياسة من “فوق” والسياسة من “تحت”.
ومع أن الحديث عن مختلف جوانب هذه التجربة يطول، وليس مكانه في هذه العجالة، فقد كان من الملاحظ أنّ الناس يهربون من الحياة البائسة والرتيبة، إلى الأحلام مستحيلة التحقق، مطاردين ببقايا تجربة استبداد شمولي تام، حددت لهم نمط حياةٍ أفقَر أرواحهم؛ فهربوا إلى السُّكر لمجرد السُّكر، وإلى القراءة لمجرد القراءة، وإلى ملذات أخرى بلا طعم. ومن نجا منهم من عسف العقيدة الشيوعية وأصنامها، لجأ إلى الطبيعة البكر، كملاذ وحيد، في بلدٍ تحوّل إلى سجن كبير من شعاراتٍ تلامس حدود الكوابيس.
في كل الأحوال، عمِل النظام الشمولي التام في الاتحاد السوفياتي، وغيره من الأنظمة المشابهة، على توحيد الناس وقهرهم بالدرجة نفسها، باستثناء فئةٍ حاكمةٍ ومن يعمل في خدمتها؛ فئة تنعّمت بأفضل منتجات الرأسمالية “العدوّة”، وانتظرت انهيار الدولة الهشة، لتشتري مؤسساتها المتهالكة بأبخس الأثمان، ولتعمل وفق أكثر حالات الرأسمالية بدائيةً؛ أي بصيغتها المافيوية.
في مقابل النظام الشمولي التام، نشأت في أثناء الحرب الباردة أنظمة مستبدة بشمولية أقلّ، في ما أُطلق عليها بلدان العالم الثالث، كما في بعض البلدان العربية ومنها سورية. ومع أن الاستبداد هو ذاته في الحالتين، فقد اختلفت طريقة تعامل السلطة المستبدة في الحالة الثانية، مع المجتمع متباين الثقافات، فلم تقمعه على نحوٍ متساوٍ، كما فعل النظام الشمولي المكتمل أو التام، وفضّلت التلاعب بمكوناته والتحكم فيها، وذلك لصعوبة مواجهة الإرث الديني العريق بأي أيديولوجية من خارج المجتمع التقليدي، فكان لا بدّ من التحالف معه ومهادنته، مع بعض الحذر. يمكن توصيف مثل هذا النظام الشمولي بأنه غير مكتمل أو ناقص.
فبينما يقوم النموذج الشمولي التام بتعميم الاستلاب والقهر على كامل المجتمع، ما يساعد في توحيد الناس في مواجهته ووضوح التخوم بينهم وبين المستبدين بهم، يعمل النموذج الشمولي الناقص على توزيع القهر بصورة لا متساوية، ويضع حدودًا بين الجماعات وداخل كل جماعة، تبعًا لدرجة القرب أو البعد من السلطة، ما يترك شروخًا أكبر وجروحًا غير مندملة تتخلل بنية المجتمع برمتها. يُفضي ذلك إلى اختلاف الناس حول سلطة النظام الشمولي الناقص، تبعًا لمصالحهم أو مخاوفهم، وصعوبة الانتقال إلى النظام الديمقراطي أو مقدّماته في هذه الحالة، في حين تكون عملية الانتقال هذه أكثر سهولة في الحالة الأولى؛ أي حالة النظام الشمولي التام.
فقد اتصفت الشمولية الناقصة التي حكمت في بلدان الاستبداد العربية، على رأسها توأم البعث في سورية والعراق، في أنها عبثت بالبنى الاجتماعية والاقتصادية، حيث ربطتها بمركز السلطة أو أبعدتها عنها، تبعًا للحاجة إليها أو لدرجة ولائها. ووصل العبث إلى ذات الفرد، وتمثّل بحالة فُصامية يداري من خلالها الفردُ القهر والخوف، ويدعي خلاف ذلك، حفاظًا على ما تبقى من كرامته، أو أنه يتماهى مع تعسُّف السلطة إلى درجة التصفيق لسياسات إذلاله. من جهة ثانية، مسخت الشمولية الناقصة التراث الثقافي الشعبي، وأحيت جانبه الديني بصورة مشوّهة، وعملت على تنميط الإنسان كمستهلك للشعارات العقائدية وأكاذيب المؤسسات الإعلامية، فصار يعادي ويحابي بعيدًا عن مصالحه الملموسة.
فالإنسان هو مُنتَجٌ لنظامه السياسي، على العموم، وهو ضحّيته أيضًا في حالته المستبدة، وقليل من الناس من يستطيع أن يعيد تشكيل ذاته لإحداث فرقٍ ما، يفسح المجال لشخصيته أن تتجاوز عتبتها التقليدية وتكتسب قيمًا معرفية وثقافية مغايرة، وهي عملية صعبة التحقق في أي نظام شمولي، ولو بدرجات مختلفة. بغير ذلك، لا تعدو التباينات بين شخصٍ وآخر في ظلّ الاستبداد أكثر من كونها مجرد اختلافات بيولوجية شكلية، لها امتدادات في آليات التفكير أيضًا، حيث يصعب على الفرد، من خلال هذه الآليات، الوصول إلى فضاء الإنسانية وتبنّي القيم الكونية.
والتفكير هنا ليس تفكيرًا بالمعنى الخلاق للكلمة، إنما مجرد إعادة ترتيب لما هو متداول من قوالب لغوية عتيقة مصقولة كحجارة النهر وفقيرة بالمعاني، ولا يملّ الفرد من تكرارها واجترارها، بحكم العادة، لتساعده في الاندماج والتعايش مع الجماعة، طالما أن الدولة تشكلت كمسخ دولة، فتحكّمت ولم تحكم، ولم ترتقِ إلى دولة القانون.
من خلال ما سبق، يمكن مقاربة سلوك الإنسان السوري، كسلوك يعوّض فيه عن استلابه بفرديةٍ متطرفة، وقد عمل النظام الشمولي غير المكتمل والدولة الشكلية على عدم اندماجه في جماعة وطنية حديثة، وسهّل ذلك التحاقه بأي سلطة تقليدية أخرى، عند زوال سلطة الدولة المستبدة أو ضعفها، كما يفسّر ضعف مفهوم الحرية لديه أو حتى غيابه، بالمعنى الواسع لمفهوم الحرية.
لقد عملت التركيبة السياسية الاجتماعية الاقتصادية المعقدة التي خضع لها الفرد السوري على إحداث شرخٍ عميق في ذاته، وعلى إبعاده عن مجالات التصنيف الكلاسيكية، كحالة خاصة تتطلب مزيدًا من الدراسات والأبحاث النفسية والاجتماعية، ما قد يساعد في إعادة بناء شخصيته والحيلولة دون وقوع الأجيال الجديدة في المأزق ذاته، من خلال تغيير الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة.