تُعدّ إشكالية الدول الوطنية من أكثر الإشكاليات التي استطالت في دول المنطقة العربية؛ فهي دول لها شكل سياسي مكتمل ودساتير وسلطات، ولكنها لا تمتلك أساسيات الدول الوطنية التي أقيمت عليها هذه الدولة في العالم الحديث. إنها سلطة أمر واقع، مؤسساتها السياسية والقانونية مجرد حبر على ورق، وهي أيضًا على الضد من إرادة شعوبها، ومصدر السلطة فيها عسكري أو عشائري أو طائفي، إضافة إلى أن لها باعًا طويلًا في ممارسة السياسة تجاه شعوبها، إما عن طريق السياسة الاستعمارية التقليدية “فرّق تسُد”، وإما عن طريق الاستقواء الأمني والعسكري، أو التقسيم الأيديولوجي للمجال السياسي للدولة، وإما عبر كل تلك الطرق مجتمعة.
لا يزال مفهوم “الدولة الوطنية” في منطقتنا سيئ الصيت؛ لأن دول المنطقة ظهرت في تاريخنا الحديث بعد الحربين العالميتين، على إثر تقسيم المنطقة من قبل الإمبراطوريات الأوروبية المتصارعة في ذلك الحين، وأتت تلك الدول على الضد من رغبة التوجهات الإسلامية في إحياء مشاريع الجامعة الإسلامية. يضاف إلى ذلك أن هذه الدول، بعد برهة من نشأتها، بعد الاستقلال، سرعان ما استولت عليها سلطات عسكرية وعشائرية، لم تحاول بناء دولة وطنية حديثة تستمد شرعيتها من الشعب والمصالح العليا للوطن، وحرّمت الحريات، وضربت بمبادئ المساواة والعدالة عرض الحائط. أي إن هذه الدولة الوطنية لم تحاول أن تبني دولة وطنية، إذا جاز التعبير.
حتى إن تلك الدول قدّمت نفسها، في بعض الأقاليم الجغرافية العربية، ولا سيّما بلاد الشام والمغرب العربي ومصر، على أنها كيان مؤقت، ريثما يتم ترتيب الأمور لبناء الدولة القومية العربية المنشودة. وهذا يعني أن السلطات أيضًا -وكذلك الشعوب- لم تكن مقتنعة بهذه الدولة، ولكن لكل طرف حساباته الخاصة.
ولكن، لماذا بقيت الدولة الوطنية العربية تستند إمّا إلى مشروعية قومية ثورية (سورية، العراق، ليبيا..) وإما إلى مشروعية دينية إصلاحية (السعودية..)، ولم تطور نفسها للحصول على مشروعية مجتمعية؟! ولماذا حرصت على إنتاج وعي سياسي لا يعطي حقوق الفرد ومصالح المجتمع أي دور يذكر في أيديولوجيتها السياسية؟ على الرغم من أن هذه المبادئ الأساسية هي التي أقيمت عليها الدولة الوطنية الحديثة. وهذا يستدعي وضع طبيعة وتكوين الدولة العربية على محكّ التحليل لفهم وضعها التاريخي.
نقول هذا الكلام، لأن الثورات عبر التاريخ، ومنها ثورات الربيع العربي، تأتي كنوعٍ من الاحتجاج على الكيان السياسي القائم، وذلك الكيان -في الحالة العربية- هو الدولة القائمة في سورية ومصر وتونس وليبيا واليمن والعراق والسودان وغيرها. الربيع العربي هو احتجاج مباشر وصريح على الدول، بشكلها الحالي، ومحاولة لإعادة بناء المبادئ والأسس التي تعتقد تلك الثورات أن على الدولة الاستناد إليها.
في سورية ومصر وليبيا وتونس وغيرها من دول الربيع العربي، انتفض الناس على الدولة القائمة، بكل فسادها وطغيانها. وفعل الانتفاضة ينطلق من الشعور بالمهانة وقلّة الكرامة، أولًا وقبل كل شيء. الكل يعرف أن هذه الدولة الوطنية بعيدة كل البعد عن قضايا المواطن، وغير مهتمة بحقوقه وأوضاعه المعيشية، ولا تقيم أي وزن له، بل هي تؤسس لنفسها عبر قمعه وإخافته وإذلاله وسرقته وتهميشه، ولذلك انتفض عليها.
حتى دساتير تلك الدول وقوانينها ومؤسساتها السياسية ليس لها من همٍّ سوى ضبط الجميع وتقييدهم بشبكة من القوانين (أشهرها قوانين الطوارئ التي استمرت في بعض الدول لقرابة نصف قرن، والنسخة الجديدة تسمى قوانين مكافحة الإرهاب)، هي موجهة ضد الناس لا لخدمة مصالحهم، وهي المهمة المفترضة لهذه القوانين والمؤسسات.
كل السوريين يعرفون أن أجهزة الدولة الأمنية موجودة للتجسس عليهم، لا على “إسرائيل”، وأن الجيش الوطني هو لحماية النظام، لا البلاد، وأن تلفزيون الدولة هو لغسيل أدمغتهم، وأن مجلس الشعب لا يمثل الشعب، ولا يعنيه الشعب لا من قريب ولا من بعيد. حتى النقابات والاتحادات والأحزاب موجودة لكي تمنع ظهور نقابات وأحزاب حقيقة، وهي موجودة من أجل إفراغ المجال السياسي العام من أي معنى حقيقي، وملئه ببروباغندا النظام، وبلغت تلك الكيانات درجة نسيت عندها حتى مبرر وجودها بالأصل (عدائية النقابات السورية لأعضائها لافتة للانتباه في تاريخ سورية السياسية الحديث، حتى إن رئيس إحدى الروابط الفلاحية في محافظة الرقة هدد الفلاحين ذات مرة بأنه سيطالب بسجنهم، إذا لم يدفعوا الأقساط المترتبة عليهم، بعد مطالبتهم بتقسيطها بسبب ارتفاع أسعار المحروقات).
هي دولة ليست من أجلهم، ولا يشعرون بالأمان معها. بل إنهم لا يشعرون بأنها دولتهم بالأصل. والنظام/ الدولة يعرف أن الناس يعرفون هذا الأمر، ولذلك يلوذ وراء العقائد والأيديولوجية ليرفع نفسه فوق الناس. الدولة الوطنية العربية لا تستطيع أن تستمر بدون أيديولوجية أو عقيدة توجه الناس باتجاهها. والعقيدة -سواء كانت قومية أو إسلامية أو غير ذلك- تحلّ محل المصالح العليا للناس، بحيث تبرّر الدولة نفسها أمام الناس، وتبرر أيضًا سبب عدم اهتمامها بمصالحهم، إنها بكل بساطة منشغلة بما هو أهم بالنسبة إليهم: أحلامهم السياسية ومواجهة الأعداء المتربصين. حتى وعي الناس السياسي بلع الطعم، وأخذ يتوجه باتجاه العقائد وليس الواقع الاجتماعي المعيش.
لم تكتفِ الدولة الوطنية العربية بملء المجال السياسي العام للمجتمع بالعقائد المجردة والأيديولوجيات البعيدة عن الواقع المعاش، بل لجأت إلى استراتيجية مساعدة: إثارة المخاوف بين الكيانات ما تحت الوطنية (الطوائف، الأقليات، المذاهب الدينية، القوميات..). وفي هذا الإطار، تأتي حساسية السلفية من مذاهب التصوف في السعودية، ومحاولات حسني مبارك لتخويف الأقباط على أنفسهم في مصر، ومحاولات النظام السوري بإيهام الأقليات بأنه يقوم بحمايتهم من التطرف السنّي، وفي العراق تكاد الميليشيات الطائفية تكون أقوى من الجيش الوطني نفسه.
الإستراتيجية القديمة/ الجديدة للدول الوطنية العربية هي الاستعانة بالخارج لضبط الداخل. الاستعانة بدول قوية أو تحالفات دولية أو معاهدات بقصد الاستقواء على الداخل وتخويفه، وقمعه إذا احتاج الأمر إلى ذلك. فدولة البحرين، مثلًا، ترمي بنفسها بأحضان السعودية، بغية الاستقواء على مواطنيها الشيعة، كذلك التحالف الاستراتيجي بين النظام السوري ونظام الملالي في طهران موجه بالدرجة الأولى ضد السوريين، حتى إن غالبية السوريين كان يعي ذلك من قبل الثورة والتدخل الواسع للميليشيات الإيرانية في سورية. الحلقة الجديدة في مسلسل الاستقواء بالخارج لإحكام السيطرة على الداخل هي عودة الدول الوطنية العربية إلى توقيع معاهدات سلام وتطبيع مع إسرائيل، والبداية الجديدة كانت قبل أيام بالبحرين والإمارات العربية المتحدة.
الدولة الوطنية العربية خائفة على مستقبلها، والأموال الطائلة التي تدفعها للسيطرة على المجال العام عبر الإعلام يبدو أنها لا تكفي، والناس لم تعد تقنع بما تقوله وسائل الإعلام تلك. وتشير تطورات الأوضاع في العالم العربي إلى أنه ليس هناك أي نظام آمن بشكل كامل من الانتفاضات. الدرس السوري يقول إن الاستقواء بالخارج أمرٌ يساعد كثيرًا في مواجهة الانتفاضات المحتملة، والدعم الأميركي قد يصل إلى حد ترك تلك الدول تفعل ما تشاء بشعوبها، ولو وصل الأمر إلى استخدام الأسلحة الكيمياوية. طبعًا حكام الدول العربية الوطنية يعرفون أكثر من غيرهم أن “إسرائيل” هي مفتاح أميركا في المنطقة. ولذلك كان التطبيع مع “إسرائيل”، على الرغم من أن تقارير مراكز البحوث تشير، بوضوح، إلى أنه ليس هناك أي مصالح وطنية للدولتين في معاهدات التطبيع، بل إن نتنياهو أذلّ الدولتين المذكورتين قبل كتابة الاتفاقات، ورفض أن يتعهد بتجميد الاستيطان بشكل واضح. أي إنه غير مهتم حتى بحفظ ماء وجوههم أمام شعوبهم.
بالنسبة إلى النظام السوري، فإن أمر مدارة “مصالح إسرائيل”، وعدم تهديد أمنها، أمرٌ جوهري لاستمراره في السلطة، لأنها تستطيع أن تُنهي أمره إذا شعرت بأنه يهددها. حتى إن عددًا كبيرًا من السوريين يعتقد أن النظام السوري طبّع العلاقات مع “إسرائيل” منذ زمن طويل، ولكن بطريقته الخاصة، وما الهدوء الذي تشهده “حدود إسرائيل” مع الجولان، منذ قرابة 50 عامًا، سوى شاهد واضح ويفسر نفسه بنفسه. بالنسبة إلى البحرين والإمارات التطبيعُ يتعلق بخطوة استباقية لما يمكن أن يحدث في المستقبل: انتفاضات داخلية، هجوم إيراني، تقديم خدمات مجانية لترامب لتجنب ابتزاه..
قضايا كثيرة يستدعيها التفكير في وضع الدولة الوطنية العربية، والإشكاليات التي أوقعت نفسها وشعوبها فيها. ولن يستقيم وضع هذه الدولة، إن لم تجد حلًا لهذه المشكلات، وما سياساتها في إخفاء خوفها على نفسها وعلى شرعيتها المزيفة سوى أمر يزيد في افتضاح أمرها أكثر، ويدفع الناس إلى توجيه مزيد من النقد إليها، حتى الخلاص منها.